وداع مصر
كتاب من أستاذي خليل مطران بك
أهديت إلى أستاذي خليل مطران بك – ١٤ إبريل سنة ١٩٤٦م.
أودع (النيل) في توديع شاعره
وقد أودع نفسي في مشاعرهِ
وما أقبِّل طرسًا١ جاء يغمرني
بالحب إلا وقلبي في خواطرهِ
ولا أفارق أستاذًا تعهَّدني
كما أفارق كنزًا من جواهرهِ
ولا أباعد أوطانًا أقدسها
إلا وروحي رهينٌ عند شاعرهِ
تبًّا لدنيا تديم الحر مغتربًا
فيها، وأخرى تناءت عن سرائرهِ
لام العذول، وما أقسى ملامته
ولن ألوم عذولًا في دياجرهِ
حسبي رضاؤك عن خلقي وعن أدبي
وصدق عهدي بماضيه وحاضرهِ
لن يعرف المرء إلا من أرومته
وليس يعرف تبر من ظواهره!
•••
(مطران)! يا من أناديه بلا صفة
ففي اسمه كلُّ ما يُغني كخاطرهِ
هذا نشيدي بلا وزن وقافية
وإنْ تسلسل ألحانًا لآسرهِ
أزجيه آخر ما أُزجي٢ ويدفعني
حب كحبك، مشدوهًا كحائرهِ
إن حال سقمك في يوم شجيت به
دون الوداع فسقمي غير ظاهرهِ
هل عودة أم تناء لا حدود له
فغربة المرء أنأى من معابرهِ
وغربة الفكر في دار يمجدها
أقسى على الحر من فقدان ناظرهِ
وهل أراك بيوم مسعد نضر
مضمخ بزكي من مجامرهِ
تحررت فيه أذهان مكبلة
وحطم الشعب فيه عجل قاهرهِ؟
لعل بضعة أعوام سأرقبها
تحالف الحظ في تجديد زاهرهِ
وعلني حينما ألقاك ثانية
أراك باعث شعب من مقابرهِ!
•••
هل يعلم البحر من أفدي ومن خلقت
حشاشتي كمثال من مآثرهِ؟
الملهم الجيل بعد الجيل ملحمةً
من السمو تجلت عن شعائره
والواهب العمر للفنان ينزله
منازل الخلد في أسمى منابره
إن كان يعلم فليصمت على ظمئي
ولا يراود فؤادي من مزاهره
وليتق الحب في روحي وفي مثلي
فما أبالي الغوالي من جزائره
رقصن في السحر الموهوب أخيلة
والبحر يهدر تحنانًا لساحره
من خلَّد الموج آيات مجددة
وجدَّد البحر إعجازًا لزائره
أو لا، فما هو بالإغراء يجذبني
إلى الضلال تهادى في عساكره
ولن أبدل من عزمي وإن شقيت
نفسي بمنفاي في أقسى مخاطره
وكيف تشقى بدنيا غير صاغرة
لم تقبل الظلم في شتى مظاهره؟
إن طالبتني بجهد فوق محتملي
بذلت عمري عزيزًا عن صغائره
هذا شعوري والتوديع أرقبه
كأنَّما أنا مولود بآخره!
•••
يا (مصر) إنْ أنس لا أنس الهوى ثملًا
على ضفافك في شتى عناصره
رضعت فيك حناني للجمال، كما
ركعت فيك لساميه وطاهره
لألبثن وفيًّا لا يغيره
عادي الخطوب، أبيًّا في ضمائره
لئن أميت كفاحي في منابته
فسوف يحيا كفاحي في مهاجره!
١٩٤٦
١
كتاب خليل مطران بك إلى الشاعر، بتاريخ ٣٠ مارس سنة
١٩٤٦م.
٢
آخرة قصائد الشاعر قبل مبارحته مصر.