التسوية الأوروبية
(١) مؤتمر فينَّا
لقد تقدم كيف انتهت الحروب التي بدأت في أوروبا في عهد الثورة الفرنسية، ثم استمرت في عهد الإمبراطورية النابليونية، بأن انتصر الحلفاء على نابليون في ليبزج (١٨١٣)، ثم لم يلبثوا أن غزوا فرنسا نفسها في أوائل العام التالي، واستطاع البربون أن يعودوا إلى عرش آبائهم، وأن يعقد الحلفاء الصلح مع فرنسا في معاهدة باريس الأولى في ٣٠ مايو ١٨١٤.
ولكن حروب الثورة ونابليون كانت أكثر من مجرد نضال بين الدول المتحالفة وبين فرنسا، بل إن هذه الحروب كانت بمثابة العاصفة الهوجاء التي اجتاحت أوروبا؛ لتُبِيدَ معالم الحياة القديمة بها، فلم تَسْتَطِع دولة أو شعب أو أسرة الإفلاتَ من التأثر بها؛ ولذلك فقد بات ضروريًّا أن يجتمع «مؤتمر» يتسنى فيه البحث في شئون أوروبا العامة وتسوية المشكلات التي نَجَمَتْ من هذه الحروب الطويلة، ووَقَعَ الاختيار على فينَّا لتكون مَقَرَّ هذا المؤتمر؛ لأنها مدينة أوروبية عظيمة، وعاصمة لدولة من الدول الكبرى التي انتصرت في الحرب، ولأن حكومتها — حكومة الإمبراطورية النمسوية — كانت تمثل كل ما ينطوي عليه معنى المحافظة على التقاليد والقانون والنظام في أوروبا وقتئذ.
على أن ثمة ملاحظات بشأن هذا المؤتمر جديرة بالذكر، منها: أن هذا المؤتمر لم ينعقد لإبرام الصلح، والسبب في ذلك أن شروط الصلح كان قد تم وَضْعها في معاهدة باريس الأولى في ٣٠ مايو ١٨١٤، ومن ذلك الحين كانت الحرب منتهية فعلًا وقانونًا بين فرنسا وبين الدول المتحالفة، وفي استطاعة فرنسا لذلك عند انعقاد المؤتمر أن تَطْلُب الانضمام إلى الأسرة الدولية، أَضِفْ إلى هذا أن الغرض من عقد هذا المؤتمر لم يكن إعادة تنظيم شئون أوروبا على قواعد جديدة، باعتبار أن «النظام الأوروبي» قد انهار فعلًا من أساسه نتيجة لحروب الثورة ونابليون خلال العشرين سنة الماضية، وأن الواجب يقتضي أصحاب التسوية أن يؤسسوا نظامًا أوروبيًّا جديدًا، تَخْتَلِف القواعد التي يقوم عليها عن تلك التي اسْتَنَدَ إليها التنظيم الأوروبي في القرن الثامن عشر.
ولكن الذي حدث أن السياسيين الذين اجتمعوا في هذا المؤتمر، اعتقدوا على العكس من ذلك، أن النظام القديم وبالصورة التي عَرَفَهَا القرن الثامن عشر — أي احترام السلطات الحكومية وتمجيد التقاليد، والمحافَظة على التوازن الدولي — هو خير نظام وُجِدَ ليضمن للشعوب حرياتها، وليحقق سيادة القانون، وأن كل ما تدعو الحاجة إليه الآن لا يعدو حينئذ أن يكون إدخال بعض التحسينات وحسب، والتي وإن كانت ضرورية فإنها لا يجب أن تنال بحال من الأحوال من جوهر هذا النظام القديم نفسه، ولا جدال في أنهم قد فعلوا ذلك، وأنهم أَصَرُّوا على أن تعود الحال إلى سابق العهد بها، وأنهم تجاهلوا فيما فعلوا حادث الثورة «الفرنسية» العظيم، وكل المبادئ الجديدة التي جاءت بها هذه الثورة، الأمر الذي أدى إلى اعتبار فترة انعقاد هذا المؤتمر، ثم الفترة التالية التي شَهِدَتْ رجوع الملكيات السابقة إلى الحكم، والعودة إلى الأنظمة القديمة عمومًا، أنها عهد الرجعية في أوروبا.
وكان الأصل في نشأة هذا المؤتمر أنه جاء في معاهدة باريس الأولى (٣٠ مايو ١٨١٤) في مادتها الثانية والثلاثين، أن تتعهد الدولة المشتركة وقتئذ في الحرب من كلا الطرفين بإرسال مندوبيها في خلال شهرين إلى فينَّا؛ للاجتماع في مؤتمر عامٍّ لوضْع التسوية التي تَضَمَّنَتْها نصوص هذه المعاهدة، على أنه لما كان يَحِقُّ لفرنسا — بحكم هذه المادة، ولأنها كانت في حالة سِلْم مع الدول بفضل إبرام معاهدة الصلح هذه — أن تشترك في وَضْع التسوية المزمعة، فقد أراد الحلفاء أن يَحْرِموها هذا الحق، فأضافوا مادة سرية، اضطرت فرنسا إلى الموافقة عليها، نَصَّتْ على أن يكون للحلفاء فيما بينهم هم وحدهم فقط الحق في وَضْع المبادئ والقواعد التي تجري عليها تسوية الصلح النهائية.
لقد كان قدومك في الوقت المناسب؛ لأنه إذا كانت تروقك الحفلات الراقصة والأعياد (الزينات) فأنت قمين بأن تَجِدَ ما يُشْبِع نهمك منها؛ فالمؤتمر لا يمشي ولكنه يرقص! وفينَّا مزدحمة بأصحاب التيجان، والكل يصرخون: السلام، العدالة، التوازن الدولي، التعويضات، وأما أنا فإني قانع بالمشاهدة والملاحظة فحسب، وكل ما أطْلُبه من تعويض هو قبعة جديدة؛ لأن قبعتي بَلِيَت من المرات العديدة التي أَرْفَعها لتحية السادة الذين أُصَادِفُهم في كل منعَطَف وشارع.
وبدأت أعمال المؤتمر أخيرًا باجتماع ممثلي الدول الأربع: بريطانيا، روسيا، النمسا، بروسيا في ١٣ سبتمبر ١٨١٤، وفي ٢٣ سبتمبر وصل تاليران إلى فينَّا، ولم يَرْتَحْ تاليران لعُزلة فرنسا وانزوائها بعيدة عن لجنة الأربعة؛ فقرر تصحيح هذا الوضع بأساليب سوف يأتي ذِكْرها في حينه، وتحقَّقَتْ رغبته عند إنشاء لجنة الخمسة التي ضَمَّتْ فرنسا إليها، وإلى جانب هذه اللجنة الخماسية أنشأ المؤتمر عددًا من اللجان الأخرى لدراسة الموضوعات التفصيلية وإعداد البيانات اللازمة؛ فكانت هناك «لجنة الثمانية»، وهي التي وَقَّعَتْ على القرار النهائي — كما تقدم — في ٩ يونيو ١٨١٥، ولم تكن مهمةُ هذه اللجنة سوى تَلَقِّي القرارات والبحوث الخاصة بالمسائل الأوروبية الهامة، ودَرَسَتْ هذه اللجنة موضوع تجارة الرقيق ومسألة الاتحاد السويسري، ثم كانت هناك «اللجنة الألمانية» لبحث شئون ألمانيا ووَضْع دستور لها، ثم «لجنة الإحصاءات» وقد اختصت بتعداد السكان في الأراضي التي يراد استبدالها أو إعطاؤها كتعويض كجزء من التسويات التي يَتَّفِق عليها المؤتمر.
ولقد تناوَل المؤتمر مسائل تسعًا تتعلق ببولندة وسكسونيا، وبحدود الراين، وببلجيكا وهولندة، وبالدنمارك والسويد، وبسويسرة، وبإيطاليا، وبالاتحاد الألماني، وبالأنهار الدولية، وبتجارة الرقيق.
غير أنه قَبْل الكلام عن الحلول التي وَصَلَ إليها السياسيون في هذه المسائل يجب أن نَذْكر أن المؤتمر كان مُقَيَّدًا في أعماله بطائفة من المعاهدات والاتفاقات التي أَبْرَمَتْها الدول فيما بينها أثناء القتال ضد فرنسا، وكانت هذه تُوَضِّح الطريقة التي يجري بها توزيع الأراضي والأقاليم في إيطاليا الشمالية والأراضي المنخفضة السفلى (بلجيكا)، وعلى ضفة نهر الراين اليسرى، وكذلك مسألة إعداد دستور فدرائي لسويسرة.
- (١) معاهدة كاليش Kalisch في ٢٨ فبراير ١٨١٣ بين روسيا وبروسيا، تنازَلَتْ بروسيا بموجبها عن شَطْر كبير من ادعاءاتها على بولندة، في نظير تعويضها من أراضي ألمانيا (عدا هانوفر) بقدر ما كان لها قبل سنة ١٨٠٦.
- (٢) معاهدة ريشنباخ Reichenbach في ٢٧ يونيو ١٨١٣ وهي معاهدة تحالف بين النمسا وروسيا وبروسيا لاقتسام غراندوقية وارسو فيما بينها.
- (٣) معاهدة تبليتز Teplitz في ٩ سبتمبر ١٨١٣، لِدَعْم أركان المحالفة السابقة، وكان الظاهر في سكسونيا ستكون التعويض الذي تناله بروسيا.
- (٤) معاهدة ريد Ried في ٨ أكتوبر ١٨١٣، وبمقتضاها حَصَلَ مَلِك بفاريا على حَقِّ استبقاء ما كان بيده من الأراضي ما عدا التيرول والمقاطعات النمسوية على نهر «الإين Enns».
- (٥) معاهدة كييل Kiel في ١٤ يناير ١٨١٤، وبمقتضاها تَنَازَلَ فردريك السادس ملك الدنمارك عن النرويج في نظير حصوله على لونبرج Luneberg، واستبْقَتْ إنجلترة في يدها جزيرة هيلجولند، وكانت السويد قد حَصَلَتْ منذ آخر أغسطس ١٨١٢ في معاهدة أبو Abo مع روسيا على حق الاستيلاء على النرويج في نظير مساعدتها الحلفاء ضد فرنسا.
- (٦) معاهدات شومونت Chaumont في أول مارس ١٨١٤، وكانت ثلاثًا ذات منطوق واحد بين بريطانيا من جانب، وكلٍّ من النمسا وبروسيا وروسيا على حدة من جانب آخر، وقد تَقَرَّرَ في مادة سرية أن تَسْتَرِدَّ الولايات أو الإمارات الألمانية استقلالها، ولكن في نطاق اتحاد عامٍّ يجمع بينها، وقد صار إدماج هذا النص في معاهدة باريس الأولى (٣٠ مايو ١٨١٤).
وزيادة على ذلك فإن الحلفاء الذين وَقَّعُوا في أثناء النضال ضد نابليون، على معاهدة شومونت وهم مترنخ عن النمسا، وهاردنبرج عن بروسيا، ونسلرود عن روسيا، وكاسلريه عن إنجلترة، قد اتفقوا أيضًا على عقد اجتماعات دورية لتأكيد التفاهم وتوثيق الصلات الودية فيما بينهم، وبذلك تكون معاهدة شومونت قد تَضَمَّنَتْ أيضًا أساس نظام المؤتمرات التي عَقَدَتْها الدول الكبرى، عندما أَخَذَتْ هذه الدول تُبَاشِر حَقَّها في المحافظة على السِّلْم في أوروبا، وهي المهمة التي اضْطَلَعَتْ بالقيام بها، وكان مؤتمر فينَّا نفسه أول وأهم هذه المؤتمرات التي عَقَدَتْها الدول لهذه الغاية، وإن لم يكن آخرها.
- (٧)
معاهدة باريس الأولى في ٣٠ مايو ١٨١٤، وهذه المعاهدة تُعْتَبَر «المفتاح» لأعمال المؤتمر؛ لأنها تَضَمَّنَتْ كثيرًا من الحلول التي عُرِضَت الآن على المؤتمر كأمْر واقع ومفروغ منه، من ذلك إرجاع الحدود الفرنسية إلى ما كانت عليه في أول يناير ١٧٩٢ مع زيادة بسيطة في الجنوب الشرقي والشمال والشمال الشرقي؛ فتنازَلَتْ فرنسا عن حقوق سيادتها على أكثر من اثنين وثلاثين مليون نسمة، ثم نَصَّت المعاهدة على انضمام بلجيكا إلى هولندة في مملكة واحدة، وانضمام البندقية ولبمارديا إلى النمسا، وجمهورية جنوة إلى بيدمنت (سردينيا).
ثم إنها نَصَّتْ على إنشاء اتحاد من الولايات الألمانية، كما أَبْقَتْ جزيرة مالطة وبعض المستعمرات الفرنسية (جزر توباجو، سان لوسيا، إي لدي فرانس) ثم مستعمرة الرأس الهولندية في حوزة بريطانيا، وأخيرًا مَهَّدَتْ معاهدة باريس الأولى لظهور النزاع بين الدول المتحالفة حول المسألة البولندية السكسونية، وذلك حينما كانت بولندة (غراندوقية وارسو) من الأراضي التي انْتُزِعَتْ من فرنسا النابليونية، وكانت مملكة سكسونيا حليفة نابليون، من أراضي العدو التي يَجِبُ النظر في مصيرها؛ وذلك كله نتيجةً لانكماش حدود فرنسا — حسب هذه المعاهدة — إلى ما كانت عليه قبل حروب الثورة ونابليون.
(٢) المسألة البولندية-السكسونية
وكانت هذه في الحقيقة أَصْعَب المشكلات التي كادت تتحطم بسببها أعمال المؤتمر، ومنشأ هذه المشكلة أن معاهدة كاليش (٢٨ فبراير ١٨١٣) كانت — كما رأينا — قد تَضَمَّنَتْ وعدًا بتوسع بروسيا في ألمانيا الشمالية، بينما نالت روسيا حقَّ التصرف في بولندة؛ فاعتمدت روسيا على هذه المعاهَدة في المطالبة بكل بولندة، وأراد القيصر إسكندر الأول أن يضم غراندوقية وارسو التي أنشأها نابليون، إلى بقية أجزاء بولندة التي كانت روسيا قد استولت عليها من أيام تقسيم بولندة في القرن الثامن عشر في معاهدات التقسيم الثلاث المعروفة في ١٧٧٢، ١٧٩٣، ١٧٩٥.
والغرض من ذلك أن يتسنى بَعْث بولندة القديمة إلى الوجود مرة ثانية، ولقد أراد القيصر أن يمنح بولندا دستورًا ديمقراطيًّا، وأن يقيم بها حكومة برلمانية، وأن يَجْمَع بين بولندة وروسيا في اتحاد تحت تاج القيصر الشخصي فقط، ولكن غراندوقية وارسو كانت تتألف من المقاطعات البولندية التي هي أصلًا من نصيب بروسيا في التقسيمات السابقة؛ ولذلك فقد بات واجبًا الحصول على موافقة بروسيا، وقد وافَقَتْ بروسيا على رغبات القيصر لقاء أن تَنَالَ هي تعويضًا في سكسونيا بالاستيلاء خصوصًا على درسدن وليبزج أهم مدنها، بدعوى أن ملك سكسونيا فردريك أغسطس قد سَقَطَ حقُّه وحقُّ أسرته في الاستفادة من مبدأ الشرعية، أي إرجاع الحقوق إلى أصحابها الشرعيين؛ لأنه استمر مواليًا للإمبراطور نابليون حتى معركة ليبزج (أكتوبر ١٨١٣)، ولم يَعُدْ له أيُّ حقٍّ في الاحتفاظ بأملاكه؛ لأنه خانَ المصلحة الألمانية، ولم تَجِدْ روسيا ما يمنعها من قبول وجهة النظر هذه، وراحت روسيا وبروسيا تُعَضِّد كلٌّ منهما مَطَالِب الأخرى.
وعلى ذلك فقد انقسمت الدول الأربع فريقين: روسيا وبروسيا في جانب، وإنجلترة والنمسا في جانب آخر، ولم تلبث أن تَأَزَّمَت الأمور بين هذين الفريقين؛ حتى إن القيصر أَخَذَ يتهدد المؤتمر، ثم قال في حديث له مع تاليران: «إن لدي مائتي ألف جندي الآن يرابطون في دوقية وارسو، فليحاول من يشاء إخراجي من هذه الدوقية، وأما أنا فقد أَعْطَيْت سكسونيا إلى بروسيا»، وهذا الخلاف الظاهر على مسألة بولندة-سكسونيا هو الذي أعطى تاليران الفرصة التي كان يَتَحَيَّنُها منذ وصوله إلى فينا (٢٣ سبتمبر)؛ ليُخْرج فرنسا من عزلتها وليُشْرِكها في محادثات لجنة الأربعة، فقد أَدْرَكَ تاليران أن بوُسْع فرنسا أن تفعل ذلك إذا هي قبضت الآن على ناصية التوازن بين هذه الدول.
وعند عودة المَلَكِيَّة الراجعة، ملكية لويس الثامن عشر، شغل تاليران منصب وزير الخارجية، وصار يعمل لإنقاذ وطنه من انتقام الحلفاء المنتصرين، مستندًا على أن فرنسا النابليونية قد انتهى أَمْرُها بسقوط نابليون، وأن فرنسا البربونية ليست مسئولة عن الحروب الطويلة الماضية، وبمجرد وصوله إلى فينَّا، أخذ تاليران يعمل لتحقيق مأربه، ولما كان شديدَ الإعجاب بالنظم الإنجليزية — منذ زيارته للندن في ١٧٩١ — وكانت إنجلترة من ناحية أخرى تُبْدِي في شخص وزيرها كاسلريه عطفًا على فرنسا، فقد سهل التفاهم بين كاسلريه وتاليران، وبخاصة عندما أخذ تاليران يؤيد وجهة نظر إنجلترة والنمسا في الخلاف القائم حول المسألة البولندية السكسونية.
وعلى ذلك فما إن عَقَدَ المؤتمر أولى جلساته الرسمية في ٢٤ ديسمبر ١٨١٤ حتى تَقَدَّمَ كاسلريه ومترنخ باقتراحٍ يطلبان فيه أن تُضَمَّ فرنسا إلى المؤتمر، وأصرا على قبولها ضِمْن لجنة الأربعة، فأَزْعَجَ هذا الاقتراحُ والإصرار على التمسك به كلًّا من روسيا وبروسيا، ولكن تَعَذَّرَ عليهما الرفض؛ لأن فرنسا منذ أن وَقَّعَتْ على معاهدة باريس الأولى (في ٣٠ مايو ١٨١٤) لم تَعُدْ دولةً معادية، هذا من جهة، ولأن تاليران راح يهدد من جهة أخرى باستثارة الدول الصغيرة للوقوف موقف المعارَضة، وبتحريضها على المطالَبة بالمساهمة الفعلية في أعمال المؤتمر، إذا رُفِضَ الاقتراح بانضمام فرنسا إلى الدول الأربع الكبرى، وعندئذ اضطرت روسيا وبروسيا إلى القبول، وكانت الأمور قد تَحَرَّجَتْ بينهما وبين إنجلترة والنمسا، وفي ٢٤ ديسمبر ١٨١٤ دخل تاليران إلى لجنة الأربعة.
ومنذ أن تشكَّلَتْ لجنة الخمسة — بدخول تاليران إلى لجنة الأربعة — أقبل تاليران على تعضيد النمسا وإنجلترة وتأييدهما قلبًا وقالبًا، وأَسْفَرَ تعضيدُه لهاتين الدولتين عن عَقْد محالَفة سرية «دفاعية» بين الدول الثلاث: إنجلترة وفرنسا والنمسا في ٣ يناير ١٨١٥، وحينئذ لم يكن هناك مناصٌ أمام روسيا وبروسيا، إذا بَقِيَ الفريق الآخر متمسكًا بموقفه، وأرادتا تجنب الحرب من قبول حَلٍّ وَسَطٍ لِفَضِّ المشكلة البولندية السكسونية.
على أنه إذا كان هذا الحل الوسط قد خَدَمَ مصالح إنجلترة والنمسا في هذه المسألة، فمن المشكوك فيه كثيرًا أن تاليران أفاد شيئًا من تأييده لهاتين الدولتين، وذلك عدا خروج فرنسا من عزلتها، ودخولها في لجنة الأربعة، وانحلال المحالَفة ضد فرنسا، وهي الأمور الثلاثة التي قال هو نفسه: إنه جناها من تأييده للمصالح الإنجليزية النمسوية في مشكلة بولندة سكسونيا.
وقد لَقِيَ هذا المشروع معارَضة شديدة من جانب مترنخ؛ لأن هذا الأخير كان لا يريد استيلاء بروسيا على سكسونيا كما عَرَفْنا، ثم انبرى كاسلريه كذلك لمعارَضة المشروع؛ لأن الوزير الإنجليزي لم يكن يريد إقامة دولة ذات ميول واضحة نحو فرنسا على شاطئ الراين الأيسر، فتصبح بلجيكا مهدَّدة بخطر جديد، وتلك جميعها أسباب مفهومة لتفسير معارضة كل من النمسا وإنجلترة للمشروع المقترح، ولكن الذي لم يكن مفهومًا أن يتصدى تاليران لمعارضة مشروع تفيد فرنسا من نجاحه فوائد ظاهرة، وهي فوائد يمكن إجمالها في الحقائق التالية؛ وأولها: أن ناخب سكسونيا فردريك أغسطس، كان صديقًا لفرنسا، وأن الدولة الجديدة مِن المنتظَر أن تكون الكاثوليكية عقيدتها، وأن يكون أكثرية سكانها من الغاليين، وأن الأسرة المالكة بها، وهي التي أبعدت عن مواطنها الأصلي في سكسونيا، من المنتظر أن يشتد نفورها من بروسيا، وأن الدولة المقترحة سوف تكون بمثابة حاجز بين فرنسا وألمانيا، ومن المحتمل أن يَمْنَع وجودُ هذه الدولة الحاجزة وقوعَ الاصطدام بين هاتين الدولتين أجيالًا طويلة.
وقد يبدو أن تاليران كان متخوفًا إذا هو أيد المشروع البروسي «الروسي» أنْ تعْمد إنجلترة والنمسا إلى خَوْض غمار الحرب لمَنْعه ووَقْفه، ومع ذلك فقد كان مُحْتَمَلًا كذلك أن يؤدي انحيازُه إلى جانب إنجلترة والنمسا وإصرار هاتين الدولتين على التمسك بآرائها إلى نشوب الحرب كذلك.
مولاي! لقد انحل التحالف الآن، وإلى الأبد!
(٣) تسوية فينَّا
- أولًا: حصلت روسيا على فنلندة من السويد، ثم على بسارابيا من تركيا، وبسطت سلطانها — كما رأينا — على دوقية وارسو، فاستطاعت أن تَنْفُذ إلى وسط أوروبا.
- ثانيًا: رَفَضَت النمسا استرجاع ممتلكاتها في جنوبي ألمانيا وفي بلجيكا؛
لِبُعْد بلجيكا ولصعوبة الدفاع عنها، ولأن النمسا — كما أراد مترنخ
— أرادت أن تُؤَسِّس إمبراطوريتها بعيدة عن كل اتصال مباشر بفرنسا،
وأن تعمل بدلًا من ذلك على توحيد قوتها في وسط وجنوبي أوروبا،
فاستولت لذلك على التيرول وسالزبرج.
وأما بلجيكا فقد ضُمَّتْ إلى هولندة في مملكة واحدة تحت تاج أسرة أورانج Orange، على أمل أن يضمن وجودُ مملكة متحدة الاستقرارَ في هذه المنطقة الخطرة (بين مصبات الشلدت والراين)، وهي التي تهدد دائمًا السلام في أوروبا.
ثم نالت النمسا عن خسارة بلجيكا تعويضًا في شبه الجزيرة الإيطالية، فاسترجعت إقليم الميلانيز (لمبارديا) التي خَضَعَتْ لها منذ معاهدات بوترخت في سنة ١٧١٣، كما حصلت على البندقية ودلماشيا، وكافة الجزر التي كانت لجمهورية البندقية في سنة ١٧٩٧ ما عدا جزر الأيونيان: كرفو، وزانطي، وكيفالونيا وغيرها مما تَأَلَّفَ منها الآن دولة واحدة حرة ومستقلة (بمقتضى معاهدة في ٥ نوفمبر ١٨١٥) ووُضِعَتْ تحت حماية بريطانيا، وأَصْبَحَت النمسا بفضل استيلائها على البندقية وشاطئ الأدرياتيك دولة بحرية.
- ثالثًا: ولما صار مترنخ يريد أن يجعل من إيطاليا «تعبيرًا أو مصطلحًا جغرافيًّا» فقد طبقت الدول في إيطاليا مبدأ «الشرعية» أيْ إرجاع الحقوق إلى أصحابها الشرعيين، فرجع ملك سردينيا إلى مملكته، وضُمَّتْ إليه جمهورية جنوة القديمة، وأُعِيدَتْ أسرة إست Este إلى مودينا Modene، وأسرة لورين هابسبرج إلى تسكانيا، ثم خولف هذا المبدأ مؤقتًا عندما أُعْطِيَتْ ماري لويز زوجة نابليون وابنة إمبراطور النمسا فرنسيس الثاني، دوقية بارما لمدة حياتها، حتى إذا توفيت (وكانت وفاتها في سنة ١٨٤٧) عادت بارما إلى أسرة بوبرون بارما، بينما عادت لوقا Lucca التي كانت في يد هذه الأسرة الأخيرة طوال المدة الماضية بمقتضى التسوية إلى غراندوقية تسكانيا، وعندما انضم «مورا» ملك نابولي إلى الإمبراطور نابليون وَقْت فراره من إلبا وعودته إلى فرنسا، خرجت مملكة نابولي من حوزته، ثم أُعْدِم فورًا بعد ذلك، وعادت نابولي إلى ملكها القديم فردنند الأول، من بيت بربون، ولقد أَسْفَرَتْ هذه التسويات عن تَمَتُّع النمسا بنفوذ عظيم في شبه الجزيرة الإيطالية.
- رابعًا: وكان التعويض الذي أَخَذَتْه بروسيا في منطقة الراين يتألف من الإمارات الكنسية القديمة التي كان نابليون استولى عليها في ماينز، وتريف، وكولونيا مع غيرها من المطرانيات، وهذا إلى جانب عَدَدٍ من الإمارات العلمانية، والمدن الإمبراطورية الحرة التي كان قد استولى عليها نابليون أيضًا، فتألَّفَتْ من هذه جميعها الآن مقاطعة الراين السفلي Nieder Rhein، وكذلك حصلت بروسيا على مقاطعة وستفاليا (حول مونستر Münster خصوصًا)، ثم أخذت من الدنمارك، بوميرانيا السويدية Pomerania في نظير تَنَازُلها للدنمارك عن دوقية لونبرج على نهر الإلب.
- خامسًا: احتلت إنجلترة جزيرة هليجولند (من أملاك الدنمارك) — ومما تَجْدُر ملاحظته أن إنجلترة تَنَازَلَتْ عنها فيما بعد إلى بروسيا في معاهدة أُبْرِمَتْ سنة ١٨٩٠ — ثم احتفظت بمالطة، وجزر الأيونيان، ومستعمرة الرأس الهولندية، وسيلان، وديمارارا «في جوايانا البريطانية» وسان لوسيا وتوباجو وترينداد.
- سادسًا: تَضَمَّنَت التسويات الباقية: فصل النرويج من الدنمارك وإعطاء النرويج إلى السويد في نظير استيلاء روسيا على فنلندة من أملاك السويد، ثم استيلاء بروسيا على بوميرانية السويدية، تسوية مسألة الاتحاد السويسري بالإبقاء على الكانتونات (المقاطعات) التسع عشر القديمة، مع إضافة ثلاثة كانتونات جدد إليها «منها جنيف»، ووَضْع دستور فدرائي لها، ثم ضمان حياد سويسرة بواسطة الدول الثمان، وَضْع دستور اتحادي لألمانيا، فصار الاتحاد الكونفدرائي الألماني يتألف من أربع وثلاثين إمارة (زيدت واحدة فصارت خمسًا وثلاثين في سنة ١٨١٦)، وأُعْطِيت رياسة الاتحاد إلى النمسا، جَعْل الملاحة حرة في الأنهار الدولية، إعلان الدول الثمان أن إلغاء تجارة الرقيق في العالم أَمْر يستحق كل عناية وكل انتباه، ولو أن تحديد الوقت المناسب لإلغاء هذه التجارة صار من حق كل دولة أن تختاره متى شاءت، أُبْقِيَت الحدود بين إسبانيا والبرتغال على حالها.
- سابعًا: لم يتناول المؤتمر مسألة أمريكا الإسبانية، ولو أن كاسلريه على وَجْه الخصوص كان يُدْرِك أنَّ من المتعذر في المستعمرات الإسبانية «وكذلك في المستعمرات البرتغالية» العملَ بالنظام الحكومي القديم الذي أُعِيدَ في شبه جزيرة إيبريا، كما كان واضحًا أن أمريكا الإسبانية سوف تُصْبِح «أسواقًا» لبريطانيا التي زادت أملاكُها في العالم الجديد بمقتضى تسويات الصلح، ولقد كان مفروغًا منه أن أزمة سوف تحدث في أمريكا الإسبانية نتيجة لسياسة القمع والحكومة الأوتقراطية التي تجري عليها إسبانيا في أملاكها الأمريكية، كما أنه كان من المتوقع أن تَتَعَقَّد الأمور في البرتغال التي أَعْلَنَ اندماج «البرازيل» مستعمراتها القديمة معها في مملكة واحدة، ولكن عند انعقاد المؤتمر في فينَّا (١٨١٤-١٨١٥) لم تكن واحدة من الدول العظمى سوى بريطانيا تريد التدخل في شئون المستعمرات الإسبانية في أمريكا؛ وذلك لأن روسيا كانت تَطْمَع أن تشغل في البلاط الإسباني في مدريد مركز المستشار المخلص الأمين للحكومة الراجعة، في حين أن فرنسا كانت تؤيد مصالح فرع أسرة بربون الإسباني.
نقد التسوية
قامت تسوية فينَّا على أساسين هما: توازن القوى، والتعويضات، قاعدتا الدبلوماسية الأوروبية في القرن الثامن عشر، فأَرْجَعَ السياسيون فرنسا إلى ما كانت عليه قبل حروبها الأخيرة كي يعيدوا التوازن الدولي في أوروبا، ثم إنهم اتبعوا خطة تعويض الدول التي أُخِذَتْ منها أراضيها لإعطائها إلى دول أخرى، ولو أن كلًّا من إنجلترة وبروسيا والنمسا وروسيا قد احْتَفَظَتْ بما استولت عليه، سواء كان هذا الذي استولت عليه «حكومات» لم يعد لها وجود مثل مالطة والبندقية، أو مقتطعًا من حكومات، كانت سابقًا من حلفاء فرنسا، مثل السويد وتركيا وبولندة، كذلك صار إرجاع الأسر القديمة إلى الحكم في الدول التي نَحَّى نابليون أصحابها عن عروشهم وضَمَّها إلى فرنسا، ولكن هذا المبدأ (الشرعية) لم يُتَّبَع أيضًا بحذافيره، فلم يشأ المؤتمر عودة الأسر الحاكمة التي كان يسوؤه رجوعها أو التي أراد توزيع أملاكها في شكل «تعويضات» تُعْطَى للدول التي تولى المؤتمر التصرف في أملاكها، وفي الواقع أن هذا كله إنما كان يجري وفْق المبادئ والتقاليد وما أَخَذَ به العرف الدبلوماسي في القرن الثامن عشر، فلم يُفَكِّر إنسان أن هناك ما يدعو لاستشارة الشعوب التي أَخَذَ المؤتمر على عاتقه أن يَفْصِلَ هو وحده في مصيرها.
ثم إن المؤتمر لم يلبث أن أضاف إلى قاعدتي توازن القوى والتعويضات اعتبارًا آخر؛ هو ضرورة الاطمئنان لعدم تكدير السلام من ناحية فرنسا في المستقبل، أي اتخاذ التدابير والإجراءات التي تَمْنَع فرنسا من الإقدام على أية اعتداءات جديدة؛ فأحاط المؤتمر مدن فرنسا بحلقة من الدول التي أرادوا أن تكون قوية بدرجةٍ تكفي لِمَنْع فرنسا من استئناف الاعتداء؛ فضموا بلجيكا — كما رأينا — إلى هولندة، وأعطوا الأراضي الواقعة على ضفة الراين اليسرى إلى ألمانيا بينما دعموا استقلال سويسرة التي ضمنت الدول حيادها، ثم أعطوا سافوي إلى بيدمنت لتقوية الحدود الشرقية الجنوبية بالنسبة لفرنسا.
ولقد ترتب على العمل بمبدأ توازُن القوى نتائج هامة؛ فقد كان أساس النظام الجديد — حسب تسوية فينَّا — إنشاء توازُن القوى بين مجموعتين من الدول العظمى: إنجلترة وفرنسا، الدولتان الغربيتان في جانب، وروسيا وبروسيا والنمسا الدول الثلاث الشرقية في جانب آخر، ولم تكن واحدة من هذه الدول العظمى قويةً بالدرجة التي تعطيها السيطرة بمفردها على شئون أوروبا أو القدرة على المغامرة بدخول الحرب وإحراز النصر على الدول الأخرى، وكان يَقَعُ بين هاتين المجموعتَيْن إقليمُ وسط أوروبا، ويشمل ألمانيا وإيطاليا وسويسرة والأراضي المنخفضة (بلجيكا وهولندة).
أما ألمانيا وإيطاليا فكانت كل منهما مجزَّأة إلى دويلات وإمارات صغيرة، بينما ضمنت الدول حيادَ سويسرة ثم الأراضي المنخفضة، وتَمَكَّنَتْ أسرة هابسبرج النمسوية من السيطرة على الدويلات الصغيرة في إيطاليا وألمانيا؛ بفضل ما كان لها من أملاك في إيطاليا، وما تَمَتَّعَتْ به من نفوذ في ألمانيا بسبب أن الإمبراطور النمسوي كان رئيس الاتحاد الكونفدرائي بها، فلم تَعُدْ أسرة هابسبرج في حاجة إلى توسع جديد من ناحية، في حين أنها وَجَدَتْ من ناحية أخرى أن مِنْ صالحها أن تَظَلَّ قائمةً هذه الدويلاتُ الصغيرة، فصارت سياسة النمسا التمسك بالوضع القائم والمحافظة عليه وإخماد كل الثورات القومية والدستورية في المستقبل.
ولكن كان من أثر زيادة نفوذ النمسا في كلٍّ من إيطاليا وألمانيا أن تَأَخَّرَتْ وحدة الأولى، وتَعَطَّل اتحاد الثانية مدة خمسين سنة تقريبًا، أي حتى ١٨٧٠-١٨٧١، أَضِفْ إلى هذا أن انشغال النمسا وتدخُّلها في شئون إيطاليا وألمانيا حَرَمَها فرصةَ التفرغ لِمَدِّ نفوذها في أوروبا الجنوبية الشرقية، وكان هذا ميدانًا أفضل وأكثر سهولة لِتَوَسُّعها، وأدعى لخدمة مصالحها السياسية من ميدان وسط أوروبا.
ثم إن انسحاب النمسا من الحدود الفرنسية الشرقية بتخليها عن بلجيكا، ثم حصول بروسيا على بعض الأقاليم الواقعة على نهر الراين، لم يلبث أن جَعَلَ منوطًا بمملكة بروسيا حق الدفاع عن ألمانيا عمومًا، فارتفع شأن بروسيا، ثم انتقلت إليها تدريجيًّا الزعامة في ألمانيا حيث صارت قِبْلَةَ أنظارِ الدويلات والإمارات الصغيرة التي تَطَلَّعَتْ إليها في الدفاع عنها، واضطرت بروسيا إلى إنشاء جيش قوي، في قدرته تأدية هذه المهمة. أَضِفْ إلى هذا أن التسوية التي حَدَثَتْ في فينَّا وأعطت بروسيا أقاليم متفرِّقَةً في أنحاء ألمانيا، لم تلبث أن جَعَلَتْ بروسيا مُرْغَمَةً على العمل لربط هذه الأقاليم بعضها ببعض، فكان ذلك بداية السياسة التي أَفْضَتْ إلى تشييد صرح الاتحاد الألماني (١٨٧٠-١٨٧١).
وفي الوقت الذي قَوِيَ فيه نفوذ النمسا وروسيا، وقد أُعْطِيَتْ هذه الأخيرة — كما عَرَفْنَا — منفذًا إلى أوروبا الوسطى باستيلائها على بولندة، فلم يَبْقَ من بولندة ذاتها سوى مدينة «كراكاو» التي أُنْشِئَتْ مدينةً حرة ذات حكومة جمهورية أرستقراطية، ثم بدأ يرتفع شأن بروسيا، كانت السويد مُرْغَمة على الانزواء في اسكندناوة بعد أن فَقَدَتْ فنلندة وبوميرانيا السويدية، وقد نالت السويد — كما رأينا — النرويج تعويضًا لها عن الأقاليم التي فَقَدَتْها.
وأما الإمبراطورية العثمانية فلم يكن لها مندوبون أصلًا في مؤتمر فينَّا؛ لأن المؤتَمِرِين تجاهلوا — خطأ منهم ولا شك — وجود المسألة الشرقية بمشكلاتها الشائكة في اليونان، والولايات الدانوبية: الأفلاق والبغدان «ولاشيا وملدافيا» ومصر، وتلك مشكلات لم يكن هناك مناصٌ من مواجهتها عاجلًا أو آجلًا.
ومما يَجْدر ذِكْره أن العمل بمبدأ توازن القوى كان معناه أيضًا، بمجرد أن أعيدت «الدول» التي غيرت الثورةُ ونابليونُ حكوماتِها، أن يعود الملوك والأمراء السابقون إلى حكوماتهم القديمة، وبالطراز الذي كان سائدًا أيام «النظام القديم»، وحينئذ انتشرت الملكيات المُطْلقة في أوروبا، فلم يَزِدْ عدد الدول التي كان لها دساتير تقيد حكوماتها على ست فقط، كانت إنجلترة وفرنسا والأراضي المنخفضة والجمهوريات السويسرية الأرستقراطية التي يَضُمُّها اتحاد سويسرة الكونفدرائي، والنرويج (منذ نوفمبر ١٨١٤) ومملكة بولندة الجديدة (التي أنشأها القيصر إسكندر الأول ومَنَحَهَا دستورًا سنة ١٨١٥)، ومع ذلك حتى هذه الدول أبقت دساتيرُها جميعًا السلطةَ الحقيقيةَ في يد الملك، أو في يد أرستقراطية صغيرة.
وكان من المتعذر إغفالُ آثار المبادئ الحرة التي جاءت بها الثورة الفرنسية، والتي هدفت إلى إنشاء نوع من الحكومات أكثر ديمقراطية من الحكومات الراجعة، فتزايَدَ عدد المتذمرين الذين أَخَذُوا يعارضون الأنظمة السياسية التي أعادها السياسيون إلى الوجود سنة ١٨١٤، ثم أغفلوا رغبات الشعوب (والمذهبَ القومي وليدَ حروب الثورة ونابليون) عندما شرعوا يقتسمون الأراضي ويوزعونها بسكانها فيما بينهم دون أن يستشيروا أهلها في مصيرهم، فأنْشَئوا دولًا غابَتْ منها روابط اللغة والجنس والشعور بالمصلحة، أو الاتفاق في المذهب، مثال ذلك تجزئة إيطاليا وألمانيا وبولندة، أو توسع النمسا حتى صارت تَضُمُّ بين حدودها مجموعة من الأمم لا يَرْبِطُ بينها رابط، فانتشر بسبب هذا العمل التذمُّرُ بين الأهلين الذين راحوا يؤلفون في الدول المختلفة أحزابًا «وطنية» للمطالَبة بتحقيق الأهداف القومية، ولقد كان من المنتظر — وكما حدث فعلًا — أن ينضم المتذمرون «الأحرار» الذين يريدون الحكومة الديمقراطية إلى المتذمرين «الوطنيين» أصحاب المطالب القومية، فيؤلف الفريقان حزبًا أو جماعة واحدة، مُهِمَّتُها المعارَضة الشديدة من أجل تحطيم التسوية التي وَضَعَها السياسيون في فينَّا.
فلما أن عمدت الحكومات الأوتقراطية والرجعية إلى التقرب من بعضها بعضًا كي تتآزَرَ فيما بينها لتدفع عنها هذا الخطر، شعر «المعارضون» في كل دولة بضرورة التقرب من زملائهم في الدول الأخرى، والتعاون فيما بينهم جميعًا ضد الحكومات الاستبدادية والأجنبية التي فَرَضَتْ سلطانها عليهم.
ولما كانت إمبراطورية النمسا تضم في حدودها أكبر مجموعة من الأمم ذات الأهداف القومية والديمقراطية التي يُهَدِّد تحقيقُها كيانَ الإمبراطورية نفسه، فقد اهتمت النمسا قبل غيرها من الدول بضرورة اتخاذ الإجراءات السريعة والحازمة من أجل القضاء على كل حركة للتذمر والمقاوَمة في أرجائها، وأَسْمَى مترنخ هؤلاء المتذمرين «بالثوريين»، ثم راح يُلَخِّص الموقف في قوله: «إن غرض هذه الجمعيات الثورية واحد لا يتغير، هو قَلْب كل نظام حكومة قانوني قائم، فالواجب على الملوك أن يُقَابِلوا هذا بمبدأ واحد لا يتغير أيضًا، هو المحافظة على كل نظام حكومة قانوني قائم.»
وبَيْن أولئك الملوك وأصحاب السلطان الشرعي الذين يريدون المحافظة على كل نظامِ حكومةٍ قانونيٍّ قائم، وبَيْن أحزاب المعارَضة من الوطنيين والأحرار والديمقراطيين الذين أرادوا قَلْب كُلِّ نظامِ حكومةٍ قانوني قائم، لم يلبث أن نَشَبَ ذلك النضال المستعر الذي استمر طيلة القرن التاسع عشر، عندما صارت بلجيكا تَطْلُب الانفصال عن هولندة، والنرويج عن السويد، وصارت بولندة تَنْشُد استقلالها، وتُحَاوِل كلٌّ مِنْ إيطاليا وألمانيا تحقيق وحدتها أو اتحادها، ثم صارت الشعوب في الدويلات الأقلِّ أهمية تبذل قصارى جهدها للتخلص من حكامها الرجعيين، ولإنشاء الحكومات الوطنية والقومية، والتحرر من السيطرة الأجنبية المفروضة عليها.
ومع ذلك، وبالرغم من كل هذه المثالب والعيوب، فقد نَجَحَتْ تسوية فينَّا في تحقيق الغرض المباشر الذي هدفَتْ إليه الدولُ التي وَقَّعَتْ على معاهدة باريس الأولى (في ٣٠ مايو ١٨١٤)، وكانت تريد وقتئذ إقامةَ نظام حقيقي ودائم للتوازن الدولي في أوروبا، حقيقةً طرأ على هذا النظام شيءٌ من التبدُّل بانفصال بلجيكا عن هولندة في سنة ١٨٣١، أو حينما خَطَتْ إيطاليا خطوة كبيرة نحو وحدتها في سنتي ١٨٥٩-١٨٦٠، ولكن هذا النظام لم يَتَصَدَّع، بل إنه على العكس من ذلك استطاع أن يخدم السلام العامَّ في أوروبا مدة طويلة، فلم يُعَكِّرْ صَفْوَ السلام في الفترة التالية سوى قيام حرب القرم (١٨٥٣–١٨٥٦)، ولقد وَقَعَتْ هذه الحرب في ميادين بعيدة، فلم تنشغل الشعوب والدول بحروب كبيرة، الأمر الذي جَعَلَ ممكنًا انتشار الانقلاب الصناعي، وتَبِعَا ذلك، نمو النظام الرأسمالي في إنجلترة أولًا، ثم في سائر أوروبا، والحقيقة أن نظام التوازن الدولي الذي أَوْجَدَتْه تسوية فينَّا لم تتصدع أركانه إلا حين قامت الحرب السبعينية بين ألمانيا وفرنسا، ففَقَدَتْ فرنسا إقليمي ألزاس ولورين لتستولي عليهما الإمبراطورية الألمانية الجديدة على يد مستشارها الأول بسمارك (١٨٧١).