الشاعر السامي
رثاء خليل مطران
إلهة الشعر! عاد الشاعر السامي
إلى عوالم لم تحصر بأجرام
إلى عوالم غناها وأسكرها
كأنَّ أضواءها أصداء أنغام
إلى نُهًى لم تُكيَّف في منازلها
ولم تحدد بأنفاس وأجسام
إلى منابع للإلهام صافية
فاضت على الشمس والدنيا بأقسام
الأنبياء إلى عليائها انتسبوا
والشاعرية في وحي وإلهام
إلى منارك، فاستعلت كواكبه
ونحن في وهدة هانت وإظلام
تدور لا مُلجمٌ يملي مساربها
ونحن ما بين إسراج وإلجام
وتبعث الشعر في خفق أشعتها
جمَّ الفصاحة إنْ يوصف بإبهام!
•••
إلهةَ الشعر! عاد الشاعر السامي
إلى عوالم لم تحصر بأجرام
لم ينزع الموت إكليلًا خصصت به
ذاك الجبين، ولم يظفر بإغنام
وإن يكن قد أثار الهول في مهج
وبعثر الزهر من باك ومن دام
أسري به في بروج لا كواكبنا
تدري مداها، ولا أرباب أحلام
وخلَّف الفن مكبوتًا على وجل
ألم يرزَّأ بفقد الكوكب (الرامي)؟
طار النعي وبئس الطير روَّعنا
وهو الجريح بأحزاني وآلامي
ألقى علينا الأسى ثكلًا ومسغبة
مبددًا ذخر آمالي وأحلامي
زاد الهجير لهيبًا فرط حرقتنا
أليس حرقتنا أنفاس أيتام؟
كأنَّما لم يمت قبلًا بعلَّته
الفاتحون لدولاتٍ وأفهام
كأنَّما عيشه حام لفكرتهم
والفكر ليس له كالفكر من حام
ما أفدح الخطب للعانين ما نعموا
فكلُّ جرح جديد غير ملتام
وما أشق المآسي للشعوب متى
تدوولت بين إحياء وإعدام!
•••
هل يعلم النَّاس أيُّ الناس قد فقدوا
أم لا يزالون في نومٍ وأوهام؟
وهل بكت (بردى) و(النيل) واضطربا
كالأرز من نوح أعلامٍ وأعلام؟
أصالةٌ من جلال ليس يرفعه
عالٍ من المدح أو دان من الهام
من ساير النهضة الكبرى وهذَّبها
بالفن والرأي أعوامًا بأعوام
وما تردد في تكييف مبدئه
ولا تذبذب في نقض وإبرام
ولا تلعثم يومًا في رسالته
ولا تعثَّر في تحطيم أصنام
كأنَّما رشده الصمصام في فرقٍ
وشعره برء فأفاءٍ وتمتام
أجزت شجاعته الأحرار عن خدع
في عالم زاخر باللؤم لوام
وفاض شؤبوبه ريًّا لمن عشقوا
أنفاس (طيبة) أو ألحاظ آرام
وأشرفت بعلبك من خرائبها
عرائس المجد في (لبنان) و(الشام)
ألبستها حللًا ما نال مشرقها
أعراس (كسرى) ولا أفراح (بهرام)
ما (البحتري) من (الإيوان) موقفه
وأنت في (بعلبك) العابد السامي؟
منازل لك لم ينزل بساحتها
إلا النبوغ، فما هانت لأقوام
شعر تشرَّبه الأرواح صافيةً
وتستقلُّ به، لا نظم نظام
وشاعر لم يمهد قبله بهدى
مثل (المسيح) أتى من بعد إظلام
جم المروءة، وافي الخلق، ذمته
ليست مطية أحباب وأخصام
يغدو إليه ذوو الحاجات في لهف
وينثنون وكلٌّ جدُّ مبسام
وما تعاظم يومًا في تفوقه
بل في تواضعه آيات إعظام
كانت زعامته ركنًا يلاذ به
دون ادعاء لأحزاب وإحزام
كالنور ليس لأرض أن تخص به
ولن يُقاس بأبعاد وأرقام!
قد ضنَّ بالفن إلا للبصير به
كالكنز خبئ في حرز بأختام
وصان تفكيره عن عرض مبتذل
كأنَّما هو حصن بين آطام
والفكر كالدين حي في قداسته
ملء العصور بآيات وآرام١
لا كالخرائب والأطلال يسكنها
شبح الفناء وتستخذي لأبوام
ما عززت أمةٌ أودت بعزته
ولا اغتدت دونه في عدِّ آنام
إذا تهاون شعبٌ في كرامته
عزَّ الأديم عليه عند أدَّام
وإن أسيء إلى الآسي يُعالجه
لم يرأم الجرح أو ينقذ بإرآم٢
ما حاربت أمةٌ أخيارها ونجت
أو أودعت أمرها أوهام رجَّام
هذا هو الخالد الموهوب أرفعه
عن أن تشير إليه أي إبهام!
•••
قنعت بالحظ في النجوى ومرتقبي
نعمى حنانك في عودي وإكرامي
يا من أصاخ له قلبي فهذبني
طفلًا وكهلًا، وأحيا كل أيامي
يا من سكنت إليه العمر ملتجأ
ضافي العزاء، فلم أعبأ بأخصامي
صحبته في خيالاتي، وفي مثلي
وفي حياتي، وفي سعيي وإقدامي
ولم يزل، … ما لهذا الموت يعصف بي
كما يبعثر تأويلي وأحكامي؟
وما لبرهة عام كنت أرقبها
حالت أبودًا وردتني لإحرامي؟
أولى به ساعة تنكيس أرؤسنا
حزنًا عليه وتنكيس لأعلام
لا أن تخفَّض للطاغوت صاغرة
أو أن تطأطئ في بؤس وإعدام
لئن تجرد عن ألقاب مملكة
زانت جبانًا وما كانت لمقدام
فالذئب يمرح في ثوب لسيده
وما يبدل غنمًا ثوب ضرغام!
•••
لم يبقَ لي من عزاء غير ما وهبت
يمناك للخلد من آيات رسَّام
ومن مزامير جلَّت في ترسُّلها
وفي تسلسلها عن أي إدغام
ومن تسابيح مطران أردِّدها
كأنَّما هي من أركان إسلامي
ومن أغاريد للعشاق أرشفها
راح الشباب فأنسى جدب أيامي
ما الراح في الخلد موعودًا بها أدبي
أرضى بجاماتها عن هذه الجام
ومن أهازيج في معنى وفي صور
هي (الطبيعة) في روحي وإلمامي
ومن عظات وأمثال وفلسفة
جاءت أناجيل فوق المدح والذام
ومن تهاويل للتاريخ تسردها
فنلمح الدهر أحقابًا بأيام
ومن صنائع للمعروف سابغة
ساوت ببر لمخدوم وخدام
ومن أحاديث مج الشد مبدعها
وإن توارت بأزهار وأكمام
تنم عن عبقري الفن معجزةً
والفنُّ كالحب يحيا جدَّ نمام
ولا أنيس سوى الذكرى لصحبتنا
وكم تثور على يأسي وإحجامي!
•••
رحلت في زمن عزَّ الحكيم به
والسائس الحرُّ، بله الشاعر السامي
عن أمة حظها الشكوى بلا خطر
فما تثور على أسواط ظلَّام
يخشى أفاضلها الأوغادَ إن سعلوا
ويركعون لأغرار وأوغام
ويسخطون على مثلي ليقظته
إذ يمدحون ويبكي الشانئ الرامي!
لا يستقرون من روع ومن قلق
ولا يلبون حتى عزم همَّام
إذا أردنا لها استقلالها نفرت
وما كرامة ذي عوز لقوام؟
كأنَّما نسيت تاريخ عزتها
ولم تطوف بأهرام وأهرام!
قالوا: قطيع من الأغنام يشبهها!
يا ليتها كقطيع بين أغنام!
يصطاد أرزاقها من لا أكيفهم
وتُستباح ركوبًا عند إجرام
ولا يقومها نصح ولا عبرٌ
ولا سدادٌ، وتهوى لهو هدام
كم خودعت وصروف الدهر ضاحكة
فخلَّطت بين أحباب وأخصام
ما بارم الحبل في أعواد مشنقة
كرافع لبنود النصر برام
فأثخنتها جراحات بلا عدد
وأسلمتها لزلات وأسقام
وما ينال وفيٌّ حين يرشدها
إلا العقاب وإلا وطء أقدام
الهزل ما زال من أسمى شعائرها
والجهل معبودها في ملكه النامي
أحرارها غرباء لا تميزهم
في حين تعنو لأوشاب وأعجام
لم تتعظ وصروف الدهر تلطمها
ولم تزل رهن أنصاب وأزلام
وتقتل الوقت إسفافًا ومنقصة
وثأرها عند بطريق وحاخام
ولم أزل وأنا العاني بخدمتها
شبيهها في ضلالاتي وإيهامي
أحنو عليها وإن حارت على أدبي
وعاقبتني على برِّي وإنعامي
وطاردتني إلى منفاي جانيةً
وعددت صفو آثاري كآثام!
•••
من لي بقربك حيًّا ذائدًا مقةً
عني، وحارس وجدان وأقلام
يؤرخ الأدب العالي بسيرته
وباسمه يهتف الوافي بأقسام؟
ليبك من صفوة الأحرار من عرفوا
من أنت واغترفوا من بحرك الطامي
ومن أبوا أن يُعَدُّوا في محبتهم
بين المغالين، لو قيسوا بمستام
ومن يفدون أوطانًا نفخت بها
روح الإباء فلم تذعن لهوَّام
إنْ كانت اليوم نهبًا بعد تضحية
فلن تسام دوامًا سوم أنعام!
•••
عسى الرياض التي ناجيتها شغفًا
تبوح بالوحي للسامي وللظامي
عسى الرياح التي شاقتك ثائرةً
تفك عني أغلالي وأرغامي
عسى الهدير على الأمواج ينفحنا
بلحنك الحر لم يقرن بإعجام
عسى ترانيم هذا الطل تمنحنا
فرائدًا منك في شؤبوبه الهامي
عسى المساء الذي غنيته صورًا
من الجمال يغذِّي حلو أنغامي
عسى الجداول في أبهى وداعتها
تسيل منك حنانًا حول آكام
عسى المروج وراعي النحل يلثمها
ترفُّ بالشهد عطفًا بعد إجهام
عسى (الطبيعة) في أسنى مفاتنها
تجود لي بسناء منك بسَّام
إني تأملت في حسن أهيم به
رأيت لطفك في ذهني وتهيامي
في نشقة العطر أو في النور مختلجًا
في ثورة البحر، أو في روع آجام
وفي مشاهد لا تحصى دقائقها
أنَّت وغنَّت على مزمار غنام
ورنحت كل عشب في تصوفه
كأننا أهل أشواق وأرحام
أزجي رثائي صلاة أنت ملهمها
وإن تكن من حنايا قلبي الدامي!
١٩٤٩
١
الآرام: النصُب التي يُستهدى بها.
٢
الإرآم: معالجة الجرح.