الاتحاد الأوروبي١
أَزْعَجَ فرار نابليون من إلبا السياسيين المجتَمِعِين في فينَّا؛ فبادَورا — كما تَقَدَّمَ — بالتوقيع على التسوية النهائية «أو القرار النهائي» في ٩ يونيو ١٨١٥، وفي ١٨ يونيو انهزم نابليون في واترلو، وواجه السياسيون أمرين: عَقْد الصلح من جديد مع فرنسا التي آزَرَتْ نابليون أثناء حُكْم «المائة يوم»، ثم تجديد مُحَالَفة الدول العظمى على أساس الاتحاد فيما بينها بعَمَلٍ مشترك للغرض منه، اتقاءَ أية أخطار قد تُهَدِّد السلام العام من جانب فرنسا في المستقبل، ثم المحافظة على التسوية النهائية التي تَمَّتْ في فينَّا لعدم تكدير السلم كذلك في أوروبا.
معاهدة باريس الثانية (٢٠ نوفمبر ١٨١٥)
ففيما يتعلق بالأمر الأول، عَقَدَ الحلفاء معاهدة جديدة مع فرنسا؛ هي معاهدة باريس الثانية في ٢٠ نوفمبر ١٨١٥، فَقَدَتْ فرنسا بمقتضاها كثيرًا من المزايا التي كانت نالَتْها في معاهدة باريس الأولى (٣٠ مايو ١٨١٤) بسبب أنها ساعَدَتْ نابليون على الحكم مرة ثانية عند عودته من إلبا، فأُرْجِعَتْ فرنسا الآن إلى الحدود التي كانت لها سنة ١٧٩٠ (أي بدلًا من حدود ١٧٩٢ التي كانت نَصَّتْ عليها معاهدة باريس الأولى)، ثم طُلِبَ منها دَفْع تعويض قَدْره سبعمائة مليون من الفرنكات يُؤْخَذ منها جزءٌ لتقوية الحصون التابعة للدول ذات الحدود الملاصقة للحدود الفرنسية، ويُوَزَّع بقيةُ المبلغ على حكومات الحلفاء والدول الأخرى التي أصابَتْها أضرار من ناحية فرنسا، وقد قُسِّمَ هذا المبلغ الضخم بصورة يَتَمَكَّن بها الفرنسيون من سداده في خلال خمس سنوات على أقساط متساوية، وبشريطةِ أن يحتلَّ مائة ألف مقاتل من جيوش الحلفاء حصون فرنسا الشمالية الشرقية، إلى أن يتم تسديد المبلغ بأجمعه.
التحالف الرباعي٢
وبمجرد عَقْد الصلح مع فرنسا من أجل اتخاذ أفضل الوسائل القمينة بضمان استمرار السلام في أوروبا من جهة، واستمراره بين كل دولة وأخرى من بين الدول المتعاقِدة من جهة أخرى، وكان معنى هذا أن النص الذي جاء بالمعاهدة خاصًّا بتقديم الإمدادات العسكرية عند وقوع العدوان من جانب فرنسا، لا يجب أن يكون متعارضًا مع أي نظام أوسع مدًى لضمان السلام العامِّ قد تضعه الدول عند عقد مؤتمر الصلح النهائي، أو يكون معطلًا له.
ولقد تجددت معاهدة شومنت هذه في جوهرها عندما عَقَدَ الحلفاء مع فرنسا معاهدة باريس الأولى في ٣٠ مايو ١٨١٤، ثم لم تلبث أن تجدَّدَتْ مرة ثانية عندما بادَرَ الحلفاء إلى عَقْد معاهَدة للتحالف فيما بينهم في فينَّا في ٢٥ مارس ١٨١٥ بمجرد ذيوع نبأ فرار نابليون من إلبا، وقد حَقَّقَتْ هاتان المعاهدتان «في شومنت وفينَّا» الأغراض المتوخَّاة مِنْ عَقْدهما، فقُضِيَ على قوة نابليون، وأَبْرَم الحلفاء مع فرنسا معاهدة باريس الثانية (في ٢٠ نوفمبر ١٨١٥).
وكان عندئذ أن خشي كاسلريه ومترنخ أن يترتب على نجاح المحالَفة في تحقيق الغرض المباشر منها، وهو هزيمة فرنسا، انفراطُ عقدها، وذلك في وقت كان الواجب يقتضي رجال السياسة في أوروبا أن يعملوا من أَجْل المحافظة على السلم واستقراره، وأن يتخذوا كل الاحتياطات التي تَمْنَع فرنسا من استئناف عدوانها إذا شاءت تكدير السلام في أوروبا مرة أخرى.
ولذلك فقد استطاع كاسلريه — على وجه الخصوص — أن يظفر بتجديد «المبدأ» الذي تَضَمَّنَتْه معاهدة شومنت السابقة، من حيث المبادرة بتقديم القوات العسكرية إذا وَقَعَ عدوان جديد من جانب فرنسا، وعَقْد اجتماعات دورية لبحث المشكلات التي يَتَهَدَّد تأزُّمها السلم في أوروبا؛ ففي اليوم نفسه الذي وَقَّعَتْ فيه الدول: روسيا، بروسيا، النمسا، إنجلترة على معاهدة الصلح مع فرنسا، أي في ٣٠ نوفمبر ١٨١٥، أَبْرَمَتْ هذه الدول الأربع فيما بينها معاهدة «تحالف رباعي»، كانت هي الأساس الذي قام عليه نظام الاتحاد الأوروبي في السنوات التالية.
حتى يُمْكِن دَعْم الروابط التي تَجْمع في الوقت الحاضر الملوكَ الأربعة في اتحادٍ وثيقٍ، يوافق المتعاقدون على تجديد عَقْد اجتماعاتهم في فترات أو أوقات (دورات) معيَّنة، سواء كانت هذه الاجتماعات تحت إشرافهم شخصيًّا، أو حَضَرَهَا وزراؤهم الذين يمثلونهم؛ وذلك لتبادل الرأي (أي المشاورة) فيما يتعلق بمصالحهم المشتركة، ولفحص الوسائل «أو الإجراءات» التي يُقِرُّ الرأي في كل فترة أو دورة من هذه الدورات على اعتبارها ذات أعظم أَثَرٍ طيب في تأمين هدوء وسكينة الأمم (الشعوب) ورخائها، وفي تأييد واستقرار السلام في «الدولة أو في» أوروبا.
وروبرت ستيوارت كاسلريه كان من أَقْدَر الوزراء الإنجليز الذين نالوا احترام رجال السياسة في أوروبا؛ وذلك لما اتَّصَف به من هدوء واتزان وأصالة رأي، وقد قام بدور هامٍّ في سياسة بلاده الداخلية مدةَ ربع قرن من الزمان تقريبًا، ثم ظهر على مسرح السياسة الأوروبية في السنوات العشر الأخيرة، ومنذ أن شغل كاسلريه منصب وزير الخارجية (١٨١٢) — في وقتٍ كان فيه نابليون صاحبَ القوة والغلبة الظاهرة، وكان ضروريًّا لذلك عدم انفراط عقد المحالفة الأوروبية ضد فرنسا — لم يلبث أن أبدى كاسلريه مهارةً فائقة في أشد أوقات الحرب حرجًا ليَحُولَ دون تفكُّك المحالفة الأوروبية، وعندما سقط نابليون، جاء كاسلريه إلى فينَّا لحضور مؤتمر الدول المنعقد بها، وكانت المبادئ التي استرشد بها في سياته الخارجية هي التعاون مع الدول للمحافظة على السلام في أوروبا، ثم التزام خطة عدم التدخُّل إطلاقًا في شئون الدول الداخلية.
ولقد تمسك كاسلريه بمبدأ عدم التدخل لاعتقاده الراسخ أن مبعث تكدير السلام دائمًا إنما هو تدخُّل الدول الكبيرة في شئون الأخرى الصغيرة، وجعل كاسلريه نصْب عينيه المحافظة على مَصالح الدول الصغيرة، على أنه في أثناء هذا كله كان شديد الحرص على سلامة المستعمرات البريطانية، ويعمل بجد لتأمين طريق الإمبراطورية البريطانية إلى الهند وبقاء هذا الطريق مفتوحًا دائمًا، وقد اقتضى كاسلريه العمل بهذه المبادئ، أن صار يؤيد فيما بعد القوميات الناشئة ويعترف باستقلال الشعوب وبالحكومات الوطنية «الفعلية أو الواقعية» التي تقيمها.
ومع هذا فإن كاسلريه يُعْتَبَرُ بحقٍّ مسئولًا إلى حد كبير عن التسوية الأوروبية التي وُضِعَتْ في فينَّا، وهي تسوية أَغْفَلَتْ — كما رأينا — المبادئَ التي نادى بها الأحرار والوطنيون القوميون في أوروبا، غير أن السبب في انحراف كاسلريه عن هذه المبادئ الحرة والوطنية كان اعتقاده بضرورة تحقيق التوازن الدولي عن طريق تقوية كل من النمسا وبروسيا في وسط أوروبا.
أما الحافز الأكبر لكاسلريه إلى إنشاء التحالف الرباعي؛ فكان خوفه من فرنسا وتجدُّد الاعتداء من ناحيتها، فاحتاط للأمر بعقد أواصر المحالفة مع الدول الكبرى من جهة، وتدبير احتلال فرنسا نفسها (وقد استمر هذا الاحتلال حتى سنة ١٨١٨) من جهة أخرى، وكان تحقيق هذه الحيطة إذن في إبرام المحالفة الرباعية، على أن تلك في نفس الوقت كانت حقيقة جَعَلَتْ متعذِّرًا أن يرضى كاسلريه بتاتًا بأن يخرج هذا التحالف الرباعي عن الغرض الأساسي الذي أنشئ من أجله، فيَتَّخِذ منه السياسيون الرجعيون في أوروبا، وعلى رأسهم مترنخ أداةً للتدخل في شئون الدول الداخلية، بدعوى أن إخماد كل ثورة أو انقلابٍ قد يحدث في داخل هذه الدول ضروريٌّ من أجل صيانة السلام العامِّ في أوروبا، ثم إنه كان واضحًا للسبب نفسه أن من المتعذر أن يَقْبَل كاسلريه الموافقة على أية محالَفات ترمي إلى هذه الغاية.
وفي ضوء هذه الاعتبارات إذن تكون سياسة كاسلريه عند إنشاء التحالف الرباعي قد نجحت أولًا: في ضمان تنفيذ الشروط التي فرضها المنتصرون في الحرب على فرنسا، بمقتضى معاهدات الصلح، وثانيًا: في أنها بإنشاء نظام الاتحاد الأوروبي قد أتاحت الفرصة لتسوية عدد من المشكلات التي ظَهَرَتْ فيما بعد، من غير حاجة للالتجاء إلى الحرب كوسيلة ناجعة لفضها.
الحلف المقدس٣ (٢٦ سبتمبر ١٨١٥)
وفي الوقت الذي وَضَعَ فيه السياسيون هذه القواعد العملية لتنفيذ شروط التسوية الأوروبية التي حَصَلَتْ في فينَّا، ولتأييدها، وللمحافظة على السلام العام في أوروبا، كان قيصر روسيا إسكندر الأول، قد أَخْرَجَ إلى عالم الوجود مشروعًا آخر للسلام من ثمرات خياله الخصب، كان قد فَكَّرَ فيه من مدة طويلة، ثم راح يقلب وجوه الرأي فيه من جديد حينما انتصر الحلفاء على نابليون، وبدءوا يعقدون اجتماعاتهم لوضع تسوية الصلح الأخيرة، وقام مشروع القيصر على فكرة أن يصبح الملوك إخوة، وأن يسترشدوا في معاملاتهم مع بعضهم بعضًا بمبادئ المسيحية وتعاليمها.
ليس لهذه الوثيقة من غَرَضٍ سوى أن تُعْلِن للعالم أجمع أنه قد صَحَّ عَزْم المُوَقِّعين عليها — سواء فيما يتعلق بإدارة شئون بلاد كل منهم، أو فيما يتعلق بشئون علاقاتهم السياسية مع كل حكومة من الحكومات الأخرى — على أن يسترشدوا بمبادئ الديانة المقدسة (المسيحية) وحدها، وهي مبادئ العدالة والمحبة المسيحية والسلام، وتلك مبادئ لا ينبغي أن يكون الأخذ بها مقصورًا على العلاقات الشخصية وحسب، بل يجب أن تكون ذات أَثَرٍ مباشر على ما يصدر من آراء عن الملوك والأمراء، وأن يَسْتَرْشد بها هؤلاء في كل خطواتهم بوصف أنها الوسيلة الوحيدة لدعم الأنظمة الإنسانية ومعالَجة وجوه النقص بها.
وفي المادة الأولى: «تَعَهَّدَ الملوك الثلاثة المتعاقدون بالبقاء متحدين، وتَجْمَع بينهم أواصر الأخوة الحقيقية والتي لا تنفصم عراها، اهتداء بما جاء به الكتاب المقدس الذي يأمر جميع الناس أن يعتبروا أنفسهم إخوانًا، ولما كانوا يَعُدُّون أنفسهم أبناءَ وطنٍ واحد فإنهم يتبادلون في كل الظروف والمناسبات «في كل زمان ومكان» المعاوَنةَ والمساعَدة والنجدة، وحيث إنهم يعتبرون أنفسهم آباء لرعاياهم ولأجنادهم في أسرة واحدة فهم سوف يسوسونهم بروح الأخوة نفسها التي تحفزهم إلى الذود عن الدين والسلام والعدالة والمحافظة على هؤلاء جميعًا.»
وعلى ذلك فإن المبدأ الوحيد الذي يسير عليه العمل بين الحكومات أو بين رعاياها، سوف يكون تأدية الخدمات من جانب كل فريق للآخر، وإقامة الدليل بفضل الرغبة الطيبة الثابتة على تبادُل المحبة التي يجب أن تملأ قلوبهم ليعتبروا أنفسهم جميعًا أعضاء أمة مسيحية واحدة، أما الأمراء الثلاثة المتحالفون فإنهم يعتبرون أنفسهم مجرد وكلاء من قبل الإله ليحكموا فروعًا ثلاثة من أسرة واحدة: النمسا وبروسيا وروسيا، معترفين بذلك بأن الأمة المسيحية التي يؤلفون هم ورعاياهم قسمًا منها، ليس لها غيرُ سيد واحد، هو الإله يسوع المسيح …
وبمقارَنة ما جاء في هذه المادة الثانية في وثيقة «الحلف المقدس»، والتي دَعَتْ لاتخاذ الدين أساسًا للمحاولات التي يُرْجى بها حسم المشكلات السياسية، بالمادة السادسة التي أتت في وثيقة التحالف الرباعي، والتي أقامت الاتحاد الأوروبي على أساس عقْد مؤتمراتٍ دورية لِفَضِّ المنازعات التي قد تُهَدِّد بتعكير صفو السلام العامِّ في أوروبا، لا يلبث أن يتضح الفارق الكبير بين تفكير القيصر إسكندر، الذي طغى عليه نوع من التصوف المبهم وقتئذ، وبين الطريقة العملية الإيجابية التي اهتدى إليها كاسلريه لمحاولة المحافظة على التسوية الأوروبية.
وفي المادة الثالثة والأخيرة: وُجِّهَت الدعوة إلى بقية الدول التي تريد الاعتراف بهذه المبادئ المقدسة حتى تنضم إلى الحلف المقدس.
أما رجال السياسة فكانت دَهْشَتهم عند قراءة هذه الوثيقة لا تقل عن دهشة رجال الدين الكاثوليك؛ من ذلك أنَّ مترنخ راح يصفها بأنها «طبل أجوف»، و«أمان إنسانية مكسوة بحلة دينية»، «وفيض من عواطف التُّقى والورع التي تجيش في صدر القيصر إسكندر»، ثم إن كاسلريه صار يعتبرها «خليطًا من الصوفية والكلام الفارغ»، ووَصَفَها فون جنتز بأنها: «زينات مسرحية» … وهكذا، ومع ذلك فقد انْضَمَّتْ أكثر الدول إلى الحلف المقدس؛ مراعاةً لشعور القيصر إسكندر، وكان من بين الدول التي انضمت إليه فرنسا، وهي التي تَلَمَّسَتْ دائمًا كل الطرق للخروج من عزلتها السياسية، والعودة إلى المجتمع الأوروبي، أما إنجلترة فقد امْتَنَعَتْ عن التوقيع على هذه الوثيقة بدعوى أن الدستور يمنع الملك أو الوصي على العرش من فعل ذلك.
ومما يجب ذِكْره، من ناحية أخرى: أن «الحلف المقدس» قد خَلَّفَ آثارًا عميقة في أذهان سواد الناس مدة جيلٍ بأكمله، عندما ساد الاعتقادُ بأن قيام الحكومات الاستبدادية، ثُمَّ إخماد كل حركات أو ثورات الشعوب التحريرية، إنما كان من أسباب وجود الحلف المقدس، كما كان من نتائج إنشائه؛ ولذلك فقد ظَلَّ أعداء الملكية الراجعة في فرنسا مثلًا، يخلطون بين الحلف المقدس، وبين المحالفات الدولية التي عُقِدَتْ سابقًا ضد نابليون؛ فاعتبروا الحلف المقدس أداةً مُوَجَّهَة ضد فرنسا وضد المبادئ الحرة في أوروبا، في حين أن الأحرار صاروا يعتبرون الحلف المقدس مسئولًا عن انتشار الرجعية في المدة التالية.
ومع ذلك فإن الحلف المقدس لم يكن في ذاته مسئولًا، لا عن انتشار الرجعية، ولا عن قيام «نظام الحكم» المبني على الاستبداد وعلى إخماد الحركات القومية والدستورية في أوروبا، بل كان المسئول في ذلك كله التحالف الرباعي وحده فقط، ويعود ذلك لعدة أسباب من أهمها: أنَّ تَعَهُّدَ أعضاء الحلف المقدس بمساعدة بعضهم بعضًا في كل الظروف والمناسبات «في كل زمان ومكان» كان تعهدًا يتعذر تنفيذه؛ لأن الظروف والمناسبات أو الزمان والمكان لم تكن معيَّنة ومحدَّدة، على عكس ما حدث في معاهدة التحالف الرباعي التي أَوْضَحَتْ هذه الظروف والمناسبات، ثم عَيَّنَتْ قَدْر المساعدة المطلوبة ونَوْعها، وهي ستون ألف مقاتل يقدمها كل عضو عند وقوع الاعتداء على أحد أعضاء المحالفة، كما نَصَّتْ على عقد المؤتمرات الدورية، أي إن التحالف الرباعي قد وَضَعَ القاعدة التي من شأنها أن تجمع بين الدول في صورة عملية، في اتحاد أوروبي له أغراض معيَّنة ومحدَّدة معروفة.
وزيادة على ذلك فإن مترنخ سرعان ما أدرك ما كان للتحالف الرباعي من قيمة عملية، فاعتمد عليه في نجاح سياسته التي كانت ترمي إلى تأليف جبهة متحدة من الحكومات الأوروبية، غَرَضُها إخماد الحركات والثورات التي قد تُهَدِّد النظام القائم والسلم في أوروبا، ومع أن مترنخ كان يرى في الحلف المقدس «طبلًا أجوف»، فقد أدرك أيضًا إمكان الاعتماد على هذا الحلف المقدس في الجمع بين الدول الموقعة على وثيقته، والتقريب فيما بينها للقيام بعمل مشترك — دائمًا على أساس التحالف الرباعي — الغرض منه تأييد النظام القائم، ثم تحويل التحالف الرباعي نفسه إلى أداة فعالة للتدخل في شئون الدول الداخلية، إذا اقتضى تأييد النظام القائم هذا التدخل، حتى يمكن إخماد الحركات والثورات الدستورية والقومية في أوروبا.
ولكن لما كانت هذه هي أغراض مترنخ السياسية، وكان هذا هو موقفه من «الاتحاد الأوروبي»، فقد اصطدمت هذه السياسة وهذه الأغراض مع السياسة الإنجليزية التي بدأها كاسلريه، وظل يسير على منوالها جورج كاننج من بعده، وواضح أن هذا الاصطدام كان أول الأسباب التي أَدَّتْ في النهاية إلى فشل «الاتحاد الأوروبي»، وأما هذه الحقيقة فإنها سوف تستبين عند معالجة المشكلات السياسية التي صادفها رجال السياسة بعدئذ.
وكانت المشاكل الأوروبية التي واجَهَتْها الدول في الفترة التالية مباشَرة بعد تسوية الصلح في فينا (١٨١٥) أربعًا:
- أولها: أن فرنسا التي عَقَدَتْ الدول التحالف الرباعي، واحتل «الحلفاء» أرضها، ثم فرضوا عليها غرامة مالية كبيرة، إمعانًا منهم في الحيطة والحذر منها، استطاعت أن تَدْفَع أقساط التعويضات المطلوبة منها بتمامها، وصارت تريد الخلاص من عزلتها السياسية، وبات لذلك ضروريًّا أن يَفْصِل السياسيون فيما إذا كان ممكنًا أن يؤذن لها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو أن تبقى تحت إشراف الدول، وتلك مسألة لا مناصَ من عَقْد مؤتمر لبحثها، استنادًا إلى ما جاء في مواد التحالف الرباعي «والمادة السادسة منها خصوصًا».
- وثانيها: أن الدول المنتصرة ضَمِنَتْ ممتلكات وأراضي كل عضو من أعضاء المحالفة الرباعية ضد أية اعتداءات خارجية قد تَقَعُ عليها (وخصوصًا من جانب فرنسا)، ولكن الدولة المنتصرة لم تَضْمَنْ بقاء الحكومات الداخلية التي يُنْشِئها أعضاء المحالفة بصورة دائمة ومن غير تغيير، فكان ضروريًّا إذن معرفةُ ما إذا كان ذلك يعني أن لهؤلاء الأعضاء أو لغيرهم أن يقيموا إذا شاءوا حكوماتٍ دستوريةً في داخل بلادهم، أو أن من المحتَّم على الحلفاء التدخل في شئون هذه الدول من أجل تأييد حكومات الملكيات المستبدة المطلقة بها، وتلك كانت مسألة «التدخل Intervention» التي ما لَبِثَتْ أن واجهت الدول بسبب الثورات والاضطرابات التي وَقَعَتْ في شبه الجزيرة الإيطالية.
- وثالثها: أن الحلفاء ضمنوا ممتلكات وأراضي بعضهم بعضًا في أوروبا، ولكنهم تركوا جانبًا الإمبراطورية العثمانية، فهل كان معنى تقرير مبدأ الضمان في معاهدة التحالف الرباعي أنه مُطَبَّق كذلك على الإمبراطورية العثمانية بالرغم من إغفال أَمْرها، وأن الواجب عليهم أن يضمنوا كذلك ممتلكات هذه الإمبراطورية، أو أن مبدأ الضمان لا ينسحب عليها؟ لقد رَفَضَ القيصر إسكندر أن يبحث المؤتمرُ في فينَّا «المسألة الشرقية»، ولكن قيام الثورة في اليونان ضد السلطان العثماني لم يلبث أن اضطر الدولَ أن تواجه هذه المشكلة بصورة جدية.
- ورابعها: أن الحلفاء كذلك لم يتناولوا شيئًا من شئون المستعمرات الأوروبية في أمريكا، وقد سَبَقَ القول كيف ترك الحلفاء في مؤتمر فينَّا معالجة مسألة المستعمرات التي لإسبانيا في العالم الجديد، ولكن لم تلبث الحوادث في هذه المستعمرات أن أرغمت الدول على بَحْث هذه المسألة في أحد المؤتمرات التالية (مؤتمر فيرونا).
مؤتمر إكس لاشابل Aix-La-Chapelle
ولذلك فقد صار على المؤتمر عند انعقاده في ٢٠ سبتمبر ١٨١٨ أن يفصل في أمرين: جلاء قوات الاحتلال عن الأراضي الفرنسية، ثم إدخال فرنسا في نطاق المحالفة القائمة، أي المحالفة الرباعية.
ولقد كان ميسورًا الوصول إلى قرار نهائي بصدد جلاء قوات الاحتلال من الأراضي الفرنسية، وذلك بمجرد أن تم الاتفاق في المؤتمر على الطريقة التي تسدد بها فرنسا فورًا بقيةَ التعويضات المطلوبة منها، فوافقت كل من بريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا على جلاء جيش الاحتلال، وذلك في معاهدة «إكس لاشابل» في ٩ أكتوبر ١٨١٨، وعندئذ شَرَعَتْ الدول تَبْحَثُ طَلَبَ فرنسا الانضمام إلى المحالفة الرباعية.
واختلفَتْ آراء الدول في هذه المسألة؛ فقد اقترح القيصر إسكندر بقاء التحالف الرباعي كما هو موجَّهًا ضد فرنسا، على أن يُسْمَحَ لفرنسا في الوقت نفسه بالانضمام إلى محالَفة عامة أخرى، تُعْلِن فيها الدولُ عَزْمَها على القضاء على الثورات، ومساعدة بعضها بعضًا، وعلى الخصوص مساعدة الدول التي تَتَعَرَّض حكوماتها للتقلقل والاضطراب، على أن هذا كان معناه — إذا قبل المؤتمر اقتراح القيصر — أن تأخذ الدول على عاتقها محاربة الشعوب التي ظلت تقوم بالثورة آنئذ، وفي السنوات التالية لإنشاء الحكومات الدستورية في بلادها؛ ولذلك لقي اقتراح القيصر — وكما كان متوقعًا — رفضًا قاطعًا من جانب كاسلريه الذي امتنع امتناعًا تامًّا عن أي تدخُّل في شئون الدول الداخلية.
فكان حينئذ أن جعل مترنخ الدول الأربع تعقد اتفاقًا سريًّا فيما بينها يوم أول نوفمبر ١٨١٨ تتعهد بموجبه استخدام جيوشها مشتركة ومتحدة ضد فرنسا إذا حَدَثَتْ بها ثورة ناجحة يترتب عليها تهديد أَمْن جيرانها وسلامتهم، ولقد وافقت إنجلترة على هذا الإجراء، ولكن في حالة واحدة فقط، هي اعتلاء أحد أفراد أسرة بونابرت عرش فرنسا.
وعلى ذلك فقد تَقَدَّمَت الدول الأربع في ٤ نوفمبر ١٨١٨ بمذكرة مشتركة إلى فرنسا تعلن فيها أن معاهدة ٩ أكتوبر ١٨١٨ التي ينتهي بفضلها احتلال الأراضي الفرنسية إنما هي في نَظَرِ هذه الدول آخر ما يُتَّخَذ من خطوات تكميلية لتأييد السلام العام، ثم وُجِّهَت الدعوة إلى الملك الفرنسي؛ ليعمل من الآن فصاعدًا بآرائه وجهوده للاتحاد مع الحلفاء الأربعة لتحقيق ما يعود بالنفع على الإنسانية وعلى فرنسا معًا.
ولما كانت إنجلترة تُعَارِض فكرة عقد مؤتمرات دورية باعتبار أن هذه ترمز إلى النظام نفسه — التدخل — الذي وَقَفَتْ هي كلَّ جهودها على معارضته، وكانت القاعدة التي رَضِيَتْ بها إنجلترة أن تنعقد اجتماعات خاصة، أي «جزئية» لمعالَجة ما قد يطرأ من حوادث معينة وبشروط محددة، فقد جاء في ختام «التصريح» توضيحًا لهذه الشروط المحددة أنه لا ينبغي عقد «اجتماعات جزئية» لبحث شئون الدول الأخرى، من غير أن تَطْلُبَ هذه ذلك، وفي حضورها إذا لزم الأمر، وكان معنى ذلك — وبالرغم من هذه الشروط المحددة — أنْ تَقَرَّرَ في هذا «التصريح» مبدأ التدخل.
إن تغييرًا ما لن يطرأ إطلاقًا على النظام القائم في المستقبل.
وزيادة على ذلك فقد أَلْبَسَ «الحلُّ الوسط» الذي وَافَقَتْ عليه الدول في إكس لاشابل رُوحَ الحلف المقدس «هيكلًا جثمانيًّا»، فراح مترنخ يبذل حينئذ كل ما في وسعه من جهد وحيلة في السنوات التالية (١٨١٨–١٨٢٣) خصوصًا كي يجعل من الحلف المقدس شيئًا حقيقيًّا وأداة فعالة «كحكومة مديرين أوروبية» تفرض النظام البوليسي على بقية الدول وتسيطر على شئونها لإرغامها على البقاء في نطاق نظام سياسي لا يتغير، بإخماد الحركات الدستورية والقومية، وتأييد الحكومة المطلقة المستبدة، وذلك كان جوهر «النظام المترنيخي» نفسه الذي سَبَقَ لنا وَصْفه، وخَضَعَتْ لسلطانه أوروبا ليس في علاقات الدول الخارجية وحسب، بل وفي شئونها الداخلية كذلك من سنة ١٨٢٣ خصوصًا إلى وقت قيام ثورات فبراير ١٨٤٨، وفرار مترنخ نفسه كما عرفنا من فينَّا في مارس من السنة نفسها.
ثم إنه سرعان ما وَقَعَ من الحوادث بعد استصدار «مرسومات كارلسباد» ما جعل القيصر إسكندر يعرض عن مستشاريه الأحرار مثل كابوديستريا اليوناني «الكرفوي» ودي لاهارب (السويسري)، ويزداد اقتناعًا بحكمة استصدار هذه المرسومات، فلا يكتفي بالانحياز إلى مترنخ في سياسته، بل صار هو الآخر يطلب اتخاذ إجراءات رجعية صارمة إمعانًا في الحيطة والحذر.
وأما الحادث الثاني الهامُّ فكان قيام الثورة العسكرية في إسبانيا بسبب تمرُّد الجنود في ثكنات قادش، وكان هؤلاء ينتظرون بها منذ ١٨١٦ ترحيلهم إلى أمريكا، فأعلنوا عصيانهم في أول يناير ١٨٢٠، وراحوا يطالبون بدستور ١٨١٢ وانتشرت الثورة في البلاد.
وعندئذ تقدم القيصر باقتراح دعوة مؤتمر للانعقاد في باريس للبحث في الموقف عمومًا، كما أعلن استعدادَه لإرسال جيش بالنيابة عن حكومات أوروبا، وباسمها لإخماد الثورة في إسبانيا، كما أنه قد اقترح إنشاء لجنة من وزراء الدول المتحالفة تتخذ مَقَرَّها في باريس، مُهِمَّتها الإشراف على سير الأمور في فرنسا ذاتها، فكان أن مهدت هذه المقترحات لعقد المؤتمر التالي الذي اجتمع في «ترباو» في أكتوبر ١٨٢٠ في ظروف يمكن إيجازها فيما يلي.
التمهيد لمؤتمر ترباو Troppau
رَفَضَ كاسلريه ومترنخ اقتراح القيصر إنشاء لجنة لمراقبة سير الأمور في فرنسا، بدعوى أن ذلك مخالف لما سَبَقَ الاتفاق عليه مع فرنسا في مؤتمر إكس لاشابل، في معاهدة ٩ أكتوبر ١٨١٨ التي أَنْهَت الاحتلال، وفي «تصريح» المحالفة الخماسية في ١٥ نوفمبر ١٨١٨، ومن شأنه إثارة القلاقل بدلًا من العمل على تهدئتها، كما هو الغرض المقصود من إنشاء هذه اللجنة المقترحة، ثم إن كاسلريه عارَضَ دعوةَ مؤتمرٍ للانعقاد دونَ بيان الغرض من انعقاده بصورة واضحة جلية، في حين أنه لم يكن يرى في صالح الدول كذلك الانغماسَ في شئون فرنسا الداخلية، وتلك كانت كلها مبادئ متفِقة مع ما سارت عليه دائمًا السياسة الإنجليزية.
وأما الدوافع التي حَفَّزَتْ مترنخ إلى معارضة دعوة المؤتمر للانعقاد، فكانت تختلف كلية عن الأسباب التي أبداها كاسلريه؛ فلم يكن مترنخ يهتم في قليل أو كثير بما يحدث من اضطرابات خلف جبال البرانس، في حين أن تدخل القيصر لإخماد الثورة في إسبانيا معناه أن جيشًا روسيًّا كبيرًا سوف يجتاز الأراضي النمسوية في طريقه إلى إسبانيا، وفي هذا خطر مباشر، عليه أن يدرأه، ولما كان مُتَعَذِّرًا على مترنخ أن يَرْفُض الدعوة إلى عقد مؤتمر بالسهولة التي بدت من جانب إنجلترة — صاحبة سياسة عدم التدخل المعروفة في شئون الدول الداخلية — فقد راح ينتحل الأعذار للحيلولة دون عقد المؤتمر، تارة بدعوى أن الغرض من المحالفة إنما هو معالجة أدواء أوروبا الأدبية أو الخلقية قبل كل شيء، في حين أن الثورة في إسبانيا حدث «مادِّيٌّ» وحسب، وتارة أخرى بدعوى أن التدخل بدلًا من التهدئة سوف يزيد الأمور ارتباكًا والحالةَ اشتعالًا، وتارة ثالثة بدعوى أن أعضاء المؤتمر المزمع عَقْده سوف يكونون خمسة بدلًا من أربعة، ومن المتعذر استمالة إنجلترا أو فرنسا (وهما من أعضاء المحالفة الخماسية) إلى جانب الدول الثلاثة الأخرى (روسيا، النمسا، بروسيا)، أيْ إلى الجانب الذي يريد التدخل في شئون إسبانيا.
ولقد ظل مترنخ معارضًا لعقد المؤتمر حتى شهر يونيو ١٨٢٠، ولكنه سرعان ما تخلى عن موقفه عندما حدث في شهر يوليو ١٨٢٠ أن اشتعلت الثورة العسكرية في نابولي واضطر ملكها فردنند الأول إلى قبول دستور ١٨١٢ الإسباني (أي استصدار دستور مثله)، فكان لهذا الحادث — الذي هَدَّدَ بالزوال النظامَ الحكوميَّ النمسوي في إيطاليا — أَعْظَمُ الأثر في تشكيل الخطة التي اعتزم مترنخ الآن اتباعها.
ذلك أن هذه الثورة التي نشبت في نابولي، إذا قُدِّرَ لها النجاح، تكون مصدر خطر كبير على «نظام مترنخ» برمته في إيطاليا، زد على ذلك أن مترنخ لم يلبث أن وَجَدَ في هذه الثورة الوسيلة التي تُمَكِّنه من تحقيق أغراضه؛ لأن اشتعال الثورة في نابولي، أي: في مكان قريب من ممتلكات الإمبراطورية النمسوية ومناطق نفوذها في إيطاليا، سوف يعطيه الفرصة ليحمل الدول على تحويل انتباهها عن مسألة إسبانيا إلى مسألة أخرى، هي مسألة الثورة في نابولي، في وسْعِه إذا تناوَلها بمهارته السياسية المعهودة — وعلى نحو ما كان يرجو — أن يجعل النمسا صاحبةَ القول في هذه المسألة، وليس روسيا، لو أن مسألة إسبانيا بقيت تستأثر بانتباه الدول.
ثم إن البحث في موضوع الثورة في نابولي سوف يَجْعَل ممكنًا إرجاء النظر في مسألة إسبانيا، وبذلك يتسنى تجنُّب خَطَر سوق الجيوش الروسية عبر الممتلكات النمسوية في طريقها إلى إسبانيا، أضف إلى هذا أن النمسا ذاتها صاحبة حقوق ظاهرة تُمَكِّنها من التدخل في شئون نابولي، وهذه حقوق مستندة إلى معاهدة سابقة كانت النمسا قد عَقَدَتْها مع نابولي في ١٢ يونيو سنة ١٨١٥، جاء في مادة سرية بها، أن تتعهد الحكومة النابوليتانية بعدم إدخال أية تغييرات دستورية — أي في طرائق الحكم — غير ما يسمح بإدخاله من تغييرات دستورية في الممتلكات النمسوية في إيطاليا، وكان تسويغه التدخل على أساس هذه المعاهدة حجة قوية، لم تستطع الحكومة الإنجليزية التي قامت سياستها على عدم التدخل في شئون الدول إلا أن تَعْتَرِف بأن للنمسا حقًّا في هذا التدخل، بناء على ما ورد في معاهدة ١٢ يونيو سنة ١٨١٥، ما دامت النمسا تَعْتَقِد بوجود خطر يتهدد مصالحها، ويهدم نفوذها في إيطاليا بسبب الثورة التي حدثت في نابولي، ولم تتردد فرنسا وبروسيا في الموافقة على هذا الرأي كذلك.
ولكن روسيا ظل موقفها لا يدعو للاطمئنان تمامًا؛ لأن النابوليتان (أهل نابولي) الأحرار صاروا يَدَّعُون أنهم إنما قد استندوا في ثورتهم على معاوَنة القيصر ومساندته الأدبية لهم، وكان لهذا الادعاء نصيب من الصحة؛ لأن وكلاء القيصر — خصوصًا «دي لاهارب» — كانوا يَجُوبُون أرجاء إيطاليا لينشروا المبادئ الحرة بها؛ ولذلك فقَد عُنِي مترنخ بضرورة القضاء على ما كان يَعْتَقِده الأحرار في إيطاليا مِنْ أَنَّ في وسعهم الاعتماد على مؤازرة روسيا لهم، فقد خشي أن يكون لروسيا أهداف بعيدة وغامضة، مستترة وراء هذه الميول غير الطبيعية لتشجيع الروح الثورية.
وعلى ذلك فقد انتهز مترنخ فرصة وجود القيصر في وارسو، فاقترح عليه أن يعقد امبراطورَا روسيا والنمسا اجتماعًا يكون مقصورًا عليهما وحدهما؛ لبَحْث المسائل التي تشغل الأذهان وقتئذ، ولكن القيصر إسكندر رَفَضَ أن يتم تفاهُمٌ «منفصل» بين الإمبراطورين وحدهما فقط ومن غير أن يُشْرِكَا معهما بقيةَ الدول التي وَقَّعَتْ على «تصريح» إكس لاشابل بتاريخ ١٥ نوفمبر ١٨١٥، وهو التصريح الذي قال «كابو ديستريا» مستشار القيصر وقتئذ: إنه أَلْغَى عند صدوره التحالف الرباعي، وأَوْجَدَ بدلًا منه «التحالف الخماسي»، بانضمام فرنسا إلى الدول الأربع، ولا يمكن لذلك أن تعترف روسيا بغير «اجتماع مشترك» تحضره كل الدول، ومعنى ذلك أن القيصر لا يرضيه غير انعقاد مؤتمر على غرار ما حدث في إكس لاشابل سنة ١٨١٨.
ولقد لقي هذا الرأي أيضًا كلَّ تأييد من جانب فرنسا استنادًا إلى أن الاضطرابات التي وَقَعَتْ في إسبانيا وإيطاليا، إنما هي من نوع المسائل التي كان يدور حولها التفكير وَقْتَ أن اتَّخَذَت الدول قراراتها المعروفة في إكس لاشابل، وكان واضحًا أن فرنسا ترغب مُلِحَّةً — وإن كانت لا تستطيع إظهار هذه الرغبة علانية — في أن تجد نفسها دائمًا إلى جانب بقية الدول الكبرى في عمل مشترك حاسم داخِلَ نظام الاتحاد الأوروبي.
وعلى كل حال فقد ظَلَّ مترنخ يرفض فكرة المؤتمر الأوروبي، ويتذرع بمختلف الدعاوى لتجنب عَقْده، ثم كان من محاولاته لمنع المؤتمر أنه ما لَبِثَ حتى تقدم باقتراح فحواه أن يَرْفُضَ الحلفاء الاعتراف بحكومة نابولي الثورية، وأن يؤيدوا بواسطة وزرائهم في فينَّا الإجراءات التي تتخذها النمسا لقمع الثورة في نابولي، ومعنى العمل بهذا الاقتراح انتفاء الحاجة إلى دعوة مؤتمر أوروبي.
ولكن كاسلريه لم يلبث أن رَفَضَ (في ١٦ سبتمبر ١٨٢٠) المساهمة في مشروع قال: إن من شأنه — وبالصورة التي يريدها مترنخ — إنشاء محالَفة عدائية ضد نابولي، وإرغام إنجلترة على الاشتراك في الحرب التي سوف تكون نتيجة هذه المحالفة العدائية، ورَفَضَتْ إنجلترة التدخل عنوة في شئون نابولي الداخلية، كما رَفَضَتْ أن تُشَجِّع غيرها على هذا التدخل، على أن كاسلريه أبدى في الوقت نفسه استعداده للتخلي جانبًا والسماح للنمسا بالعمل ما دامت هذه ترى في حوادث نابولي خطرًا على مصالحها ونفوذها في إيطاليا — باعتبار أن للنمسا حقًّا في هذا التدخل مستندًا (كما ذكرنا) على المعاهدة مع نابولي المبرمة في ١٢ يونيو ١٨١٥ — وعندئذ يصير «لمؤتمر الوزراء» الذي يقترحه مترنخ فائدة كبرى، من حيث أن هذا المؤتمر في فينَّا، سوف يتسلم — كما قال كاسلريه — «التقرير» الذي تُقَدِّمه النمسا عن أعمالها في «نابولي» من جهة، وسوف يَحُول، من جهة أخرى، دون وقوع شيء، يتعارض مع النظام الراهن الذي يسود أوروبا في الوقت الحاضر.
وواضح أن الأخذ برأي كاسلريه كان معناه إنشاء «هيئة رقابة» مهمتها الإشراف على أعمال النمسا، وذلك ما كان لا يمكن بحال من الأحوال أن تقبله النمسا، وعندئذ فقط لم يجد مترنخ مناصًا من قبول الفكرة التي نادت بها روسيا وأيدتها فرنسا لدعوة مؤتمرٍ للانعقاد على غرار مؤتمر إكس لاشابل، ولو أن مترنخ كان لا يزال يرجو أن يُسْفِر هذا المؤتمر عن اتفاق كلمة الدول على عَمَلٍ مشترك يعطي النمسا ما تصبو إليه من «تأييد أدبي» على الأقل حينما تمضي في سياستها الإيطالية.
مؤتمر ترباو Troppau «في سيليزيا»
ومن مبدأ الأمر كان مقضيًّا بالفشل على رجاء مترنخ في أن يجمع كلمة الدول على عمل مشترك لتأييد سياسة النمسا في إيطاليا، ومبعث هذا الفشل؛ الاختلاف العظيم بين المبادئ والقواعد التي أراد مترنخ السير عليها، وبين تلك التي استرشدت بها السياسة الإنجليزية خصوصًا.
فقد أراد مترنخ، كما بسط ذلك في مذكرة له قَدَّمَها للمؤتمر أن يجعل مصلحة النمسا من تَدَخُّلها في شئون نابولي متَّفِقة في صميمها مع مصلحة أوروبا عمومًا؛ لأن الدول يهمها — كما قال — المحافظة على المعاهدات، ويهمها أن تتآزر فيما بينها لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإخماد الثورة الداخلية التي تُهَدِّد كيانها؛ ولذلك فالمؤتمر مهمته أن يحدد المبادئ والقواعد التي يجب أن ينبني عليها التدخل في نابولي.
واعتمد مترنخ حينئذ على تعضيد قيصر روسيا — إسكندر الأول — له، الذي أبدى «أسفه العظيم على كل ما قاله وفَعَلَهُ بين ١٨١٥، ١٨١٨ وأَحْزَنَه ما ضاع من وَقْتٍ سُدًى»، وأراد الآن أن يتدارس مع مترنخ الوسائل التي يمكن بها تدارُك ما فات، واعْتَرَفَ أن مترنخ كان مصيبًا تمامًا في إدراك الحال على حقيقتها، وأَظْهَرَ لذلك استعداده لأن يلبي كل ما يَطْلبه مترنخ منه، واستنادًا على هذا التأييد إذن استطاع مترنخ أن يغفل معارضة إنجلترة وفرنسا؛ فتعدَّدَت اجتماعات ممثلي الدول الثلاث: النمسا، روسيا، بروسيا، وأسفرت هذه الاجتماعات عن عَقْد «بروتوكول ترباو» الذي وَقَّعه أعضاء «الحلف المقدس»، أيْ: روسيا، وبروسيا، والنمسا، في ١٩ نوفمبر ١٨٢٠، ومع أن إنجلترة رَفَضَت التوقيع على هذا البروتوكول، فقد انضمت إليه فرنسا خشية العزلة السياسية.
الدول التي يحدث تغيير في حكوماتها بسبب قيام ثورة بها، ويترتب على هذا التغيير تهديد للدول الأخرى، تَفْقِد بحكم الضرورة عضويتها في التحالف (الاتحاد) الأوروبي، وتَظَلُّ خارج التحالف ومستبعَدة منه إلى أن يجيء الوقت الذي يعطي الموقفُ الداخلي في هذه الدول الضمانات اللازمة لتأييد النظام القانوني والاستقرار، أما إذا نَجَمَ من هذه التغييرات أخطار مباشرة تهدد الدول الأخرى، فالدول المتحالِفة تتعهد فيما بينها بإرجاع الدولة المذنبة إلى حظيرة التحالف «أو الاتحاد الأوروبي» إما بالوسائل السلمية، وإما بقوة السلاح «أي بطريق الحرب» إذا لَزِمَ الأمر.
ولم يَكْتَفِ كاسلريه بمجرد الرفض (١٦ ديسمبر ١٨٢٠)، بل نقد البروتوكول نقدًا مرًّا؛ لأن إنجلترة — كما قال — لا يمكنها الموافقة على نظامٍ من شأنه إيجاد نوع من حكومة عامة في أوروبا لها من السلطان ما تستطيع به تحطيم السيادة العليا في داخل الدولة، وكعضو من أعضاء المحالَفة لا تستطيع إنجلترة كذلك تَحَمُّل مسئولية القيام بأعمال «بوليسية» من قبيل ما يريده أصحاب هذا البروتوكول.
مؤتمر ليباخ Laibach
وفي مايو ١٨٢١ انفَضَّ المؤتمر، ولكن بعد أن أَعَدَّ منشورًا لإرساله إلى الحكومات الأوروبية، يوضح فيه المبادئ التي اسْتَرْشَدَتْ بها الدول الثلاث خصوصًا — وهي دول الحلف المقدس — في سياستها، فجاء في هذا المنشور أن الغرض من التحالف الأوروبي إنما هو تأييد المعاهدات القائمة، والمحافَظة على السلام العامِّ، وتحقيق سعادة الأمم، وأن التغييرات النافعة والضرورية من الناحيتين التشريعية والإدارية، والتي تَحْدُث في داخل الدول يجب أن تأتي من جانب أولئك الذين أعطاهم «الله» مسئولية الحكم في هذه الدول.
مؤتمر فيرونا Verona٧
وكان على المؤتمر أن يُعَالِج مسألتي إسبانيا وإيطاليا، كما كان منتظرًا أن تثير اهتمام المؤتمر مسألةٌ هامة أخرى؛ هي الثورة التي قامت في المورة، وقد استغرقت مسألة إسبانيا معظم نشاط المؤتمر، فتُرِكَتْ مسألة إيطاليا من غير الوصول إلى حل حاسم بشأنها، ولم يجرؤ المؤتمر على بَحْث المسألة اليونانية؛ لاختلاف الدول في أمرها، حيث كان مترنخ يعتبر اليونانيين ثوارًا فحسب شَقُّوا عصا الطاعة على تركيا صاحبة السيادة والسلطة الشرعية في البلاد، في حين أن القيصر إسكندر كان يعتبر اليونانيين إخوانه في الدين الذين إنما يناضلون من أجل الحياة ذاتها.
أما فيما يتعلق بإسبانيا فقد أَظْهَرَ المندوبون الفرنسيون من اللحظة الأولى ما صَحَّ عليه عَزْم حكومتهم من حيث التدخل، ليس فقط للقضاء على الثورة في إسبانيا، بل ولإخمادها في مستعمراتها الأمريكية كذلك، وأيدت النمسا وروسيا وبروسيا المقترحات الفرنسية، وفي ٣٠ أكتوبر قَرَّرَ المؤتمر التدخل المسلح في شئون إسبانيا، وفي ١٩ نوفمبر ١٨٢٢ بَعَثَتْ هذه الدول بإنذار إلى مجلس الكورتيز الإسباني وسَحَبَتْ سفراءها من مدريد، وامتنعت إنجلترة عن مجاراة الدول في هذا العمل؛ فأعلن «ولنجتون» أن الحكومة الإنجليزية لا توافق إطلاقًا على أي تدخل في شئون الدول الداخلية ولا تؤيده، وانْفَضَّ مؤتمر فيرونا في ١٤ ديسمبر من السنة نفسها.
ولم يكن هذا الغزو بتفويض من الدول، بل قامت به فرنسا على مسئوليتها الخاصة، ومع ذلك فقد رَضِيَ به مترنخ الذي وَجَدَ في انشغال فرنسا بهذا الغزو ما يصرفها عن المسألة اليونانية وتأييد الثوار في المورة، ولم يكن مترنخ كذلك يتوقع أن يترتب على الانتصارات الفرنسية في إسبانيا قيام حرب عامة أوروبية.
ولكن المسألة الإسبانية لم تَقِفْ عند هذا الحد، بل مضى شاتوبريان يريد إخماد الثورة في المستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية، وكان من المنتظر أن يَلْقَى في رغبته هذه تأييدًا من جانب القيصر إسكندر الذي أراد هو الآخر من مدة طويلة عودةَ السلام إلى هذه البلاد البعيدة، ولكن هذه كانت مشروعات لَقِيَتْ من جهة أخرى كُلَّ معارضة من جانب وزير الخارجية البريطانية «جورج كاننج» الذي أراد أن يَظَلَّ العالم الجديد يعيش في حرية واستقلال، وأن يفتح أبوابه للتجارة الأوروبية، ولإنجلترة أكبر نصيب في هذه التجارة، وأن يُغْلِق أبوابه دون أي تدخُّل مسلَّح من جانب أوروبا.
ولقد كان للموقف الذي اتخذه كاننج في المسألة الإسبانية ومستعمرات إسبانيا الأمريكية أعظم الأثر في انحلال «نظام مترنخ» بالصورة التي أَظْهَرْته بها في هذه الآونة فكرة «الاتحاد الأوروبي».
ويَجْدُر قبل الحديث عن موقف كاننج من هذه المسألة، أن نُلِمَّ بشيء عن المبادئ والقواعد العامة التي استرشد بها في سياسته الخارجية وقتئذ، وهي السياسة التي قد يكون أَصْدَق وَصْف لها ما قاله بعض المؤرخين عند المقارَنة بينها وبين سياسة سَلَفِه كاسلريه؛ أن الفرق بين هاتين السياستين لم يتناول المبادئ الجوهرية الأساسية، ولكنه انحصر — أكثر من أي شيء آخر — في مقدار ما تَجِدُهُ بعض الاتجاهات المعيَّنة من تأكيدٍ وبروزٍ أكبر وأوْسع، كما أنه كان في نوع الوسائل والطرائق التي تُتَّبَع في معالَجة بعض المسائل أو إغفال بعضها الآخر.
فالثابت أن كاسلريه وكاننج كانا يريدان استعلاء النفوذ الإنجليزي، ثم إنهما كانا يريدان وَقْف الاعتداءات الأجنبية، بمعنى تدخُّل الدول الكبيرة في شئون الدول الصغيرة الداخلية، ولكن مع فارِقٍ واحدٍ هو: أن كاسلريه كان مُقَيَّدًا بماضيه السياسي عندما اضْطُرَّ إلى عَقْد المحالفات والمعاهدات مع الدول أثناء النضال ضد نابليون، بينما يجد كاننج أنه حُرٌّ طليق لا يُقَيِّد نشاطَه السياسي ارتباطاتٌ ما سابِقة؛ ولذلك فقد عَارَضَ كاننج فيما سماه «سياسة كاسلريه الأوروبية» وطَالَبَ من أيام مؤتمر إكس لاشابل باتباع «سياسة إنجليزية»، ولم يوافِق بتاتًا على مادة التحالف الرباعي السادسة (٢٠ نوفمبر ١٨١٥) التي نَصَّتْ على عقد الاجتماعات «أو المؤتمرات» الدورية، بل كان يُعَارِض في الحقيقة نظامَ المؤتمرات نفسه الذي ارتبط بفكرة الاتحاد الأوروبي، فهو يريد أن يكون عَمَلُ التحالف الرباعي مقصورًا على مراقَبة فرنسا فقط، ولم يكن يحفل بالحلف المقدس، ويخشى إلى جانب هذا أن يغدو التحالف الرباعي بمثابة أداة لتخويف وإرهاب الدول الصغيرة، بل ولإثارة شكوك وشبهات الشعب البريطاني في أغراض ونوايا الوزراء الإنجليز أنفسهم، واتهامهم بأنهم يعملون لخيانة الحريات البريطانية، نزولًا على إرادة الملوك والطغاة المستبدين الأجانب.
ولذلك فإنه عندما اتخذَتْ دول الحلف المقدس قراراتها الرجعية المعروفة في «ترباو» و«ليباخ» أَعْلَنَ كاننج (٢٠ مارس سنة ١٨٢١) سياسة إنجلترة في مسألة نابولي، وموقفها من «الحلف المقدس الجديد»، وموجزها: أن تلتزم إنجلترة جانب العزلة وعدم التدخل في شئون القارة، حتى إذا حَدَثَ أَمْر عظيم الشأن وَجَبَ عليها أن تتدخل، وهي مستندة حينئذ على مؤازرة قوة كافية تَجْعَل هذا التدخل مجديًا وحاسمًا.
ثم أَعْلَنَ سياسة بلاده العامة، فقال: إنها التمسك دائمًا بمبدأ عدم التدخل في شئون الدول الداخلية الأخرى، وذلك مبدأٌ لن تَحِيدَ عنه إنجلترة إطلاقًا، ثم إنها في الوقت نفسه تَرْفُض كل تطرُّف، سواء حدث في صالح الاستبداد والطغيان — وكاننج ضد الرجعية بكل معانيها — أو كان في جانب الديمقراطية الثورية — وكاننج ضد الروح الثورية كذلك — ففي رأيه أن القوميات النشيطة إنما تَسْتَمِدُّ حياتها من التاريخ نفسه، وتعتمد في وجودها على الحقائق التاريخية، فلا يجب إذن أن يَكْبَحَ الرجعيون جماحها تطبيقًا لنظريات رجعية معينة، ولا يجب في الوقت نفسه أن يحرك المهيجون الشعوبَ للثورة تطبيقًا لنظريات حرة متطرفة.
وهذه القواعد التي ذَكَرَها كاسلريه في مذكرته كانت هي بنفسها التي قامت عليها سياسية جورج كاننج.
وقد ساء كاننج أن يرى كاسلريه يجتمع بالبرنس مترنخ أثناء زيارة ملك إنجلترة جورج الرابع لهانوفر (في ألمانيا) في أكتوبر ١٨٢١؛ لأن مترنخ صاحب مبدأ التدخل الذي تَقَرَّرَ في ترباو وليباخ، وبسبب ما ظَهَرَ من أنَّ كاسلريه ومترنخ قد صار رأيهما متفقًا تقريبًا بصدد المسألة الشرقية، فقد كان موقف كاننج في هذه المسألة يختلف عن موقف كاسلريه منها، حيث يرى كاننج أنَّ عَرْض مسألة اليونان على بساط البحث في مؤتمر يُعْقَد خصيصًا لهذه الغاية، إنما هو مضيعة للوقت ولا يساعد على حل المشكلة، فصار يعارِض في دعوة مؤتمر للانعقاد «في فيرونا» في حين كان كاسلريه موافقًا على انعقاد هذا المؤتمر، وقد أَعَدَّ كاسلريه قبل وفاته التعليمات التي أُعْطِيَتْ إلى المندوب الإنجليزي في المؤتمر دوق ولنجتون، وكانت هذه تَتَناول المسألة التركية، ومسألة إسبانيا والمستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية، والمسألة الإيطالية، ويبدو من التعليمات التي أَعَدَّهَا كاسلريه أنه كان يعتقد أن المسألة الشرقية (التركية) سوف تكون مَوْضِع اهتمام المؤتمر كُلِّيَّة، ولا يقيم المؤتمر وزنًا كبيرًا لمسألة إسبانيا الأوروبية.
ولكن سرعان ما فَقَدَت المسألةُ الشرقيةُ كُلَّ أهمية لها في مؤتمر فيرونا، واحتلت مسألةُ إسبانيا الأوروبية مكان الصدارة في مباحثات المؤتمر، ولقد كان كاسلريه يَتَوَقَّع أن تجيء مصاعِبُ المؤتمر من ناحية روسيا، ولكن سرعان ما تبين كذلك عند انعقاد المؤتمر أن فرنسا كانت هي مصدر المتاعب في فيرونا؛ لأن سياسة فرنسا — وكانت تهدف إلى التدخل في صالح البربون في إسبانيا — خضعت وقتئذ لتأثير النزاعات الحزبية الداخلية.
ولذلك فإنه لما كان محور السياسة الفرنسية «التدخل»، بينما قامت السياسة الإنجليزية على «عدم التدخل» فقد صارت العلاقات الإنجليزية الفرنسية هي المحور الذي دارت حوله أعمال المؤتمر، ولقد كان واضحًا من مبدأ الأمر أن «فيليل» إنما يسترشد في خطته نحو إسبانيا بالمصلحة الفرنسية وحدها، وأن فرنسا لن تتقيد في عملها بأية قرارات قد تصدر من المؤتمر مُنَاقِضة لهذه المصلحة، وأن الوزير الفرنسي لن يَطْلُب مساعَدة ما من إحدى الدول، بل ويَتَعَذَّر عليه قبول هذه المساعدة إذا عُرِضَت عليه من أجل إخضاع إسبانيا، بل ويجب عليه مقاومَتُها إذا فُرِضَتْ هذه المساعدة عليه فرضًا، أو جاءت في صورة إرسال جيش يخترق الأراضي الفرنسية في طريقه إلى إسبانيا، فبات واضحًا إذن أن كل ما يستطيع المؤتمر فِعْله هو أن يُسْدِي «مساعدته الأدبية» فحسب لتأييد التدخل الفرنسي في إسبانيا.
ولقد أدرك كاننج أن مُضِيَّ فيليل في إصراره على التدخل المُسَلَّح بمفرده في إسبانيا من شأنه أن يُمَهِّد لخروج فرنسا من المحالَفة المقدسة الجديدة، ولانفصالها منها، ومع أن سياسة كاننج كانت الحيلولة بكل وسيلة دون حصول «تدخُّل مشترك» من جانب دول هذه المحالَفة مجتمعة، فقد تمسَّك بالسياسة التي سار عليها دائمًا، وكتب إلى دوق ولنجتون، مندوبه في المؤتمر (في ٢٧ سبتمبر ١٨٢٢) أن حكومته مستمسكة بسياسة عدم التدخل «مهما كانت النتائج»، وكان الإصرار على هذه السياسة من جانب إنجلترة السبب الذي أدى إلى فَشَلِ المؤتمر في النهاية، وفي ٣٠ نوفمبر ١٨٢٢ غادَرَ ولنجتون فيرونا.
ولا شك في أن السبب الآخر في فشل المؤتمر كان تصميم فيليل — من ناحية أخرى — على المضي في سياسة «تدخُّل» ثابتة، ومستقلًّا عن الدول إذا لَزِمَ الأمر، وَوَجْه الخطر في هذه السياسة أن استعداد فرنسا لخوض غمار الحرب من أجل إرجاع البربون إلى عرش إسبانيا بسلطاتهم المطلقة السابقة، إنما كان معناه إحياء سياسة «الميثاق العائلي» القديم بين فرنسا وإسبانيا (بتاريخ ٧ نوفمبر ١٧٣٣).
ومن المحتمل كذلك أن يتبع هذا التدخل محاوَلات أخرى من أجل إعادة فَتْح المستعمرات الإسبانية في أمريكا، فقد صَرَّحَ فيليل في ديسمبر ١٨٢٢ بأنه: «إذا شاءت الحكومة الإسبانية إرسالَ أحد أبناء الأسرة المالكة إلى المكسيك، أو إلى بيرو، أو إلى أي مكان في أمريكا الإسبانية، على رأس جيش لمحاوَلة استئناف العلاقات بين المستعمرات وبين إسبانيا، فإن الحملة التي يجري إعدادها الآن في مواني فرنسا على استعداد لأن تكون تحت أَمْر الحكومة الإسبانية لِنَقْل عضو البيت المالك مع الجيش المُزْمَع إرساله معه إلى أي مكان يريدون أن يذهبوا إليه»، وذلك ما كان ينطوي على تهديد مُبَاشِر لمصالح إنجلترة، التي وَجَدَتْ حينئذ إذا كان في استطاعة فرنسا إحرازُ التفوق السياسي في إسبانيا الأوروبية — بفضل ما لديها من قوات مسلَّحة تستخدمها لهذه الغاية — فمن الواجب على إنجلترة أن تَعْمَلَ لإحراز التفوق التجاري في أمريكا الإسبانية، ولكن باستخدام الوسائل الدبلوماسية، وكان مَوْقِف كاننج في هذه المسألة بالذات — وما تفرع عنها — من العوامل الحاسمة التي قَضَتْ على الاتحاد الأوروبي في النهاية.
مسألة أمريكا الإسبانية
وذلك لأن كاننج قد صَحَّ عَزْمه من أول الأمر على أنه إذا أُتِيحَ لفرنسا الاستيلاء على إسبانيا، أو الاستئثار بالنفوذ الأعلى بها — وقد بَقِيَت الجيوش الفرنسية التي أعادت فردنند السابع إلى العرش بحكومته المطلقة، مُعَسْكِرة في إسبانيا حتى سنة ١٨٢٧ — فالواجب أن يكون استيلاء فرنسا على إسبانيا وحدها، ودون الاستحواذ على أملاكها في «الهند الغربية»، بل اعتقد كاننج أن امتداد النفوذ الفرنسي إلى إسبانيا، وتوطُّده بها من شأنه أن يؤدي إلى اختلال التوازن الدولي في أوروبا.
ولذلك صار حتمًا على حكومته أن تبذل كل جهودها لمؤازرة المستعمرات الإسبانية في نِصْف الكرة الغربي؛ حتى تتحرر هذه من كل نفوذٍ إسباني وأجنبي بها، فتصبح دولًا مستقلة وعاملًا حاسمًا لذلك في إعادة التوازن الدولي في القارة الأوروبية؛ لأن حرمان إسبانيا، أو فرنسا — في حالة امتداد نفوذها إلى إسبانيا — من المستعمرات الأمريكية سوف يحرمهما القوة التي تَجْعَل لهما النفوذ المستعلي في أوروبا، أَضِفْ إلى هذا أن إسبانيا يَتَعَذَّرُ عليها معالَجة مشكلة الاعتداءات التي كانت تَقَعُ من جانب المستعمرات على السفن والملاحة الإنجليزية، في حين أنَّ كُلَّ ما يهتم به الإنجليز أن تبقى العلاقات التجارية قائمة لا يعطلها شيء بينهم وبين المستعمرات الإسبانية في أمريكا، ثم إن وزير خارجية فرنسا «شاتوبريان» يريد التدخُّل بين إسبانيا ومستعمراتها الثائرة عليها في كوبا وبرتوريكو، ويريد علاوة على ذلك أن يُنَصِّبَ أمراء فرنسيين من آل بربون في المستعمرات الإسبانية التي حصلت على استقلالها الفعلي، في المكسيك، وبيرو، وبونس إيرس، وهو مشروع كشف القناع عن نوايا فرنسا ومَبْلَغ أطماعها، وبات واجبًا على كاننج أن يعمل لتعطيل هذه المشروعات بكل وسيلة.
ولقد تَعَدَّدَت العوامل التي ساعَدَتْ على فشَل مشروعات «شاتوبريان»، عندما لم تكن الحكومة الفرنسية ذاتها متحمِّسة لها؛ ولأن الملك فردنند السابع رَفَضَ أن يستولي أمراء البربون الفرنسيون على شيء من الأملاك الإسبانية، ولأن الحكومة الإنجليزية — وسياستها كما عرفنا — رَفَضَتْ أن يحصل تدخُّل فرنسي في شئون المستعمرات الإسبانية في أمريكا، أَضِفْ إلى هذا كله أن الولايات المتحدة الأمريكية عارَضَتْ كل تدخُّل يأتي من جانب أوروبا، وبالأحرى من جانب فرنسا في شئون أمريكا اللاتينية، أي الجنوبية.
ومع ذلك فقد جاءت هذه الأمة نَفْسُها تَعْرِض على الأمريكيين الإرشاد والمعاونة، والاستعداد للسير معهم في الطريق الموصل لهذه الغاية، ومن صَالِح الأمريكيين أن يَقْبَلوا مقترحاتها؛ حتى يَفْصِلوا هذه الأمة الإنجليزية من العصبة الرجعية في أوروبا، وحتى يَجْذِبوها بقواتها البحرية الكبيرة إلى صَفِّ الحكومات الحرة، وذلك من شأنه أن يُفْضِي في النهاية إلى تحرير قارة بأسرها (هي قارة أوروبا).
ولقد كان لهذه القوات البحرية الإنجليزية الكبيرة وَزْن كذلك في تشكيل الأسباب التي جعلت الرئيس السابق «ماديسون» يوصي بقبول مقترحات كاننج، ففي رأيه أن الولايات المتحدة تستطيع مواجَهَة العالم دون خوف أو وجل، في عصر اشتد فيه النضال بين الحرية والطغيان، إذا هي ضَمَّتْ إلى قواتها الأساطيل البريطانية، ومن واجب الولايات المتحدة تأييد الحرية — على الأقل — في هذا الجزء من العالم.
والواقع أنه حينما كان كاننج يريد مَنْع إسبانيا من أن تسترجع في يدها احتكار التجارة في مستعمراتها الأمريكية القديمة، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تَعْمَل من ناحيتها لتحقيق الغرض المزدوج الذي تحدَّثْنا عنه سابقًا، وهو مَنْع الدول الأوروبية من فَتْح بلدان أمريكا اللاتينية (الجنوبية) وإخضاعها لسلطانها، ثم استمالة إنجلترة إلى الارتباط معها في سياسة مشتركة، تَصْرِف إنجلترة نهائيًّا عن «النظام الأوروبي» وتَدْفَعها للوقوف إلى جانب الحكومات الحرة.
ولقد أخذ الرئيس «منرو» بهذه الاعتبارات التي عَزَّزَها انتفاء كل خطر مباشِرٍ من جهةِ أوروبا نتيجةً للاتفاق الذي حصل بين كاننج وبولينياك في ٩ أكتوبر ١٨٢٣، وكان تحت تأثير هذه الاعتبارات إذن أن أصدر «منرو» تصريحه المشهور الذي تَضَمَّنَتْه رسالته إلى مجلس الكنجرس الأمريكي في ٢ ديسمبر ١٨٢٣، وكان هذا التصريح يشمل المبادئ الآتية؛ وأولها: أن الولايات المتحدة ليست لها أية مصلحة، ولا تريد التدخل في شئون أوروبا السياسية، وأنها تريد من الدول الأوروبية وتطلب منها الابتعاد عن التدخل في شئون العالم الجديد السياسية، بل إنها لن تتردد في قتال أية دولة تُحَاوِل أن تَفْرِض أو أن تَبْسُط سيطرتها السياسية في أمريكا، وأخيرًا أن الولايات المتحدة لا تتدخل في شئون المستعمرات والممتلكات الحالية التي للدول الأوروبية «في أمريكا».
ومن المحتمَل في رأي كثيرين، أن الحكومة الإنجليزية هي التي اقترحت استصدار هذا المبدأ من جانبٍ واحد، كما أنه من المقطوع به لو صممت فرنسا على إرسال جيشها لنجدة القوات الإسبانية في أمريكا لكان الأسطول الإنجليزي قد بادر بمؤازرة الولايات المتحدة في الحرب التي تنشب حينئذ بينها وبين فرنسا؛ لأن بريطانيا وهي صاحبة إمبراطورية مترامية الأطراف كان يعنيها — كما يعني الولايات المتحدة تمامًا — أن تبقى أمريكا بعيدة عن كل سيطرة أجنبية، وتلك حقيقة شَرَحَها كثيرون في قولهم: إن مبدأ منرو كان يعتمد دائمًا في بقائه على قوة البحرية البريطانية، بل إن الاعتماد على قوة البحرية البريطانية كأساس عملي لقيام المحالفة الإنجليزية الأمريكية، كما ارتسمت في ذهن كل من جفرسون وماديسون، كان ركن الزاوية في ذلك «النظام الأطلنطي» الذي بدأ التفكير في إقامته في سنة ١٨٢٣ كإجراء مناهِض ومعارِض «للنظام الأوروبي»؛ لتحقيق الغرض المزدوج الذي سبق الكلام عنه: مَنْع الدول الأوروبية من الإقدام على فتح البلدان الأمريكية اللاتينية «في أمريكا الجنوبية»، وضمان انضمام إنجلترة إلى جانب الحكومات الحرة وانصرافها عن النظام الأوروبي المعروف برجعيته الشديدة وقتئذ.
وكانت الحكومة الإنجليزية قبل صدور مبدأ منرو بستة أسابيع فقط (في ١٧ أكتوبر ١٨٢٣) قد أَوْفَدَتْ قناصلها إلى المدن الهامة في أمريكا الجنوبية، وأما القوات الإسبانية فقد لَحِقَتْ بها الهزيمة في آخر المعارك التي خاضت غمارها في بيرو (في ديسمبر ١٨٢٤)، وفي هذا العام الأخير نفسه اعترفت إنجلترة باستقلال بونس إيرس، وكلومبيا، والمكسيك، وفي ٢ فبراير ١٨٢٥ عَقَدَت إنجلترة معاهدة صداقة وتجارة وملاحة مع الأرجنتين (بونس إيرس) تُعْرَف بمعاهدة ري ودي لابلاتا، واعترفت باستقلال «اتحادها الكونفدرائي»، ثم إنها اعترفت باستقلال بوليفيا وبيرو وشيلي في السنة نفسها، وبذلك تكون قد زالت أو كادت تزول من الوجود كليةً الإمبراطوريةُ الإسبانية في أمريكا.
وهكذا تسبَّبَت سياسة كاننج في فشل الحلف المقدس، وتبعًا لذلك في إخفاق محاوَلة الدول أن تَحْكُم أوروبا بطريق «المؤتمرات»، ومَرَدُّ ذلك إلى أن إنجلترة ما كانت تَجِدُ في هذه المؤتمرات ما يحقق الأغراض التي أرادتها سياستها، ولم تكن احتجاجات كاننج مُجَرَّدَ عبارات بليغة وحسب، عندما أخذ يتساءل عن ذلك النفوذ الذي قيل إنه كان لإنجلترة في مشاورات التحالف «الأوروبي»، والذي قال كاننج: «إن مترنخ كان يحث الحكومة الإنجليزية على عدم التفريط به»، ثم انبرى كاننج يقول: «لقد رفعنا صوتنا بالاحتجاج في ليباخ، ثم عارَضْنا معارَضَةً شديدة في فيرونا، ولكن احتجاجاتنا اعْتُبِرَتْ كقصاصة وَرَقٍ لا قيمة لها، وذَهَبَتْ معارَضَتُنا أدراج الرياح، فإذا كان لنفوذنا أن يبقى قائمًا في الخارج فالواجب أن يعتمد هذا النفوذ على مصادر القوة في داخل بلادنا، وتلك تكون بالتعاطف والتفاهم بين الشعب والحكومة، وتتم في الاتحاد بين الشعور السائد والمشورة التي يَتَّفِق عليها الرأي العام، ثم في الثقة المتبادلة والتعاون الكامل بين مجلس العموم والتاج البريطاني.»
وأخيرًا كان موقف كاننج في المسألة البرتغالية أَحَدَ الأسباب الحاسمة التي أَدَّتْ كذلك إلى إخفاق محاوَلة الحكم في أوروبا عن طريق المؤتمرات السياسية.
المسألة البرتغالية
وكان أنصار الدستور في البرتغال قد طَلَبُوا مساعَدة بريطانيا العسكرية، ولكن كاننج الذي نادى دائمًا بمبدأ عَدَم التدخل لم يكن في وُسْعه إجابة هذه الرغبة؛ ولذلك فقد اكتفى بإرسال أسطول بريطاني صغير إلى نهر التاجة (التاجوس) وراح يوضِّح في الوقت نفسه لفرنسا ولسائر الدول، أنه لَمَّا كانت إنجلترة قد امْتَنَعَتْ عن التدخل لتأييد فريق معيَّن فقد بات واجبًا على فرنسا أن تمتنع هي الأخرى عن التدخل لتأييد الفريق الثاني.
وأفاد وجود الأسطول الإنجليزي في مياه نهلر التاجوس؛ لأن دون مجويل لم يلبث أن قام بانقلاب حكومي في أبريل ١٨٢٤، فاضطر الملك يوحنا للالتجاء إلى إحدى السفن البريطانية ليستأنف نشاطه منها، ولينجح في استرجاع عرشه، وعندئذ ذهب دون مجويل إلى المنفى (١٣ مايو ١٨٢٤) فأعيد النظام، وأُبْعِد المؤيِّدون للمصلحة الفرنسية، ورأى «فيليل» أن يحد من غلواء وزير خارجيته «شاتوبريان»؛ فبادَرَ باستدعاء «هيد دي نوفيل» من لشبونة في ديسمبر ١٨٢٤، فلم تُرْسِل فرنسا جيشًا إلى لشبونة، وبالتالي لم تَذْهَبْ أية قوات — وعلى خلاف ما كان يبغي شاتوبريان — إلى البرازيل، وانتصرت سياسة كاننج.
وفي العام التالي (١٨٢٥) تَوَسَّطَ كاننج لتسوية الخلافات القديمة بين البرازيل والبرتغال، فأسفرت مساعيه في مؤتمر عُقِدَ لهذه الغاية في لندن، عن إبرام معاهدة في ٢٩ أغسطس ١٨٢٥، اعْتَرَفَ بموجبها يوحنا السادس باستقلال البرازيل، «وبولده المحبوب» دون بدرو، إمبراطورًا عليها.
ولكن ما إن توفي يوحنا السادس في مارس ١٨٢٦ حتى قام النزاع بين أنصار مجويل الرجعيين، وبين الإمبراطور بدرو، وطلب المجويليون من إسبانيا أن تتدخل في النزاع القائم، وعندئذ اضطر كاننج للتدخل في ديسمبر ١٨٢٦ حتى يَمْنَعَ إسبانيا من تلبية هذا الطلب، وكان المبدأ الذي استند إليه كاننج لتبرير تدخُّله أن إنجلترة وإن كانت لا تريد التدخل لتأييد جماعة دون أخرى في البرتغال، فهي لا يمكنها في الوقت نفسه أن تجيز لغيرها هذا التدخل، وفي البرلمان أَعْلَنَ كاننج أن قوة بريطانية قد أُرْسِلَتْ إلى البرتغال، فحال هذا الموقف الحاسم دون التدخل الإسباني.
وهكذا تَحَطَّمَتْ سياسة التدخل التي أرادها الحلف المقدس، وذلك في الوقت الذي كانت تبدو فيه هذه السياسة كأنها حقيقة واقعة في أوروبا، وكان تحطمها على صخرة المسألتين: الإسبانية الأمريكية، والبرتغالية البرازيلية، وفي ١٢ ديسمبر ١٨٢٦ استطاع كاننج أن يقف في البرلمان ليقول في زهو وافتخار: «هل كان من الضروري إذا احتلت فرنسا إسبانيا أن نضرب نحن نطاق الحصار على قادش، حتى نتجنب نتائج هذا الاحتلال؟ كلا، لقد تَطَلَّعْتُ إلى طريق آخر، وبَحَثْتُ عن تعويض لنا في نصف الكرة الثاني، ذلك أني حين صرت أفكر في أَمْر إسبانيا، وبالصورة التي عَرَفَها بها أجدادنا من قبل، لم يلبث أن تقرر لدي أنه إذا استولت فرنسا على إسبانيا فلتكن إسبانيا وحدها، ودون الهند الغربية! لقد أردت أن يبرز العالَم الجديد إلى الوجود؛ حتى يتسنى إعادة توازن القوى إلى نصابه في العالم القديم.»
فشل الاتحاد الأوروبي
كان معنى تحطيم سياسة التدخل، إخفاق فكرة الاتحاد الأوروبي، ومن أول الأمر تَجَمَّعَت الأسباب التي أدت إلى هذا الفشل، وذلك منذ أراد السياسيون الرجعيون — وعلى رأسهم مترنخ — أن يجعلوا من المحالَفة — التي استند إليها الاتحاد الأوروبي، والتي كانت وسيلة فحسب لمراقبة فرنسا — أداةً الغرضُ منها القضاء على كل الثورات والحركات الدستورية والأهلية، والتدخل في شئون الدول الداخلية، ثم إن أعضاء الحلف المقدس لم يجعلوا هذا التدخل مقصورًا على الدول الأوروبية، بل أرادوا التدخل في شئون العالم الجديد، الأمر الذي عارَضَتْه إنجلترة معارَضةً شديدة، كما عارَضَتْه كذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
وعندما تمسَّكَتْ إنجلترة بمبدأ عدم التدخل في المسألة الإسبانية الأمريكية، وفي المسألة البرتغالية البرازيلية، كانت فكرة الاتحاد الأوروربي مقضيًّا عليها بالفشل كما أرادَتْه الدول الأوتقراطية، وانقسمت الدول فريقين: فريق الدول الأوتقراطية؛ روسيا، النمسا، بروسيا، وهي أعضاء الحلف المقدس الأصيلة، وفريق الدول المتمسكة بالمبادئ الحرة: وهي الدول الغربية، إنجلترة، وأخيرًا فرنسا، ثم الولايات المتحدة الأمريكية التي وقفت إلى جانب إنجلترة في مشكلة المستعمرات الإسبانية في أمريكا، فعطلت مطامع وأغراض الدول الأوتقراطية الرجعية صاحبة مبدأ التدخل في شئون الدول الداخلية.
وفي الفترة التالية زاد الانقسام، واتَّسَعَتْ شُقَّة الخلاف بين الدول عندما تطلبت المسألة الشرقية حلًّا حاسمًا لتهدئة اليونان وتحريرها من السيطرة العثمانية، فوُضِعَ استقلال اليونان — كما سيأتي ذكره — تحت ضمان بريطانيا وفرنسا وروسيا، بدلًا من وَضْعه تحت ضمان التحالف الأوروبي عامة، أضف إلى هذا أن الدول التي اضْطُرَّتْ إلى العمل المشترك في مسألة استقلال بلجيكا، وتوطيد ملكية أورليان في فرنسا (بعد ثورة يوليو ١٨٣٠)، لم تلبث أن وَجَدَتْ نفسها منقسمة بعضها على بعض بسبب الثورات التي انتشرت في أوروبا في هذا العام نفسه، فتعاقدت كل من روسيا، النمسا، بروسيا في اتفاق برلين السري في١٥ أكتوبر ١٨٣٣ على أساسِ تأكيد المبادئ التي تَضَمَّنَها بروتوكول ترباو المعروف (١٩ نوفمبر ١٨٢٠).
ومن ذلك الحين أَصْبَحَ الحلف المقدس بمثابة اتحاد صريح بين الدول الملكية الثلاث الشرقية للذود عن الأوتقراطية ضد أخطار الثورة، ومع ذلك فقد كان من نتيجة عقد هذا الاتفاق السري في برلين، أن الاتحاد الأوروربي، أي العمل المشترك بين الدول في المسائل التي تعرض لها، ظل عاملًا هامًّا في السياسة الدولية، ويرتكز — كما أرادت السياسة البريطانية دائمًا — على قاعدتَي احترام الارتباطات التي تضمنَتْها المعاهدات المبرَمة بين الدول، وأن للدول التي يَخُصُّها الأمر الحق في نظر المسائل التي ينجم من إثارتها تهديد لمصالحها، وفي الفترة التالية حدث أول اختبار لفكرة الاتحاد الأوروبي، في هذا الوضع الجديد، عندما تلبدت في أفق السياسة الدولية غيوم المسألة الشرقية.