فرنسا (١٨١٥–١٨٤٨)
تمهيد
عَقَدَ الحلفاء معاهدة شومونت في أول مارس ١٨١٤ لمواصلة الكفاح ضد نابليون، وفي ٣٠ مارس من السنة نفسها دَخَلَتْ جنودهم باريس، وعاد البربون معهم إلى عاصمة ملكهم القديمة، فدخل لويس الثامن عشر إلى باريس في ٣ مايو ١٨١٤، ثم استتب له الأمر في فرنسا نهائيًّا بعد حكم المائة يوم وانهزام نابليون في واقعة واترلو (يونيو ١٨١٥) وذهابه إلى المنفى.
ومن مبدأ الأمر كان مقضيًّا بالفشل على ملكية البربون الراجعة لأسباب عدة: بعضها متصل بطبيعة المسائل التي واجَهَت البربون عند استلامهم أزمة الحكم، ومن كان من واجبهم أن يَجِدُوا لها حلولًا موفَّقة ثم أَخْفَقوا في ذلك، والبعض الآخر متصل بالمبادئ الرجعية — مبادئ العهد القديم — التي أَخَذَ بها البربون، والأساليب التي أرادوا أن يطبقوها في حكومتهم مُتَنَاسِين جميع التغييرات التي حَدَثَت في داخل البلاد من بداية الثورة الفرنسية (١٧٨٩) إلى وقت عودتهم (١٨١٤).
وكانت المشكلة الكبرى التي ورثتها الملكية الراجعة من عهد الثورة ونابليون، محاولة التوفيق بين هدفين مختلفين: إنشاء نوع من الحكومة ترضى عنه البلاد، واتباع سياسة «خارجية» ترضى عنها الدول.
وفي الخمسين سنة التالية قامت محاولات ثلاث لتحقيق هذين الهدفين، أولها: في عهد الملكية الراجعة ذاتها، وقد أَخْفَقَ البربون في هذه المحاوَلة؛ لأنهم لم يتمتعوا بالاحترام الكافي، لعودتهم إلى البلاد كما اعتقد كثيرون وقتئذ في ذيل جيش الاحتلال الأجنبي، ولأنهم أساءوا الحكم الداخلي، أي إنهم فشلوا في إقامة نوع الحكومة التي يرضى عنها الفرنسيون، فانتهى الأمر بقيام ثورة يوليو ١٨٣٠ وضياع ملكهم، وأما المحاوَلة الثانية: فقد وَقَعَتْ في عهد ملكية أسرة أورليان التي تَوَلَّت الحكم بعد ثورة يوليو، وأخفقت لأن لويس فيليب اتبع سياسة خارجية كانت متعارضة تمامًا مع رغبات الأمة، ومع أن هذه الملكية استندت إلى مؤازرة الطبقة المتوسطة إلا أن هذا أَجَّلَ فَقَطْ سُقُوطَها بعض الوقت، فشبت ثورة فبراير ١٨٤٨ التي أطاحت بملكية أسرة أورليان، وأعلنت الجمهورية الثانية، وأما المحاولة الأخيرة: فكانت في عهد لويس نابليون الذي استطاع أن يجمع حول العرش قلوب الفرنسيين مدة من الزمن، ولكن هذا النجاح نفسه لم يلبث أن نفر الدول التي أثار لويس نابليون مخاوِفَها عندما حاوَلَ إحياء مجد وانتصارات الإمبراطورية الأولى، فسقطت إمبراطوريته في النهاية بعد هزائم سبتمبر ١٨٧٠ وصار إعلان الجمهورية الثالثة.
ولقد كان من تفاُعل هذه العوامل جميعها أن قامت ثورات ١٨٣٠، ١٨٤٨، كما وَقَعَت الحوادث التي سَبَّبَتْ سقوط الإمبراطورية الثانية (١٨٧٠)، ويتضح ذلك كله من دراسة تاريخ فرنسا بعد سنة ١٨١٥.
(١) الدستور
ومن مواد الدستور الست والسبعين، ضَمِنَت الإثنتى عشرة مادة الأولى حقوق المواطنين الفرنسيين؛ وهي المساواة أمام القانون، بصرف النظر عن الرتب والألقاب، وذلك كان المبدأ الأساسي الذي أَتَتْ به الثورة، وحق الجميع في إشغال الوظائف المدنية والعسكرية، فلا تَحْتَكِر طبقة معينة الوظائف في الدولة، كما كان الحال لدرجة كبيرة قَبْل الثورة، ثم ضمان حرية الفرد باحترام القانون؛ فلا يجوز القبض على إنسان أو أن تُوَقَّع عليه عقوبة إلا بمقتضى إجراء قانوني، وقد أنهى الأخذُ بهذا المبدأِ السجنَ التعسفيَّ، ثم حرية العبادة وإقامة شعائر الدين واعتناق أي المذاهب التي يشاؤها الفرد، ولو أن الكاثوليكية ظَلَّتْ بمقتضى الدستور دين الدولة الرسمي، ثم حرية الصحافة «ما دامت متفقة مع القوانين التي لا غنى عنها لمنع إساءة استخدام هذه الحرية»، ثم ضمان الملكية مع عدم استثناء الأملاك الأهلية، أي ضمان بقاء الممتلكات التي اغتصبها الأفراد من التاج أو الكنيسة أو النبلاء، أو حصلوا عليها بصورة من الصور في أيدي أصحابها الجدد.
وكان ضمان الملكية إلى جانب ما جاء في مادة أخرى (التاسعة) مَنَعَت استقصاء آراء الأفراد ومعتقداتهم السياسية في الأيام التي سبقت عودة «الملكية» خير ما يطمئن أفراد الطبقة البورجوازية على مراكزهم ومصالحهم، وأفراد هذه الطبقة هم الذين ابتاعوا الأملاك الأهلية بعد مصادَرة أملاك الكنيسة والنبلاء والتاج في عهد الثورة، ثم أيدوا القوانين والأوامر التي أَصْدَرَتْها حكومات الثورة، وأما النص على حقوق الفرنسيين المدنية عمومًا واحترامها، كما جاء في هذا الدستور، فقد دَلَّ على أن البربون كانوا مستعدين لقبول ذلك الجزء من تراث الثورة وعهد نابليون الذي من شأنه أن يطمئن الشعب الفرنسي إلى أن الملكية الراجعة لا تريد اجتياح الحريات والحقوق التي أصبحت عزيزة عليه، والسبب في هذا أن البربون أرادوا أن يكسبوا عطف الشعب (الطبقة المتوسطة) في وقت كانت حكومتهم لا تزال في حاجة ظاهرة إلى الاستقرار عند أول قدومهم.
ولكن الدستور في الوقت الذي أعطى فيه الحرية الفردية لجميع المواطنين الفرنسيين، ترك الأمة في مجموعها من غير ضمان لحرياتها؛ لأن ضمان حريات الأمة إنما يكون بدعم المسئولية الوزارية، وذلك بأن يتولى السلطة التنفيذية مجلس وزراء يرتبط بقاؤه بثقة المجلس الذي تنتخبه الأمة، أي البرلمان، وذلك ضمانٌ كان الدستور خلوًا منه، فقد جاء في المادة الثالثة عشرة: «إن شخص الملك مقدس ولا يمكن أن يمسه شيء، ووزراءه مسئولون، والملك وحده صاحب السلطة التنفيذية»، ومع ذلك فقد تُرِكَت هذه المسئولية الوزارية من غير حل؛ ففي حين كان للملك الحق في تعيين وزرائه، لم يَذْكر الدستور إذا كان من واجب الملك أن يختار هؤلاء من بين الأكثرية في المجلس حتى تكون حكومته برلمانية أو دستورية، وعلى كل الأحوال فقد صار يُفَسِّر كل من لويس الثامن عشر وشارل العاشر من بعده هذه المادة الثالثة عشرة بأنها تخولهما حق دعوة الوزارة وإقالتها حسب مشيئتهما ودون التقيد في ذلك برغبة مجلس النواب.
وأما مجلس النواب فكان يتألف من نواب يُنْتَخَبون لمدة خمس سنوات، وقد جُعِلَ حق الانتخاب مقصورًا على الذين يدفعون ضرائب مباشرة قَدْرها ثلاثمائة فرنك سنويًّا، ولا تقل أعمارهم عن ثلاثين سنة، بينما اشْتُرِطَ في النائب أن يبلغ الأربعين أو يزيد، ويدفع ضريبة مباشرة قدرها ألف فرنك سنويًّا على الأقل، وهي شروط في صالح طبقة الأثرياء فقط؛ ولذلك فإن مجلس النواب سرعان ما صار أداة حكومية تمثل مصالح الأغنياء، وصار عدد المتمتعين بحق الانتخاب يقلون عن مائة ألف ناخب من مجموع تسعة وعشرين مليون نسمة، هم سكان فرنسا، وأما الذين يَصْلحون للنيابة فكانوا اثنى عشر ألفًا فقط، وكان يتجدد خُمس عدد النواب سنويًّا، وللملك الحق في حل مجلس النواب في أي وقت وإجراء انتخابات عامة جديدة.
ومما تجدر ملاحظته أن الدستور لم يُعَيِّن الطريقة التي تجري بمقتضاها الانتخابات، وحَدَّد مرسوم ملكي عدد النواب؛ فكان عددهم (٤٠٢) نائبًا في سنة ١٨١٥، ثم أُنْقِصَ هذا العدد بعد حل المجلس في سبتمبر ١٨١٦ إلى (٢٦٢) فقط.
(٢) الإرهاب الأبيض
ولما كانت وزارة تاليران التي استمرت في الحكم من يوليو إلى سبتمبر سنة ١٨١٥ قد أَظْهَرَتْ بعض الاعتدال في موقفها من هذه الحوادث الانتقامية، فقد أُبْعِدَتْ من الحكم، وتولى الدوق دي ريشيليو رياسة الوزارة، وفي عهده حُوكِمَ المارشال «ناي» وأُعْدِمَ في ٧ ديسمبر ١٨١٥، وفي اليوم التالي قَدَّم ريشيليو مشروعًا لاستصدار العفو عن جميع الذين اشتركوا في الحوادث الماضية، ما عدا أولئك الذين كانت لا تزال تجري فعلًا محاكَمَتُهم، فوافق المجلسان وصَدَرَ القانون المنشود، وأما الذين صَدَرَتْ ضِدَّهُم أحكام بسبب أعمال ارتكبوها قبل يوليو ١٨١٥، أي قَبْل عودة الملك، فقد بلغوا حوالي تسعة آلاف، ولو أن العقوبة في أكثر الأحيان كانت مُجَرَّد الطرد من الخدمة.
وتزايَد الإرهابُ الأبيض — بعد تأليف مجلس النواب على هذه الصورة — شِدَّةً على شدته، وعندئذ اضْطُرَّ الملك إلى حَلِّ المجلس في سبتمبر ١٨١٦، وفي الانتخابات الجديدة حصلت وزارة ريشيليو على أكثرية من العناصر الملكية المعتدلة، أَيَّدَتْ سياسة التهدئة والتسكين التي اتَّبَعَهَا ريشيليو في الداخل والخارج معًا.
وعلى ذلك فقد أَمْكَنَ أن تَتَمَتَّعَ الملكية الراجعة بمجيء هذا المجلس الجديد بعهد هو أفضل العهود — بلا مراء — في تاريخها، استمر حتى سنة ١٨٢٢، أي إلى الوقت الذي قَرَّرَ فيه «فيليل» العودة إلى أساليب ومبادئ «العهد القديم»، فأضاع بذلك أَعْظَمَ فرصة سنحت لضمان نمو واستقرار النظام البرلماني الثابت في فرنسا، وقد مَهَّدَ «فيليل» بهذا العمل لإشعال ثورة يوليو وسقوط ملكية البربون الراجعة في النهاية.
(٣) الأحزاب السياسية
وكان أصحاب السطوة والنفوذ عند عودة الملكية الراجعة، الملكيون المتطرفون أَلَد أعداء الثورة، والذين صمموا ليس فقط على القضاء على كل أثر للآراء الحرة التي جاءت بها الثورة «الفرنسية»، بل أرادوا الرجوع بفرنسا إلى الوراء، وتوجيه نمو البلاد التاريخي ليسير في طريق رجعي، ثم إنهم يمثلون سياسة المهاجرين التقليدية الذين كافَحُوا الثورة من المنفى بكل شدة، واعتزموا بمجرد عودتهم ظافرين إلى وطنهم أن يستردوا كل امتيازاتهم وكل أسباب السلطة الاستبدادية، وبقوا حوالي العشرين سنة يُمَنُّون أنفسهم بالانتقام متى رجعوا إلى الحكم في فرنسا.
وكان برنامج المتطرفين يستند إلى فكرة أساسية هي إحياء النظام القديم، وإنما مع تعديلات تَتَّفِق قبل كل شيء مع مصالح طبقة النبلاء والأشراف التي هي طبقتهم، وإن لم تكن هذه التعديلات ملائمةً لصالح الملكية نفسها، وقد وَجَدُوا أن خير وسيلة لتحقيق هذه الغاية هي إرجاع الكنيسة الكاثوليكية إلى سابق سطوتها، وعَقْد محالَفة وثيقة بين الكنيسة والدولة، أو بين المذبح والعرش — كما قالوا — واتخاذ هذه المحالَفة أساسًا يَبْنون عليه مشروعاتهم، وحتى تتمكن الكنيسة الكاثوليكية من استرجاع سطوتها ومكانتها، أراد المتطرفون أن تستعيد الكنيسة جميع الأملاك التي اغْتُصِبَتْ منها أيام الثورة، وكانت لا تزال في حوذة الدولة.
ثم إنهم أعطوا رجال الدين حق الإشراف على التربية والتعليم؛ فتَعَيَّن في سنة ١٨٢٢ أسقف لرياسة الجامعة وأُعْطِيَ سلطات واسعة، كما سُمِحَ لليسوعيين (الجزويت) بالعودة إلى فرنسا وتأسيس معاهدهم الدينية والتعليمية بها، وكان الغرض من هذا كله أن يستطيع حزب الكنيسة إعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي في فرنسا تحت ستار العناية بحياة الأمة الروحية والخلقية، فتُتاح الفرصة لبَذْر بذور الرجعية وتهيئة الأفكار لقبول تغيير النظام القائم، ثم كان من وسائلهم لتعزيز جهود الكنيسة في نَشْر فكرة التسليم والخضوع المُطْلَق أنهم أَنْشَئُوا رقابة نشيطة على الصحف والمطبوعات حتى تَمْنَع الحكومة نَشْر كل ما تراه ضارًّا بمصالحها ومُعَطِّلًا لأهدافها، فيتقيد بذلك الرأي العام ويخضع لتوجيه الحكومة.
وكذلك أراد المتطرفون أن يستغلوا سياسة البلاد الخارجية بشكل يَجْعل ممكنًا قبول التغييرات التي اعتزموا إجراءها في حياة مواطنيهم الداخلية؛ وذلك لأنه كان من المتعذر إطلاقًا في رأي أكبر كُتَّابهم (شاتوبريان) أنْ تحتل أسرة بربون مكانًا ثابتًا في قلوب الشعب الفرنسي؛ إلا إذا انتصر البربون في معارك عسكرية وأَكْسَبَهُم هذا الانتصار مجدًا وفخرًا، وهكذا كان يتلخص برنامج «المتطرفين» في إقامة الملكية المستقرة والقائمة على دعائم موطدة، وإنشاء الكنيسة الغنية صاحبة الأملاك الواسعة، ولم يكن الغرض من هذا كله إلا استرداد امتيازاتهم السابقة، فقد صَحَّ عزم هؤلاء «المتطرفين» على استرجاع الممتلكات والحقوق التي كانت لطبقة النبلاء القديمة عند نشوب الثورة الفرنسية، أَضِفْ إلى هذا أنهم أرادوا الآن الاستئثار بقسط وافر من السلطة السياسية التي ظلوا حتى هذا الوقت محرومين منها، وما كانوا يرضون بديلًا عن هذين الأمرين ثمنًا لولائهم للملكية وللكنيسة.
وأما المعتدلون — من جماعات الوسط واليسار و«المذهبيين» — فقد دافَعُوا عن الثورة، وأرادوا استمرارها، ولكن من غير الروح الثورية — كما قالوا — ثم إنهم بنوا الآمال على أن من الممكن أن يتم تحالُفٌ بين النظام والحرية، وبين الشرعية والثورة، أي إنهم تَمَسَّكوا بكل قوة بتراث الثورة، وما كانوا يرضون بعودة النظام القديم بحال من الأحوال؛ ولذلك فقد تَعَذَّرَ أي اتفاق بينهم وبين «المتطرفين»، أَضِفْ إلى هذا أن المعتدلين كانوا يَنْفُرون من الآراء المتطرفة، ويَقْبَلون الملكية التي فُرِضَتْ عليهم وعلى الفرنسيين قاطبة، بسبب الانتصارات العسكرية التي أَحْرَزَتْها جيوش الأعداء، ويَرَوْن التمسك بالولاء للملك ما دام الملك يَحْتَرِم من جانبه الشروط التي تَبَوَّأَ بمقتضاها عرش فرنسا.
ولما كان الحلفاء المنتصرون قد أَصَرُّوا على أن تكون الملكية الراجعة دستورية كضمان لا معدى عنه لبقاء واستمرار حكومة البربون في فرنسا، فقد تَمَسَّك المعتدلون بالدستور الذي أصدره لويس الثامن عشر؛ لأن هذا الدستور قضى نهائيًّا على تقاليد «النظام القديم» وأَحَلَّ مكانها تقاليد الثورة والإمبراطورية «النابليونية»، حيث قد أَخَذَ عن الثورة مبادئ التسامح والمساواة أمام القانون وعدم التمييز بين الطبقات في خدمة الدولة، أي فتح أبواب الوظائف أمام الجميع، بينما أَخَذَ من الإمبراطورية أداة الحكومة المركزية.
وكان واضحًا أن التوفيق متعذر بين حزبَي المتطرفين والمعتدلين، وأن لا مَفَرَّ من سقوط أحد هذين الحزبين وخروجه من الميدان السياسي في آخر الأمر؛ لأن فرنسا لم تكن تستطيع احتمال الصراع إلى ما لا نهاية من أجل الاستئثار بالسلطة والنفوذ بين هذين الفريقين، وأما نتيجة هذا الصراع فكانت اندحار المتطرفين، ومع ذلك فإن التأثير المباشر على مجرى الحوادث وتسيير دفة الأمور وسط هذه التيارات المتناقضة كان يتوقف على شخص الملك نفسه، وكان من حُسْن حظ البربون آنئذ أن لويس الثامن عشر لم يكن يجهل «نفسية» الأمة، أو حقيقة مركزه المزعزع حينما قال كاسلريه: «يبدو أن هناك رأيًا واحدًا فقط، هو أنه إذا انسحب جنود الحلفاء «من فرنسا» لن يبقى جلالة الملك أسبوعًا واحدًا على عرشه.»
ولم يكن لويس الثامن عشر بالرجل الذي يستمرئ حياة «التجول» السابقة، بل يبغي الاحتفاظ بعرشه؛ ولذلك عمد الملك إلى حَلِّ ذلك المجلس «المنقطع النظير» الذي ضم متطرفي الملكيين، وعَهِدَ بالوزارة إلى ريشيليو — وهو من المعتدلين — في الظروف التي ذكرناها (في سبتمبر ١٨١٦).
ونجحت وزارة ريشيليو في سياستها الخارجية عندما كسب ريشيليو ثقة الحلفاء، وتقرَّر في مؤتمر إكس لاشابل (١٨١٨) — على نحو ما عرفنا — انسحاب جيوش الاحتلال من فرنسا، وكان هذا نصرًا دبلوماسيًّا للوزير، ولكن الانتخابات الجديدة السنوية لم تلبث أن أَسْفَرَتْ عن دخول عناصر جديدة عززت جماعة «الأحرار» في المجلس، فأَجْبَرَ هؤلاء ريشيليو على الاستقالة في ديسمبر ١٨١٨، وعندئذ تولى الوزارة دوق ديكاز، وهو كَسَلَفِهِ من المعتدلين، وكان ديكاز مُقَرَّبًا من الملك وصاحبَ مهارة برلمانية، واتسمت إدارته بطابع الحكمة.
وقد اعتمد ديكاز على مؤازرة الأحرار في المجلس كما وَعَدَ «المذهبيون» بتأييده؛ فألغى في أول مايو ١٨١٩ الرقابة على الصحف، وتقرَّرَتْ حرياتها، ولكن مقتل دوق دي بري في ١٣ فبراير ١٨٢٠ سرعان ما أثار ضد ديكاز العناصر المتطرفة؛ فحَمَّلَه المتطرفون — بسبب أساليبه المعتدلة — مسئوليةَ هذا الحادث، ولم تلبث أن سَقَطَتْ وزارته، وكان سقوط ديكاز مؤذنًا ببداية ذلك التغيير الذي أفضى إلى سيطرة الرجعيين والمتطرفين على شئون الحكم في فرنسا بشكلٍ أدى في النهاية إلى انفجار ثورة يوليو ١٨٣٠.
وقد ترتب على هذا النظام إذن أن دَخَلَتْ بعْدَ حادث مقتل دوق دي بري أكثريةٌ متطرفة إلى مجلس النواب لم تكن ترضى عن «اعتدال» ريشيليو، فلم تلبث أن اضطرته إلى الاستقالة في ديسمبر ١٨٢١؛ فألف الوزارة الجديدة زعيم المتطرفين الكونت دي فيليل، الذي استمر في الوزارة سبع سنوات من عام ١٨٢١ إلى ١٨٢٧، واستطاع أن يُنَفِّذَ برنامج المتطرفين الذي سَبَقَ وَصْفُه.
(٤) وزارة فيليل
كانت سياسة فيليل رجعية بحتة، ولكنه اتبع في تنفيذها أساليب دلت على المهارة والحنكة، وكانت تختلف عن تلك التي سَبَّبَتْ إخفاق المتطرفين في سنة ١٨١٦؛ ذلك أنه لم يشأ إزعاج البلاد بإظهار تطرفه، بل عمد إلى اتباع سبيل التؤدة والاعتدال الظاهر في تنفيذ سياسته، حتى وَصَفَهُ جيزو برجل الاعتدال في حزبه، ومع ذلك ففي رأي كثيرين أن فيليل كان مخطئًا عندما قرر المضي في سياسةٍ رجعية نصيبها الإخفاق لا محالة، وهو الرجل الذي اشتهر بأساليبه الإدارية الحكيمة وبدربته السياسية، وسواء أخطأ فيليل أو لم يخطئ في تفهم «نفسية» أُمَّتِهِ وإدراك ميول الشعب وعواطفه الحقيقية، فالثابت على كل الأحوال أنه كان مصمِّمًا على المضي في تجربته الرجعية مهما كانت النتائج.
ولقد اعتمد فيليل في ذلك على قوة الكنيسة، وقوة المصالح المادية، يستخدم التربية الدينية كأداة للدعاية (البروبجندا) السياسية ولاستئصال ذكريات الثورة وبذْر بذور المبادئ التي يستند إليها نظامه السياسي، ويستخدم «قوة المصالح المادية» في استمالة الرأي العام وتحويل الشعب من الشئون السياسية إلى الاهتمام بالسعادة المادية، وقد شرع فيليل ينفذ هذا البرنامج خطوة فخطوة وبكل حَذَرٍ واعتدال وحكمة، وكاد يكون النجاح نصيبه ولا شك لولا طغيان المتطرفين، والانقسام الذي حدث في صفوف حزبه، مما أَفْسَدَ عليه سياسته في النهاية.
ولما كانت سياسة التحالف بين «المذبح والعرش» التي جرى عليها فيليل قد أَيْقَظَتْ مخاوف الأمة، وتركزت المعارَضة الحرة ضده في مجلس الأعيان، فقد عمد فيليل من أجل التغلب على هذه الصعوبات إلى «خلق» ستة وسبعين نبيلًا جديدًا في سنة ١٨٢٧، ثم إنه بادر بحل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة.
ولكن نتيجة الانتخابات جاءت على خلاف ما كان يرجوه، فاستطاع الأحرار أن يؤلفوا أكثرية معارضة في المجلس الجديد، وعندئذ اضْطُرَّ فيليل إلى الاستقالة بعد حكومة دامت سبع سنوات كانت سياستها في أثنائها ناجحة إجمالًا: تَقَدُّم مادي في الداخل، ونجاح في السياسة الخارجية في الحملة الإسبانية، وفي انتصار نفارين.
(٥) وزارة «بولينياك Polignac» والتمهيد للثورة
وكان معنى سقوط مارتينياك إخفاق آخر محاولة في عهد الملكية الراجعة — ملكية البربون الشرعية — من أجل التوفيق بين الملكية وبين الحرية الدستورية، وعندما كَلَّفَ الملكُ البرنسَ جول دي بولينياك بتأليف الوزارة الجديدة، قابَلَ الرأي العام الفرنسي هذا النبأ بغضب شديد؛ لأن بولينياك كان أحد زعماء المهاجرين في عهد الثورة، واشترك في مؤامرة «كادودال» المعروفة لاغتيال نابليون وحُكِمَ عليه بالإعدام، واستُبْدِلَ السجن بالإعدام بناء على وساطة جوزفين، ثم إن بولينياك كان احتج في سنة ١٨١٥ ضد الدستور ورَفَضَ أن يُقْسَمَ يمين الولاء له وبقي سنوات طويلة من أقرب المقربين إلى شخص شارل العاشر، ويؤيد أشد القوانين المتطرفة التي اقترحها شارل وأراد استصدارها.
ولم يلبث بولينياك بمجرد وصوله إلى الحكم أن أعلن عزمه على «إعادة تنظيم المجتمع وإعادة ما كان لرجال الدين من نفوذ وشأن في أعمال الدولة، وإنشاء أرستقراطية قوية وإحاطة هذه الأرستقراطية بالامتيازات»، ولكن بولينياك لم يكن — لضَعْفه وتردُّده — الرجل الذي في استطاعته حقًّا تنفيذ هذا البرنامج الرجعي المتطرف، بل إنه صار يعتمد على كسب الانتصارات الخارجية في استمالة الأمة إلى تأييد سياسته؛ فأَرْسَلَ حملة إلى الجزائر (في يوليو ١٨٣٠) كانت ناجحة، واعتمد على هذا الانتصار فأجرى انتخابات جديدة، ولكن نتيجة هذه الانتخابات جاءت على عكس ما كانت الحكومة تنتظره، ومع ذلك أصر بولينياك على بقاء الوزارة على حالها، وعلى تعديل قانون الانتخاب وتقييد حرية الصحافة، وهي مسائل اعتقد بولينياك أنها ضرورية حتى يمكن «امتزاج» الأحزاب، وحتى يمتنع الاصطدام بينها، الأمر الذي دل ليس فقط على عناده، بل وعلى قِصَر نظره؛ لأن الإصرار على المضي في هذه المسائل ذاتها لم يلبث أن أَوْدَى بملكية البربون.
ولم تلبث الحكومة أن شعرت بحرج مركزها عندما أَتَت الانتخابات بأكثرية مُعَارِضة لها في مجلس النواب، ولم يشأ مجلس الأعيان تأييد الحكومة في إجراءات من شأنها — كما قال هذا المجلس — «أن تضع الوزارة في موقف المعارضة الصريحة والعلنية ضد مجلس النواب»، وعندئذ لم يَجِد شارل العاشر ووزيره مخرجًا من هذا المأزق إلا بحل المجلس ولما يَجْتَمِعْ بعد، وتعطيل الضمانات التي كفلت للشعب حرياته، بدعوى أن هذه الحريات قد أسيء استخدامها.
(٦) ثورة يوليو ١٨٣٠
وبمجرد ذيوع نبأ هذه المراسيم الأربعة نزلت أسعار الأوراق المالية، واحتج عليها كبار العلماء، فأثارت الملكيةُ القديمة ضِدَّهَا — على حد قول لويس بلان — عداء المال والعلم من البداية، فتوقف المصرفيون في باريس عن إجراء عمليات الخصم، وتَعَذَّر على أصحاب الصناعة الحصول على المال أو الاقتراض، وطفقوا يُخْرِجون من مصانعهم العمال في أعداد كثيرة؛ وعلى ذلك فإنه سرعان ما أقيمت المتاريس في شوارع باريس، ووَقَعَ الاصطدام بين العمال والجنود، وسُفِكَت الدماء، وعندئذ تَسَلَّحَ أعضاء «الحرس الأهلي» القديم — وكان هذا الحرس قد انحل منذ عام ١٨١٨ — فاحتلوا مبنى أوتيل دي فيل، كما استولى الثوار على مكاتب الحكومة ودواوينها وامتنع عن الحكومة المال (٢٨ يوليو)، وكان أكثرية الثوار من الجنود القدامى وأعضاء الكاربوناري، وجماعة الجمهوريين والعمال.
نتائج ثورة يوليو
ولثورة يوليو أهمية كبيرة في تاريخ فرنسا، ولو أنه كان يبدو أن هذه الثورة في ظاهرها لم تُحْدِث تغييرات جوهرية؛ فقد بَقِيَت «الملكية» نظامًا للحكم بالرغم من إقصاء البربون عن العرش، بل إن العرش انتقل إلى أسرة أورليان، وهي فرع من أسرة بربون ذاتها، وهذا مع العلم بأن الجمهوريين هم الذين نَظَّموا الثورة وتسلموا زمامها، وهم الذين تَأَلَّفَتْ منهم الحكومة المؤقتة في «أوتيل دي فيل»، وكانوا يعتبرون الثورة عملًا لا يَتَحَدَّوْن به فقط ملكية بربون، بل وكل أوروبا التي كانت أَرْغَمَتْهم على قبول الإهانة الوطنية في عام ١٨١٥، ومع ذلك فقد تَعَذَّرَ على الجمهوريين تحقيق مآربهم؛ لأن الظروف التي أَفْضَتْ إلى زوال حكم البربون وسقوط ملكيتهم، جَعَلَتْ من المتعذر بل ومن المستحيل إقامة الجمهورية في فرنسا؛ لأن أوروبا في عام ١٨٣٠ كانت — ولا شك — تُفَسِّر إنشاء الجمهورية بأنه عمل عدائي تقصد فرنسا أن تتحداها به، ولا يمكن أن ترضى أوروبا به، وهي لا تزال تَذْكُر حوادث ١٧٨٩.
ولذلك فقد كان من المتوقع إذا أنشئت الجمهورية أو يَعْمِد «الحلفاء» القدامى إلى اتخاذ خطوات حاسمة لدفع شرور هذا الخطر بكل سرعة، وأمام هذه الاعتبارات كان كل ما استطاع الجمهوريون أن يفعلوه إذن هو الاحتجاج على إعادة النظام الملكي، وفي هذه الظروف تَمَكَّن الأحرار في المجلس — الذي كان شارل العاشر أَعْلَنَ حَلَّه، ثم اجتمع الآن من تلقاء نفسه — من إنشاء نظام للحكم في البلاد يَتَّفِق مع رغباتهم، وذلك بابتداع حل وسط يضمن استمالة الدول الأوروبية بالإبقاء على نظام الملكية في فرنسا، واستمالة العناصر الديمقراطية التي تتألف منها الطبقة المتوسطة (البورجوازية) بتقديم الضمان الكافي ضد عودة الأرستقراطية إلى الحكم من جهة، وضد انتصار الاشتراكية العمالية من جهة أخرى، أما هذا الحل الوسط فكان عَرْض التاج الفرنسي على «لويس فيليب» الذي اشترك مع الثورة في معاركها «في فالمي وجيماب ونرويندن» وابن فيليب المساواة الذي أعدمته الثورة في سنة ١٧٩٣.
وزيادة على ذلك فإن ثورة يوليو لم تفشل فقط في إزالة الملكية، بل أَخْفَقَتْ كذلك في إدخال تغييرات واسعة على الدستور نفسه، ولم تحقق «سيادة الأمة»، فقد اهتم مجلس النواب قبل دعوة لويس فيليب للحكم بإعداد دستور جديد حتى يُقْسِم الملك يمين الولاء له عند تنصيبه، ولم يكن هذا الدستور الجديد في الحقيقة إلا دستور عام ١٨١٤ مع تعديلات بسيطة تناوَلَت المواد التي سَبَّبَت المتاعب في الماضي؛ فعُدِّلَت المادة الرابعة عشرة بشكل يُجِيز للملك استصدار المراسيم الضرورية لتنفيذ القوانين، ويَمْنَعْه في الوقت نفسه من وقف القوانين أو تعطيلها، وكذلك لم يَعُد اقتراح القوانين من حق الملك وحده، بل صار المجلسان (النواب والأعيان) يتمتعان بهذا الحق أيضًا، ثم جعلت جلسات مجلس الأعيان علنية مثلها في ذلك مثل جلسات مجلس النواب، وبدلًا من النص على الكاثوليكية أصبح الدين الذي تعتنقه أكثرية الفرنسيين هو دين الدولة الرسمي.
وظاهِرٌ من هذا أن ملكية يوليو كانت تعتمد على طبقة أصحاب الأملاك، أي الطبقة المتوسطة الغنية (أرستقراطية المال)، ولقد ظَلَّت البورجوازية تتمتع بالسلطة وتحتكرها طوال عهد هذه الملكية، وهكذا وجد أولئك الذين اشتركوا في ثورة يوليو، والذين أرادوا على وَجْه الخصوص توسيع حقوق الانتخاب، وخصوصًا العمال الذين حُرِمُوا السلطة السياسية أنهم قد خُدِعوا في آمالهم وأغراضهم، وكان اعتماد ملكية يوليو على الطبقة المتوسطة (البورجوازية) وعلى جماعة اليمين من هذه الطبقة، وهم أصحاب سياسة «الجمود» من عوامل ضَعْف هذه الملكية التي سُمِّيَت بملكية يوليو؛ نسبة إلى الثورة التي كانت سببًا في وجودها، ثم إن ذلك كان أيضًا السبب في إشعال الثورة التي أودت بهذه الملكية (ملكية يوليو) ذاتها في النهاية.
ملكية يوليو: عوامل ضعفها
وأما الذين خالفوا هذا الرأي فكانت حجتهم أن التشبث بهذا الكلام معناه أن ملكية يوليو ليست في حقيقة الأمر إلا «جمهورية» في حين أن «الجمهورية» كنظام للحكم قد رُفِضَتْ تمامًا، ولو أن أحدًا لا يُنْكِر في الوقت نفسه — كما قالوا — أن مركز ملكية يوليو مركز «خاص»؛ لأن أساس النظام الجديد كان عبارة عن عَقْد أو ميثاق الملك والأمة، وكلاهما يتمتع بقسط من «السيادة»؛ ولذلك فكلا الطرفين ضروري للآخر، ويكملان بعضهما بعضًا، ولم تَعْتَرِف فرنسا اعترافًا مطلقًا بنظرية سيادة الشعب أو سيادة الملك الكاملة، بل إن امتزاج السيادتين الكامل والذي لا مَفَرَّ منه هو أساس الدولة، وقد أفصح لويس فيليب نفسه عن نظرية الملكية هذه، عندما قال: «إنه يملك بفضل من الله وبناء على إرادة الأمة»، وهكذا كان الأساس القانوني الذي استندت إليه ملكية يوليو أساسًا غير ثابت، ومن أول الأمر موضع مناقشة كبيرة.
وثمة عامل آخر من عوامل الضعف؛ هو أن ملكية يوليو لم تكن لها سيطرة موطَّدة في داخل البلاد وهيمنة تامة على شئونها، ومَرَدُّ ذلك إلى أن الذي فَصَلَ في سنة ١٨٣٠ في مصير فرنسا كان مجلس النواب، وهو مجلس سَبَقَ أن حله شارل العاشر، ولكنه اجتمع من تلقاء نفسه لتقرير مسألة إعطاء التاج إلى لويس فيليب، فلم يكن اجتماعه إذن قانونيًّا، أَضِفْ إلى هذا أن الذين اشتركوا في بحث هذه المسألة كانوا (٢٥٢) عضوًا فقط من (٤٣٠)، وأن الذين أَعْطَوا أصواتهم في صالح لويس فيليب كانوا (٢١٩)، أي إنه كان مشكوكًا في مركز هذه الملكية من الناحية القانونية من البداية، وقد نَجَمَ من ذلك أن ملكية يوليو فَرَّغَتْ كل جهودها للعمل على توطيد مركزها، ووجَّهَتْ معظم نشاطها لبسط سيطرتها على الشعب الفرنسي ودعم وجودها.
وأما محك هذه السيطرة أو ضمان هذا الوجود فكان متوقفًا على مقدار احترام الشعب لملكية نشأت في ظروف ثورية وتَشَكَّلَتْ لسبب جوهري هو الرغبة في عدم استعداء الدول الأوروبية ضد فرنسا إذا أَعْلَنَ الجمهوريةَ أولئك الجمهوريون الذين قادوا ثورة يوليو وأشرفوا على تنظيمها؛ ولذلك لم تكن ملكية يوليو ذات أصول بعيدة أو تعتمد على تقاليد عتيقة تَفْرِض احترامها على الشعب، بل كانت تَسْتَمِد بقاءها من رغبات الطبقة المتوسطة (البورجوازية) الغنية، وتعتمد في حياتها على تعضيد هذه الطبقة لها، وكان إنشاؤها نتيجة لاعتبارات عملية بحتة، في حين أنها محرومة من السمعة المجيدة التي تضفي عليها عظمة الملك وأُبَّهته.
وقد أظهر مترنخ حقيقةَ هذا الوضع في قوله: «إن لويس فيليب وَجَدَ نفسه عند اعتلاء العرش في مركز لا يمكن الاحتفاظ به؛ لأن الأساس الذي قام عليه سلطانه لم يكن سوى نظريات جوفاء وحسب، بينما يفتقر عرشه إلى تأييد ذلك الاستفتاء الذي استندت عليه جميع الحكومات التي تشكلت بين عامي ١٧٩٢–١٨٠١، كما أن عرشه يفتقر كذلك إلى التأييد المستمد من الحق التاريخي، وهو حق استندت عليه ملكية بربون الراجعة، ثم إن عرشه يفتقر أيضًا لقوة الشعب التي تستند عليها الجمهورية، والانتصارات العسكرية التي تستند عليها الإمبراطورية، ثم للعبقرية والسلطان اللذين تمتع بهما نابليون، والمبدأ الذي أَيَّدَ «حقوق» البربون؛ وعلى ذلك فإن استمرار هذه الملكية وبقاءها سوف يعتمد على سير الحوادث وتقلبات الظروف.»
حقيقةً بقيت واستمرت ملكيةُ يوليو أكثر مما قُدِّرَ لإمبراطورية نابليون، أو لملكية البربون الراجعة أن تبقيا، ولكن ذلك كان بقاءً محفوفًا بالمخاطر وتحدق به الصعوبات من كل جانب، بل وكان لهذا السبب نفسه من العوامل التي مَهَّدَتْ لسقوط هذه الملكية، ومن أشد هذه المخاطر وأقسى الصعوبات التي صادفتها ملكية يوليو، كان وجود الأعداء «الخارجيين» الذين أنكروا عليها حق البقاء نفسه، ثم وجود الانقسام في صفوف أنصار هذا النظام الجديد الذين اختلفت آراؤهم بشأن السياسة التي وجب على ملكية يوليو اتباعها في الداخل والخارج معًا.
أما الأعداء «الخارجيون» فهم «الشرعيون» الذين يطالبون بالعرش لدوق دي بردو «هنري الخامس»، ابن دوق بري وحفيد شارل العاشر، والذين اعتبروا لويس فيليب مُغْتَصِبًا سَرَقَ التاج من صاحبه الشرعي، دوق بردو، وتَوَلَّى زَعَامَةَ هذه الجماعة أرملة دوق بري، كارولين ابنة فرنسوا الأول ملك نابولي، والتي أدارت المعارضة القوية من منفاها في إنجلترة، واعتمدت في نشاطها على أن الدول سوف تُقْبِل على تأييدها دفاعًا عن مبدأ الشرعية الذي تستند عليه حكوماتها، كما أنها اعتمدت على قوة الحزب البربوني في فرنسا ذاتها، وقد اعتدقت دوقة دي بري أن لهذا الحزب قوة يُعْتَدُّ بها في البلاد، ثم إنها كانت متيقنة من مؤازرة رجال الدين والنبلاء، ومن تأييد إقليم فندية الذي اشتهر أهله بولائهم للبربون دائمًا، ولقد عَظُمَ أملها في النجاح لدرجة أنها أَعَدَّت — مُقَدَّمًا — دستورًا لإعلانه بمجرد عودة ابنها «هنري الخامس» إلى عرش آبائه، وكانت لا تفتأ تتأهب للعودة إلى فرنسا.
وإلى جانب هؤلاء الشرعيين، كان هناك «الجمهوريون» وبعض هؤلاء من الطبقة البورجوازية، والبعض الآخر من العمال، ويطالبون جميعهم بحق الانتخاب العام، وهؤلاء الجمهوريون الذين استطاع لفاييت أيام الحكومة المؤقتة أن يجذبهم لإقامة ملكية يوليو بعد أن أَكَّدَ لهم أنها سوف تكون «أفضل أنواع الجمهوريات» المعروفة، ثم تبين للجمهوريين بعد ذلك أنهم خُدِعُوا، فكان نشاطهم إلى جانب نشاط الشرعيين مصدر خطر كبير على ملكية يوليو.
أما حزب الجمود من جماعة المحافظين فكان زعمائه كازمير برييه، وجيزو، ودوق دي بروجلي، وهذه الجماعة اعتقدت أن ثورة يوليو ١٨٣٠ قد انتهت، وذلك بمجرد أن قَبِلَ لويس فيليب الدستور المعدل (٩ أغسطس سنة ١٨٣٠) واعتلى العرش، وكان في رأيهم أن ثورة يوليو أَحَلَّتْ ملكًا يريد المحافَظة على النظام البرلماني كما تأسس في سنة ١٨١٤ مَحَلَّ ملك آخر كان يريد القضاء على هذا النظام، أي إن ثورة يوليو كانت ثورة شعبية قامت لتَمْنَع حدوث ثورة ملكية، ثم إن هدف هذه الثورة إنما هو المحافظة على الأنظمة الموجودة، وليس المقصود منها توسيع هذه الأنظمة في اتجاه ديمقراطي، وفي رأيهم أخيرًا أن الواجب على فرنسا أن تعمل لتستعيد حياتها الطبيعية من غير إبطاء، وأن تقضي على الهياج الثوري حتى تهدأ النفوسُ ولا يَسُود القلقُ دوائرَ الأعمال.
ومع ذلك فقد كان مصير الملكية متوقفًا لدرجة بعيدة على الطريق الذي سوف يسلكه في إدارة شئون الحكم، ولقد فَضَّلَ لويس فيليب الاعتماد على حزب المحافظين أو الجموديين، ولو أنه لم يستطع في بادئ الأمر أن يَقْطَع كل صلته بحزب الحركة والتقدم؛ ولذلك فقد ظَلَّ الملك منذ أن استقام له الأمر يُشَكِّل وزارات «تجريبية» من الحزبين، ولكن هذه الوزارات الائتلافية بسبب طبيعة تكوينها نفسه عجزت عن السير على سياسة واضحة متماسكة، مما تَرَتَّبَ عليه استمرار هياج الخواطر في باريس، ومطالَبة الجماهير بإعدام وزراء شارل العاشر الذين كانوا نصحوه باتخاذ الإجراءات الأوتقراطية التي سبَّبَت الثورة، وهاجم الدهماء في شوارع باريس أنصار «الشرعيين»؛ فنَجَمَ عن هذا كله أن رَكَدَت الأعمال، وتَعَطَّلَ الصناع الذين غادَرَ منهم حوالي مائة وخمسين ألفًا باريس للبحث عن عمل في جهات أخرى، وتزعزعَت الثقة في الحكومة، فنزلت أسعار الأوراق المالية بسرعة، وشعرت الطبقة البورجوازية بعدم الاطمئنان على مصالحها فانحازت إلى جماعة المحافظين الجموديين، وبذلك تَمَهَّدَ الطريق أمام هذا الحزب ليصل إلى السلطة.
وفي ١٣ مارس ١٨٣١ عَهِدَ الملك إلى «كازمير برييه» بتأليف الوزارة من حزب الجموديين المحافظين، وهو الحزب الذي ظَلَّ يتمتع بالسلطة مغ تغييرات طفيفة، حتى نهاية عهد هذه الملكية.
وزارة كازمير برييه Périer
وكان كازمير برييه رجل حزب الجموديين أو المحافظين الأول، صاحب ثروة طائلة، قاد المقاوَمة ضد «اليمين» وضد «اليسار» على السواء، وضَمِن وصوله إلى الوزارة والحكم مصالح الطبقة المتوسطة (البورجوازية) الغنية أَفْصَحَ عن برنامجه في الحكم غداة تأليفه الوزارة — وهو برنامج عمل به حزب المحافظين في المدة التالية — فأَعْلَنَ أنه يعتزم المضي في تنفيذ المبادئ التي جاءت بها ثورة يوليو من غير ضعف، ودون حاجة للتطرف، وهي مبادئ — كما قال — تتعارض تمامًا مع الثورة والعصيان، ومن شأنها في الوقت نفسه مقاوَمة اعتداءات السلطة التنفيذية، فهو يَعْتَبِر انتصار الثورة في يوليو نصرًا للقانون؛ لأن هذه الثورة أقامت حكومة ولم تنشئ عهدًا من الفوضى، كما أنها لم تقوض أركان المجتمع، ولكن الذي تأثر بها كان النظام السياسي وحده فقط، أي إن ثورة يوليو قد هَدَفَتْ — على حد قوله — إلى إنشاء حكومة يجب أن تكون حرة ونظامية في الوقت نفسه؛ ولذلك لا ينبغي أن يصطبغ بالعنف نشاطُ هذه الحكومة في الداخل أو الخارج على السواء؛ لأن كل دعوة لاستخدام القوة في الداخل، وكل تشجيع للثورات الشعبية في الخارج لا يعدو أن يكون خرقًا لمبادئ ثورة يوليو.
ووَصَفَ «برييه» القواعد التي تسير عليها سياسة الحكومة الداخلية بأنها استتباب النظام وتنفيذ القوانين واحترام السلطات وعودة الأمن العام إلى نصابه واستقرار الهدوء والسكينة، وقال عن سياستها الخارجية: إن الواجب يقتضي أن تقوم هذه على القواعد نفسها التي ذَكَرَهَا، ثم إنه وَضَعَ مبدأ عدم التدخل بمعناه المزدوج، أي عَدَم تدخل الحكومة الفرنسية في جانب الشعوب الثائرة على حكوماتها، ثم عَدَم تدخل الدول الأوروبية فيما يجري من أحداث وراء حدود كل منها، وذلك مبدأ يتعارض — كما هو واضح — مع المبدأ الذي استند «الحلف المقدس» عليه في نشاطه، وجدير بالذكر أن كازمير برييه نفسه لم يلبث أن تدخل في شئون إيطاليا وبلجيكا باسم مبدأ عدم التدخل هذا.
ولقد بقي هذا التفاهم الودي بين إنجلترة وفرنسا دعامة قوية تعتمد عليها ملكية يوليو، ليس في علاقاتها الخارجية وحسب، بل وفي مركزها الداخلي كذلك، إلى الوقت الذي قُضِيَ فيه على هذا التفاهم بسبب اصطدام مصالح الدولتين في عام ١٨٤٦ في مسألة الزواج الإسباني، على نحو ما سيأتي ذِكْره.
ومع أن الملك أَلَّفَ جملة وزارت بعد ذلك من حزب المحافظين الجموديين، فقد بقيت المبادئ التي وَضَعَهَا كازمير برييه هي المبادئ التي استرشَدَتْ بها هذه الوزارات، وتتلخص فيما يتعلق بالشئون الداخلية في ضرورة المحافظة على دستور ١٨٣١، وعدم إدخال أية تغييرات عليه أو إجراء إصلاحات ديمقراطية دستورية، ومعنى ذلك عدم تحقيق رغبات الشعب الفرنسي الذي أراد التمتع بقسط أوفر من الحياة الديمقراطية النيابية، وفي الشئون الخارجية قامت على عدم التدخل، أي عدم إجابة رغبات الشعب الفرنسي كذلك، وهو الذي أراد التدخل في صف الشعوب التي كانت تُطَالِب بالحياة الدستورية أو تريد تحقيق الفكرة القومية.
إلا أن التمسك بهذا البرنامج بشقيه الداخلي والخارجي كان معناه في نظر الشعب الفرنسي أن ملكية يوليو قد أَخْفَقَتْ في تبرير وجودها، وبمجرد أن اعتقد الفرنسيون بانعدام المبرر لوجود هذه الملكية، صار زوال ملكية يوليو مسألة وقت فقط، ومرتهنًا بتطور الحوادث، ولم يعد هناك مفر من سقوط هذه الملكية في النهاية.
(٧) فترة الاضطراب وعدم الاستقرار الحكومي
وفي عهد الوزارات التالية كان أول ما عنيت به الملكية، العمل من أجل الاحتفاظ ببقائها أمام معارضة الشرعيين والجمهوريين الذين تآمروا لقلب ملكية يوليو، وكانت الحكومة استطاعت في عهد وزارة كازمير برييه إخماد حركات الشرعيين والجمهوريين بعد حوادث دامية، عندما قررت دوقة دي بري العودة إلى فرنسا، بالرغم من نصيحة أنصارها الذين حَذَّرُوها من عدم استكمال الاستعدادات اللازمة للثورة، فنزلت في الأرض الفرنسية في فبراير ١٨٣٢، وأرادت تحريك الثورة في إقليم فنديه في مايو، ولكنها أَخْفَقَتْ وقَضَت الحكومة على الثورة، ثم أَلْقَت القبض على دوقة دي بري، ولم تُطْلِق سراحها إلا بعد ضياع هيبتها وزوال أهميتها السياسية.
ولم يلبث الجمهوريون بعد وفاة كازمير برييه أن حَرَّكوا الثورة في باريس في يونيو عام ١٨٣٢، ولكن أحدًا من الزعماء لم يشترك في هذه الحركة، وامتنع العمال عن المساهمة فيها، فقَضَت الحكومة على الثورة بعد قتال استمر طيلة يومين في شوارع باريس، ولقد كان لهذه الثورة بالرغم من فشلها أهمية كبيرة باعتبار أنها أول عصيان جمهوري سافِر حَدَثَ منذ سنة ١٨١٥؛ ولأنها كانت أشد حركات المعارضة التي صادَفَتْها الملكية حتى هذا الوقت.
وكان من أثر هذه المحاكمات والأساليب الصارمة التي اتبعتها الحكومة مع معارضيها أن أمكن إسكات الجمهوريين مدة طويلة، ولو أنه كان من أسباب ضعف الجمهوريين كذلك الانقسام الذي حصل في صفوفهم.
ولقد كان من مظاهر الاضطراب وعدم الاستقرار الحكومي، ما وَقَعَ من حوادث الاعتداء على حياة الملك نفسه؛ فقد بَلَغَتْ هذه ستًّا بين عامي ١٨٣٥–١٨٤٦، كما اكْتُشِفَتْ مؤامرات كثيرة لاغتيال الملك اشترك فيها الجمهوريون.
وكان أفظع هذه المحاولات التي دُبِّرَت للاعتداء على حياة الملك، ما حدث في ٢٨ يوليو ١٨٣٥ عندما أَشْعَلَ أحد الكورسيكيين براميل محشوة بالبارود في أحد شوارع باريس وذَهَبَ ضحية هذا الحادث عدد كبير من الباريسيين بينما نجا الملك وأبناؤه بأعجوبة.
على أن هذه المحاولات الإجرامية لم تلبث أن أَضْعَفَتْ من شأن الجمهوريين وقيمتهم، كما أن الذعر الذي سَبَّبَتْه هذه المحاولة الجهنمية جَعَلَ الحكومة تُقَرِّر الانتقام من جميع خصومها بكل شدة، ومن غير تفرقة، فاستصدرت في سبتمبر ١٨٣٥ عدة قوانين لمحاكمة الذين يهددون أمن الدولة أمام محاكم خاصة، ولصدور الأحكام على المتهمين في غيابهم، وكان أهم القوانين التي استصدرت «قانون الصحافة» لحماية الملك والدستور والمبادئ الأساسية التي يقوم عليها المجتمع، وذلك بفرض غرامة مالية كبيرة (من خمسين ألف فرنك) على كل من يدعو إلى العصيان — ولو كانت دعوته فاشلة — أو يقذف في حق الملك، أو ينشر الصور الكاريكاتورية أو يجمع التبرعات لدفع الغرامات الموقعة على الصحف … وغير ذلك.
ثم فُرِضَتْ غرامة مالية فادحة على كل فرنسي يحاوِل الدفاع عن أنواع حكومات غير نوع الحكومة القائمة، أو يعلن تأييده لأسرة مالكة سابقة، أو يناقش حق الملكية القائمة في العرش، ثم أعيدت الرقابة على الرسوم والصور الكاريكاتورية والمسرحيات، ورُفِعَت إلى مائة ألف فرنك قيمة الرسوم التي تدفعها الصحف في نظير التصريح اللازم لصدورها.
هذه القوانين — قوانين سبتمبر ١٨٣٥ — سرعان ما أغضبت الأحرار والمعتدلين الذين اعتبروا هذه الإجراءات التعسفية، أمرًا لا مسوغ له، بعد مرور خمس سنوات كانت الصحافة متمتعة في أثنائها بحرية ظاهرة، ومع أنه كان من الواضح أن حماية الملك والدستور شيء مرغوب فيه، فإن تَعَدُّد هذه القوانين الصارمة سوف يؤدي — كما قالوا — إلى زيادة عدد الجرائم بدلًا من زوالها.
ومع أن المقصود من هذه القوانين كان الانتقام من «الشرعيين» و«الجمهوريين» على وَجْه الخصوص وإلحاق الأذنى بهم، فقد كان «الشرعيون» أصحاب ثراء وغنًى، واستطاعت صحفهم أن تدفع الغرامات الفادحة التي وُقِّعَت عليها، أما صحف الجمهوريين فقد عَجَزَتْ عن تدبير المال اللازم؛ ولذلك اختفى أكثرها.
وهكذا قاست الصحافةُ في عهد ملكية يوليو عنتًا وإرهاقًا يُشْبِهان ما قَاسَتْه في عهد الملكية الراجعة، وشعر الفرنسيون أن الحرية الشخصية لم يعد لها وجود في عهد هذه الملكية، فكان استصدار هذه القوانين إذَن من عوامل إضعاف ملكية يوليو، ولا يقلل من أهمية هذا الأثر أن الحكومة بفضل هذه القوانين استطاعت أن تشعر بالاطمئنان من ناحية خصومها من جماعتي الشرعيين والجمهوريين، وأنه لم يَعُدْ من المعارضين أمامها سوى جماعة البونابرتيين.
وكان لويس نابليون يطالب بعرش فرنسا منذ وفاة دوق دي رشتاد ابن نابليون، فقد حَاوَلَ لويس نابليون تحريك الثورة في ستراسبورج في عام ١٨٣٦، وعندما أخفق قَبَضَتْ عليه الحكومة، ولكن بدلًا من محاكمته، أَذِنَتْ له بالإبحار إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومع أن لويس نابليون عاد في السنة التالية إلى سويسرة ثم انتقل منها إلى إنجلترة، وظل يعمل دائمًا لإحياء ذكرى عمه الإمبراطور نابليون، فقد طَلَبَ لويس فيليب موافقة الحكومة الإنجليزية على نقل رفات نابليون من سنت هيلانة إلى باريس، حتى يرقد الإمبراطور كما كَتَبَ في وصيته على ضفاف السين، وسط الشعب الفرنسي الذي أحبه نابليون حبًّا عظيمًا.
وفي ديسمبر ١٨٤٠ احتفلت الحكومة بنقل رفات الإمبراطور إلى مرقده الأخير تحت قبة الأنفاليد، فأذكى هذا العمل «الأسطورة النابليونية»، وكان قد انتهز لويس نابليون الفرصة فجَدَّدَ محاوَلَتَه ونزل في ستين من أنصاره بالقرب من «بولوني» على الشاطئ الفرنسي في ٦ أغسطس ١٨٤٠، ولكنه فشل، فقُدِّمَ إلى المحاكمة في هذه المرة أمام مجلس الأعيان وحُكِمَ عليه بالسجن في قلعة «هام» مدة حياته، وبقي بها ست سنوات إلى أن تَمَكَّنَ من الفرار سنة ١٨٤٦، ولكن خَطَرَ البونابرتيين كان قد زال «مؤقتًا» قبل ذلك بمدة طويلة.
وكل هذه — ولا شك — كانت عوامِلَ ضَعْف تنال من كيان ملكية يوليو، ومع ذلك فقد كان عَجْز الملك عن تأليف حكومة برلمانية ثابتة — وبالتالي عدم الاستقرار الحكومي — من أكبر أسباب ضَعْف هذه الملكية وزوالها في النهاية.
فقد بَلَغَ عدد الوزارات التي تَشَكَّلَتْ خلال عشر سنوات (١٨٣٠–١٨٤٠) عشر وزارات، كان رؤساؤها من المحافظين الجموديين الذين انحصرت مهمتهم في دعم مركز الملكية وتأييد سلطانها والقضاء على أعدائها في الداخل، ثم المحافظة على السلام مع الدول في الخارج، وبمجرد أن انتصر المحافظون والجموديون على أعدائهم من شرعيين وجمهوريين وبونابرتيين، انقسموا فيما بينهم إلى جماعتين كبيرتين: حزب الوسط اليساري بزعامة «تيير»، وحزب الوسط اليميني بزعامة «جيزو»، فكان من مبدأ «تيير» وجماعته أن الملك «يتولى ولا يحكم»، أي إن الملك يجب أن يختار وزراءه دائمًا من بين حزب الأكثرية في المجلس، ولا يتدخل في شئون الحكم، وأما «جيزو» وجماعته فكان مبدأهم «أن العرش ليس مقعدًا خاليًا»، أي إن الملك — مع احترامه لرأي الأكثرية في المجلس — ليس مُلْزَمًا باتباع رأي هذه الأكثرية، وليس مكلَّفًا باختيار وزرائه من بين حزب الأكثرية، ومن الواجب أن يكون لسياسة الملك آثار ظاهرة في توجيه الدولة وإدارة شئونها.
وكان لويس فيليب لا يرضى بأن تكون له رياسة الدولة فحسب، كما أراد «تيير»، بل عَمِلَ على أن يكون حاكمًا حقيقيًّا، أي إنه أراد أن «يتولى ويحكم»، وأَصَرَّ على أن يكون له رأي مسموع في السياسة الخارجية خصوصًا، وأن يتدخل بواسطة وزرائه في شئون الإدارة والحكم.
وانتهز الملك فرصة القضاء على مقاومة أعدائه من شرعيين وجمهوريين وبونابرتيين، ثم الانقسام الذي حصل في صفوف الجموديين، وأخذ يُشَكِّل الوزارات التي تدين بالطاعة له، ولكن هذا العمل سرعان ما أثار المعارَضة القوية ضد «سياسة البلاط «أو القصر» وضد وزارات البلاط»، وكثرت الإشارة إلى ما حَدَثَ سابقًا للملك شارل العاشر، وعندئذ اضْطُرَّ الملك إلى استدعاء «تيير» لتشكيل الوزارة مرة أخرى، وكان تيير قد شَكَّلَها مرة قبل ذلك، ووزارة تيير هذه الأخيرة هي التي حصلت على أيامها أزمةُ المسألة الشرقية — بسبب النزاع بين محمود الثاني ومحمد علي — واضْطُرَّ تيير إلى الاستقالة عندما رَفَضَ الملك الانسياق إلى الحرب بسبب هذه الأزمة (ديسمبر ١٨٤٠)، وطَلَبَ الملك من جيزو تأليف الوزارة، فشَكَّلَها المارشال سولت الذي ظل يشغل منصب رئيس الوزارة حتى نوفمبر ١٨٤٧، في حين احتفظ جيزو بوزارة الخارجية، ولو أنه كان المسيطر الحقيقي على الوزارة حتى سنة ١٨٤٨، وبتشكيل هذه الوزارة تسنى لفرنسا في عهد ملكية يوليو أن تَتَمَتَّع للمرة الأولى بالاستقرار الحكومي.
(٨) حكومة جيزو: سياسة الجمود وآثارها
وفي هذه السنوات التي سيطر فيها جيزو، زعيم الجموديين (من الوسط اليميني)، تَجَمَّعَت الأسباب المباشرة التي أدت إلى إشعال الثورة في فبراير (١٨٤٨) وزوال ملكية يوليو.
فقد رَفَضَ جيزو أن يعترف بحقيقة واضحة؛ هي أن فرنسا تريد تغيير أنظمتها السياسية، بل وكانت في حاجة مُلِحَّة لهذا التغيير، فبقي متمسكًا بالدستور الصادر في سنة ١٨١٤ والمعدل في سنة ١٨٣٠، وكان برنامجه الاحتفاظ بالنظام في الداخل والسلم في الخارج كخير وسيلة لزيادة ثراء فرنسا ورفعة شأنها، أي «المحافظة — كما قال — على السلام في كل مكان وفي كل وقت.»
واقتضى التمسك بالدستور أن يحتفظ جيزو بالشكل البرلماني للحكومة، أي ضرورة الاستناد إلى أكثرية في مجلس النواب تؤيد الحكومة دائمًا وتوافق على تصرفاتها، واستطاع جيزو أن يحصل دائمًا على هذه الأكثرية؛ ولذلك فقد شَهِدَتْ فرنسا في هذه الفترة (١٨٤٠–١٨٤٨) نوعًا من الحكم يقوم على الجمود الشديد، أي المحافظة على النظم الموجودة وعدم التغيير، ويعتمد على تأييد مجلس النواب، بينما كان معروفًا في طول البلاد وعَرْضها أن هذا المجلس لا يمثل الرأي العام في شيء، ولا يُعَبِّر عن عقائد البلاد في مجموعها، وتساءل الفرنسيون عن السبب الذي جعل جيزو يظفر — مع ذلك — بهذه الأكثرية المؤيدة له في مجلس النواب دائمًا.
وسَاعَدَ على هذا الفساد أن القانون لم يَحْرِم النواب من أن يجمعوا بين النيابة والوظائف الحكومية؛ فكان هناك حوالي المائتي نائب يشغلون وظائف حكومية، وفي سلطة الحكومة ترقيتهم ومكافأتهم، ولا شك في أن نظامًا من هذا الطراز كان عرضة للامتهان والسخرية، ويُؤْثِر أصحابه مصالحهم الذاتية على مصالح الوطن، ولم يكن هناك مفر من قيام معارضة شديدة ضده في آخر الأمر.
وفي الوقت الذي تمسكت فيه ملكية يوليو بسياسة المقاومة السلبية؛ أي مقاوَمة الفوضى في الشوارع، مقاوَمة الشرعيين والجمهوريين، ومقاوَمة مَطَالِب الأمة لإجراء الإصلاح النيابي في الداخل واتباع سياسة إيجابية في الخارج تحترم مبادئ الحرية، وفي الوقت الذي أَغْفَلَتْ فيه معالَجة شئون العمال؛ فلم تَهْتَمَّ بإجابة أو فَحْص مَطالِب أخرى جديدة في النواحي الاقتصادية والإصلاح الاجتماعي، كانت عناصر المعارضة تزداد قوة ضد الحكومة، ومن أَخْطَر هذه العناصر جماعة الاشتراكيين الذين بدءوا يظهرون في الميدان، وكانوا أكثر راديكالية من الجمهوريين أنفسهم؛ لأنهم كانوا لا يريدون تغييرًا في شكل الحكومة السياسي وحسب، بل ويهدفون كذلك إلى تغييرٍ جارِفٍ في شكل المجتمع نفسه، أو بمعنًى أدق في طبيعة العلاقات القائمة بين أكثرية الأهلين الذين يكسبون قُوتَهم بعرق جبينهم، وبين الطبقة الممتلكة من الرأسماليين وأصحاب العمل في فرنسا.
فقد شهد عهد ملكية يوليو دور الانتقال من نظام الصناعات الصغيرة المنزلية إلى نظام المصانع والورش واستخدام الآلات والبخار في الصناعة، وقد قَطَعَ هذا الدور شوطًا كبيرًا، وظَهَرَتْ نتيجةً لهذا الانقلاب الصناعي عدةُ مشاكل، كان لا بد من استصدار تشريعات جديدة لتسويتها أو حلها من جهة، ولحماية الطبقات العمالية من الأضرار والمساوئ التي اقترنت بحدوث هذا الانقلاب من جهة أخرى، ولكن ملكية يوليو التي هي حكومة البورجوازية والطبقات الغنية والرأسمالية، لم تُعِرْ هذه المشاكل أيَّ اهتمام، بل استمر الرأسماليون وأصحاب العمل يستغلون مصانعهم والأيدي العاملة بها أسوأ استغلال، ويجمعون الثروات الطائلة، في حين مَنَعَت القوانين الفرنسية هؤلاء العمال من تأليف الاتحادات «والنقابات» التي تُدَافِع عن مصالحهم أو تَعْمَل لتحسين أحوالهم، أَضِفْ إلى هذا أن الطبقة العمالية بَقِيَتْ محرومة من التمثيل النيابي عندما تمسكت الحكومة بالدستور دون تغيير أو تعديل، ورَفَضَتْ إجراء أي إصلاح نيابي، فكان من أثر هذا كله أن صارت الطبقة العمالية في فرنسا من ألد أعداء النظام القائم بها.
وصار من المنتظر في هذه الظروف أن يتجه المفكرون مثل سان سيمون، ولويس بلان إلى بحث مشاكل العمل والعمال والعلاقة بين العمل ورأس المال، ثم يقومون بالدعوة إلى الاشتراكية، فكان ذلك مبدأ ظهور الحزب الاشتراكي في فرنسا، وهو حزب هَدَّدَ بظهوره وجود الملكية ذاتها، كما هدد النظام الصناعي والتجاري القائم، فقد هدف الاشتراكيون إلى إنشاء الجمهورية على اعتبار أن الجمهورية أفضل الوسائل التي تجعل العناصر الديمقراطية تتمكن من السيطرة على الحكومة.
وهكذا تعددت عوامل التذمر من حكومة جيزو، وكثرت عناصر المعارضة الشديدة ضدها، ومع أنه تَعَذَّرَ أن تَتَّحِدَ هذه العناصر فيما بينها للقيام بعمل إنشائي مشترك لتبايُن آرائها واختلاف أغراضها، فقد كان من السهل، ومن المنتظر أن تتفق كلمتها عند التصميم على القيام بعمل من نوع آخر، هو هَدْم النظام السائد وتقويض عروشه.
ولقد كان لسياسة الحكومة الخارجية أَثَرٌ كبير في زيادة التذمر من ملكية يوليو، التي ظَهَرَتْ — بسبب جمودها — شديدة الحرص على المحالفة الودية مع إنجلترة لدرجة التفريط أحيانًا في حقوق الكرامة الوطنية، وشديدة الرغبة في استمالة الملكيات المطلقة والرجعية في أوروبا، وبعيدةً كل البعد عن مؤازرة الأحرار في أي مكان، وحريصةً كُلَّ الحرص على خدمة مصالح الأسرة المالكة فقط، ولو أدى هذا إلى التضحية بمصالح الأمة.
وكذلك أثار هذا التحالف الودي مع إنجلترة غَضَبَ الفرنسيين عندما توترت العلاقات بين فرنسا ومراكش، وقد كان من المنتظر بعد أن احتلت فرنسا بلاد الجزائر أن تبسط نفوذها على مراكش، ولكن إنجلترة لم تلبث أن تدخلت لتحذر فرنسا من مغبة الإقدام على احتلال هذه البلاد، فعَدَّت المعارضةُ قَبُولَ هذا التحذير إهانةً لشرف الوطن.
وزادت مصاعب جيزو الخارجية عندما أَخَذَ بلمرستون — كي ينتقم من السياسة الفرنسية — يعمل لإقناع مترنخ بأن وجود دوق مونبا نسييه في مدريد من شأنه إعادة ذلك الاتحاد القديم بين إسبانيا وفرنسا الذي كان على أيام لويس الرابع عشر وفيليب الخامس، كما صار «بلمرستون» يعمل لتعكير العلاقات بين النسما وفرنسا حول مسألتَي إيطاليا وسويسرة، وحاوَلَ بكل الطرق تحطيم حكومة جيزو وحكومة لويس فيليب بتهيئة الوسائل التي تستطيع المعارَضة وخصومها أن يحطموها بها.
(٩) الثورة (١٨٤٨)
ولكن الملكية بدلًا من إجابة هذه المطالب بَقِيَتْ غيرَ متأثرة بما يجري حولها، بل إن الملك لم يلبث أن حمل في خطاب العرش على ما وَصَفه بأنه هياج أثارته الشهوات العدائية العمياء، أو أَنْكَرَ أن للشعب حقًّا من الناحية القانونية في عقد هذه الاجتماعات، وعندئذ قَرَّرَت المعارضة عَرْض قانونية هذه الاجتماعات على القضاء ليُفْصَل في مشروعيتها، وتقرر أن تُعْقَد لهذه الغاية مأدبة كبيرة في باريس يوم ٢٢ فبراير ١٨٤٨.
وزاد الأمرَ خطورةً عندما رَفَضَ الملك أن يستمع لنُصْح أسرته التي خشيت من وقوع الكارثة إذا ظَلَّ الملك مستمسكًا بوزيره، فظهر للشعب — وعلى حد قول جيزو — أن الأسرة المالكة نفسها قد صارت منقسمة على بعضها بعضًا، وفي هذه الظروف أَعْلَنَ جيزو فجأة أنه لا يَرْفُض أية اقتراحات غَرَضُها الإصلاح حقيقة، فقوبل هذا التصريح باعتدال كبير من جانب المعارضة، وفي ١٩ فبراير وَصَلَ الفريقان إلى حل بخصوص «المأدبة» المنتظرة على أساس أنْ تَعْقِدَ المعارَضةُ الاجتماعَ في اليوم المحدد له، حتى إذا حضر البوليس انفض المجتمعون في سلام، وقُدِّمَت القضية للمحاكم للفصل فيها، وكان الغرض من هذا الاتفاق تَجَنُّب حَدَث الثورة، ويشبه ذلك ما فَعَلَه الملك شارل العاشر عندما سحب المراسيم الأربعة المعروفة في يوليو عام ١٨٣٠، ولكن في كلا الحالين جاء إجراء الحكومة متأخرًا؛ لأن الشعب الباريسي كان قد بدأ الآن يتحرك للثورة فعلًا، وبالأساليب المتبعة — المظاهرات والشغب وإقامة المتاريس في الشوارع — وذلك كله رغم أنوف رجال المعارضة البرلمانية.
ولكن سرعان ما تبدل الحال فجأة، بسبب أن المتظاهرين أرادوا إضاءة مبنى وزارة الخارجية، فحدث احتكاك مع البوليس، وأطلق البوليس الرصاص على المتظاهرين، فسقط اثنان وخمسون قتيلًا، وعندئذ حمل الثوار جثث رفقائهم القتلى وَسَطَ المشاعل وطافوا بها في شوارع العاصمة، وأعيدت المتاريس، وبدلًا من المناداة بالإصلاح صارت الجماهير تَطْلُب الانتقام وتنادي بحياة الجمهورية.
وفي اليوم التالي (٢٤ فبراير) نَصَحَت الأسرة المالكة لويس فيليب بالتنازل عن العرش، وبعد معارَضَة شديدة من جانبه، اضطر لويس فيليب إلى التوقيع على وثيقة بالتنازل، وأَمَرَ «تيير» الجيش الموجود بالعاصمة أن ينسحب، بدعوى ضرورة إبعاده عن مسرح الثورة، ليبقى محتفظًا بنظامه العسكري، فرضخ الجيش وهو كاره، ويقول السفير الإنجليزي نورمانبي: «إن الجيش كان مستعدًّا للدفاع عن الملكية، ولكنه صَدَعَ بما أُمِرَ به، ثم لم يلبث أن قَبِلَ الحكومة المؤقتة»، وهكذا كان «تيير» على حد قول «نورمانبي»: «مسئولًا عن نجاح الثورة.»