انهيار السيطرة النابليونية
تمهيد
حاوَلْنا في الفصلين السابقين تَتَبُّع رَدِّ الفعل الذي حَصَلَ ضد السيطرة الفرنسية في مختلف أنحاء أوروبا، وهو رد الفعل الذي جَعَلَ الشعوب تحاول التحرر من سلطان الحكومة الأجنبية، والذي أدى لذلك إلى مولد «القومية» ومَهَّدَ لظهورها، ولقد شاهَدْنا كيف أن المحاولات الناجمة مِنْ رَدِّ الفعل الذي حَصَلَ كانت «فردية» أو «محلية» أو «منعزلة» عن غيرها؛ فلم يكن مَبْعَثَها شعورٌ عامٌّ، وجهد منسَّق يَجْمَع كل عناصر الأمة، سواء في ألمانيا، أو في إيطاليا، أو في غيرهما من البلدان التي خَضَعَتْ لهذه السيطرة الفرنسية في «ثورة» واحدة أو قومة «وطنية» تبغي التحرُّرَ والخلاصَ من هذه السيطرة وإنهاءَها؛ لتُقِيمَ في مكانها «وحدة قومية» ألمانية أو إيطالية.
ونحن في هذا الفصل سوف نحاول بيان مدى مساهَمة الشعوب في الحوادث أو الحركات السياسية والعسكرية التي أَفْضَتْ إلى سقوط نابليون، ثم طَرْده وإنهاء سيطرته من أوروبا الوسطى أولًا، والتي أَفْضَتْ إلى هزيمة فرنسا وإنهاء حكومته بها ثم طَرْده منها أخيرًا، وواضح أنَّ مِثْل هذه المحاوَلة سوف تستلزم حتمًا تَتَبُّع الفكرة القومية ومراقبتها عن كثب في كل «مظهر» تَتَّخِذه هذه الفكرة، ثم عند انتقالها مِنْ حَيِّز الفكر إلى ميدان العمل: عسكريًّا وسياسيًّا؛ لتبرز أخيرًا إلى عالم الوجود على أنقاض السيطرة النابليونية والإمبراطورية الفرنسية.
(١) بولندة
وكانت بولندة البلد الأول الذي انْحَسَرَ عنه سلطان الفرنسيين، وفي حين بقي القواد العسكريون، مثل «بوفياتوسكي» على ولائهم للإمبراطور نابليون، كان السياسيون يبذلون قصارى جهدهم للمحافظة على المظهر القومي الذي صار على كل حال لبولندة بإنشاء غراندوقية وارسو، وعلى ذلك فقد طَلَبَ البرنس «تزارتوريسكي» — الذي عَرَفْنا أنه من الموالين لروسيا — من القيصر إسكندر بَعْث مملكة بولندة القديمة، بإنشاء مملكة جديدة يكون مَلِكُها أحد أشقاء القيصر نفسه، أي الغراندوقات الروس، فقال «تزارتوريسكي» — مخاطبًا القيصر: «فإذا حانت الساعة لتنتقم الأمة البولندية من الغزاة، ولَقِيَت المعاونة من جلالتكم في ذلك، وحارَبَتْ لتحقيق هذه الغاية، فإن أَثَرَ ذلك سوف يكون عظيمًا رائعًا، بل ويتجاوز كل ما قد تنتظرونه، وإني متعهد بالتوقيع على كل شيء دون إبطاء.»
ولقد عَرَضَتْ كذلك من ناحية أخرى «حكومة وارسو» التسليم لروسيا على شرط إعادة أو إحياء بولندة حتى ولو كان ذلك تحت حكومة روسية مع اتحادها مع «ليتوانيا»، واستصدار دستور لها.
وأما «موقف» المعارَضة الذي وَقَفَه «ستين» من إعادة تأسيسِ أو إحياءِ مملكة بولندة القديمة، فيفسره أن القومية الألمانية قد وَقَفَتْ — بمجرد ظهورها — مَوْقِف العداء من القومية البولندية، ورَفَضَ الألمانُ أن يَتَمَتَّع البولنديون بالمزايا التي لهذه الحياة القومية، والتي كان الألمان يريدونها لأنفسهم.
(٢) بروسيا الشرقية
وكانت بروسيا الشرقية، التالية بعد بولندة في ترتيب البلدان التي انحسرت عنها السيطرة النابليونية «الفرنسية»، وكانت ثورة بروسيا الشرقية أوَّل مَظْهر لوجود القومية الألمانية، والجدير بالذكر هنا أن الكارثة التي حَلَّت بالإمبراطورية الفرنسية بسبب حملة نابليون في روسيا، لم يكن ممكنًا إدراك أهميتها أو عُمْق أَثَرها في التو والساعة في أنحاء الإمبراطورية، بل إن إدراك مقدار الخسارة الفادحة التي سَبَّبَتْها هذه الكارثة لم يَحْدُث إلا تدريجيًّا، حتى إذا اتضحت هذه الحقيقة أَخَذَتْ تتساقط «خطوط» الفرنسيين العسكرية والسياسية، واحدًا بعد واحد، وصار الفرنسيون لا يقفون في تقهقرهم، مرحلة بعد أخرى، إلى أن تَخَلَّصَت الأراضي الألمانية من وجودهم، وتحررت من سيطرتهم بانحسار مَوْجَة المد الفرنسي عن ألمانيا انحسارًا مطردًا، أولًا عن «خط» الفستيولا، فيصل الفرنسيون في تقهقرهم إلى خط الأودر (في نهاية فبراير ١٨١٣)، ثم يرْتَدُّون بعدئذ إلى نهر «الإلب».
ولقد شاهَدْنا في الفصول السابقة — عند الكلام عن انهيار الإمبراطورية النابليونية — كيف أن القوات الفرنسية في أقصى الشمال كان عليها أولًا الارتداد إلى نهر «النيامين» في النصف الثاني من شهر ديسمبر (١٨١٢)، فصَدَرَ الأمر إلى «ماكدونالد» بالانسحاب إلى «تلست» في ١٨ ديسمبر ١٨١٢، ثم تَبِعَ ذلك الانسحاب إلى «الفستيولا» من نهر «النيامين» وهو الانسحاب الذي تَرَتَّبَ عليه الجلاء عن بروسيا الشرقية.
ولقد عَمِلَ «يورك» — من تلقاء نفسه — على توسيع نطاق المفاوَضات التي عَرَضَها عليه الروس، وكان يريد الحصول على ضمانات للمملكة بأسرها، أي الدولة البروسية؛ فحصل من القيصر إسكندر في ١٨ ديسمبر ١٨١٢ على تَعَهُّد بعدم إلقاء روسيا السلاح قبل إعادة تأسيس بروسيا بالأقاليم التي كانت لها حتى تسترد مكانتها بين الدول الكبرى، وهي المكانة التي كانت متمتعة بها قبل سنة ١٨٠٦.
وكان تسليم «تاوروجين» على غاية من الأهمية، بل ويعتبر نقطة التحول في «الحركة الألمانية»؛ فمن الناحية العسكرية وَجَدَ «ماكدونالد» نَفْسَه مكشوفًا بسبب هذا التسليم في جناحه الأيسر، فاضْطُرَّ إلى التقهقر من «النيامين» صوب «الفستيولا»؛ وكنتيجة لذلك اضْطُرَّ إلى إخلاء «بروسيا الشرقية»، ومع ذلك فلا يجب اعتبار هذا «التمرد» الذي حصل من جانب «يورك» — بالرغم من جسامة الآثار الناجمة من هذه الخطوة — حركةً قومية ألمانية، بل إن الذي حَدَثَ لا يعدو أن يكون «ردَّ فِعْل» عسكري ووطني من جانب أحد البروسيين فحسب.
ولقد صار الموقف متغيرًا بسرعة عظيمة بعد تسليم «تاوروجين»؛ لأن بروسيا الشرقية كانت حالُها على درجة كبيرة من السوء بسبب التخريب والدماء الذي حَلَّ بها، نتيجةً للقتال الذي دارَ في أرضها أثناء حملة ١٨٠٧ (معركتا إيلو وفريدلاند)، ثم أثناء عمليات سنة ١٨١٢ عند إعداد الحملة ضد روسيا، وأثناء الحملة نفسها، فأُنْهِكَتْ قوى بروسيا الشرقية تمامًا — وعلى وجه الخصوص — بسبب مصادَرة المؤن وغير ذلك من المنتَجات التي اسْتَوْلَتْ عليها فرنسا «لتموين» جيوشها، الأمر الذي هيأ بروسيا الشرقية لأن تشعر بالعداء المستحكم ضد فرنسا.
على أن «بروسيا الشرقية» كانت — إلى جانب هذا — القسمَ من ألمانيا الذي شاهَدَ أهلُهُ وحدهم «الجيش الأعظم» بعد أن حَلَّتْ به الكارثة في روسيا؛ فشَهِدُوا «الهاربين» المهزومين من الجنود الذين اجتازت فلولهم هذا الإقليم، في طريق تقهقرهم المطرد وقد استبد بهم الهلع والفزع بعد الهزيمة التي أصابتهم، أَضِفْ إلى هذا أن «الموظفين» في بروسيا الشرقية كانوا من البروسيين «الوطنيين»، الذين أرادوا تخليص «وطنهم» من وطأة السيطرة الأجنبية.
وأما «يورك» فقد بدأ من تلقاء نفسه يشن هجومًا على خطوط الفرنسيين الخلفية، في الوقت الذي استمر فيه الروس يهاجمون هؤلاء، وبالرغم من أن «الحكومة البروسية» كانت لا تزال «حليفة» لنابليون. والذي تَجْدُر ملاحظته أن كل النشاط الذي حَدَثَ أثناء هذه الثورة كانت الهيئات المختلفة في الإدارة والجيش معًا هي القائمة به، ولكن دون تصريحٍ من هذه الحكومة ذاتها أو اعتراف من هذه به، وخارج نطاق «المسئولية الحكومية».
والواقعة الحاسمة في هذه الثورة كانت وصول البارون «ستين» إلى كونجزبرج في ٢٢ يناير ١٨١٣، وقد حضر «ستين» مزوَّدًا بتفويضٍ كامل من القيصر إسكندر للعمل ضد الفرنسيين، ولقد كنا ذَكَرْنا عن «ستين» أنه كان في تفكيره «ألمانيًّا» ولا يَأْبَه كثيرًا بمصالح بروسيا في حَدِّ ذاتها، ومنفصلة عن صالح ألمانيا، فكان «ستين» مدفوعًا في نشاطه بعدائه وكراهيته لفرنسا؛ ولذلك فقد وَجَّهَ اللوم بمجرد وصوله هو «وجنسناو» إلى رئيس الإدارة في بروسيا الشرقية «شون»؛ لأنه لم يذبح الفرنسيين الذين مَرُّوا من «مقاطعته»، ولم تكن في نظر «ستين» ثورة بروسيا الشرقية إلا أداة أو وسيلة للقيام بعمل أعظم؛ هو خلاص ألمانيا وتحريرها، وتأسيس ألمانيا «جديدة» مرة أخرى.
وكان من أجل خلاص ألمانيا وتحريرها وإعادة إنشائها، أن عمد «ستين» إلى رَفْع «الحصار القاري» فورًا، والذي كان عبئًا ثقيلًا على بروسيا، وإلى جمع الإتاوات للإنفاق منها على المقاوَمة التي يُعْزَى إليه كلُّ الفضل في تنظيمها بأن بادَرَ بجمع «مجلس الطبقات» الإقليمي في بروسيا الشرقية لتقرير إنشاء وتنظيم الجيش، واستطاع «ستين» أن يؤسس من العناصر المحلية نوعًا من «الحكومة» تتولى شئون الإدارة والحكم وتنظيم المقاومة في غيبة الحكومة الملكية.
أما المجلس الإقليمي فقد اجتمع في «كونجزبرج» في ٥ فبراير ١٨١٣، وفي ٧ فبراير أَقَرَّ المشروع الذي كان قد أعده «ستين» لإنشاء الجيش، وعندئذ غادر «ستين» بروسيا الشرقية ليذهب إلى الروس تاركًا لأصدقائه الذين خَلَّفَهم بها مهمة تنظيم الثورة، وكان «المجلس الإقليمي» يتألف من سبعين عضوًا؛ نصفهم من ممثلي طبقة النبلاء، والنصف الآخر ممن يمثلون المدن والمهن الحرة، وكان هذا المجلس في حقيقة أَمْرِه مجلس نبلاء فحسب؛ حيث لم يشترك الشعب في انتخاب أعضائه، فبقي الشعب بعيدًا عن هذه الحركة.
على أن هذا المجلس بسبب انعقاده دون صدور دعوةٍ له بالاجتماع من الملك، وبفضل القرارات التي اتَّخَذها، نَجَمَ من وجوده افتئات على حقوق الملك، كما كان إجراءً ثَوْريًّا في صميمه، بالرغم من كل تصريحات وإعلانات الولاء لمليكهم التي أَصْدَرَها أعضاؤه، وتأكيدهم الخضوع للملكية.
والْتَحَقَ بهذا الجيش الإقليمي كل الشباب والرجال من سن الثامنة عشرة إلى سن الخامسة والأربعين، المتطوعون منهم أولًا، ثم أولئك الذين يأتي دورهم للخدمة العسكرية بطريق «القرعة»، على أن يكون لهؤلاء الاختيار في الوقت نفسه في أن يأتوا بمن يحل محلهم في الجيش.
والذي تجب ملاحظته أن هذا الإجراء الأخير لم يكن مذكورًا في مشروع «ستين» الأصلي، الذي ذكرنا أن «المجلس» كان قد اقْتَرَعَ بالموافقة عليه في يوم ٧ فبراير نفسه، ولكن لم تلبث أن طلبت «الطبقة الثالثة» — التي تمثل المدن — إدخاله، كما أبدى الجنرال «يورك» رغبته في ذلك، ولقد بدأ التنفيذ فورَ الاقتراع على مشروع إعادة تأسيس الجيش وتنظيمه، دون انتظار موافقة الملك الذي كان بعيدًا.
على أن هذه الحركة لم تلبث — على ما يظهر — أن أَزْعَجَت السلطات الحكومية في ألمانيا وخارجها، فانزعج «مترنخ» مما أسماه «بهياج الخواطر الفظيع» المنتشر في سيليزيا، وفي بوهيميا، ووستفاليا، ثم في التيرول كذلك، فكتب في ١٨ فبراير ١٨١٣: «إنه ليس بالأعمى الذي لا يرى خطورة هذه الحركات الشعبية المستثارة باسم شَرَف ألمانيا واستقلالها؛ لأن هذه سوف لا تلبث أن تحطم الصلات والروابط السياسية والاجتماعية»، ولقد كان الانزعاج الذي حَصَلَ وقتئذ هو مبعث كل ذلك الانزعاج والتخوف الذي غشي الحكومات الأوروبية بعد انقضاء عهدي الثورة الفرنسية وإمبراطورية نابليون، والتي صارت تتوجس خيفة من كل حركة شعبية تتوقع أن تنقلب — عاجلًا أو آجلًا — إلى «ثورة» عارمة تجرف هذه الحكومات نفسها.
وأما هذه الجيوش «أو القوات» البروسية الكبيرة؛ فقد صارت مدفوعة في نشاطها بحدة العاطفة «الوطنية» وشعور الكراهية العظيمة، الذي كان مَبْعَثه كل تلك الأحقاد التي أثارتها السيطرة الفرنسية، وزَرَعَها في القلوب النظام النابليوني. ولقد طغى شعور الكراهية هذا على كل ألمانيا؛ فامتدَّ الهياج حتى شَمِلَ كل ألمانيا الشرقية، ثم ألمانيا الشمالية عندما ضمت «حركة التطوع» إليها مدينة «همبورج» وأقاليم الهانسا.
ولقد كان وصول القيصر نفسه إلى برسلاو في ١٥ مارس ١٨١٣ ضروريًّا ليعلن فردريك وليم الثالث الحرب على فرنسا في ١٦ مارس، وليتخذ في اليوم التالي (١٧ مارس) قرارًا على جانب عظيم من الأهمية؛ هو أن يعمم نظام «الجيش الإقليمي» الذي نشأ في بروسيا الشرقية، حتى يشمل كل مقاطعات أو أقاليم المملكة، ولكن مع فارق هامٍّ، هو إلغاء حق الاختيار الذي يخوِّل الأفرادَ المقترعين للخدمة تسميةَ غيرهم ليحلُّو محلهم في هذه الخدمة العسكرية — على نحو ما سَبَقَ تفصيله — وفي ١٢ أبريل ١٨١٣ قَرَّرَ الملك نوعًا من «التعبئة العامة» في بروسيا من طراز ما فَعَلَتْه «الثورة الفرنسية» في سنتي ١٧٩٢-١٧٩٣، وفُرِضَت الخدمة العسكرية الإجبارية على البروسيين مدة اشتعال الحرب.
وهكذا تبدو هذه الحركة البروسية «تلقائية» من نوع أخلاقي، تلتقي فيه الحركتان اللتان سَبَقَ أن تناولنا كلًّا منهما على حدة: المقاومة البروسية الصحيحة ضد السيطرة الفرنسية، أو الحركة «الوطنية» البروسية، ثم «فكرة» الإحياء والتجديد أو الانتعاش الأخلاقي التي كان قد أَخَذَ بها الرؤساء والقادة الألمان المثقفون وعملوا بها من أَجْل خَلْق ألمانيا جديدة، بِبَثِّ الروح القومية بها.
ولمعرفة مدى اشتراك المجتمع البروسي مع سائر المجتمعات في ألمانيا في هذه الثورة ضد فرنسا، كانت ضروريةً دراسةُ التنظيم العسكري الذي حَصَلَ على أثر الحوادث التي وَقَعَتْ في بروسيا، أي الوقوف على مقدار الأثر الذي كان للقرارات التي ذكرناها في شهري فبراير ومارس ١٨١٣ والأسلوب أو الطريقة التي نُفِّذَتْ بها.
وأما «الجيش الإقليمي»؛ فقد عَظُم به عدد المتطوعين الذين استجابوا لنداء الدولة، وكان تنظيم هذا الجيش بطيئًا، وتَمَّ في صور غير متكافئة، وإن كان قد صار يشكل في مجموعِهِ «جيشًا وطنيًّا» مؤسَّسًا على «التعبئة العامة»، ومع ذلك فقد صار هذا الجيش الوطني في حقيقته تنظيمًا إقليميًّا؛ لأن «مجالس» المقاطعات أو الأقاليم هي التي قامت بتنظيمه وتشكيله، فأنشأت هذه لجانًا من اثنين من النبلاء واثنين من ممثلي العامة لتعيين الضباط، ولم يتم تنظيم «الجيش الإقليمي» بدرجة متساوية في كل من سيليزيا وبروسيا الغربية، أي في بروسيا القديمة البولندية، فقد كَثُر فرار المجنَّدين من صفوف الجيش، وأكثر الذين هربوا من الخدمة — بدلًا من الالتحاق بالجيش — كانوا من أصل بولندي، فعَبَرُوا الحدود إلى خارج البلاد.
وفي بروسيا الشرقية كان كذلك عدد الهاربين من التعبئة العسكرية كبيرًا، وفي بوميرانيا استطاع الفارون من الخدمة العسكرية — وكانوا كذلك كثيرين — الهروب بطريق البحر واللجوء إلى السويد أو إلى الجزر الدنماركية، وعجز «الفلاحون» في الريف عن «الفرار» من الخدمة؛ لوقوعهم من أجيال عديدة تحت نفوذ وسلطان سادتهم من «اليونكر»، ومع ذلك ففي أحايين كثيرة شوهد هؤلاء الأسياد «اليونكر» يقودون بأنفسهم «فلاحيهم» إلى مراكز الخدمة العسكرية، ولكن نجاح «الجيش الإقليمي» كان محقَّقًا في المقاطعات أو الأقاليم التي كانت أصلًا بمثابة الدروع الواقية ضد الغزاة على حدود بروسيا، فكثر عدد الذين انخرطوا في سلك «الجيش الإقليمي» دون انتظار «للقرعة العسكرية» ومدفوعين بالواجب الوطني؛ ففي حين بَلَغَتْ في المتوسط نسبة الملتحقين بالجيش الإقليمي بطريق «القرعة» ١٢٪ فحسب، وهي نسبة ضئيلة، وَصَلَتْ هذه في أقاليم الثغور في بروسيا الشرقية ٢٧٪، وفي وسط براندنبرج كانت ١٤٪، وفي بقية المقاطعات بلغت حوالي ٨٪، وتلك الأرقام تدل — ولا ريب — على أنه كان هناك نوع من «الزعزعة» الوطنية.
ولكن لا يجب أن يغيب عنا كذلك أن نظام القرعة لم يشمل كل «المجندين» في الجيش الإقليمي؛ فقد أُرْغِم قسم كبير من الأهلين على الانخراط في سلك الجيش إرغامًا بطريق التجنيد الجبري.
وبلغ عدد قوات «الجيش الإقليمي» حوالي المائة والعشرين أو المائة والثلاثين ألفًا من مجموع الجيش البروسي بأسره، الذي قُدِّرَ بنحو مائتين وسبعين ألف مقاتل، وكان في شهر أغسطس ١٨١٣ أن ظهر «اللاندفهر» في ميدان المعارك، وكان يؤلف وقتئذ حوالي نصف عدد القوة «العاملة»، ولا جدال في أن وجود «الجيش الإقليمي» قد أَدْخَلَ تغييرًا كاملًا على طابع الجيش البروسي و«شَكْله» الذي كان حتى هذا الوقت «جيشًا محترفًا»، على أن الذي يجْدُر ذِكْره أن تشكيل «الجيش الإقليمي» والتغيير الذي حدث بسببه على طابع وتكوين الجيش البروسي عمومًا، لم يؤدِّيَا بحال من الأحوال إلى اندماجِ أو امتزاجِ «الطبقات الاجتماعية» في الفرق العسكرية؛ وذلك لأن الجيش الإقليمي لم يكن «تعبئة ديمقراطية» على غرار التعبئة العامة التي حصلت على يد حكومة «الثورة» في فرنسا، بل إن هذا الجيش الإقليمي كان مجرد تنظيم عسكري، ولا غَرَضَ من إنشائه إلا الحرب والقتال فحسب، فلم يكن غير «المتطوعين» في هذا الجيش الإقليمي ممن يعتبرون عنصرًا وطنيًّا وقوميًّا حقيقة.
وهكذا، فالذي يبدو من هذه الدراسة أن الحركة الوطنية أو القومية البروسية قد بَقِيَتْ غيرَ مستكمَلة، وبالدرجة أو الصورة التي بَقِيَتْ بها غير مستكملة كذلك إصلاحات «هاردنبرج» والحكومة البروسية التي ذكرناها في ميادين الاجتماع والإدارة؛ ولذلك فإن هذا «الجيش الإقليمي» مع ما كان يَرْمُز إليه من نهضة أخلاقية ووطنية، كان لا يعدو كَوْنَه أداة مواتية لمواجهة موقف عسكري، هو ضرورة القتال للتحرر من السيطرة الأجنبية.
(٣) سائر ألمانيا
ذلك إذن كان أَثَر الثورة التي حصلت في «بروسيا الشرقية»، والتنظيم العسكري الذي أَوْجَدَ «الجيش الإقليمي» على بروسيا.
أما في خارج بروسيا، وبمعنًى آخر في سائر ألمانيا؛ فالذي لا شك فيه أن ألمانيا بأَسْرها كان يحركها للثورة شعورُ الكراهية والعداء العظيم لفرنسا، وهو شعور وطني، ومع ذلك فإن هذه الحركة لم تتغلغل بالدرجة الكافية ليتأثر بها المجتمع الألماني بأجمعه، ولم تكن عامَّةً في كل أنحاء ألمانيا، ولا يجب لذلك المغالاة في تقدير قيمتها، أو التسليم بادعاء الأسطورة القائلة بأن ألمانيا بشعوبها قد هَبَّتْ متكتلةً في ثورة عارمة شاملة ضد السيطرة النابليونية، وتلك حقيقة سوف توضحها الحوادث التالية.
فقد بذل «ستين» بادئَ ذي بدء وجماعتُه قصارى جهدهم لإحداث ثورة عامة في كل أنحاء ألمانيا لإشعال حرب قومية «ألمانية» ضد فرنسا، فأكْثَرَ من توجيه النداءات وإذاعة الدعوة التي شَفَعَهَا بالإنذارات والتهديدات لتحريك هذه الثورة «القومية»، وآثَرَ «ستين» العملَ في هذا الميدان — على نحو ما جَرَتْ عليه عادته — بالتعاون مع روسيا، فأصدر — بالاشتراك مع «نسلرود» في ١٩ مارس ١٨١٣ باسم ملكيهما — نداء موجَّهًا «لألمانيا» أَوْضَحَا فيه أن خلاص ألمانيا هو الغرض من الحرب، ودَعَوَا للاشتراك في هذه الحرب التحريرية كلَّ شعوب وملوك وأمراء ألمانيا، ولقد رَسَمَ هذا النداء صورة لما سوف يكون عليه الوضع سياسيًّا في ألمانيا بعد إنهاء السيطرة النابليونية؛ فأعلن «ستين» و«نسلرود» انحلال «اتحاد الراين الكونفدرائي» على أن تحل محله «لجنة مؤقتة» لإدارة الأراضي الألمانية المستنقذة من السيطرة الفرنسية، وتتألف من مجلس مندوبين عن روسيا وبروسيا والحكومات الأخرى التي تنضم إليهما، مع تسمية «ستين» رئيسًا لهذه الإدارة.
وإلى جانب هذا النداء صَدَرَ نداء آخر، وجَّهَه إلى ألمانيا القائدُ الروسيُّ المعروف «كوتوزوف» في ٢٥ مارس ١٨١٣، وهذا النداء يُفَسِّر الغرض من «الحركة» أو الثورة بقوله: «إنه مساعَدة الشعوب والأمراء في ألمانيا على استرجاع ذلك التراث الذي اغْتُصِبَ منهم، والذي يَتَعَذَّر النيلُ بشيء منه، ونعني بذلك حرياتهم واستقلالهم، الشرف والوطن! فلا يَسَعُ كل ألماني مستحِقٍّ لهذه التسمية إلا المبادرة بالانضمام إلى صفوفنا فورًا … وبقدر استناد قواعد هذا العمل ومبادئه على الروح القديمة التي للشعب الألماني واقتدائه بها، سوف يتسنى لألمانيا — التي تَجَدَّد شبابها، وزاد نشاطها، وصارت مُتَّحِدَة — أن تعود للظهور ثانية؛ لتتبوأ مركزًا ممتازًا بين أمم أوروبا.»
ولقد كانت تلك التي صدر بها هذان النداءان في ١٩ و٢٥ مارس «لغة ثورية»، الأمر الذي كان في حد ذاته شيئًا جديدًا في ألمانيا، والذي تَرَتَّبَ عليه من جهة أخرى أن طَفِقَ الألمان يفسرونه بأنه بمثابة التعهُّد المزدوج، في صالح الحرية السياسية من ناحية، وفي صالح الوحدة القومية من ناحية أخرى.
على أن «الحكومات» الألمانية وَقَفَتْ — على العكس من ذلك — موقفًا في غاية «التحفظ» من الأحداث الجارية؛ فلم تشأ هذه الحكومات «الانتقاض» على نابليون إلا في خريف سنة ١٨١٣، أيْ بعد أن تأكَّدَ لديها أن سقوط نابليون وهزيمته قد صار أمرًا محقَّقًا، وذلك على خلاف ما حدث في ألمانيا الشمالية، التي انتشرت بها الثورة بكل سرعة في «همبورج» في ١٨ مارس، ثم في «مكلنبرج» التي قَدَّمَتْ وحدها عددًا من «المتطوعين» بلغ ستة آلاف، أما «بفاريا» فإنها لم تَنْبِذ الولاء لنابليون إلا يوم ١٦ سبتمبر، وكان في ٨ أكتوبر فقط أن أَعْلَنَت الحرب ضده، وانتظرت «ورتمبرج» هزيمة نابليون في واقعة «ليبزج» بين ١٦–١٩ أكتوبر لتعلن موقفها العدائي منه أخيرًا في ٢٣ أكتوبر، ولقد كانت هذه الحكومات تَتَّجِه بنظرها صَوْب النمسا، وتوجيهات الحكومة النمسوية «ووزيرها مترنخ»، وليس صوب المجموعة البروسية الروسية التي يُشْرِف على توجيهها — كما شاهدنا — «ستين» بالتعاون مع «نسلرود».
ولقد صادَفَتْ هذه الحركة الثورية «في ألمانيا» صعوبات عديدة، مبعثها رغبة أصحاب «المصالح» السياسية في سد الطريق أمامها، وفي مقدمة هؤلاء كان الوزير النمسوي «مترنخ»، الذي اتخذ الاحتياطات اللازمة ضد هذه الحركة الثورية، بأن أخضع «ستين» ولجنته الإدارية التي سَبَقَ الحديث عنها لإشراف «لجنة دبلوماسية» خاصة، ثم أثار أصحابُ البنوك الألمان المصاعبَ عندما رفضوا قبول السندات الإنجليزية التي قدمها الإنجليز إلى الحكومة الألمانية لتمويل العمليات العسكرية التالية، ثم كان من هذه الصعوبات التي صادفَتْها الحركة الثورية أنه لم توجد «عصابات» للمناوشات المحلية خلف الخطوط الفرنسية، على غرار ما حدث في الحرب الإسبانية.
وهكذا، لم تكن هذه الحركة — كما ذكرنا — ثورة عارمة عَمَّتْ ألمانيا بأسرها ضد السيطرة الفرنسية، ولو أنه مما لا شك فيه أن البلاد (ألمانيا) في مجموعها قد قامت بالثورة فعلًا، مدفوعة بعاطفةِ أو شعور الكراهية الشديدة ضد فرنسا.
ولقد كان على أساس هذه الكراهية لفرنسا وللاحتلال الفرنسي في البلاد أن ارتكَزَتْ نهائيًّا وبصورة حاسمة العاطفةُ أو الشعور القومي في ألمانيا.
إنه لن يكون هناك أي أمل في السلامة والأمن من جانب هذا الشعب الفرنسي إلا إذا صار عاجزًا تمامًا، وصار للألمان من ناحية أخرى قوة ساحقة، ولا يجرؤ على التفكير في تحدي هذه القوة أحد، والفرنسيون عاجزون عن التمسك بأية قيم أخلاقية، وليس هناك أساس لإمكان الاعتماد عليه في التعامل معهم؛ ولذلك فقد وجب علينا أن ننتزع منهم أملاك شارل الجسور، أو عند تَعَذُّر ذلك الإلزاس واللورين وملحقاتهما.
وواضحٌ أن هذه المطالب إنما تستند على الآراء التي نادى بها «هردر»، وتكاد تكون صورةً طبق الأصل من نظريَّته القائلة باستناد القومية على اللغة، ولكن مع توسُّع في الصورة السياسية التي سوف تَتَجَسَّم فيها هذه الفكرة بدرجةٍ لا شك في أنها مما قد يُدْهَش له «هردر» كثيرًا.
(٤) بقية أوروبا
وفي غير ألمانيا: لم تَتَّخِذ حروبُ التحرير ذلك الشكلَ العنيف، ولم يكن لها ذلك الأثرُ الفعلي النافذُ بالدرجة التي شوهدت في ألمانيا.
ففي إسبانيا
•••
على أن الوقائع العسكرية في أوروبا الشمالية الغربية — على خلاف ما حَصَلَ في إسبانيا — لم يكن لها أَثَرٌ حاسم في حركة التحرير التي حَدَثَتْ، بل كانت الوقائع السياسية قبل كل شيء آخر هي التي فَعَلَتْ ذلك؛ بمعنى أن «السياسة» التي جَرَتْ عليها البلدان في هذا القسم من أوروبا، كانت المسئولةَ عن خلاص الشعوب والحكومات وتحريرها من السيطرة النابليونية.
ومن ناحية الترتيب الزمني؛ حصل تحريرُ أوروبا الشمالية الغربية بعد تحرير أوروبا الوسطى، ولا جدال في أن وجود عنصر سياسي — كعامل جوهري — وأكثر أهمية من العنصر العسكري في بَعْث أو مَوْلِدِ الشعور القومي في هذه المنطقة، مما يضفي على تاريخ «القومية» طابعًا فريدًا في نوعه.
ففي هولندة
وواضح أن انتهاء السيطرة الفرنسية من هولندة لم يكن نتيجة عمليات عسكرية، ولقد كان من أَثَر ثورة الهولنديين لخلاص بلادهم، أن انتقل خط الدفاع الفرنسي إلى بلجيكا ودون أن يكون لهذا «الدفاع» قُدْرَةٌ ما على الافتئات أو «الاعتداء» على هولندة، وثمة حقيقة يجب ذِكْرها، هي أن السيطرة الفرنسية في سنواتها الأخيرة في هولندة — «كحكومة» أجنبية شديدة الوطأة على البلاد — قد أَفْلَحَتْ في أن يزيد تَعَلُّق الهولنديين بأُسْرة أورانج ومحبَّتهم لها، فرَحَّب هؤلاء في حماسٍ عظيم بحكومتهم الجديدة، واستقبلوا بهذا الحماس نفسه «استقلالَهم القومي» الذي كان لهم في الماضي، والذي استرجَعُوه الآن بزوال السيطرة الفرنسية.
وفي بلجيكا
تضافَرَتْ في أول الأمر عوامل عدة جَعَلَتْ من اليسير انحياز البلجيكيين إلى جانب السيطرة الفرنسية، من ذلك تسوية الخلاف مع الكنيسة بفضل «الكونكردات»، أي الاتفاق الذي أَبْرَمَتْه الحكومة القنصلية الفرنسية مع البابا بيوس السابع في ١٥ يوليو ١٨٠١ «وصار نافذًا من التصديق عليه في ١٠ سبتمبر، ومنذ أن اعْتُبِرَ أحدَ قوانين الدولة في ١٨ أبريل ١٨٠٢»، فأعيدت الديانة الكاثوليكية رسميًّا في بلجيكا — والبلجيكيون من المتمسكين بالكاثوليكية، ومن ذلك الفوائدُ التي صاروا يجنونها من الإصلاحات الاجتماعية والإدارية التي أدخلها الفرنسيون في بلادهم — ولقد ساد الرخاء فترة من الزمن في أول الأمر، نتيجة لسياسة «الحصار القاري»، فانتشر الهدوء والأمن الداخلي، ولم يَصْعُب على البلجيكيين حينئذ قبول السيطرة الفرنسية.
أَضِفْ إلى هذا أن البلجيكيين لم يشعروا بأية عاطفةِ ولاءٍ نحو النظام الذي كان قائمًا في بلادهم قبل عهد «الثورة الفرنسية»، حيث كانت بلجيكا — الأراضي المنخفضة الجنوبية — جزءًا من الأملاك النمسوية، وخَضَعَتْ لذلك لسيطرة نمسوية كانت شديدة الوطأة عليها، ومصحوبة بنوع من التعسف والطغيان الاجتماعي، الذي أَخَذَ به «السادةُ» — كبار أصحاب الأراضي والأملاك ورجال الدين — الشعبَ مأخذًا شديدًا، والذي أَوْجَدَهُ — مِنْ وجهة نظر الكنيسة من ناحية أخرى — فَرْضُ سلطان الحكومة على الكنيسة ذاتها.
ولم يكن هناك وجود تحت السيطرة النمسوية وفي عهدها «لأراض منخفضة» أو «بلجيكا»، أو أية «ذكريات» قد تربط البلجيكيين بتراث «قومي»، ولكن ذلك كله لم يلبث أن أَخَذَ في الظهور تحت السيطرة الفرنسية بسبب ثقل وطأة هذه السيطرة على البلجيكيين، وخصوصًا في السنوات الأخيرة منها، وأثناء انهيار الإمبراطورية الفرنسية، فكان عندئذ أن بدأت تبرز الخطوط الأولى لما سوف يصبح «قومية بلجيكية»، ولما سوف يَصْنَع كلَّ تلك العوامل التي أفضت بين عامي ١٨١٥–١٨٣٠ إلى مولد الدولة البلجيكية بعد حوادث الثورة التي قامت في بروكسل، وامتدت إلى سائر البلاد في شهر أغسطس ١٨٣٠ على نحو ما سيأتي تفصيله في موضعه.
ولقد تضافَرَت الأدلةُ على أن مقاوَمة القساوسة ورجال الدين هذه كانت تلقى تأييدًا كبيرًا من جانب «الرأي العام» في بلجيكا، الأمر الذي جَعَلَ لهذه المقاوَمة آثارًا بعيدة.
وثمة سبب ثانٍ لهذه المقاوَمة ضد السيطرة الفرنسية كان منشأه الأزمة الاقتصادية التي ساعَدَتْ على اتساع دائرة التذمر والغضب من الإدارة الفرنسية، والذي كان أصلًا — كما شهدنا — تذمرًا دينيًّا؛ فصار يشمل الآن كل تلك الطبقات التي كانت ذات ميول عدائية ضد الكنيسة، ثم تلك التي كانت أثناء عهد الرخاء تَدِينُ أكثر من غيرها بالآراء الفرنسية، والذي تَجِبُ ملاحظته أنه بالرغم من التدين الذي اشتهر به البلجيكيون عمومًا، وإيمانهم العميق بالعقيدة الكاثوليكية؛ فقد كان هناك فريق من السكان أو الأهلين في بلجيكا، اتخذوا — على العكس من ذلك — موقفًا عدائيًّا من الكنيسة، وأيدوا الحركة «التعقلية»، وتلك حقيقة هامة؛ لأن العداء كان مستحكمًا بين هذين العنصرين، وهو عداء بين «مثاليتين» كان موجودًا من أيام السيادة النمسوية، ثم إنه لا يلبث أن يتضح مرة أخرى عندما يصبح هذان التياران المتناقضان أساسَ تأليف الأحزاب السياسية في بلجيكا، عند استقلال البلاد بعد ذلك وإنشاء الملكية بها.
أما الأزمة الاقتصادية فقد بدأت تستفحل سنة ١٨١٣، نتيجة لنظام الحصار القاري خصوصًا الذي أصاب صناعة النسيج بالعجز؛ لتعَذُّر الحصول على المواد الخام اللازمة لها؛ فاضطر الغزالون في «جاند» مثلًا أن يستغنوا عن ألف وثلاثمائة عامل دفعة واحدة، وفي خريف ١٨١٣ نَزَلَ إنتاج الأقمشة إلى العُشْر فقط من مقداره السابق، وفي المقاطعة التي بها «بروكسل» خرج حوالي ستة آلاف من العمل «بأن نَقَصَ عدد العمال من خمسة عشر ألفًا إلى تسعة آلاف فقط».
ومنذ ١٨١١ كان قد بدأ يتزايد إفلاس المصارف (البنوك) وأَشْهَرَ عديدون من التجار كذلك إفلاسهم، ولَحِقَ الأذى بالمواني مثل «أوستند»، و«انتورب» حيث أصيب بالشلل نشاطهما نتيجةً للحصار القاري، وكان من المتوقع أن يؤدي الحصار القاري إلى ارتفاع تكاليف المعيشة الذي مَبْعَثه هذه الأزمة الاقتصادية ذاتها، والذي كان سببه كذلك الضرائب الثقيلة التي فَرَضَتْها الحكومة الفرنسية تنفيذًا لسياسة الحصار القاري، ولأنه تَعَذَّرَ بفضل هذا الحصار نفسه ورود المواد الخام وغيرها من السلع من الخارج، وقد عانى سواد الشعب البؤس والضنك نتيجةَ غلاء المعيشة والأزمة الاقتصادية، ثم زاد تذمره بسبب «التجنيد» الذي أَخَذَتْ تشتد وطأته يومًا بعد آخر؛ فبلغ عدد المجندين من شعب بلجيكا القليل مائة وعشرة آلاف في سنة ١٨١١، ثم ارتفع هذا الرقم إلى مائة وعشرين ألفًا في سنة ١٨١٢، وإلى مائة وستين ألفًا في سنة ١٨١٣، يضاف إلى ذلك «الحرس الأهلي» الذي بَلَغَ مائة ألف رجل.
ولقد كان هناك سببٌ ثالث للتذمر الذي حدث من السيطرة «والحكومة» الفرنسية، مَبْعَثُه ذلك النظام البوليسي الذي تأسَّسَ في بلجيكا، والذي نَشَرَ نوعًا من الاضطهاد والضغط تزايَدَتْ صرامته يومًا بعد آخر، حتى صارت الحياة في البلاد تُشْبِه الحياة في ظِلِّ محاكم التفتيش الرهيبة في الأزمان السالفة، فعَظُمَ الحجْرُ على حرية الرأي وحرية الفرد، بفضل التنظيمات التي أنشأها الحكم الفرنسي.
وقابَلَ الرأيُ العامُّ تبرئةَ «وربروك» بمظاهرات صاخبة، وجُنَّ جنون نابليون الذين كان في هذه اللحظة مشغولًا بقيادة العمليات العسكرية في سكسونيا؛ فأصدر أوامره من «درسدن» إلى مجلس الشيوخ لإلغاء الحكم الصادر من محكمة بروكسل، وتقديم عميد بلدية أنتورب للمحاكمة من جديد أمام محكمة أخرى؛ فأُعِيد القبض على «وربروك» وأودع السجن، وكان «وربروك» متقدمًا في السن فلم يلبث أن توفي في محبسه، وقبل أن يظهر أمام محكمة أخرى، ولكن في أثناء ذلك كانت إمبراطورية نابليون قد تقَوَّضَتْ عروشها.
وعلى ذلك، وبسبب كل هذه العوامل الدينية والاقتصادية والسياسية، تَحَوَّلَ الرأي العام في بلجيكا في غضون سنتي ١٨١٣-١٨١٤ تحولًا تامًّا ضد فرنسا؛ فكل الطبقات في غضب شديد ضد السيطرة «والحكومة» الفرنسية، وكان تحت تأثير السخط والتذمر أن «استيقظت» الذكريات القديمة، فارتسمت في أذهان البلجيكيين صور «زاهية» لذلك الحكم الذاتي الذي «تمتعوا» به قَبْل السيطرة الفرنسية، وشعر المسنون — خصوصًا وهم يؤلفون الطبقة المحافظة — بالحنين لذكريات «السيطرة النمسوية» التي كانت سيطرة «أبوية» لم تُسَبِّب للأهلين إرهاقًا ولا عنتًا.
ولكن هؤلاء البلجيكيين الذين اتفقت كلمتهم على الكراهية لفرنسا، واتحدت جهودهم ضد السيطرة والحكم الفرنسي، ثم حضَرَتْ جيوش الحلفاء لتحرير بلادهم واستنقاذها من هذه السيطرة الفرنسية البغيضة، لم يكن لهم رأي مسموع لدى دوائر هؤلاء الحلفاء أنفسهم — العسكرية والسياسية — بشأن مستقبلهم، ذلك أن تقرير مصير البلاد سوف لا يكون مرتبطًا بالرغبات التي يبديها البلجيكيون «لحلِّ» مسألتهم، بل إن «الحلفاء» هم الذين سوف يتوَلَّوْن إيجاد حلٍّ للمسألة البلجيكية، يستند على اعتبارات سياسية عامة، قوامها المحافظة على توازن القوى في أوروبا، ودون استشارة الشعب البلجيكي نفسه، أو حتى التفاهم معه على «المصير» المنتظر له.
ففي اللحظة التي دَخَلَ فيها الجنرال «بولو» مدينة «بوترخت» وَجَّهَ نداء للبلجيكيين يدعوهم فيه للثورة، ثم إن دوق «ساكس فايمر» الذي كان قد وَقَعَ عليه الاختيارُ أولًا ليَحْكم البلاد، لم يلبث هو الآخر أن أصدر منشورًا من بروكسل في ٧ فبراير ١٨١٤، جاء فيه: «إن الطغيان قد انتهى أَجَلُه، وإن النظام قد أصبح يسود البلاد من جديد، وإن استقلال بلجيكا قد صار أمرًا لا شك فيه»، ودعا البلجيكيين إلى أن يكونوا هم «المحررين» لبلادهم.
ولكن الذي يجب التساؤل عنه، هو هل قام البلجيكيون بالثورة العامة، أو بمجهود مُسَلَّح تمَخَّضَت عنه كراهيتهم الشديدة للفرنسيين وتذمُّرُهم من الحكم الفرنسي، فساهَموا في استنقاذ بلادهم إلى جانب جيوش الحلفاء التي حَضَرَتْ إلى بلجيكا لإنهاء السيطرة الفرنسية منها؟
الحقيقة أن سواد البلجيكيين كانوا قانعين بأن يشاهِدوا نهاية الحكم الفرنسي تَتَقَرَّر على أيدي جيوش الدول المتحالفة ضد نابليون، دون أن يُسْهِموا هم أنفسهم في العمليات المحقِّقة لهذه الغاية، فلم تَحْذُ أية مدينة من المدن البلجيكية حذو المدن الهولندية، مثل أمستردام أو لهاي أو غيرهما، بل على العكس مما حدث في هولندة كان موقف البلجيكيين مدموغًا بعدم الاكتراث، و«البلادة» أو الخمول، وعدم المبالاة بما يجري حولهم؛ فهم لم يشتركوا في المعركة، لا في جانب الحلفاء «المحرِّرين»، ولا في جانب الفرنسيين، بل تركوا الأمور تجري في أعنتها، وراحوا ينتظرون ما سوف تُسْفِر عنه من نتائج.
لو أن البلجيكيين أَظْهَروا من النشاط ما يكفي لأن يَنْجَحوا وحدهم في طرد الفرنسيين من بلادهم؛ لصار يَحِقُّ لهم أن يُقَرِّروا هم أنفسهم مصيرهم، ولكن المرء لا يسمع منهم إلا مقالة واحدة تتردد من كل مكان، إنهم يريدون مشاهدة جنود الدول المتحالفة ومجيئ هؤلاء إلى بلادهم، وبمعنى آخر إنهم يريدون أن يفتتح غيرهم بلادهم وأن يغزوها.
ولقد حَكَمَ الحلفاءُ بلجيكا بواسطة قومسييرين من النمسويين، ثم إنهم احتفظوا — أو على الأقل تظاهَروا بأنهم يريدون الاحتفاظ — بالجهاز الإداري الذي أَوْجَدَه الفرنسيون دون إدخال تعديل عليه؛ فعيَّنوا بدلًا من الفرنسيين في الوظائف الكبرى، موظَّفين من أهل البلاد، ولكنهم أَبْقَوا الفرنسية لغة رسمية، وكان في الأقاليم الفلمنكية فقط أن اضْطُرُّوا إلى ترجمة الكتابات الرسمية إلى اللغة الفلمنكية، بجوار النص الفرنسي.
وفي ٧ مارس ١٨١٤ صَدَرَ قرار بإلغاء «الكونكردات»، وتَوَلَّتْ الكنيسة رعاية الشئون الدينية، وكل تلك كانت اتجاهات دَلَّت على أن الحلفاء يريدون انتهاج سياسة تستجيب لمطالب الأهلين، وتُرْضِي رغبتهم في الاستقلال، ولكن سرعان ما صار «احتلال الحلفاء» عبئًا ثقيلًا، أَرْهَق الأهلين أكثر مما أَرْهَقَهم الاحتلال الفرنسي السابق؛ لأن الحلفاء الذين عَرَفُوا أن احتلالهم «مؤقت» ولن يدوم بقاؤهم في بلجيكا، طفقوا يصادرون ويستولون على الأموال والمواد من الأهالي دون شفقة أو هوادة، حتى إن احتلال هؤلاء «المحررين» سرعان ما صار موضع كراهية أشد من تلك التي أثارها الاحتلال الفرنسي الذي تَخَلَّصَت البلاد منه.
إن المرء لا يسعه في حكومة بلادهم إلا أن يتوخى — أكثر من اللازم في إدارة الشئون العامة بها — الحرص على تجنيب السلطات خَطَرَ وجود نَفْسها في موضع يجعلها تصطدم بادعاءات ومطالب الأهلين الديمقراطية من جهة، وبذكريات الدساتير «أو الأنظمة القديمة»، وهي الذكريات التي يَكْمن الخطر كذلك في إحيائها وبعثها.
وكان هذا الانقسام مَبْعَث عَجْز البلجيكيين، ومبعث المنازعات التي حصلت بينهم، ومع ذلك فقد لَمَسَ هذا الحاكم النمسوي في الوقت نفسه وجود رغبة واحدة لدى الفريقين، هي تحقيق الحرية المحلية، سواء اتخذت هذه الرغبة صورة «العزلة» والحياة الإقليمية، أو إنشاء الوطن القومي البلجيكي، ولقد كان متعذرًا أن تتحقق هاتان الغايتان معًا وفي وقت واحد، ولا جدال في أن «تفاعل» كل منهما على حدة من ناحية، ثم وجودهما «بآثارهما» إلى جانب بعضهما بعضًا، إنما يؤدي إلى ذيوع نوع من الفوضى في «الفكر» و«العاطفة»، وينهض في الوقت نفسه دليلًا على وجود هذه الفوضى في تفكير البلجيكيين وعواطفهم.
والحقيقة أن البلجيكيين في هذه المرحلة، وبعد إنهاء السيطرة الفرنسية من بلادهم لم يكونوا بَعْدُ قد بَلَغوا الوضع الذي يؤذن بتأسيس «الدولة»؛ فهم دائمًا متمسكون بحرياتهم وحقوقهم وتقاليدهم المحلية، وأنظمتهم الإقليمية ومجالسهم البلدية، وتعوزهم الرغبة أو الإرادة في أن تكون لهم حريات أسمى وأعلى من تلك التي يتمتعون بها في ممارسة أعمالهم المحلية «الصغيرة»، ولقد كان هناك — من ناحية أخرى — إدراكٌ كامل لكل تلك المصالح الاقتصادية، أو الحقوق المدنية التي نشأت من أيام «الثورة الفرنسية»، والتي ظَلَّتْ قائمةً بعد سقوط فرنسا، ولكن من المقطوع به أنه لم يكن هناك وجودٌ بَعْدُ «لِقومية بلجيكية»، بل كان كل الذي حَدَثَ أن احتوى الانقسام الذي شهدناه بين فريقي المحافظين، كبار السن، والشباب المتأثرين بالإصلاحات والمبادئ «الفرنسية» الحديثة، على البذور التي نَبَتَ منها فيما بعد الشعور القومي في بلجيكا.
وفي إيطاليا
كانت البلاد مسرحًا للمؤامرات والتيارات السياسية المختلفة التي كان بعضها يستهدف الوحدة الإيطالية، أو خَلْق الأداة التي تفيد في بلوغ هذا الغرض في النهاية، ولكن دون أن يتفق ذلك مع «حركة» ما من جانب سواد الشعب الإيطالي، ودون أن يعني انتقال الفكرة «الإيطالية» — فكرة إنشاء دولة إيطاليا — إلى دور الشعور السياسي وإلى ميدان العمل، حتى بين الطبقات التي كانت أكثر نموًّا وتطورًا في تفكيرها السياسي من غيرها، وكانت تدين بهذه الفكرة ذاتها.
وفي عهد السيطرة الفرنسية في إيطاليا، كان يساند الفكرة القومية عدد من «الجماعات» التي ظَهَرَتْ في ميدان السياسة؛ فحَاوَلَ فريق منهم أن يفيد من أطماع بعض كبار السياسيين أو يبثوا في نفوسهم هذه الأطماع، وفريق آخر كان مدفوعًا بمَصَالِحِه الشخصية، ثم كان أولئك الذين هم أكثر «مثاليَّة» ويدينون حقيقةً بآراء قومية، وهؤلاء الأقوام هم الذين التفوا حول «يوجين بوهارنيه» نائب الملك في «مملكة إيطاليا» في الشمال، أو حول «يواكيم مورا» في الجنوب، ولقد قامَتْ مؤامرات كبرى ثلاث على أيدي أنصار هذه الجماعات، لم تلبث أن صفيت واحدة منها بسرعة كبيرة، وهي التي كان يحكيها «يوجين بوهارنيه»، وبقيت الأخريان من تدبير «مورا» و«مترنخ» وتحريكهما.
وقد بدأ الفريقان نشاطهما بالتعاون فيما بينهما، ثم انتهى الأمر إلى قيام المنافسة الشديدة بينهما بشأن مصير البلاد، وقد كان بفضل السياسات التي اتبعها هؤلاء الثلاثة: «يوجين بوهارنيه»، و«مورا»، و«مترنخ» أن صار ممكنًا وَضْع المسألة الإيطالية على بساط البحث، ثم إخراج هذه المسألة في الوقت نفسه من دائرة نشاط الدول القارية المباشر، والتي لم تكن تهتم بالمسألة الإيطالية، والتي تُرِكَتْ بين أيدي النمسا وحدها فقط، منذ بداية سنة ١٨١٣، تدبير حل لهذه المسألة.
ولقد ظهرت في ميلان في هذا الوقت الأحزاب السياسية، فكان أحدها «الحزب النمسوي» الذي تَأَلَّفَ قبل كل شيء من أولئك الذين آثروا السكينة والسلام على أية اعتبارات أخرى، ثم من أولئك «الرجعيين» الذين أرادوا عودة «النظام القديم»، ثم من أولئك الذين عَقَدُوا آمالهم على النمسا، فتوقعوا أن تنال لمبارديا حكمًا ذاتيًّا، وقاموا بحملة دعاية عريضة في صالح النمسا، ولقد وُجِدَ إلى جانب هذا الحزب النمسوي، حزب لا شك في أنه يثير اهتمامًا أكبر، هو «الحزب الحر الإيطالي» الذي شَمِلَ أكثريةَ النبلاء في إقليم ميلان (الميلانيز)، والذين أرادوا استقلال ميلان (الميلانيز)، على أن تكون ميلان المستقلة دولة أكبر اتساعًا، هي مملكة إيطاليا لا يعنيهم أن يكون الأمير أو الملك المنتظر تتويجه على هذه المملكة نمسويًّا أو إنجليزيًّا أو إيطاليًّا؛ طالما قد تَحَقَّقَ استقلال المملكة، واطمأنوا لدوام هذا الاستقلال، ولاحتفاظ مدينة ميلان بأهميتها كعاصمة لهذه المملكة، وبما كان لها من سيطرة في إيطاليا الشمالية، وطالما صحب تأسيسَ هذه المملكة المستقلة إعطاؤهم حقَّ الإشراف على شئونها وتوجيه نشاطها.
والحقيقة أن هذا «الحزب الحر الإيطالي» لم يكن بالقوة التي كان يجب أن تكون له لو أنه كان يمثل حركةً إيطالية عامة؛ ذلك بأن هذا الحزب لم يكن إلا عنصرًا من عناصر هذه الحركة وحسب، فهو حزب محلي (ميلاني) وليس حزبًا «إيطاليًّا»، واقتصر تفكيره على مصير ميلان، ولم يشمل إيطاليا في مجموعها؛ فهو حزب وطني محلي، كان قوامه الجيش إلى جانب النبلاء، وكان الجيش على أهبة الاستعداد لتأييد حكومة مستقلة إذا وُجِدَتْ هذه الحكومة، ولكنه في جوهره كان حزبًا محليًّا، أَضِفْ إلى هذا أن الدولة المستقلة أو مملكة إيطاليا المنتظرة — حسب تقدير هذا الحزب — لم تكن تتعدى الأقاليم الميلانية (الميلانيز)، وأقاليم البندقية، وعندما جَمَعَ الحزبُ الدوائرَ الانتخابية حَدَثَ ذلك فقط في الجهات التي يتكلم أهلها باللهجة المحلية اللومباردية.
ولقد كانت الدعوة أو النداءات التي صَدَرَت عن القائمين بالحركات التي تزعَّمَها «مورا» أو تلك التي دَبَّرَها «مترنخ» تنطوي على «فكرات» أوسع مدًى وأبعد عمقًا من تلك التي نادى بها هذا الحزب الميلاني (الحزب الحر الإيطالي)، واستطاع أولئك الذين الْتَفُّوا حول «مورا» و«مترنخ» تأدية مهمتهم بنجاح، حتى إن هذين سرعان ما صارا مدفوعين رويدًا رويدًا، إلى اعتناق أو قبول «الفكرات» أو «المدركات» الواسعة التي نَبَتَ أو تَوَلَّدَ منها ما صار يُعْرَفُ باسم «إيطاليا».
ووفد إلى نابولي، والتف حول «مورا» أناس صاروا يغرونه على المضي في طريقه، وهؤلاء كانوا أعضاء «الكاربوناري» الذين هم عنصر ثوري، ويدينون بآراء جمهورية في جملتها، ويرفضون عودة «النظام القديم» بحال من الأحوال، والذين اشتد عداؤهم له، وإلى جانب هؤلاء «الكاربوناري» الثوريين وُجِدَ الوطنيون الذين اعْتَنَقُوا فكرة إنشاء إيطاليا حقيقة، والذين كانوا من الطبقة المتوسطة (البورجوازية) ومن «المستنيرين» الذين أرادوا إنقاذ الحريات المدنية، والإصلاحات الحرة التي أَدْخَلَتْها إلى البلاد السيطرةُ الفرنسية، والذين كانت تَجِيش في صدورهم الروح الوطنية (القومية) في الوقت نفسه.
ثم وُجِدَتْ إلى جانب هؤلاء وأولئك جماعةُ المناوئين للحركات الثورية، والذين لا يترددون إذا قامت الثورة في استخدام أسوأ أساليب السياسة لإخمادها، ولقد دَفَعَ هؤلاء «مورا» إلى السير في سياسته دون أن يخشى من أية اضطرابات داخلية قد تَحْدُث بدعوى أن النمسويين سوف يتدخلون لا محالة عندئذ لإخمادها ولإعادة النظام إلى نصابه بعد ذلك.
كل هذه «المجموعات» حول «مورا» اشتركت في مداهنته وتملُّق كبريائه، وزَيَّنَ هؤلاء له المجدَ والشهرة مما سوف يصبح حقًّا له إذا صار «مُحَرِّرَ إيطاليا ومُنْقِذَها»، واستخدموا كل ما لديهم من وسائل الضغط والإغراء ليقنعوه بتزعُّم حركة التحرير؛ ليصبح بَطَلَ الحرية الإيطالية، وتردَّدَ «مورا»، وفجأة بمجرد أن طَلَبَ نابليون منه الانضمام إليه في حملة ألمانيا، تراجَعَ «مورا»؛ فكتب إلى الإمبراطور يُلَبِّي الدعوة في ١٢ أبريل ١٨١٣، وبادَرَ بالذهاب إليه، وحارَبَ في معركة «ليبزج»، ولكن قبل الهزيمة الأخيرة صَحَّ عزم «مورا» على التخلي عن المصلحة الفرنسية نهائيًّا؛ فترك نابليون في «إرفورت»، وعاد إلى نابولي في ٤ نوفمبر ١٨١٣، وفي هذه اللحظة كان «مورا» قد قَرَّرَ إيثار صالِحَه الخاص على صالِح نابليون، والعملَ لِنَفْعه الشخصي هو وحده.
إن الغرض الذي يريده الملك «مورا ملك نابولي» هو استقلال إيطاليا … ولقد صنعتم جلالتكم — مخاطبًا نابليون — من إيطاليا أمةً، وتريد أكثرية الطليان أن تكون لهم حياة سياسية، ولقد أدرك ذلك مَلِك نابولي؛ فأخذ يبذل قصارى جهده مستخدمًا كل الوسائل ليصبح هذا هو الرأي السائد في كل مكان، وليَجْمَعَ في صعيد واحد — إذا استطاع — كلَّ أعضاء (أقسام) إيطاليا.
والذي تجدر ملاحظته أن كل «الترتيبات» والمباحثات التي حَصَلَتْ حتى هذه اللحظة بين «مترنخ» و«مورا» كانت تدابير سياسية بحتة، وذات صبغة محلية، وبصفة شخصية بحتة كذلك، ولكن من اللحظة التي نجحا فيها في تحطيم السيطرة الفرنسية في إيطاليا اتَّسَعَ برنامج كل منهما طفرة واحدة؛ فتزايدت أطماع «مورا» الذي استمر يتكتل حوله الطليان من الجماعات التي سَبَقَ ذِكْرها، وأَخَذَ يَفِدُ — ضِمْن مَنْ وفدوا عليه في نابولي — وفود من رومة يرجونه الاستيلاء على مدينتهم، وأراد «البناءون الأحرار» الماسون — الذين كان «مورا» أستاذًا أعظم لهم — أن يضعوه على رأس إيطاليا بأجمعها، وكان تحت تأثير كل هذه العوامل وحتى يزيد عَدَدُ أتباعه وأنصاره أن سار «مورا» حثيثًا في طريق الإصلاحات الدستورية التي أرادها لمملكته، وجاءه التأييد من كل جانب، من ناحية أولئك الذين ابتاعوا أملاك الكنيسة بعد أن صارت هذه علمانية، وصارت أملاكها أموالًا عامة، أو الذين ابتاعوا كذلك أملاك النبلاء التي بيعت.
وكان «مورا» قد أَوْضَحَ للسفير النمسوي، أن النمسا لن تَرْبح شيئًا من كل تلك الدويلات الصغيرة التي تريد إنشاءها في إيطاليا، ولكن الهدوء والسكينة سوف يسودان إيطاليا، ونفوذ النمسا سوف يتوطد بها إذا جَعَلَ النمسويون في قدرة «مورا» أن يكون لديه دائمًا جَيْش من ستين ألف مقاتل، وفي الوقت نفسه أَخَذَ «مورا» يتراسل مع نابليون في جزيرة إلبا، واستمر يتفاوض مع البابا كي يحصل منه على الاعتراف بتاجه، ولينال قسمًا من الأملاك البابوية، يضمه إلى مملكته في نظير استرجاع البابا لبقية أملاكه «أو الدولة» البابوية، وكان لدى «مورا» برنامجان للعمل يستندان على وجود «احتمالين»، مبعثهما اعتقاد «مورا» أن سقوط نابليون قد أَلْحَقَ الضعف على كل الأحوال بمركزه، فهو إما أن ينجح في الاعتماد على وجود «رأي عام» إيطالي قوي يؤيده في إنشاء دولة إيطالية تحت حكمه، وإما أن يحصل نهائيًّا على تاج نابولي إذا أَخْفَقَ المشروع الأول.
وأما «مترنخ» الذي تسنى له الخلاص من نابليون، فقد أَخَذَ يُفَكِّر الآن في الخلاص من «مورا»، ولكنه كان مقيَّدًا بالمعاهدة — معاهدة التحالف — المبرمة بين مورا والنمسا في ١١ يناير ١٨١٤، ثم بالاعتبارات المرتبطة بالطريقة التي أراد بها «مترنخ» التصرف في مصير الأملاك (الدولة) البابونية، و«الأرشيدوقات» النمسويين الذين يريد ترتيب نظام للحكم لهم في إيطاليا، و«دويلاتها» الصغيرة المبعثرة.
وأراد «مترنخ» أن يضع للمسألة الإيطالية حلًّا يوجِد بها ترتيبات، من نَوْع تلك الترتيبات التي حصلت في ألمانيا؛ فيؤسِّس اتحادًا كونفدرائيًّا إيطاليًّا، يكون أعضاؤه من المؤيدين لسياسة النمسا، والخاضعين لنفوذها، فتحتفظ النمسا بمملكة إيطاليا باسم «مملكة لمبارديا فينيسيا»، وفي بيدمنت يُرَتِّب زواج أحد الأرشيدوقات النمسويين من ابنة «فكتور عمانويل» الذي لا ولد له ذكرًا، فيتسنى عندئذ — وبعد إلغاء قانون الوراثة المعمول به، والذي يَمْنَع النساء وأولادهن من الملك — أن يُصْبِح هذا الأرشيدوق مَلِكًا على بيدمنت وسردينيا، وفي تسكانيا ومودينا تأسست بها حكومة الأرشيدوقين، أما «ماري لويز» الإمبراطورة القديمة، وكذلك الحكام من أسرة البربون في بارما، فقد أراد مترنخ أن يكون لهم الحكم في وسط إيطاليا، وكل هذه الحكومات الخاضعة لنفوذ النمسا هي التي يضمها الاتحاد الكونفدرائي الذي أراده مترنخ.
ولذلك فقد وُجِدَ برنامجان متعارضان لتقرير مصير إيطاليا، هما برنامج «مورا» و«مترنخ»، ولكن من المستطاع أن يُؤَدِّيَ كل منهما إلى إعادة تنظيم إيطاليا، وذلك بتأسيس دولة «إيطاليا»، إما في صورة «مملكة»، وإما في شكل «اتحاد كونفدرائي»، وكِلا النوعين إنْ هو إلا تنظيم عامٌّ وشامل، لم يَسْبِق أن شَهِدَت له إيطاليا مثيلًا في حياتها كلها.
إن الساعة قد حانت ليتحقق مصير إيطاليا المجيد، فإن الله يدعو الإيطاليين ليكونوا «أمة مستقلة»، فَلْتُدَوِّ إذن صيحةٌ واحدة تَتَجَاوَب أصداؤها من جبال الألب في الشمال، إلى مضايق صقلية في الجنوب، تنادي باستقلال إيطاليا … إن ثمانين ألفًا من الطليان يزحفون تحت أوامر مليكهم، ويحلفون يمينًا مغلظة أنهم لن يذوقوا طَعْم الراحة حتى تتحرر إيطاليا.
واختتم «مورا» هذا النداء بأنْ طَلَبَ من كل الأحرار الشجعان في إيطاليا أن يلتفوا حوله؛ ليخوضوا المعركة سويًّا، وفي ٢ أبريل دَخَلَ «مورا» بولونا، ثم بعد يومين (٤ أبريل) دخل «مودينا».
ولقد كان بفضل «تدابير» وترتيباتٍ شخصيةٍ، أن تَسَنَّى «لمورا» أن يُصْبِحَ بطل «القضية الإيطالية» عندما أراد استخدام هذه التدابير «البسيطة» كوسيلة لصنع أو خلق «دولة» إيطالية، ولم يكن هناك وجود في الحقيقة لذلك «الحزب الوطني» أو القومي الذي وَجَّهَ له «مورا» نداءاته؛ لأن هذا الحزب الوطني لم يكن يوجد إلا في صورة طائفة من المبادئ والأفكار المثالية لم تُتَحْ لها الفرصة بعدُ للذيوع والانتشار، والتي كان يعتنقها بعض العناصر من المثقفين والعسكريين، والذين تأثروا كذلك بالفكرة الدستورية.
وكما أَخْفَقَتْ تدابير «مورا» المستَنِدة على «الملكية» و«القومية»، ولتأسيس دولة إيطالية موحَّدة؛ فقد أَخْفَقَتْ كذلك تدابير «مترنخ» لإنشاء دولة اتحادية (كونفدرائية) في إيطاليا؛ فقد تخلى «مترنخ» عن جزء من أطماعه عندما صار ضروريًّا الانتهاء سريعًا من وَضْع تسويات الصلح في فينَّا، فكان من المستحيل أن يحصل على الأملاك البابوية، بل استرجع البابا أقاليم «رافنا» و«فرارة» و«بولونا» لتعود أملاكه إلى الوضع الذي كانت عليه في سنة ١٧٨٩، وكانت الدول — بعد انتهاء الخطر الذي كان يتهددها من ناحية نابليون بعد هزيمة هذا الأخير في «واترلو» — قد صارَتْ تقابِلُ بتحفُّظٍ وحَذَرٍ شديدَيْن مقترحاتِ مترنخ، وتَقِفُ من «سياسته» موقفًا أكثر استقلالًا من الماضي، وتشعر بأنها صارت قوية بالدرجة التي تَقْدر فيها على مقاومته، وكانت تلقى الدول تأييدًا في مَوْقِفها هذا من جانب روسيا وفرنسا.
وعلى ذلك فقد «تجنب» ملك نابولي (فردنند الرابع، أعيد إلى عرشه الآن باسم فردنند الأول)، والبابا وملك بيدمنت، الإصغاءَ لمقترحات مترنخ، ورفضوا «الكونفدرائية» التي اقترحها «مترنخ» حلًّا للمسألة الإيطالية، بل إنهم رفضوا كذلك — بعد فترة من الزمن قصيرة — اقتراحًا لإنشاء «اتحاد بريدي» لتنظيم البريد بين الدويلات والإمارات الإيطالية؛ وعلى ذلك فقد بَقِيَتْ إيطاليا «مصطلحًا جغرافيًا»، حسب التعريف الذي صاغه مترنخ نفسه بعد ذلك ليصف به إيطاليا.
ولعل أَهَمَّ ما تجدر ملاحظته عند المقارنة بين الحركتين الإيطالية والألمانية أن ثمة اختلافًا كبيرًا يميز كلًّا منهما عن الأخرى؛ ذلك بأن الطليان لم يشتركوا — وعلى نحو ما فَعَلَ الألمان — في تحرير بلادهم واستنقاذها من السيطرة الفرنسية، فلم يَعُد الدور الوحيد الذي قاموا به، تأليف ذلك الحزب الميلاني الذي أسمى نفسه «الحزب الوطني الإيطالي»، والذي لم يكن إلا حزبًا محليًّا، ثم تقوية كل تلك الأماني الوطنية التي صارت مرتكزة على النشاط الذي سوف يقوم به «مورا»، والتي كانت في الحقيقة لا تستند على أصول عريقة ولا تنسيق يربط اتجاهاتها ويوجِّه نشاطها.
ومن ناحية أخرى فقد كان هناك أصحاب المصالح الذين أَزْعَجَهُم ضياع كل الإصلاحات والتغييرات التي حَصَلَتْ على أيام السيطرة الفرنسية، وصاروا لا يريدون عودة «النظام القديم»، بل لقد كانت الفكرة القومية يحوطها الإبهام الشديد، حتى في تفكير الأدباء والمثقفين، والذين عُرِفُوا بالتقدم الذهني أكثر من سواهم، وصفوة القول: إن من المتعذِّر ملاحظة يقظة قومية في إيطاليا، من طراز تلك اليقظة القومية التي شوهدت في ألمانيا آنئذ.