رثاء زوجتي
ماذا تُفيدك لوعتي وبكائي؟
هذا فناؤك مؤذن بفنائي!
أسديت عمرك للحياة فما وفت
ومضيت للأبرار والشهداء
لهفي عليك وقد أتيت مودعًا
فبكيت فوق جبينك الوضاء
زاد الممات جماله وتناثرت
مني الدموع عليك كالأنداء
كانت حشاشتي المذابة حرقةً
وبقية المكنوز من نعمائي
فترنحت بفجيعتي، وتضوعت
بسريرتي، وتلألأت بوفائي
وروت مُحيًّا كان جنة نعمتي
وملاذ تفكيري ووحي ذكائي
وطرحت آلام الحياة عزيزة
فبدوت بين سماحة وصفاء
وأقبِّل الوجه الحبيب، وطالما
أودعت فيه صبابتي ورجائي
شمل السلام هدوءه، وتبددت
غير السنين، وزال برح الداء
وأكاد أنسى للممات خشوعه
لما نسيت تجلدي ومضائي
كم كنت أعلق بالخيال توهمًا
وأرى الشفاء ولات حين شفاء
ويغالط القدر العتيَّ تفاؤلي
وأنا الخصيم لخدعة ورياء
آبى اعترافًا بالممات كأنني
لمَّا بكيتك قد أضل بكائي
أو أنَّ هذا الموت حق ثابت
إلا على الأحباب والخُلصاء
أو أنَّ عيشي أنْ أراك بجانبي
مهما هزلت فلا يهد بنائي
أعتاض باللمحات عن أغنية
وعن الحديث العذب بالإيماء
وأعد أنفاسًا وهبت ذخيرتي
وحفيف ألفاظ همست رخائي
وأموِّه الألم الدفين وأتَّقي
علمًا به، وأصده بغبائي
وأكاد أقسو في مجانبة له
أو ليس جسمك رمز كل نقاء؟
متنزهًا عن كل ما شان الورى
مترفعًا عن علة وعفاء
حتى صدمت، ولا كصدمة شاهق
متحطم بصخوره الصماء
فجننت من حزني وعفت حصافتي
ودفنت كل رجاحتي العمياء!
•••
لهفي عليك زميلتي في رحلتي
وشريكتي في الصفو والضراء
لم أرضَ غيري أن يسير مشيعًا
أو أن توزع حرقتي وعنائي
وكتمت نعيك، كم أضن بذكره
وأحوطه بنهاي واستيحائي
لبَّيت رغبتك الزكية دائمًا
ووعيتها نبلًا ولطف حياء
وجعلت مأتمك الرهيب عواطفي
وبخلت بالتنويه والإفضاء
حتَّى تفجَّر بي الأنين ملاحمًا
وجرى النظيم بأدمعي ودمائي
ما كنت أحسب أنَّ يومَك سابقي
أو أنَّ أيام الحياة ورائي
كنا نهيئ للرحيل١ متاعنا
وننسق الآمال غير بطاء
ونهيب بالدنيا لتشهد حظنا
ونهش للأيام والأنباء
ونرد عادية الأنام تسامحًا
مستغفرين لجاحد ومرائي
متسابقين لنملأ الدنيا سنى
بالحب والإيثار والإيحاء
فإذا رحيلك للنوى، ووداعنا
للحظ، والباقي الكليم ذمائي
غدرت بي الدنيا، كأنِّي لم أصغ
فيها الثناء، فما أفاد ثنائي
ووهبتها — كرمًا — عزيز مواهبي
فجنت علي شهامتي وعطائي
اليوم أدرك أي عبء فادح
عني رفعت وما مدى أعبائي
كم كنت أحلم بالهناءة والرضى
لك في نهاية عمرك المتنائي
وأود من قلبي بقاءك بعدما
أفنى وأحسب في هواك بقائي
وأعد عمرك وحده عمري وما
أرضى سواك من الحياة جزائي
فتناثر الحلم الجميل وأقفرت
دنياي من حلم ومن أضواء
وبقيت وحدي لا عزاء أرومه
والذكريات تزيد من برحائي
يا طالما ناجيتها في نشوتي
واليوم قد أصبحن من أعدائي
ما نعمتي فيها وأنت هي التي
جعلت بصحبتها الأسى نعمائي؟
•••
يا من فتنت بكل ما هو رائع
وخلقت ألوان الجمال إزائي
ورسمت لي دنيا منوعة الشذى
قدسيَّة الألحان والأصداء
وبثثت بي حب (الطبيعة) فاغتدت
أمِّي، أضعت عزاءها وعزائي
يا من غناؤك شدوها وحنينها
وصداه في قلبي الشجي غنائي
لما سكت تقاطرت عبراتها
واستسلمت للوعة الخرساء
ومضى الربيع مع الشتاء فلم أجد
إلا مظاهر وحشةٍ وخلاء
تبكيك أخلص من وفت لروائها
وتصوفت بمروجها الغناء
ورأت بها الخير اللباب فما شكت
منها وناجتها أرق نجاء
وتناولت ألق النجوم فأترعت
منه دنان الحب للشعراء
كم ألهمتني من عيونك صورة
جمعت أحب عواطف ومرائي
وتبسم تتبسم الدنيا له
ويغيب عن معنى وعن خيلاء
ورشاقة معسولة ملحونة
كقصيدة خلابة عصماء
كم كنت أهتف بالنشيد ولم يكن
إلا خطوط جمالك الوضاء
تجري اليراعة في يدي مزهوَّةً
بتغزلي ويهزني إملائي
مترنمًا بالحب بين ولائم
للزهرِ والأمواه والأضواء
وإخال في دعة المروج جناننا
وأشيم في ألقِ الغدير سمائي
أيام كنَّا والشبيبة والهوى
حلفاء في أمنٍ من الغرماء
أيام كنَّا نستعيد ثراءنا
قُبلًا، ونضحك من غنى وثراء
أيام كنَّا الحاكمين بأمرنا
الساكنين منازل الجوزاء
أيام كنا ذاهلين عن الردى
نجري ونمرح في الربى الفيحاء
ونخوض موج البحر ملء دعابة
متعانقين على هدير الماء
متحمسين كأنَّما خمر الصبا
خمر الألوهة من أعز سماء
متلمسين بكل شيء لذة
ومطوعين المستحيل النائي
وإذا غضبنا عاد حبُّك غافرًا
وتعثرت شكواك عند ندائي
وفرحت بي فرح الحبيب بإلفه
قد عاد بعد مخاطر هوجاء
عشنا السنين كأنَّها أنشودة
علوية جلَّت عن الضوضاء
متجددين، وإذ فقدتك لم يكن
فقدي لغير فتاتي الهيفاء
من رامها أهل الفنون نموذجًا
للمبدعين ومن لها أهوائي
من صوتها الحلو الشجي سلافتي
وحنانها العذب السخيُّ دوائي
من لم تدع غير البشاشة وحدها
تفشي خواطرها لنقد الرائي
من أشربت حب الدعابة سمحة
واستضحكت لمصاعب الأشياء
من لم ترَ الدنيا سوى تغريدة
فأبت هواجسها أشدَّ إباء
من لم تردد غير آمال الصبا
لتردني لطلاقتي ورضائي
من عشت أفديها بكل جوارحي
فإذا الفداء يهون وهي فدائي
من علمتني أن أقدِّس واجبي
مهما شقيت فأستطيب شقائي
من لم تودع في السقام وفاءها
للنَّاس حين مضوا بكل وفاء
من لم تفارقها الشجاعة مرة
حتَّى الممات، شجاعة العظماء
فمضت وخلتني وحيدًا عابرًا
قفر الحياة أنوء بالأنواء
هيمان، قربك وحده مستنقذي
ظمآن، ليس سِواك رِيَّ ظمائي
أقتات بالحزن المبرح راضيًا
وأعاف كل ملاحة وسناء
وأضعت فني بعد موتك في الأسى
وكأنَّما صور الجمال بلائي
من طالما ناجيتها متغزلًا
غردًا، فمات بهاؤها وبهائي
كانت لروحي منك أنس مدامة
ومجال أشواق ونبع صفاء
ومثلت أنت بكل ما أحببته
فالآن أين تهافتي ونجائي؟
أين ابتسامتك الشذية بالمُني
والنور حين أهيم في الظلماء؟
أين ابتداعك للحديث تفننًا
وتسلسلًا يُغني عن الندماء؟
أين اغتباطك بالمروءة والندى
والعطف والغفران والإسداء؟
قبرت كما غاب النهار أشعةً
وكأنَّما أشلاؤها أشلائي
وتركت في دنيا القساوة والأذى
متهالكًا أمشي على الرمضاء!
•••
قالوا تصبر! إنَّ حولك رفقة
منها، وحسبك صفوة الأبناء
ورثوا مكارم خلقها وسماتها
إرثًا تدلُّ به على الآباء!
يا ليتهم عرفوا شمول عواطفي
ووفاء وجداني وصدق ولائي
شيم شقيت بها، وما عفَّ الورى
فأثارهم شممي وفرط إبائي
وبقيت أسخر من جراحي هازئًا
بفواجع الآلام والأرزاء
مستلهمًا من لم تدعني مرةً
في الحادثات أضيق بالأحياء
فالآن بعد ذهابها ومصابها
لم يغنني شممي ولا استعلائي!
•••
تمضي الحوادث والسنون وتنقضي
أمم على أممٍ صباح مساء
ويظل قلبي هيكلًا لكِ خالدًا
أبدًا يرتل لوعتي ورثائي!
١٩٤٦
١
الهجرة إلى أمريكا.