الفن الضائع
(مهداة إلى فتاة المندرة برمل الإسكندرية.)
لمن تمنحين الحب دوني عن عمد؟
وماذا يرجى الحب من شاعر بعدي؟
وحسنك أولى أن يُصان جلاله
على الفن، حين الفن كالحسن للخلد
وما عالم الناس الذين تطاولوا
سوى عالم بين النفاية والكيد
ترفعت عن أن تسكنيه فحاذري
وخلي الهوى والحسن دينًا لمستهدي
ولا تتركي الأيام تنهب خاطري
وتعصف — ما شاءت — بحبي أو وجدي
فإني تراث للملاحة والهوى
فإنْ ضَاع لم يسعدك غبني أو فقدي
لئن كان من حق الجمال عبادتي
فمن حق مثلي أن يكلل بالمجد
وأن يغمر الحب الكريم فؤاده
جزاءً، وأن يعفى من الشك والصد
•••
مضى العام وانجاب (الربيع) عن المنى
ولو أنَّ آلامي تباعدن عن عدي
ولو أنَّ أحلامي هي الهم والجوى
على عالمٍ بالثكل واليتم ممتد
تسربل بالظلمات وهي صواعق
وماشى الخراب الهول في الزمن الرغد
فصارت به الجنات نار جهنَّم
ويا ليتها! فالحرب تعدي وتستعدي
ذكرتك محزونًا جريحًا معذبًا
كأني ألاقي الطعن في معرك وحدي
وقد كفكف الحاني (الربيع) مدامعي
وإن زادت النسمات — ما شئن — من وقدي
فأحسست بالسلوى تسلسل في دمي
تسلسل ماء النبع في الظامئ الورد
وقد ناله لفح الهجير بقسوة
فعاد يفض العطر في نفح معتد
فهل لك أنْ تصغي إليَّ فربما
أذبتُ فؤادي في النشيد بلا عود
كما ذاب عطر الورد في بسماته
وداعًا لمن يهوى ومات بلا حمد؟!
•••
ويا جارتي ما أبعد القُرب بيننا
وذلك خوفي صير القرب كالبعد!
أناجيك في دقَّات قلبي والهًا
كأنَّ فؤادي طائرٌ رفَّ في القيدِ
يحن إلى من قاته وأفاءه
ولو أنَّه في أسره ضائع الجهد
وأخشاك رغم الحب، لا عن ضلالة
ولكن كخوف القانت الواله العبد
وكم تمتمت نفسي بشعر محبب
أغرده في خدرك الساحر الوعد
فلما تلاقينا نسيت ضراعتي
ولم تبقَ لي إلا حشاشة منهد
وقد حالت الأنفاس شعري وحدها
وكم تحمل الأنفاس من قُبَل عندي
إذا لم تترجم في لُغى الحب فالهوى
سيغفر ما أودى بشاعرك الفرد!
•••
بروحي من أحلام عمري ساعة
جلست وموج البحر مثلي في زهدي
على الشاطئ المسحور أنَّت صخوره
وغنت به الأمواه للحجر الصلد
أراقب عن بعد جمالك ناشرًا
على الماء ألوان الرشاقة والصيد
فيغنم عشاق دعابتك التي
تخاطفها مثل الجواهر مستجدي
وأقنع بالحلم البعيد ووحدتي
كأنَّ حيائي قام دونك كالسد
ولكن خيالي لم يُذَلـِّلُه حائل
فنال من القد المنعم والخد
وسابق موج البحر في وثباته
وبز شعاع النور في اللهو والجد
فكنت على بعدي المنعم ظافرًا
بما لم ينل منك المقرب والمسدي
أتوا بالهدايا الحاليات رواقصًا
وأخفيت قرباني من الطاهر الود
ولم تلمحيني في تلاهيك حينما
تحدثت الأمواج للكثب الجرد
وقد نثرت فوق الرمال تحية
من اللؤلؤ الغالي الذي جل عن عقد
تلقفها شعري وكاد يصوغها
لحسنك معنى لا يقاس بما تبدي
ولكن دنا العاتي الغروب فلم أفق
من الحلم إلا بعد أن فاتني رشدي
وقد ردد الموج الشجي تأوهي
وجاوبه في خطوه الحارس الجندي١
•••
يعيش على الوهم المجنح شاعر
وكم باعه للوجد حينًا وللسهد
ويرضى بأدناه عزاء ونعمة
على حين لا يرضى بدنيا من السعد
له كبرياء المستهين بما يرى
ووثب خيال المستعزِّ بما يسدي
لئن صاحب الحرمان يدميه نصله
لقد آثر التعذيب حرًّا على الضمد
لئن أعرضت عنه الغواني لقد شدت
بتقديسه الربات في عالم فرد
تنزه عمن حاربوا الفن والهوى
وأولهم من لو درت قدست عهدي
ولم تتكلف كل ما هو متلفي
ولم تسقني الصاب المموَّه بالشهد
ولم تتحدث عن نشيدي وروعتي
بحب وإعجاب كأنَّهما ضدي!
ولم تدخر أنسًا لمن عاش عابدًا
مفاتنها ثم انتهى شبه مرتد
•••
لمن فِتن الحسن الذي جلَّ عن حد؟
لمن شغف القلب الذي صين عن ند؟
إذا لم يكن هذا الجمال لشاعر
فما لي على فوضى التهافت من رد
حرام ضياع الورد في غير أهله
وظلم ممات النور والعطر في اللحد!
ولست ألوم الواردين تهافتوا
ولكن ألوم الحسن يعبث بالورد
وما أفسد الإحسان إلا ابتذاله
ولا قدر الإحسان إلا على قيد
سيأتي زمان تندمين على هوى
أضعت، ويا للحب ضاع من الأيدي!
•••
ولكنَّها أصغت إليَّ بروحها
على النأي، والإيحاء للروح قد يعدي
كأنَّ ولوعي زاجر ليس ينتهي
يحاورها باللطف حينًا وبالنقد
ويلقي حواليها الشباك رقيقة
فما كان عن صيد الفراشة من بد
فلمَّا التقينا بعد هجر وترحة
وكنت افتقدت الحب في القلق المردي
أعادته مبعوثًا وضيئًا مرفرفًا
كما رفرف الفجر الوليد على المهد
فهل يستعيد الحب ماضي رجائه
ويسمو على الحرمان والخوف والحقد
ويبني لنا ملكًا يعز نواله
على غير فنان طليق من القيد
أم المثل الدنيا تهد مثاله
وترجعه نهبًا لأيامه التلد؟!
١٩٤٣
١
حارس الشاطئ.