المسألة الشرقية
تمهيد
المسألة الشرقية تعبير يُقصد به تعريف الإمبراطورية العثمانية في ضوء علاقاتها مع الشعوب التي خَضَعَتْ لها وتألفت منها الإمبراطورية، ثم في ضوء علاقاتها مع الدول الأوروبية خصوصًا، وموقف هذه الدول منها؛ ولذلك فإن تاريخ المسألة الشرقية إنما يمر في دورين هامين: أولهما؛ يستغرق القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حين بلغت الدولة العثمانية أَوْج قُوَّتها، فلم يكن يشغل أوروبا حينئذ غير التفكير في أجدى الوسائل التي يُمْكِن بها تجنُّب الخطر العثماني ودَفْعه عنها، وأما ثانيهما: فقد استمر طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وذلك عندما أخذ الضعف يدب في جثمان الدولة وانهزم العثمانيون أمام أسوار فينَّا (١٦٨٣)، ثم في واقعة موهاكز بعد أربع سنوات (١٦٨٧)، وفي القرن الثامن عشر كان الذي اهتمت به الدول هو البحث في الطريقة التي يمكن بها ملء الفراغ الذي نَجَمَ من تقلُّص سلطان الدولة العثمانية بصورة تدريجية من أوروبا، ولقد كان في أواخر هذا الدور أن اتخذت المسألة الشرقية ذلك الشكل الحديث الذي عرفتها به أوروبا خلال القرن التاسع عشر.
وأهم العوامل التي أَبْرَزَت المسألة الشرقية ذلك شكلها الحديث، كانت ازدياد ضَعْف العثمانيين في القسطنطينية، ونهضة شعوب البلقان الصغيرة المسيحية، واطراد نمو الشعور القومي بين هذه الشعوب، ثم الأثر الذي نَجَمَ من تفاعُل هذين العاملين على سياسة الدول الأوروبية الكبرى.
فقد اشتركت كل من روسيا والنمسا بين سنتي ١٧٨٨، ١٧٩١ في مهاجمة تركيا، وأَخَذَتْ روسيا لنفسها حق حماية المسيحيين داخل الإمبراطورية العثمانية، وتقدَّمَتْ في زحفها صوب البحر الأسود، حتى ضَمَّتْ إليها ميناء آزوف، ولقد حاوَلَ وقتئذ الوزير الإنجليزي «ويلم بت الأصغر» إظهار خَطَر التقدم الروسي على كيان الدولة العثمانية، وما سوف يترتب عليه من آثار في محيط السياسة الدولية، ولكن دون جدوى، ومن ذلك الحين وَضَعَتْ إنجلترة المبدأ الذي استرشَدَتْ به سياستها في المسألة الشرقية عمومًا مدة التسعين سنة التالية، وهو المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، ثم لم تلبث أن سَلَكَت النمسا في سنة ١٧٩١ طريق الاعتدال مع تركيا، فأعادت إليها كل الفتوحات السابقة تقريبًا، وانبنت سياستها على الرغبة في مساعدة الدولة العثمانية وحمايتها.
وكان السبب في سياسة المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، من جانب النمسا وإنجلترة؛ أن هاتين الدولتين صارتا تدركان منذ ١٧٩١ أن تركيا وإنْ ظَلَّتْ حقيقةً مصدرَ أخطار على أوروبا، فإن ذلك لم يكن بِسَبَبِ قُوَّتها كما كان الحال في الأزمنة السابقة، ولكن بسبب ضعفها؛ ولذلك فحينما كانت روسيا في مطلع القرن التاسع عشر لا تزال تهتم بمتابعة الزحف على شواطئ البحر الأسود، وتهدف دائمًا لامتلاك القسطنطينية، جَعَلَت النمسا من نفسها رقيبًا على النشاط الروسي، وهددت بالانقضاض على جناح روسيا إذا أثارت هذه الحربَ مع تركيا، وانشغَلَتْ بها، أما إنجلترة فقد صَمَّمَتْ على حماية التجارة في حوض البحر الأبيض الشرقي (الليفانت)، والدفاع عن القسطنطينية ذاتها ضد كل هجوم يقع عليها.
ومن أواخر القرن الثامن عشر، كان واضحًا أن المسألة الشرقية سوف تحمل الدول الكبرى على التدخل عاجلًا أو آجلًا في شئون الإمبراطورية العثمانية، التي أَخَذَتْ تنتشر الاضطرابات في أنحائها بسبب ما ظَهَرَ من رغبة قوية في التخلص من الحكم العثماني، والظفر بالاستقلال من جانب الشعوب المسيحية في داخل الإمبراطورية العثمانية، في حين اعتبرت الدولة نشاط رعاياها هؤلاء عصيانًا يجب إخماده بكل الطرق، ولو استلزم الأمر اللجوء للمجازر ووسائل الإبادة الأخرى.
وثمة سبب آخر للتدخل؛ هو أن الدولة العثمانية لم تُحَاوِل أن تُصْلِح شيئًا من أحوال «الذميين» وهم رعاياها المسيحيون، حتى إذا كانت قد اضْطُرَّتْ في بعض الأحايين إلى مَنْح هؤلاء قدرًا من «الامتيازات» التي تَحْفَظ لهم أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، فإن هذه «الامتيازات» لم تكن لها قيمة من الناحية العملية.
ولذلك، لم تلبث أن ظَهَرَتْ بوضوح في مطلع القرن التاسع عشر العناصر الجوهرية التي تَأَلَّفَتْ منها مشكلة «المسألة الشرقية»، وهي: أولًا: وجود حكومة أو دولة شرقية في أوروبا تسيء الحكم بين ملايين من الشعوب المسيحية الخاضعة لسلطانها، وذلك في الوقت الذي كان ظاهرًا فيه أن الضعف ينتاب هذه الحكومة أو الدولة الشرقية، وأنها تسير تدريجيًّا في طريق الانحلال، وثانيًا: وجود مجموعة من الحكومات أو الدول الأوروبية التي تهتم بمصير هذه الحكومة أو الدولة الشرقية، ثم وجود روسيا من بين هذه الحكومات، وقد انفردت وَحْدَها في رغبة العمل على زيادة هذا الانحلال العثماني سرعة على سرعته، وثالثًا: وأخيرًا، وجود مجموعة من الشعوب التي نَضَجَ شعورها القومي، وصارت تريد التخلص من السيطرة العثمانية.
وفي السنة نفسها جَعَلَتْ تركيا لقب الإمارة وراثيًّا في أسرته، ثم صَدَرَ خط شريف بعد سنوات ثلاث (١٨٣٣) رسم حدود الإمارة الصربية الجديدة، والتي بَقِيَتْ مع تمتعها بالاستقلال الذاتي تَدِين بالتبعية للسلطان العثماني، حتى تَقَرَّرَ نهائيًّا استقلالها في سنة ١٨٧٨ في ظروف سوف يأتي ذِكْرها.
على أن الذي يعنينا الآن أن ثورة الصرب هذه سواء في سنة ١٨٠٤، أو في سنة ١٨١٥ لم تَسْتَرْعِ وقتذاك انتباه الدول الكبرى في أوروبا، بل بَقِيَتْ تسير الأمور في مجراها العادي، في حين أن الذي لَفَتَ أنظار أوروبا كان قضية شعب آخر من شعوب البلقان، هم اليونانيون الذين كانت لهم أطماع تشبه أطماع الصرب، من حيث الرغبة في التحرر من سلطان العثمانيين، فقد تَحَدَّثَ عن هذه «الآمال الوطنية» في مؤتمر فينَّا، كلٌّ من القيصر إسكندر ووزيره كابوديستريا (ومن المعروف أن الأخير من أصل كرفوي).
استقلال اليونان
إلا أن القيصر الذي كان قد انحاز إلى مترنخ، ووقع على «بروتوكول ترباو» منذ نوفمبر ١٨٢٠ لم يكن في وُسْعه تعضيد الثورة العلنية ضد صاحب السلطة الشرعية في البلاد، وهو السلطان العثماني، ثم إن رغبة الثوار في الاستقلال والتحرر من كل نفوذ أجنبي، وإنشاء الإمبراطورية البيزنطية القديمة مرة أخرى، جعل القيصر يعدل عن مساعدتهم.
أما إبسلانتي فقد اعتقله مترنخ — الذي التزم خطة الحياد التام في المسألة اليونانية، وهو الذي قام النظام الرجعي في أوروبا على يديه — بمجرد عبوره الحدود النمسوية، وسَجَنَه في قلعة موهاكز، فقضى إبسلانتي في الحبس سبع سنوات إلى سنة ١٨٢٧، ثم توفي في العام التالي (١٨٢٨) في فينَّا.
وكان من أسباب التدخل الأوروبي وفاة القيصر إسكندر، واعتلاء أخيه الأصغر القيصر نيقولا الأول العرش في أول ديسمبر ١٨٢٥، وكان نيقولا مملوءًا بالحمية والنشاط، ولم يكن يقيد نشاطه وجود اتفاقات سابقة بينه وبين الدول، على خلاف ما كان عليه الحال أيام أخيه الإسكندر؛ فاسترشد نيقولا بتقاليد روسيا السياسية القديمة في موقفه من الإمبراطورية العثمانية، وأراد مؤازرة اليونانيين في محنتهم، وساعَدَهُ على ذلك وجود أسباب كثيرة تدعو للاحتكاك بين روسيا وتركيا، فقد أَهْمَلَتْ تركيا تنفيذ المادة الخامسة من مواد معاهدة بوخارست، التي ذَكَرْنَا أنها أُبْرِمَتْ بين تركيا وروسيا في ٢٨ مايو ١٨١٢، ومن بين ما نَصَّتْ عليه هذه المادة أنْ تخلي تركيا البغدان (ملدافيا) من العسكر العثماني؛ ولذلك فقد عَظُمَ خوف النمسا وإنجلترة من أن تقوم روسيا بالهجوم الآن ودون إبطاء على تركيا.
ولقد كانت سياسة كل من كاننج ومترنخ متفقة في مبادئها الجوهرية بصدد القضية اليونانية منذ قيام الثورة في اليونان في سنة ١٨٢١ إلى وقت نزول إبراهيم باشا في أرض المورة (١٨٢٥)؛ فقد اعْتَبَرَ كلاهما هذا النضال مسألةً خاصةً بالعثمانيين واليونايين وحدهم، وأن واجب الدول العظمى أن تَحُولَ دون إقدام دولة من الدول على التدخل واستخدام القوة لفض أو تسوية النضال القائم، واعتقد كاننج إذا تَدَخَّلَتْ روسيا منفردة بطريق الحرب لتسوية النزاع العثماني اليوناني، فذلك معناه أن تَلْتَهِم روسيا اليونان أولًا، ثم تركيا ثانيًا.
ولكن النجاح العظيم الذي أَحْرَزَه إبراهيم في المورة جَعَلَ روسيا تُقَرِّر قطعًا ضرورة التدخل؛ لتَحْفَظ الشعب اليوناني من الفناء والإبادة، واضطر كاننج بسبب التغيير الذي طرأ على الموقف أن يعيد النظر في سياسته، وكان كاننج يعطف على اليونانيين في نضالهم من أجل الخلاص والحرية، وإن كان في الوقت نفسه من مؤيدي سياسة إنجلترة التقليدية من أيام وليم بت الأصغر، ومن قواعدها المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، فكانت مهمته إذن محاولة التوفيق بين هذين الاتجاهين، وذلك باستمالة روسيا إلى جانب إنجلترة في العمل لتحرير الشعب اليوناني، ثم مَنْع روسيا في الوقت نفسه من اللجوء للحرب كوسيلة ظاهرة ومواتية لتحقيق هذه الغاية؛ وعلى ذلك فقد أراد كاننج أن يحول دون انفراد روسيا بالعمل في المسألة اليونانية.
واختار كاننج للمفاوضة مع قيصر روسيا دوق ولنجتون «الدوق الحديدي»، صاحب الشهرة العسكرية الواسعة في أوروبا، وخير شخصية «جذابة» للتأثير على حاكم روسيا الأوتقراطي، والمعروف بميوله العسكرية، فوصل ولنجتون إلى بطرسبرج في ٢٦ فبراير ١٨٢٦، وذلك في وقت كانت تأزَّمَتْ فيه العلاقات بين روسيا وتركيا، فلم تَمْضِ أسابيع على وجوده بالعاصمة الروسية حتى كان قد أتم إبرام «بروتوكول بطرسبرج» في ٤ أبريل ١٨٢٦، وفيه اتَّفَقَ الفريقان على عَرْض وساطتهما على تركيا — وكان اليونانيون أنفسهم قد طلبوا من قبل الوساطة بينهم وبين العثمانيين — فإذا قَبِلَ الباب العالي وساطة إنجلترة وروسيا، وَضَعَتْ هاتان الدولتان تسويةً للمسألة اليونانية على قاعدة إعطاء اليونان الحكم الذاتي مع بقاء التبعية لتركيا صاحبة السيادة عليها، أما إذا رَفَضَتْ تركيا الوساطة تظل الدولتان متمسكتين بهذه القاعدة ذاتها كأساس لأية تسوية تحدث على أيديهما للمسألة اليونانية في المستقبل، ثم نَصَّتْ المادة السادسة على إبلاغ البروتوكول إلى عواصم فرنسا والنمسا وبروسيا، ودعوة هذه الدول الثلاث لضمان المعاهدة التي تُسَوِّي العلاقات بين تركيا واليونان، وهو ضمان تعطيه روسيا كذلك.
أما بروتوكول بطرسبرج فقد اتضح عند تبليغه للدول، أن فرنسا وَحْدها كانت مستعدة لتأييده؛ ولذلك فقد تَحَوَّل بروتوكول بطرسبرج إلى معاهدة بين بريطانيا وروسيا وفرنسا، أُبْرِمَتْ في لندن في ٦ يوليو ١٨٢٧، واشتملت — إلى جانب ما جاء بخصوص التسوية في البروتوكول الأصلي — على نصٍّ صار للدول بمقتضاه أن تتبادل تعيين القناصل مع بلاد اليونان، لإنشاء الصلات التجارية معها، إذا رفَضَتْ تركيا الوساطة، وكذلك أن تعمل بقدر المستطاع «ومن غير أن تشترك مع هذا في القتال الدائر»؛ لوقف الاصطدام بين الفريقين المتحاربين.
ذلك أن السلطان محمود الثاني الذي انتهز فرصة قيام الحرب بين روسيا وفارس (سنة ١٨٢٦) كان قد رَفَضَ شروط معاهدة لندن؛ لغضبه من اتحاد الدول وتدخلها المشترك بينه وبين «رعاياه» اليونانيين، ولأنه وَجَدَ مشجعًا له على المضي في ذلك، فيما كان يلمسه من معارَضة مترنخ لسياسة الدول الثلاث إنجلترة وفرنسا وروسيا، ثم لم تلبث نكبة نفارينو أن أثارت ثائرته، فأبطل معاهدة أكرمان، وأعلن الجهاد الديني ضد الدول المتحالفة، خصوصًا روسيا التي عزا إلى دسائسها وقوع هذه الكارثة الكبرى.
وهكذا خَسِرَ الأتراكُ اليونان، ثم إنهم فقدوا إلى جانب ذلك، وبمقتضى المادة الثالثة من المعاهدة نَفْسِها دلتا «مصبات» نهر الطونة «أو الدانوب» التي أُعْطِيَتْ لروسيا.
وأسفرت المباحثات عن عقد بروتوكول بين الدول الثلاث (إنجلترة وروسيا وفرنسا) في لندن في ٣ فبراير ١٨٣٠ بشأن استقلال اليونان، فنصت المادة الأولى على أن تُصْبِح اليونان دولة مستقلة، وأن تتمتع بكل الحقوق السياسية والإدارية والتجارية المرتبطة بالاستقلال التام، ثم رَسَمَت المادة الثانية حدود الدولة اليونانية الجديدة، وأَدْخَلَتْ في نطاقها عددًا من الجزر في بحر إيجه، ونَصَّت المادة الثالثة على أن حكومة اليونان ملكية وراثية.
وفي ٢٨ يناير ١٨٣٣ نَزَلَ في نوبليا «أوتو» أول ملك لليونان الحديثة، يحاوِل إنشاء الحكومة الموطدة بها وإعادة الهدوء والسلام إليها، يُعَاوِنه في مهمته الشاقة — بَيْن شَعْب أَلِفَ حياة الرعي والنزاعات الداخلية وأعمال القرصنة من أزمنة بعيدة — نخبةٌ من الموظفين البفاريين، والجنود «المرتزقة» من البفاريين كذلك.
مصر وتركيا
كانت ثورة المورة واستقلال اليونان بمثابة المقدمة لعرض المسألة الشرقية بحذافيرها على بساط البحث أمام الدول، حينما لم تَجِدْ هذه بدًّا من التساؤل في السنوات القليلة التالية عما يَجِبُ عمله إزاء تركيا، هل يجب المحافَظة عليها من التفكك والانحلال؟ أم التعجيل بالقضاء على رِجْل أوروبا المريض حتى تَقْتَسِمَ الدول ممتلكاته فيما بينها؟ وبمعنًى آخر تحديد المبادئ التي يَجِبُ أن تسترشد بها الدول في سياستها نحو تركيا.
إن السياسة التي يجب اتباعها هي سياسة المحافَظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، من أجل المحافظة على توازن القوى في أوروبا، فإذا حَدَثَ أن اقْتُطِعَتْ أجزاء معينة من هذه الإمبراطورية تحت ضغط الحوادث، فانفصلت إحدى المقاطعات «أو الولايات» من جثمان هذه الإمبراطورية المتداعية، فالسياسة الرشيدة حيئنذ هي السماح لهذه المقاطعة «أو الولاية» بأن تتمتع بالسيادة الكاملة والاستقلال، حتى تغدو عضوًا من أعضاء الأسرة الدولية، وتُفِيد في إنشاء التوازن الأوروبي الجديد الذي يُنْتَظَرُ أن يَحُلَّ مَحَلَّ التوازن القديم عند زوال العناصر التي كان هذا التوازن يتألف منها.
على أن هذا التفسير الذي جاء به جيزو لم يكن سوى المعنى الأعم الذي عَرَّفَ به السياسيون الفرنسيون المسألة الشرقية، في حين أنه كان لهذه المسألة في نظرهم معنًى آخر، وتفسير أخص في الوقت نفسه؛ فللمسألة الشرقية في اعتبارهم شِقَّان: مسألة القسطنطينية، وهي التي ينطبق عليها تفسير جيزو، ومسألة الإسكندرية، أو مسألة ذلك الجزء من الإمبراطورية العثمانية المعروف باسم مصر؛ وذلك لأن الفرنسيين اعتبروا البحر الأبيض المتوسط وشاطئ أفريقية الشمالية من المسائل المتصلة اتصالًا وثيقًا بمصالحهم.
وبين سنتي ١٨٣٠–١٨٤٠ تَحَدَّدَ معنى المسألة الشرقية بأكملها، بما فيها مسألتَي القسطنطينية والإسكندرية بشكلٍ أَثَّرَ تأثيرًا عميقًا على علاقات الدول الخمس العظمى الأوروبية فيما بين بعضها بعضًا، ثم كان من نتيجة ظهور المسألة الشرقية على مسرح السياسة الدولية بمعناها الكامل، أنْ وَقَعَتْ في سنتي ١٨٣٩-١٨٤٠ أزمة خطيرة كادت تُفْضِي إلى إشعال حرب أوروبية تَقِفُ فيها فرنسا ضد إنجلترة، ولم يمكن تَجَنُّب وقوع هذه الحرب إلا بصعوبة كبيرة.
أما أسباب هذه الأزمة؛ فبعضها مَرَدُّه إلى التبدل الذي طرأ على سياسة كلٍّ من روسيا وفرنسا خصوصًا، ومَرَدُّ البعض الآخر إلى توتُّر العلاقات بين السلطان العثماني وواليه في الباشوية المصرية محمد علي، وكان السبب في تَبَدُّل السياسة الفرنسية أن فرنسا اتخذت لنفسها وجهة نظر مزدوجة في موضوع المسألة الشرقية، عندما صارت تُمَيِّز بين ما سَمَّتْه بمسألة الإسكندرية، وبين مسألة القسطنطينية، فدعاها العمل من أجل تأييد مصالحها في البحر المتوسط وعلى شواطئ أفريقية الشمالية إلى إرسال حملة إلى الجزائر (في عهد وزارة يولينياك) للاستيلاء عليها، وكانت فرنسا تريد أن يقوم والي مصر محمد علي بإرسال حملة إلى هذه البلاد لتأديب باي الجزائر الذي ساءت علاقته مع فرنسا، فطلب محمد علي مبلغًا كبيرًا من المال، وأربعة سفن حربية نظير قيامه بهذا العمل.
ثم تدخَّلَتْ إنجلترة وعارَضَتْ بشدة أن يُنَفِّذ محمد علي هذا المشروع تحت إشراف فرنسا، وحَذَّرَتْه من النتائج الخطيرة التي يَتَعَرَّض لها إذا أَقْدَمَ على ذلك؛ لأن إنجلترة كانت — إلى جانب تَمَسُّكها بمبدأ المحافظة على كيان الدولة العثمانية — تُقَاوِم كل سياسة أو خطة من شأنها دَعْم نفوذ فرنسا في الشرق، وعندئذ أَرْسَلَتْ فرنسا منفردةً حَمْلَتَها إلى الجزائر، وفي يوليو ١٨٣٠ ضَمَّتْ إليها هذه البلاد، واقْتَطَعَتْ بعملها هذا إقليمًا من أقاليم الإمبراطورية العثمانية، ثم إنها لم تَكْتَفِ بهذا؛ بل أَخَذَتْ تشجع محمد علي في ثورته ضد السلطان صاحب السيادة الشرعية عليه، على أَمَلِ أن يساعِد نجاح محمد علي في تأييد المصالح الفرنسية ذاتها في البحر الأبيض المتوسط؛ ولذلك كانت فرنسا في هذا الدور من أدوار المسألة الشرقية (١٨٣٠–١٨٤٠) عاملًا ظاهرًا من عوامل تَفَكُّك الإمبراطورية العثمانية، بدلًا من روسيا التي كانت عامِلَ التفكك الظاهر أثناء المسألة اليونانية.
أما روسيا فقد أَدْخَلَتْ تغييرًا واضحًا على أساليبها السياسية بعد عام ١٨٣٠ عندما اتخذت في المسألة الشرقية موقفًا «عكسيًّا»؛ فأصبحت لا تهدف الآن للاستيلاء على القسطنطينية، والاستيلاء على كل ما يقع في طريقها من ولايات وأقاليم حتى تصل إلى العاصمة العثمانية، بل صارت خلال السنوات العشر التالية تبغي المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، والسبب في هذا أن روسيا التي اضْطُرَّت اضطرارًا للاعتراف باستقلال اليونان، سرعان ما أَدْرَكَتْ أن «اقتطاع» أحد أقاليم الدولة العثمانية ليس معناه استقلال هذا الإقليم عن تريكا وحسب، بل — وهذا هو المهم — استقلاله عن روسيا أيضًا، فقد تَخَلَّصَت اليونان سريعًا من النفوذ الروسي، وساعدتها الدول العظمى على ذلك؛ لأن المصالح الروسية في البلقان لم تكن مُتَّفِقَة دائمًا مع مصالح هذه الدول، وزيادة على ذلك، فقد أَخْفَقَتْ روسيا في دَعْم نفوذها في الأفلاق والبغدان، وكَرِهَ الرومانيون روسيا كراهيةً شديدة، وفي الصرب جَعَلَ أميرها «ميلوش أوبرينوفتش» روسيا بمثابة مخلب القط في منازعاته مع تركيا.
وعلى ذلك فقد جَمَعَ القيصر نيقولا الأول منذ ١٨٢٩ لجنة من رجال الدولة الروسيين لبحث النتائج المتوقعة من انهيار الإمبراطورية العثمانية، ومدى استفادة روسيا من تفكُّك هذه الإمبراطورية، فجاءت نتيجة بحوثهم — وعلى خلاف ما جرت عليه سياسة روسيا التقليدية القديمة — أنَّ من مصلحة روسيا المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية؛ لأنه إذا انحلَّتْ هذه الإمبراطورية خَرَجَتْ إلى حيز الوجود دول بلقانية صغيرة، ولكنها قوية، يتعذر على روسيا أن تتدخل في شئونها بنجاح، بينما إذا بقيت الإمبراطورية متماسكة استطاعت روسيا — بفضل ما لها في تركيا من حقوق وامتيازات كبيرة كَفَلَتْها المعاهدات والاتفاقات القديمة — أن تستخدم هذه الحقوق والامتيازات في زيادة السيطرة الاقتصادية والتوغل السلمي في كيان الإمبراطورية، وعلى ذلك يجب على روسيا إذا أرادت التوسع الإقليمي أن تَتَّجِهَ صوب أرمينيا أو بغداد، وتترك جانبًا القسطنطينية.
وفي ٢٠ فبراير ١٨٣٣ دَخَلَ الأسطول الروسي مياه البسفور، وأنزل النجدات الروسية قبالة القسطنطينية، وعندئذ نشطت الدبلوماسية الأوروبية لإرغام محمد علي على قبول تسوية مع الباب العالي، فأصدر السلطان «التوجيهات» الجديدة — وهي قائمة بأسماء الولاة والباشوات الجدد المعينين في حكومة ولايات الإمبراطورية — ومن بينهم محمد علي لتثبيته في حكومة مصر وكل الشام بما فيها دمشق وحلب، ثم جزيرة كريت، وإبراهيم لتثبيته في حكومة الحبشة وحكومة جدة، وفي ٣ مايو ١٨٣٣ أبلغ الباب العالي إبراهيم باشا في كوتاهية إعطاءه «أطنة» وتعيينه محصِّلًا لها، وفي اليوم التالي أَعْلَنَ الباب العالي عقد السلام رسميًّا، وظَهَرَ كأنما قد انفرجت الأزمة.
وكانت المعاهَدة تتألَّف من «نصٍّ» ظاهر أو علني، و«مادة» منفردة سرية، وكان «النص» — من وجهة نظر الدول — لا يبعث على الاطمئنان كلية عندما تضمن عَقْد محالَفة دفاعية هجومية بين روسيا وتركيا لمدة ثماني سنوات، وأما المادة المنفردة، فكانت أسوأ أثرًا لأنه جاء بها: «إن جلالة إمبراطور روسيا، رغبة منه في أن يوفِّر على الباب العالي العثماني النفقات والمشقات التي قد تَحْدُث له من جراء تقديم المساعدة الجدية (أي لحليفته روسيا في حالة الاعتداء عليها حسب المادة الأولى من المعاهدة)، لن يَطْلُب هذه المساعدة إذا طَرَأَ من الظروف ما يقضي على الباب العالي بتقديمها، ولكن بدلًا من هذه المساعدة التي يتحتم عليه تقديمها إذا دَعَت الضرورة عملًا بمبدأ تبادُل المنفعة الذي تَتَضَمَّنُه المعاهدة المذكورة يقصر الباب العالي عَمَلَه لمصلحة روسيا على إغلاق بوغاز (مضيق) الدردنيل، أي على عدم السماح لأية سفن حربية أجنبية بالدخول في هذا البوغاز بأية حجة من الحجج.»
ومع هذا فإن الاتفاق بين الدولتين الغربيتين (فرنسا وإنجلترة)، في هذا الوجه من وجوه المسألة الشرقية — أي في مسألة القسطنطينية — لم يُمَهِّد أو أنه كان لا يدعو إلى اتفاقهما في الوجه الآخر للمسألة الشرقية، وهو المسألة المصرية؛ إذ سرعان ما ظَهَرَ الخلاف بين هاتين الدولتين عندما تَحَرَّجَت الأمور مرة أخرى بين السلطان ومحمد علي في عامي ١٨٣٩-١٨٤٠.
فقد تحرجت العلاقات بين محمود الثاني ومحمد علي؛ خصوصًا منذ نشوب الثورة في سوريا لأسباب منوعة؛ منها تحريض تركيا وروسيا عليها (١٨٣٤)، ولقد حاوَلَ محمد علي — حسمًا للنزاع — إعلان استقلاله عن تركيا، ثم تكرَّرَتْ محاولاته في ذلك خلال الأعوام التالية (١٨٣٤، ١٨٣٦-١٨٣٧، ١٨٣٨) ولكن الدول مَنَعَتْه من إعلان الاستقلال، وانحصرت جهود وزير الخارجية البريطانية لورد بلمرستون: أولًا: في إضعاف نفوذ محمد علي حتى لا يطغى بقُوَّتِه على الدولة العثمانية، وثانيًا: في مَنْع الروس من أن يَضَعُوا موضع التنفيذ معاهدةَ هنكاراسكلسي.
وكانت فرنسا ترجو أن تَمْتَنِع روسيا عن الاشتراك مع الدول في اتخاذ هذه الخطوة وتتحقق عزلتها، ولكن روسيا وجدت من الحكمة التنازل عن معاهدة هنكاراسكلسي، بينما رَحَّب بلمرستون بهذه الفرصة المواتية للقضاء على المصالح الروسية، وللقضاء على محمد علي الذي اعتبره مسئولًا عن إذلال الدولة العثمانية وإضعافها، كما كان من أغراض مترنخ تعطيل المفاوضات المباشرة بين السلطان وبين الوالي الثائر على صاحب السيادة الشرعية عليه، وانحازت بروسيا إلى جانب النمسا؛ ولذلك، وبناء على ما تَقَدَّم جميعه، أصدرت الدول الخمس العظمى (إنجلترة، روسيا، النمسا، بروسيا، فرنسا) في ٢٨ يوليو سنة ١٨٣٩ مذكرة مشتركة، بَعَثَتْ بها إلى السلطان حتى لا يُبْرِم صلحًا مع محمد علي من غير موافقة الدول، وحتى ينتظر ما قد يُسْفِر عنه اهتمام الدول بالمسألة الشرقية، وهكذا أَمْلَتْ المصلحة المشتركة على الدول ضرورة العمل «المتحد»، وظَهَرَ كأنما الاتحاد الأوروبي قد أَصْبَحَ حقيقة واقعة، وظهر كأنما فرنسا نفسها قد أَصْبَحَت المتزعمة للاتحاد الأوروبي.
ولكن فرنسا ارتكبت بعملها هذا خطأ جسيمًا — ولا شك — عندما فَتَحَتْ مجال التدخل للدول وعَطَّلَت الاتفاق المباشر بين محمد علي والسلطان؛ إذ سرعان ما ظَهَرَ الخلاف بين فرنسا وبين إنجلترة وسائر الدول، خصوصًا عندما أرادت إنجلترة أن تُصْبِح مصر وحدها فقط لمحمد علي وتجلو جيوشه من سوريا، بينما أرادت فرنسا أن يحتفظ والي مصر بسوريا أيضًا، وانحازت روسيا إلى جانب إنجلترة فيما ذهبت هذه إليه؛ حتى لا تبسط فرنسا نفوذها على كل المنطقة الممتدة من مصر إلى جبال طوروس تحت جناح محمد علي، وعلى أمل أن يؤدي الخلاف بين فرنسا وإنجلترة إلى فَصْم عُرَى ذلك التحالف الإنجليزي الفرنسي الذي استمر إجمالًا طيلة السنوات العشر الماضية (أي منذ ١٨٣٠) تقريبًا.
ولقد قامَرَ تيير — وكما قامر سولت من قبل — على أمرين؛ أولهما: أن محمد علي سوف يقاوِمُ بنشاطٍ كلَّ تدبيرٍ الغرض منه انتزاع الشام من قبضته، وثانيهما: أن وسائل القسر والشدة التي قد تُتَّخَذ ضده سوف تذهب جميعها سدًى، وكان تيير كما أثبتت الحوادث بعد ذلك مخطئًا في تقديره.
فقد حضر نوري أفندي السفير العثماني في باريس إلى لندن في أبريل سنة ١٨٤٠؛ ليقدم مذكرة إلى وزارة الخارجية البريطانية، وإلى بقية سفراء الدول الخمس يُبلغهم فيها استعداد الباب العالي لإعطاء باشوية مصر وراثة إلى محمد علي (أي من غير سوريا)، باعتبار ذلك الشرط الوحيد الذي يقبل السلطان بمقتضاه الصلح مع محمد علي، وفي ١٢ أبريل عَرَفَ جيزو أن إنجلترة وروسيا والنمسا وبروسيا متفقة فيما بينها على نوع الإجابة التي يتضمنها الرد على مذكرة السفير العثماني، وفي اليوم التالي بعث بلمرستون بصورة من هذا الرد إلى جيزو، وسأله إذا كان في استطاعته هو الآخر أن يجيب على مذكرة السفير العثماني بالمعنى نفسه، ولكن تيير رَفَضَ الإجابة على المذكرة العثمانية.
وفي الشهرين التاليَيْن شُغِلَ جيزو بمسائل أخرى، وفي أواخر مايو حَضَرَ إلى لندن سفير عثماني جديد، هو شكيب أفندي، وطلب تيير من جيزو عَدَمَ التحدث إلى شكيب أفندي في شيء لاعتقاده — كما قال — أن تسوية المسألة لن تَحْدُث في لندن مع السفير العثماني، وأخطأ تيير في ذلك؛ لأن بلمرستون لم يلبث أن دعا جيزو إلى وزارة الخارجية البريطانية في ١٧ يوليو ١٨٤٠، وقرأ عليه «مذكرة» جاء فيها أنه نظرًا لامتناع فرنسا عن الانضمام إلى جانب الدول الأربع: بريطانيا، النمسا، روسيا، بروسيا، عَقَدَتْ هذه الدول فيما بينها معاهَدة لِوَضْع تسوية نهائية للنزاع القائم بين السلطان ومحمد علي، هذه المعاهدة كانت اتفاقية لندن المشهورة التي وَقَّعَتْها الدول الأربع في ١٥ يوليو ١٨٤٠، يحدوها إلى ذلك الرغبة في المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، وهكذا وَجَدَتْ فرنسا نفسها بسبب إصرارها على المطالبة بسوريا لمحمد علي بمعزل عن سائر الدول.
وتَضَمَّنَت اتفاقية لندن، شروط الصلح المزمع إبرامه بين الباب العالي وبين محمد علي، على أساس أن يحتفظ هذا الأخير بباشوية مصر فقط وراثة في أسرته، كما نَصَّتْ على تعاون الدول الأربع في رد الجيش المصري عن القسطنطينية إذا هَدَّدَ محمد علي العاصمة العثمانية، وطَلَبَ الباب العالي مساعدة الدول، وكان معنى قبول روسيا هذا «البند» أنها تنازَلَتْ عن حقها الخاص في الدفاع عن القسطنطينية بمقتضى معاهدة هنكاراسكلسي، وزيادة على ذلك فقد نَصَّتْ المادة الرابعة على استمرار العمل بالقاعدة القديمة التي اتبعتها الإمبراطورية العثمانية، وهي غَلْق الدردنيل في وجه جميع السفن الأجنبية الحربية، وما دام الباب العالي نفسه في حالة سلم مع الدول.
ولكن بدلًا من ذلك، استطاع بلمرستون الذي أَدْرَكَ حقيقةَ ما كان يجري أن يواجه الوزير الفرنسي باتفاقية لندن، واشتد غضب تيير، واشتد غضب الأمة الفرنسية التي ظَلَّتْ من مدةٍ تتوق نفسها إلى الحرب نتيجة لتأثرها «بالأسطورة النابليونية»؛ ولرغبتها في استعادة مجد الفتوح الماضية في عهد إمبراطورية نابليون، ولم يُلَطِّف شيئًا من حدة هذه الروح العسكرية إرسال الحملات والجيوش إلى بلاد الجزائر، وظَهَرَ كأنما الحرب واقعة لا محالة، وكان كل ما يَشْغَل ذهن تيير أثناء هذه الأزمة، إنما هو التفكير في أي الجهتين عليه أن يبدأ بتسديد ضربته المباشرة: ضد إنجلترة، أم ضد بروسيا «للوصول إلى الراين»، وفي أثناء هذا كله كانت الحوادث تسير بكل سرعة في سوريا.
وفَضَّلَتْ فرنسا عدم الدخول في حرب ضد مجموعة من الدول أعاد اتحادها إلى الذاكرة محالَفة الدول القديمة في شومونت ضد فرنسا سنة ١٨١٤، وكان الملك الفرنسي «لويس فيليب» ضد الحرب، ويؤيد رَغْبَته في السلم أصحاب الأملاك والأراضي، وأرباب الصناعة في فرنسا، فأرسل تيير إلى لندن مذكرة في ٨ أكتوبر كانت بمثابة «عرض للسلام» تَضَمَّنَت استعداد فرنسا للنزول عن إصرارها السابق بشأن بقاء سوريا في حوزة محمد علي إذا حصلت إنجلترة وبقية الدول لمحمد علي على وراثة الحكم في مصر.
وكانت المذكرة مكتوبة بلهجة شديدة ومفرغة في قالب إنذار، ومع هذا فقد كان إقلاع فرنسا عن إصرارها السابق هو كل ما تريده الدول؛ لأن إعلان عزل محمد علي لم يكن الغرض منه سوى إرغامه على قبوله التسوية؛ ولذلك فإن نابيير بعد انتصاره في بيروت، وبمجرد أن سقطت في قبضته عكا أيضًا في ٣ نوفمبر، قصد بأسطوله إلى الإسكندرية، ثم لم يلبث أن عقد في ٢٧ نوفمبر سنة ١٨٤٠ مع بوغوص بك ممثل محمد علي إنفاقًا في الإسكندرية تَعَهَّدَ فيه محمد علي بإخلاء سوريا في نظير احتفاظه بالحكومة الوراثية في مصر ذاتها.
ولما كان هذا متَّفِقًا مع ما طَلَبَتْه فرنسا في مذكرة ٨ أكتوبر، فقد أَقَرَّت الدول اتفاق نابيير، وفي الشهور الأولى من العام التالي (١٨٤١) أسفرت المفاوضات التي اشتركت فيها فرنسا في هذه المرة، بواسطة سفيرها الجديد البارون بوركيني، والذي خَلَفَ جيزو عندما تَعَيَّنَ هذا الأخير وزيرًا للخارجية، في الوزارة التي أَلَّفَهَا سولت، عقب سقوط تيير في ٢١ أكتوبر سنة ١٨٤٠ عندما رفض لويس فيليب أن يكون خطاب العرش في لهجة عسكرية عنيفة، نقول: إن هذه المفاوضات أَسْفَرَتْ عن إقناع السلطان بإصدار فرمان في ١٣ فبراير ١٨٤١ يعطي حق الوراثة لمحمد علي ولأسرته من بعده في مصر فقط، ومن غير أن يكون معها سوريا أو كريت، وفي أول يونيو صدر الفرمان الأخير الذي أَكَّدَ مبدأ الوراثة وإنما على أن تكون هذه للأرشد فالأرشد من أسرة محمد علي، كما أكد الفرمانان الأول والثاني بقاء مصر جزءًا من أجزاء الإمبراطورية العثمانية.
ولقد كان من المتيسر بعد ذلك أن تعمل الدول لاستكمال تسوية المسألة الشرقية بصورة تَتَنَاول وجْهَها الآخر، أي ما أَسْمَتْه فرنسا بمسألة القسطنطينية؛ فانعقد مؤتمر لهذه الغاية في لندن حضرته فرنسا إلى جانب بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا وتركيا أيضًا، فعَقَدَت الدول المجتمعة في ١٣ يوليو ١٨٤١ اتفاقية البوغازات، أو اتفاقية لندن التي تَضَمَّنَت المبدأ الثابت الذي كان دائمًا القاعدةَ التي أَخَذَتْ بها الإمبراطورية العثمانية في الأزمنة السابقة، والذي كان من مقتضاه مَنْع السفن الحربية الأجنبية من دخول المضايق «الدردنيل والبسفور»، طالما أن الباب العالي في حالةِ سِلْم مع الدول.
وهكذا ألغى هذا الاتفاق المركز الممتاز الذي كان لروسيا في علاقاتها مع تركيا، وفي مسألة البوغازات خصوصًا، بمقتضى معاهدة هنكاراسكلسي، كما أن هذه الاتفاقية قد حَلَّتْ محل معاهدة ١٥ يوليو ١٨٤٠ (وفاق لندن) بين الدول الأربع، ولو أنها كانت لا تلغي هذا الوفاق، ثم أتاحت الفرصة لفرنسا حتى تخرج من عزلتها وتَنْضَمَّ إلى مجموعة الدول في الاتحاد الأوروبي.