الفصل الثاني
(بهو الأعمدة. الأميرة بريسكا بين وصائفها وفي يدها كتاب …)
الأميرة
(متسائلة)
:
أين مُؤدبي غالياس؟ لم أره هذا النهار.
(يبدو المُؤدِّب غالياس مقبلًا على عجل وهو شيخ طاعن في السن أبيض
الشعر. وتنصرف عندئذٍ الوصائف وتبقى الأميرة ومُؤدِّبها.)
غالياس
(وهو يلهث)
:
ها أنا ذا أيتها الأميرة!
الأميرة
:
عجبًا! مالك تلهث والعرق يتصبَّب من جبينك؟!
غالياس
:
كنت بالمدينة يا مولاتي، ولو لم أذكرك الساعةَ لما جئت ركضًا!
الأميرة
:
ماذا بالمدينة؟ أبي كذلك كان يطلبك الساعة في اهتمام غريب.
غالياس
(يتحرَّك بسرعة)
:
الملك يطلبني؟
الأميرة
(مستوقفة)
:
انتظر! أترى ما بيدي؟ كتاب الأحلام. إني رأيت الليلة حلمًا عجيبًا يا
غالياس؟
غالياس
:
خيرًا يا مولاتي؟
الأميرة
:
رأيت كأني دُفِنت حية.
غالياس
(مُفكِّرًا لحظة)
:
يا إلهي! أيُمكن أن يكون لهذا صلة بما شاع اليوم في المدينة؟!
الأميرة
:
ماذا شاع بالمدينة؟
غالياس
:
أن كنزًا من عهد دقيانوس مدفون في كهف بوادي الرقيم.
الأميرة
(مستذكرة)
:
دقيانوس؟!
غالياس
:
نعم دقيانوس صاحبُ عصر الشهداء. ألم أُحدِّثكِ بخبره فيما حدَّثتُكِ من قديم
التواريخ؟
الأميرة
:
أليس هو أب تلك الأميرة التي تسمَّيت باسمها؟
غالياس
:
ها أنتِ ذي قد ذكرتِ يا مولاتي. نعم هي ابنته .. تلك الأميرة القديسة التي تنبَّأ
لكِ العراف ساعة ميلادك بأنكِ ستشبهينها خَلْقًا وإيمانًا.
الأميرة
:
أوَترى هذا العرَّاف قد صدق؟ أوَتراني أشبهها حقيقة؟ إني لا أكاد أعرف شيئًا يا
غالياس. وأنت لا تُريد أن تُطلعني على تاريخها، ما أقساكَ! إنك لا تحس مبلغ رغبتي
في معرفة تلك التي يزعمون أني أشبهها ..!
غالياس
:
أقسم بالمسيح يا مولاتي أني أطلعتك على كل ما أعرف عن تاريخها وكل ما وصل إلى
علمنا من عهدها. ألم أقل لك إنها كانت مسيحية شديدة الإيمان بالله والمسيح في عصر
كانت المسيحية فيه مضطهدة مغلوبة. ألم أقل إنها ظلت تخفي دينها عن أبيها الوثني
الظالم. وإنها ظلت راهبة تأبى الزواج حتى استُشهِدت عذراء في سن الخمسين؟!
الأميرة
:
إنك قلت لي مرة يا غالياس إنها سُمعت تقول كلما أرغموها على الزواج إنها مرتبطة
بعهد مقدَّس لن تحنث به ..
غالياس
:
أصبتِ يا مولاتي.
الأميرة
:
ترى مع من هذا العهد المُقدَّس؟
غالياس
:
مع الله يا مولاتي، مع من غير الله تريدين؟ ..
الأميرة
:
كنت أحسبه مع من اختاره قلبها.
غالياس
(مستنكرًا)
:
حاشا لله يا مولاتي! أستغفر الله! أوَيختار قلبها غير الله؟
الأميرة
:
وما يمنع؟ إن قلب المرأة يتسع دائمًا لله وغير الله. إنك لا تعرف قلب المرأة يا
غالياس، لأنك أحمق!
غالياس
:
مولاتي! إني اطلعت على تاريخها كله.
الأميرة
(في تهكُّم)
:
ولم تفهم منه شيئًا، غير ما يمكن أن يفهمه شيخ مثلك!
غالياس
:
إني أفهم الحقيقة. لقد كانت قديسة لا ريب فيها. وبالأمس عثرت على سِفر قديم ورد
فيه أن إحدى وصائفها كانت تسمعها دائمًا تقول «إني أنتظر كل يوم .. وسأنتظر ولن
أملَّ الانتظار حتى يعود.»
الأميرة
:
أرأيت؟ من تنتظر؟ من الذي يعود؟
غالياس
:
المسيح يا مولاتي، تنتظر يوم عود المسيح من السماء.
الأميرة
:
إذن كانت قديسة حقيقية؟
غالياس
:
وهل في هذا شك؟!
الأميرة
:
لا شكَّ أن هذه القديسة كانت تُفضِّل أن تكون امرأة، لو أنها استطاعت.
غالياس
:
لا تتهكمي يا مولاتي. أتوسل إليكِ أن لا تتهكمي على جدتكِ العظيمة!
الأميرة
(وهي تعبث بصليب في عنقها)
:
أصحيح يا غالياس أن هذا الصليب الذهبي الذي أحمله في جيدي منذ الطفولة كان
صليبها؟
غالياس
:
نعم يا مولاتي. إنه أحد مخلفاتها الثمينة. ويُقال إنها رأت في المنام ذات ليلة أن
المسيح يُقلِّدها إيَّاه فاستيقظت فوجدته في عنقها فبُهتت وتملكها فرح عصبي ظل
مُلازمًا لها في فترات من حياتها حتى ماتت.
الأميرة
:
إنها ماتت في هذا البهو يا غالياس؟
غالياس
:
نعم. لقد كانت تُحب العزلة دائمًا في هذا البهو. ولما احتُضرت في حجرتها طلبت في
النفَس الأخير أن تُحمل لتموت في بهو الأعمدة؟!
الأميرة
:
لماذا في بهو الأعمدة؟!
غالياس
:
من يدري يا مولاتي. من يدري؟
الأميرة
:
إذن هنا. في هذا البهو عينه .. وربما في هذا الموضع الذي نقف فيه الآن ..
غالياس
:
نعم .. هنا .. ماتت الأميرة القديسة بريسكا منذ ثلاثمائة عام!
الأميرة
(بعد برهة صمت)
:
ما أشد شغفي بخبر تلك الأميرة!
غالياس
:
من يدري يا مولاتي! قد تكونين أنتِ أيضًا كما كانت، وتصدق فيكِ نبوءة
العرَّاف!
الأميرة
(في تهكُّم)
:
أنا .. قديسة؟! كل شيء إلا هذا.
غالياس
:
هذا ليس بكثير على …
الأميرة
:
كلا. لست أريد. ليس هذا حلمي ..
(يُسمع صوت في الخارج.)
الصوت
(في الخارج يُنادي المؤدب)
:
يا غالياس!
غالياس
(يستدير سريعًا ويهمس)
:
الملك!
الملك
(يدخل)
:
يا غالياس! أسمعت الخبر؟
غالياس
:
نعم يا مولاي. خبر الكنز ..
الملك
:
بل الأشباح.
غالياس
(وكذلك بريسكا)
:
الأشباح؟!
الملك
(لغالياس)
:
ألم تذهب إلى الغار مع الناس؟ أين كنتَ إذن؟
غالياس
:
كنتُ أصغي مع الناس إلى حكاية الصيَّاد الذي جاء بالخبر وكنتُ على وشك الذهاب
معهم إلى الغار، ولكنِّي فجأة تذكرت درس الأميرة.
الملك
:
لقد عاد هذا الصيَّاد الآن يعدو على فرسه ويروي عجبًا إنهم أبصروا بالغار ثلاثة
مخلوقات مفزعة الهيئة، أشعارهم مدلاة ويلبسون ملابس غريبة ومعهم كلب عجيب النظرات،
فولوا منهم رعبًا ..
بريسكا
(خائفة)
:
يا إلهي! مخلوقات مفزعة ..؟
الملك
:
لا تخافي يا بريسكا.
غالياس
(مُفكِّرًا)
:
أممكن أن يكون هذا؟!
الملك
:
ماذا ترى يا غالياس؟!
غالياس
:
ثلاثة رابعهم كلبهم! مولاي .. أممكن أن يكونوا هم؟!
الملك
:
مَن هم؟
غالياس
(كمن يخاطب نفسه)
:
نعم .. نعم .. ثلاثة رابعهم كلبهم ..
بريسكا
:
مَن هم يا غالياس؟
غالياس
:
ألم أُحدِّثكِ يا مولاتي فيما حدَّثتُكِ عن تاريخ عصر الشهداء أن فتية من أشراف
الروم هربوا بدينهم من دقيانوس ولم يظهروا ولم يُعلَم عنهم شيء، وقد لبث معاصروهم
ينتظرون أَوبَتهم وينشئون عنهم الأساطير مُؤكِّدين عودتهم .. ولقد قرأت كُتبًا
قديمة تتنبأ بيوم يظهرون.
الملك
:
هذا ما قاله شيخ كان بين الناس في الغار على رواية الصيَّاد.
بريسكا
(في خوف وحب استطلاع)
:
ماذا قال هذا الشيخ يا أبي؟
الملك
:
قال للناس عندما رآهم ورأى لباسهم إنهم ليسوا بأشباح موتى؛ لأن آباءنا وأجدادنا
حدَّثونا عن فتيين من أصحاب دقيانوس هربا منه ولحق بهما راعٍ وكلبه وأنهم اختفوا
ولكنهم سوف يظهرون، وكلما جاء عصرٌ ذكرَهم الناسُ وانتظروهم ..
بريسكا
:
ولكن يا أبتِ .. ها قد أوشك أن ينساهم الناس في عصرنا هذا!
غالياس
:
أجل يا مولاتي .. إن القديسين لا يظهرون إلا في عصرٍ يُنسَون فيه ..
الملك
:
أتؤمن إذن بهذا يا غالياس؟
غالياس
(في حماسة وفرح)
:
كل الإيمان يا مولاي. نعم، الآن لا ريب عندي في أنهم هم ولقد أظهرهم الله في عصرك
السعيد يا مولاي لأنك مسيحي مؤمن بإله واحد ولأن عصرك عصر المسيحية الزاهرة.
الملك
(في فرح)
:
ما أسعد حظي لو أن ما تقول صحيح!
غالياس
(في فرح كذلك)
:
صحيح يا مولاي. هم، هم. ثلاثة رابعهم كلبهم القديس مرنوش، والقديس مشلينيا،
والقديس يمليخا، والكلب قِطمير، كما جاء في كتاب الراهبين.
بريسكا
(في شبه رهبة)
:
هذا عجيب! هذا عجيب يا غالياس! إني لا أستطيع أن أتخيَّل هذا الذي تقول ..
غالياس
(مستمرًّا في فرحه وحماسته)
:
إني حدَستُ منذ أن وصف الصيَّاد هذا الرجل الغريب الذي طلع عليه وأبرز له قطعة
الفضة المضروبة باسم دقيانوس. أمَّا الآن وقد علمت أنهم ثلاثة لا واحد ورابعهم
كلبهم، فقد انطبقت أوصافهم على ما جاء في التاريخ فلا محل للحَدْس والريب.
بريسكا
(في خوف وحب استطلاع)
:
ولكن أين كانوا؟ وهل لبثوا أحياءً طول هذا الزمن؟!
الملك
(مصادقًا)
:
نعم يا غالياس أجب! أتعتقد أنهم مكثوا بالغار أحياء أكثر من ثلاثمائة
عام؟!
غالياس
(بعد تفكير)
:
ولِمَ لا؟ مَن يدري؟ ألم يبلغك يا مولاي ما جاء بكتب الهند؟
الملك
:
ماذا؟ ..
غالياس
:
قصة في جزر اليابان تُدعى قصة أوراشيما.
الملك
:
وما دخلها فيما نحن فيه؟
غالياس
:
إنها تُشبه قصة هؤلاء الفتية، ويظهر أنها وقعت حقيقة يا مولاي؛ لأن سكان تلك
البلاد يؤمنون بها إيماننا بقصة فتية الكهف.
الملك
:
وهل ظهروا عندهم كذلك بعد اختفاء طويل ..؟
غالياس
:
أجل يا مولاي. مُدوَّن في التقاويم الرسمية لملوك تلك البلاد أنه في السنة
الحادية والعشرين من حكم الميكادو «يورياكو» خرج الفتى الصيَّاد «أوراشيما» من
إقليم «يوشا» للصيد في قاربه ولم يعد. ولبث — دون أن يُسمَع عنه خبر — مدى حكم واحد
وثلاثين ملكًا وملكة، أي مدى أربعة قرون .. وعندئذٍ تقول التقاويم الرسمية إنه في
أثناء حكم الميكادو «جونجو» ظهر الفتى «أوراشيما» .. غير أنه ذهب وشيكًا مرة أخرى
.. ولا يعلم أحد إلى أين ذهب.
بريسكا
(مأخوذة، ثم بعد لحظة)
:
وأين كان هذا الفتى الصيَّاد يا غالياس أثناء القرون الأربعة؟!
غالياس
:
لستُ أدري يا مولاتي. هذا مبلغ علمي بتلك القصة ..
بريسكا
:
إنك دائمًا كذلك يا غالياس سطحي العلم!
غالياس
(مستاء)
:
مولاتي! بل هو ذكاؤكِ الذي لا يَقنع بشيء ..
الملك
(متفكرًا)
:
عجبًا يا غالياس! إذن في تلك البلاد أيضًا يعتقدون في عودة من يختفي بعد هذا
القدر الهائل من السنين؟!
غالياس
:
نعم يا مولاي. ولعل لكل جنس من أجناس البشر قصة كهذه ..
الملك
:
إذن لا ريب عند الناس في أن من ذهب سوف يعود؟!
غالياس
:
نعم يا مولاي. ومن مات سوف يُبعَث. تلك قصة البشرية الخالدة، وإذا كانت القصة
ضمير الشعب كما يقولون، وإذا كانت البشرية قاطبة على اختلاف أجناسها وأجيالها قد
اتحدت وتلاقت في قصة واحدة. أفيمكن يا مولاي لضمير البشرية قاطبة أن يُخطئ؟!
الملك
(يفيق من تأمُّله)
:
إذن ماذا تنتظر يا غالياس؟ لِمَ لا تذهب إلى الغار فتأتي بهؤلاء القديسين ضيوفًا
كرامًا على قصرنا!
غالياس
(في حماسة)
:
أصبت يا مولاي. أشهد أن ليس في ملوك الروم المسيحيين مَن هو أشد تقوى ومسيحية
منك!
الملك
(يستطرد في حماسته)
:
لماذا لم تُبلِغ الرهبان ورجال الدين كلهم كي يقوموا بالشعائر والطقوس والمراسيم
بما لم يسبق له مثيل. إنها لمناسبة تاريخية لا يمكن أن يَرى نظيرَها دهرٌ من
الدهور.
غالياس
:
أصبت يا مولاي، أصبت أيها الملك المؤمن. نعم فلنذهب يا مولاي .. فلنذهب ..
(تُسمع ضجة خارج البهو.)
بريسكا
:
ما هذا الضجيج؟
الملك
:
انظر يا غالياس ما الخبر!
(غالياس يخرج سريعًا مُلبِّيًا.)
بريسكا
(للملك)
:
أبتِ، أوَلم تزمع حقيقة إنزال هاته المخلوقات القصر؟
الملك
:
أي مخلوقات يا بريسكا؟
بريسكا
(في خوف)
:
أصحاب القصة. هؤلاء الأشباح الذين ملئوا مَن رأوهم رعبًا.
الملك
:
أأنتِ خائفة؟
بريسكا
(في خوف)
:
نعم.
الملك
(ملاطفًا)
:
هدِّئي من روعكِ يا بريسكا. إنهم مثلنا في كل شيء. سترين. لا شكَّ أن الوهم هو
الذي أخاف الناس منهم.
بريسكا
(خائفة)
:
إني لن أستطيع النوم يا أبتِ كلما ذكرت أن هذا القصر يحتويني أنا وأشخاصًا
خرافيين جرت بهم الأساطير منذ القدم.
الملك
:
كلا يا ابنتي. هم ليسوا أشخاصًا خرافيين. إنما هم قديسون. وإن وجود هؤلاء
القديسين بيننا لشرف عظيم وبركة كبرى.
غالياس
(يدخل مهرولًا صائحًا معلنًا)
:
هُم يا مولاي! هُم .. هُم ..!
الملك
(مُفاجَأً يرتبك)
:
مَن؟
غالياس
:
أهل الكهف ..
بريسكا
(في صيحة خوف خافتة)
:
آه ..
الملك
(في رعدة)
:
كيف .. كيف يا غالياس! كيف جاءوا؟
غالياس
:
جاء بهم إليك رهط من الناس يا مولاي .. ولعلهم اجتازوا الآن باب القصر ..
بريسكا
(في خوف)
:
غالياس! تعال إلى جانبي! لا تتركني ..
غالياس
(في حماسة)
:
فلنستقبلهم يا مولاي. فلنستقبلهم أحسن استقبال.
الملك
(بلا حراك)
:
نعم فلنستقبلهم ..
بريسكا
:
أبتِ! لا تستقبلهم! إنك خائف! صوتك يتهدج فرقًا.
الملك
:
أنا؟!
بريسكا
:
نعم! أقسم إنك خائف.
غالياس
:
مولاتي. إن الملك مؤمن، والمؤمن لا يخاف القديسين.
الملك
:
صدقت يا غالياس، صدقت.
(الضجة تدنو منهم.)
الملك
(في اضطراب خفيف)
:
اسمع! ها هم أولاء ..
غالياس
:
فلأهرعن إذن إليهم ..
بريسكا
(تستوقفه)
:
بل ابقَ هنا كما قلت لك.
(يُسمع صوت مشلينيا قادمًا.)
مشلينيا
(صائحًا في الخارج)
:
لم يتغيَّر شيء يا يمليخا! ها هو ذا بهو الأعمدة كما تركناه أمس!
مرنوش
:
نعم بهو الأعمدة لم يتغيَّر ..
يمليخا
(في صوت كالعويل)
:
كل شيء تغيَّر، كل شيء تغيَّر ..!
(ثم يظهرون بشعورهم المدلاة، ولِحاهم الطويلة وثيابهم القديمة، يحيط
بهم رجال القصر وجنود الملك.)
بريسكا
(لا تكاد تراهم حتى تصيح صيحة مكتومة، وتتمسَّك بأهداب ثوب
غالياس)
:
رباه! ..
مشلينيا
(لا يكاد يرى الأميرة حتى يصيح صيحة خافتة غير متمالك)
:
بريسكا!
بريسكا
(في رهب تحتمي بغالياس)
:
آه. أَسَمِعتَ؟ قد لفظ اسمي.
غالياس
(همسًا)
:
أرأيت؟ إنه قديس.
(الصياد يتقدَّم إلى الملك المأخوذ.)
الصيَّاد
:
مولاي! لقد أتينا بهم من الكهف ليفصل الملك بنفسه في حقيقة أمرهم.
مرنوش
(غامزًا مشلينيا وهامسًا في أذنه)
:
هذا ولا ريب خليفة دقيانوس.
مشلينيا
(لا يحس وجودًا غير وجود الأميرة)
:
بريسكا!
بريسكا
(في خوف)
:
إنه ينظر إليَّ نظرات غريبة .. غالياس! لا أستطيع البقاء ها هنا.
(تجذب مؤدبها وتخرج معه من باب قريب دون أن يشعر بها أحد إلا
مشلينيا وهو دَهِش كأنه في حلم.)
الملك
(يتجلد ويتقدَّم إليهم قائلًا في صوت متغيِّر بعض الشيء)
:
لقد نزلتم على الرحب أيها القديسون. إننا قد انتظرناكم طويلًا كما انتظركم من قبل
أجدادنا وأجداد أجدادنا، وإنه لحقًّا لشرف عظيم أن ..
يمليخا
(الذي ما انفك يتأمَّل ما حواليه بعينين زائغتين مرتاعتين يهمس
لمرنوش)
:
انظر إلى ملابس هذا الملك وهؤلاء الجند، في أي بلد نحن؟!
الملك
(يستطرد)
:
نعم إنه لشرف عظيم أن تخصوني بهذا الفخر وتظهروا في عصري دون عصور أجدادي
المسيحيين.
يمليخا
(هامسًا في دهشة لمرنوش)
:
هذا الملك مسيحي!
مرنوش
(وهو يُسكته)
:
ألم تفهم غير هذه الكلمة؟
الملك
(للصيَّاد)
:
وأنت أيها الصيَّاد الذي دلنا على مكانهم الكريم .. سأكافئك. نعم أيها القديسون!
إننا كنا ننتظر هذه اللحظة المجيدة؛ لحظة ظهوركم منذ أمد طويل كما هو مُدوَّن في
التواريخ.
مرنوش
(هامسًا وكأنما يُخاطب نفسه)
:
هذا الملك مجنون!
الملك
:
إن قصري — إن شئتم — منزلكم ومأواكم وكل حوائجكم مُجابة، وكل أوامركم مُطاعة،
وليس لنا من مطمح غير خدمتكم ورضاكم.
يمليخا
(همسًا لمرنوش)
:
ألم أقل لكم إن الله حق؟! إن الشهر الذي مكثناه في الغار قد حدث فيه العجب
العجاب!
(مرنوش لا يسمع له، ومشلينيا مشغول بما هو فيه من أمر
الأميرة.)
مرنوش
(يلتفت إلى الملك مُجيبًا)
:
مولاي! كم أحمد الله على هذه المعجزة الحقة. إذ أهلك دقيانوس الظالم في طرفة عين،
وأخلفك على العرش في الحال. وكنت أود أن أطنب في شكر الله على توليتكم بين عشية
وضحاها ملكًا على أفئدتنا أجمعين، لو لم تكن لي حاجة مُلحَّة لا أستطيع عنها صبرًا
لحظة واحدة .. (الملك يبهت قليلًا) أن يأذن لي الملك في الانصراف على الفور. إن
امرأتي وولدي ينتظران أَوْبَتي في قلق منذ أسبوع وربما أكثر من أسبوع ..
يمليخا
(هامسًا لمرنوش)
:
إني خائف من هذا القصر! (ثم يلتفت كذلك إلى الملك في صوت مضطرب) وأنا كذلك يا
مولاي لي غنم ترعى الكلأ في مكان لا يعلمه سواي.
مرنوش
(في إلحاح)
:
أتأذن يا مولاي؟
الملك
(مأخوذ مرتبك يبحث عن غالياس حوله)
:
يا غالياس! يا غالياس!
مرنوش
:
كلا! لا لزوم يا مولاي. إني أعرف الطريق إلى بيتي.
(ينحني ويخرج حالًا .. وينتهز يمليخا الفرصة ويخرج في إثر مرنوش.
أمَّا مشلينيا فيبقى ويخرج من تأمُّله ويتقدَّم إلى الملك.)
مشلينيا
:
مولاي! إني لست خليقًا بالمثول بين يديك والتحدُّث إليك الآن، وأنا على ما ترى من
سوء الحال. أيأذن لي مولاي قبل كل شيء في الذهاب إلى حجرتي أُغيِّر ملابسي هذه
وأحلق شعري الأشعث، ولحيتي الطويلة؟
الملك
(في دهش)
:
يا غالياس! ..
مشلينيا
:
كلا. لا لزوم يا مولاي. أنا كذلك أعرف حجرتي في هذا القصر، فليعذرني مولاي! إني
ما انتبهت إلى رثاثة هيئتي إلا الساعة. هذا ولا ريب قد نفَّر الأميرة الآن فلم
تردَّ عليَّ تحيتي .. (يخرج من البهو تاركًا الملك ومَن معه جامدين في دهشة
عظيمة).
الملك
(يتحرَّك قليلًا نحو باب قريب منه)
:
غالياس! ..
غالياس
(من الخارج)
:
مولاي! (ثم يظهر مسرعًا) ها أنا ذا يا مولاي! إن مولاتي الأميرة أبت عليَّ
مفارقتها في هذه الآونة .. (ينظر إلى الملك الساهم) ما بك يا مولاي؟ (يلتفت حوله
باحثًا) أين القديسون؟
(الملك ينتبه وقبل أن يُكلِّم غالياس يلتفت إلى الحاضرين الساهمين
كذلك فيأمرهم بالانصراف مُشيرًا بيده.)
غالياس
(بعد أن ذهب الجميع ولم يبقَ غيره والملك يسأل في قلق)
:
أين القديسون؟!
الملك
:
القديسون؟!
غالياس
:
نعم، أين هم؟
الملك
:
أتصغي إليَّ يا غالياس؟
غالياس
:
بالطبع يا مولاي.
الملك
(همسًا)
:
هؤلاء القديسون مجانين.
غالياس
(يبهت)
:
مجانين؟! اللهم غفرانك! وأين ذهبوا يا مولاي؟
الملك
:
ذهبوا .. أحدهم إلى بيته ..
غالياس
:
بيته؟!
الملك
:
هكذا قال! والثاني إلى غنمه التي ترعى الكلأ ..
غالياس
:
والثالث؟
الملك
:
الثالث راح يحلق ..
(لا يكاد المُؤدِّب يفتح فاه عجبًا حتى تُسمع صيحات هلع نسوية خارج
البهو.)
غالياس
:
ما هذا؟
الملك
:
هذا هو ثالثهم .. انطلق في القصر على ما أرى يرعب من صادفه من الحاشية. أسرع إليه
يا غالياس وقُدْهُ إلى منزل الضيوف وأوصِ به الخدم والعبيد. (المُؤدِّب يخرج سريعًا
ويتهيَّأ الملك للانصراف، وإذا مرنوش يظهر بغتة أمامه عائدًا وحده) رباه! (ويتراجع)
إليَّ يا غالياس!
مرنوش
:
مولاي! أتأذن لي بكلمة. إنك قلت الساعة إن حاجاتنا عندك مُجابة، وقد أذنت لي الآن
في الذهاب إلى بيتي. غير أني عند خروجي تذكَّرت أني سأدخل على امرأتي وولدي خالي
الوفاض وهما يحسبان أني على سفر هذا الأسبوع. وتذكَّرت أني منذ عام كان قد أوفدني
دقيانوس إلى الأقاليم، فغبت عن بيتي أربعة أيام، فلما عدت حملت معي إلى ولدي من
الهدايا ما سُرَّ به سرورًا. حتى إنه قال «ليتك تسافر كل يوم يا أبتِ.» ولا ريب
عندي أنه يتعزى عن غيبتي بما يحسبني سأحمله إليه من هدية، وليت معي نقودًا يا مولاي
غير نقود دقيانوس هذه التي بطل استعمالها منذ ولايتك الميمونة.
الملك
(يتجه إلى الباب الذي خرج منه المُؤدِّب)
:
يا غالياس!
مرنوش
(مُتأمِّلًا المكان ثم ثياب الملك)
:
مولاي، أصبت والله بتعجيل هذا التغيير في الملبس والمظهر عمَّا كان عليه الحال في
حكم الوثني دقيانوس، حتى يتميَّز حكمك المسيحي عن حكمه .. نعم، ما أحسن ملابس الناس
الآن، ولكن أعجب من ذلك أن يتم لك هذا كله في بضعة أيام. ثم هذا الطريق الذي ساروا
بنا فيه اليوم من الكهف إلى القصر؛ لقد تغيَّر كثيرًا ولبس حلة من التنسيق لم تكن
عليه الأسبوع الماضي ..
الملك
(متلفتًا إلى الباب)
:
يا غالياس، أَقدِم يا غالياس.
غالياس
(من الخارج)
:
لبيك يا مولاي! (يدخل مهرولًا) مولاي!
الملك
(يُشير إلى مرنوش)
:
إنك تستطيع أن تفهم ما يقول القديس!
غالياس
(يلتفت إلى مرنوش وينحني في خضوع وخشوع)
:
يا من تظله هالة النور! لقد ظهرت على الرحب بعد طول انتظار، قضته الروم في قلق
ترقب عودتكم، لا تقنط ولا تمل، وقد ربط الله على قلبها بالإيمان .. (مرنوش يتفرَّس
في غالياس مرتابًا بعقله، ولكن غالياس يمضي قائلًا) غير أن الجميل في هذا أن يكون
ظهوركم في عصرنا نحن. كأنما قد خصصتم مليكنا السعيد دون من سبقوه وآثرتم شعبه
الكريم بشرف مرآكم العظيم ..
مرنوش
(لنفسه)
:
أُقسم بالمسيح إن هذا معتوه!
الملك
(هامسًا للمُؤدِّب)
:
كل هذا قلته أنا قبلك. سله عمَّا يُريد الآن.
غالياس
:
يُريد؟ وهل يُريد إلا العزلة والخلو إلى الله يا مولاي؟! فلأفعلن به ما فعلت
بصاحبه، أسير به إلى منزل الضيوف وأوصي به الخدم والعبيد أن يُعنَوا بقضاء حاجاته
ويأتمروا بأوامره المقدسة. (لمرنوش) هلم يا صفيَّ الله!
مرنوش
(لا يتحرَّك)
:
إلى أين؟
غالياس
:
إلى صومعتك الشريفة ..
(يُريد أن يأخذ بيده.)
مرنوش
(يدفعه عنه ويلتفت إلى الملك)
:
مولاي .. أوَتترك عليَّ هذا المجنون؟! (الملك وغالياس يتبادلان النظرات ويدنو
أحدهما من الآخر) مولاي! إني أنتظر أمرك لأذهب إلى بيتي.
الملك
(هامسًا)
:
أسمعت يا غالياس .. أسمعت ..؟
مرنوش
(في تردُّد)
:
وإني أنتظر .. برَّك بعبدك الأمين وبيته.
الملك
(هامسًا)
:
ما تقول في هذا يا غالياس؟
غالياس
(يتقدَّم متشجعًا إلى مرنوش)
:
أيها القديس! إنا نعرف أين بيتك .. لكن نسألك ضارعين ألا تفارقنا إليه
الساعة!
مرنوش
(دهشًا)
:
تعرف أين بيتي؟!
غالياس
(يلتفت إلى الملك في شيء من الزهو كأنما استطاع أخيرًا أن يتصل
بالقديس)
:
نعم! وهل يجهل مثلي مكانه؟
مرنوش
(مُتعجِّبًا)
:
عجبًا! وكيف استطعت أنت أن تعرف مكانه، ولم أبح قط بسر بيتي لغير
الأخصِّاء؟!
غالياس
:
أوَلست من الأخصاء يا صفيَّ الله وأنا الذي ابيضَّ شعره في ذكركم؟!
مرنوش
:
أنت أيها الرجل؟ إني لم أرَك إلا اليوم؟!
غالياس
:
نعم. هذا شرف عظيم ما كنت أحلم به يومًا، وأنا أذكركم وأرقب عودتكم وأطلب القربى
من سرِّ بيتكم.
مرنوش
:
سر بيتي؟ أخبرني كيف عرفت هذا السر .. أُريد أن أعرف من أخبرك بسر بيتي؟
غالياس
(في صوت عميق حار)
:
الإيمان.
مرنوش
:
اسمع أيها الشيخ! سواء أكان الإيمان كما تقول أم غيره، أريد الآن أن أعرف منك أين
بيتي؟ في أي موضع؟ إن كنت صادقًا، في أيَّة ناحية؟ في أيَّة جهة؟
غالياس
(في صوت عميق)
:
في السماء.
مرنوش
(ناظرًا إلى الملك وكأنما يُخاطب نفسه)
:
ألم أُقْسِم بأن هذا الشيخ مُصاب في عقله!
الملك
(همسًا للمُؤدِّب)
:
ابقَ أنتَ هنا يا غالياس.
(يتحرَّك الملك.)
غالياس
(همسًا)
:
أتذهب يا مولاي وتتركني؟
(يهم الملك بالذهاب وإذا بصوت مختنق يدنو، ويبدو يمليخا فجأة فيرتد
الملك إلى جوار غالياس.)
يمليخا
(داخلًا في حال مضطربة)
:
مرنوش! مشلينيا! أين أنتما؟ (يقع على ركبتيه بجوار مرنوش).
مرنوش
(دهشًا)
:
ماذا دهاك؟
يمليخا
(وهو يُشير إلى الملك وغالياس)
:
ويلاه! أَكُنْتَ تُخاطب هذه المخلوقات؟!
(الملك وغالياس يتبادلان النظر ويرتدان حتى يبلغا أقرب باب.)
مرنوش
:
أجننت يا يمليخا؟! (يشير له إلى الملك وغالياس) هذا الملك وهذا الشيخ
المعتوه.
(عندئذٍ يخرج الملك والمُؤدِّب في رفق من الباب ويتركان
القديسين!)
يمليخا
:
أين مشلينيا؟ أين مشلينيا؟
مرنوش
:
ما بك يا يمليخا؟
يمليخا
:
ادعُ مشلينيا على عجل! ولنذهب .. ولنذهب ..
مرنوش
:
إلى أين نذهب؟!
يمليخا
:
إلى الكهف. ثلاثتنا وقِطمير معنا كما كنا.
مرنوش
:
لماذا؟! ماذا فعلت؟ ماذا حدث؟
يمليخا
:
إلى الكهف. ثلاثتنا وقِطمير معنا كما كنا.
مرنوش
:
لِمَ يا يمليخا؟ أجب.
يمليخا
:
هذا العالم ليس عالمنا .. هذا ليس عالمنا.
مرنوش
:
ماذا تعني؟
يمليخا
:
أتدري كم لبثنا في الكهف؟
مرنوش
:
أسبوعًا. (يمليخا يضحك ضحكات عصبية هائلة) شهرًا على حسابك الخرافي؟
يمليخا
(على نحو مخيف)
:
مرنوش، إنا موتى! إنا أشباح ..!
مرنوش
:
ما هذا الكلام يا يمليخا؟
يمليخا
:
ثلاثمائة عام! تخيَّل هذا؟ ثلاثمائة عام لبثناها في الكهف!
مرنوش
:
مسكين أيها الفتى!
يمليخا
:
هذا الفتى عمره نيف وثلاثمائة عام! لقد مات دقيانوس منذ ثلاثمائة عام! وعالمنا
باد منذ ثلاثة قرون!
مرنوش
:
عالمنا باد؟ وأين نحن إذن؟
يمليخا
:
هذا الذي نرى دنيا أخرى ليست لنا بها صلة.
مرنوش
:
أشربت شيئًا يا يمليخا؟
يمليخا
:
لست بشارب ولا بمجنون. إني أقول لك الحقيقة. اخرج وطف بهذه المدينة وأنت
تفهم.
مرنوش
:
أفهم ماذا؟
يمليخا
:
تفهم أننا لا ينبغي لنا أن نمكث بين هؤلاء الناس لحظة واحدة.
مرنوش
:
ما الذي يُخيفك من هؤلاء الناس يا يمليخا؟ أليسوا بشرًا؟ أليسوا من الروم؟
يمليخا
:
كلا، إنهم ناس لا يمكن أن نفهم من هم ولا يمكن أن يفهموا من نحن ..
مرنوش
:
وما يضيرك؟ تجنبهم وامكث بين أهلك .. (مُتذكِّرًا) ولكنك ذكرت لنا أن ليس لك أهل
يا يمليخا.
يمليخا
:
وإن كان لي أهل. فهل تحسبني واجدهم بعد ثلاثمائة سنة؟!
مرنوش
(في رعدة)
:
ماذا تقول أيها الشقي؟!
يمليخا
(في صوت كالعويل)
:
أجل. إنا أشقياء .. أشقياء .. نحن ثلاثتنا وقِطمير معنا. لا أمل لنا الآن في
الحياة إلا في الكهف. فلنعد إلى الكهف. هلمَّ يا مرنوش! ليس لبعضنا الآن سميع ولا
مجيب إلا البعض. هلموا بنا. رحمةً بي! إني أموت إن مكثت هنا.
مرنوش
:
أنت جننت أيها المسكين!
يمليخا
:
لست بمجنون .. إلى الكهف .. الكهف كل ما نملك من مقر في هذا الوجود! الكهف هو
الحلقة التي تصلنا بعالمنا المفقود!
مرنوش
(مُفكِّرًا في اضطراب)
:
أيستطيع العقل البشري تصوُّر ما تقول؟! إنك ولا ريب صادفت من لعب بك، أو شُبِّه
لك.
يمليخا
:
لم يُشبَّه لي، لقد سمعت الناس بأذني تقول ذلك. وهذا كل ما فهمت منهم .. من هذه
المخلوقات. وأنت يا مرنوش! أفهمت من هذه المخلوقات شيئًا؟ أجب! ثم هذه الملابس
العجيبة، وهذه التغييرات، والمدينة المقلوبة رأسًا على عقب. اخرج وانظر! مدينة
طرسوس لن تعرفها ولن تتبينها.
مرنوش
(يتفكَّر لحظة)
:
صدقت قليلًا في هذا .. لكن …
يمليخا
:
لكن ماذا؟ أليست لنا عقول؟ إن هذا التغيير كله والتبديل في كل شيء حولنا لا يُمكن
أن يحدث في شهر ولا في عام.
مرنوش
:
حقيقة لست أفهم كثيرًا ..
يمليخا
:
أرأيت؟ إنك لم تفهم شيئًا مِمَّا حولك. لأن بيننا وبينهم ثلاثمائة عام!
مرنوش
:
ثلاثمائة عام!
يمليخا
:
نعم ..
مرنوش
:
ما تقول يا يمليخا لا يمكن أن يتخيَّله عقل بشر. وإني لأتسامح إذ أعدُّك بعدُ
عاقلًا، وأنت تقول جادًّا هذا الكلام. أتستطيع حقًّا أن تعتقد أننا نمنا في الكهف
أكثر من ثلاث ليالٍ؟
يمليخا
:
إننا نمنا أكثر من ثلاثمائة سنة.
مرنوش
:
صه! كفى ..
يمليخا
:
لقد دهشت مثلك يا مرنوش. لكنه الواقع. وعمَّا قليل يثبت لك أنا لبثنا في الكهف
هذا القدر من الأعوام.
مرنوش
:
أيَّتُها السماوات، أعطيني العقل الذي أستطيع به تصوُّر ما يتفوه به هذا الممرور!
إنكَ جننت يا يمليخا. هذا كل ما في الأمر.
يمليخا
:
إني أروي الحقيقة.
مرنوش
(يتفكَّر في جهد)
:
إنك ستجنني معك. كلا ليس في طاقة رأسي تصوُّر هذا. فليبلغ ما بيننا وبينهم ما
بلغ. ماذا تريد الآن؟
يمليخا
:
الكهف!
مرنوش
:
أتريد أن ندفن أنفسنا أحياءً في الكهف؟
يمليخا
:
نعم، فلنذهب إلى عالمنا ..
مرنوش
:
اذهب أنت.
يمليخا
:
وأنت يا مرنوش؟
مرنوش
:
أنا لي أهل وبيت وولد ينتظرونني. (يمليخا يضحك ضحكة رهيبة) ما يضحكك هكذا؟ أبك
مَسٌّ؟
يمليخا
:
ثلاثمائة عام! أنسيت؟
مرنوش
(في ضيق)
:
نعم ثلاثمائة عام. فلتكن، قلت لك ثلاثمائة أو أربعمائة عام! ماذا يضيرني؟ وماذا
يُغيِّر هذا من حياتي؟ إننا الآن أحياء. أتنكر أيضًا أننا أحياء في هذه اللحظة؟
وأننا خرجنا من الكهف أحياء بعد تلك الليلة الهائلة؟
يمليخا
:
إنها ليست ليلة واحدة — قلت لك — بل أعوام!
مرنوش
(يصيح)
:
إن لي عقلًا قبل كل شيء. إن لي عقلًا! ها هو ذا في رأسي أحس وجوده. وهذا الكلام
الذي تقول يُنكِره هذا العقل.
يمليخا
(يسمع حركة فيجفل)
:
من القادم؟ إنهم آتون.
مرنوش
(ناظرًا إليه)
:
لماذا تخاف منهم هكذا؟
يمليخا
(كالهامس)
:
لست أحبهم.
مرنوش
:
الآن، لا ريب عندي أن ليلة الكهف المُخيفة قد أثَّرت في عقلك يا يمليخا!
(يظهر مشلينيا وقد حلق لحيته وشاربه، وارتدى ثيابًا كثياب العصر
وغدا فتًى جميلًا.)
يمليخا
(ممسكًا بمرنوش خوفًا ومشيرًا إلى مشلينيا)
:
هذا واحد منهم، انظر ..
مرنوش
(ملتفتًا)
:
من هذا؟
مشلينيا
(باسمًا)
:
عجبًا! ألم تُغيِّرا بعدُ ما أنتما عليه من هيئةٍ زَرِيَّة وثيابٍ أثرية؟
مرنوش
(مُحدِّقًا فيه)
:
هذا أنت يا مشلينيا؟!
مشلينيا
(باسمًا)
:
كما ترى. (يمليخا يلمس أطراف ثوب مشلينيا مستطلعًا) أيعجبك الثوب يا
يمليخا؟
مرنوش
(وهو يستطلع كذلك ويتأمَّل مشلينيا)
:
حدثنا كيف استطعت أن تنقلب هذا المنقلب؟!
مشلينيا
(باسمًا منشرحًا)
:
الأمر بسيط. طلبت إلى الخدم والعبيد أن يأتوني بموسى أحلق ذقني وشعري، فلبوا
الأمر .. ولكن …
مرنوش
:
ولكن ..؟
مشلينيا
:
ولكن طفقوا يتغامزون ويتلامزون، وكأن بهم رهبة، فصرت بهم أُلاطفهم وأستدرجهم وهم
فرقون، حتى استطعت أخيرًا أن أعلم منهم العجب العجاب. أتدريان كم لبثنا في
الغار؟
مرنوش
:
أعلمت أنت أيضًا؟
مشلينيا
:
أوَتعلمان؟
مرنوش
(في تردُّد)
:
ثلاثمائة، أم أكثر؟
مشلينيا
:
من أخبركما؟
يمليخا
(صائحًا بمرنوش)
:
أرأيت؟ أصدَّقتني الآن؟
مرنوش
(لمشلينيا)
:
أوَتستطيع أن تتخيَّل هذا يا مشلينيا؟
مشلينيا
:
لقد اتهمتهم بالجنون.
مرنوش
(ليمليخا)
:
أسمعت أيها الراعي؟
يمليخا
(في قوة)
:
أقسم بالمسيح …
مشلينيا
:
لا حاجة لنا بقسمك، إني مُصدِّقك يا يمليخا، كما صدَّقت أخيرًا أولئك
العبيد.
مرنوش
:
أوَصدقت؟
مشلينيا
:
ولِمَ لا أُصدِّق؟ كل شيء سواء ما دامت هي …
مرنوش
:
أصبت. وماذا صنعتَ بعدئذٍ؟
مشلينيا
:
لا شيء. طلبت إليهم أن يأتوني بثياب حديثة وأسرعت فخلعت ثيابي العتيقة.
مرنوش
:
حسنًا فعلت. إن من السهل أن ألحظ ما أوحى إليك بهذا التزيُّن والتجمُّل أيها
الخبيث! كل هذا من أجل …
مشلينيا
(في فرح)
:
أرأيتها يا مرنوش؟ إذ كانت هنا الساعة؟
مرنوش
:
نعم .. (يشرد لحظة ثم يقول) أنا كذلك يا مشلينيا أحب أن أفعل فعلك.
مشلينيا
(باسمًا)
:
تريد التزيُّن والتجمُّل!
مرنوش
:
بل شيئًا من النظافة وحُسن الهيئة أدخل بهما على أهلي.
مشلينيا
(ملتفتًا إلى الراعي)
:
ويمليخا كذلك؟
يمليخا
(في صوت باكٍ رهيب)
:
دعا يمليخا في شأنه .. أيها الفتيان! إن يمليخا عمره ثلاثمائة عام!
مشلينيا
:
مسكين يا يمليخا، ونحن إذن؟
يمليخا
:
أنتما مُحِبَّان.
مشلينيا
:
أوَليس للمحب عُمْر؟
مرنوش
(لمشلينيا)
:
دع يمليخا كما قال لك. لمن تريده يلبس ويتزيَّن؟
مشلينيا
:
صدقت، إنه لا أهل له.
يمليخا
(ذاهبًا في كآبة)
:
أستودعكما الله والمسيح!
مشلينيا
:
إلى أين ذاهب؟
يمليخا
(ذاهبًا في كآبة)
:
إلى الكهف.
مشلينيا
:
ويحك! ماذا تصنع في الكهف؟
مرنوش
:
إن يمليخا يزعم أن الحياة مستحيلة بين هؤلاء الناس.
مشلينيا
(ملتفتًا إلى يمليخا)
:
لماذا؟
مرنوش
:
ويزعم أننا لا يُمكن أن نتصل بهم ولا أن يتصلوا هم بنا ..
مشلينيا
:
ماذا دهاه؟
مرنوش
:
بل أكثر من ذلك .. يرهبهم وينظر إليهم كأنهم مخلوقات عالم آخر .. ويتصوَّر هذه
المدينة دنيا لم يسبق له بها عهد ..
مشلينيا
(ليمليخا الصامت المُطرِق)
:
لماذا كل هذا يا يمليخا؟
(يمليخا لا يجيب.)
مرنوش
:
وهل لهذا من سبب إلا أنه مخرف أحمق!
مشلينيا
:
لماذا يا يمليخا لا تنظر إلى الحياة وإلى الأشياء كما ننظر إليها نحن؟ أترهبك
كلمة ثلاثمائة سنة؟! فليكن مبلغها ما يكون. إننا في الحياة قبل كل شيء. إننا نعيش
ونحس ونشعر ..
مرنوش
:
هذا عين ما قلته له. إننا نحس ونشعر ونعقل. وليس لدينا العقل الذي يُصدِّق أن
ليلة الكهف تمخَّضت وولدت ثلاثمائة عام. وإذا كان هو يملك هذا العقل، فعقله ولا ريب
من طراز آخر أدق من طراز عقولنا!
مشلينيا
:
أجبني يا يمليخا! ما الذي يجعلك تختلف عنا في هذا؟ ومع ذلك، هب أننا نمنا ما شئت
من أعوام؟ فماذا يُغيِّر هذا من حياتنا الآن؟ ألسنا في الحياة .. نحمل قلوبًا
وآمالًا؟
مرنوش
:
فلنتفكَّر معًا قليلًا يا مشلينيا! أيمكن لأي عقل أن يتصوَّر هذا؟
مشلينيا
:
مستحيل!
مرنوش
:
وإن ظهر أن هذا حقيقي، أليس معناه الجنون لنا جميعًا؟ اعترف!
مشلينيا
:
أعترف أن لا شيء يستطيع أن يُغيِّر من حياتي الحاضرة أو المستقبلة.
مرنوش
:
ولا أنا كذلك.
مشلينيا
:
وأنت يا يمليخا! ماذا يُغيِّر أمرٌ كهذا من حياتك؟ ولماذا يختلف الآن إحساسك
بالحياة عن إحساسنا؟ (يمليخا لا يجيب) يمليخا! ألا تسمعني؟ ألا تجيب عن
سؤالي؟
يمليخا
:
بالله لا تسألني الآن شيئًا.
مشلينيا
:
لماذا؟
مرنوش
:
تكلم يا يمليخا!
يمليخا
(في حدَّة)
:
قلت لكما لا تسألاني الآن شيئًا (بعد لحظة بينما ينظران إليه في وجوم) لقد صرتما
أنتما أيضًا غريبين عني منذ قليل. أنتما البقية الباقية بعد أن مضى كل شيء كحلم.
وانطفأت عصور وأجيال في شبه ليلة واحدة. آه لو تعلمان أيها الأعميان ما رأيت الآن
في شارع بطرسوس إن كانت هذه بعدُ مدينة طرسوس! لو رأيتماني وقد أحاطت بي ناس في
ثياب غريبة وعلى وجوههم ملامح عجيبة، وهم ينظرون إليَّ نظرات كاد قلبي ينخلع منها.
وكأنهم يتفحصون أمري تفحُّص من يحسبني من عالم الجن. وأينما سرتُ فهم في أثري
بنظراتهم المستطلعة الحذرة. لا أستطيع مخاطبة أحد منهم؛ وإن فعلت فلا أحسبني أجد
مُجيبًا بل نظرات صامتة فزعة. يُخيَّل إليَّ أني أموت جوعًا قبل أن يمد إليَّ أحدهم
يده بطعام. إنهم يظنونني ولا ريب من خلقة لا تأكل ولا تشرب .. ولا شك أني إن أردت
سكنًا فلن يسكنني أحد بجواره. وإن هبطت مكانًا فالكل هاربون وتاركوه لي لينظروا
إليَّ عن كثب بعيونهم المستطلعة الحذرة التي لا تتغير نظراتها .. بل إني سمعت أثناء
هذا نباحًا خافتًا مخنوقًا، فانتبهت فألفيت كلبي قِطميرًا كذلك قد أحاطت به كلاب
المدينة ترمقه وتشمه كأنه حيوان عجيب وهو يحاول الخلاص من خناقها ولا يجد إلى ذلك
سبيلًا. وجرى المسكين أخيرًا إلى جدار قريب ووقع تحته إعياءً ورعبًا. والكلاب في
أثره، حتى وقفتْ منه على قيد خطوة تُعيد النظر إليه، ويريد بعضها الدنو منه لمعاودة
شمه فيُقصِيه الحذر .. هذا أنا وهذا كلبي قِطمير في هذه الحياة الجديدة! أمَّا
أنتما فأعميان لا تبصران! أعماكما الحب، فلا أستطيع بعد الآن أن أُريكما ما أرى!
ابقيا إذن ما شئتما في هذا العالم لقد صرت وحيدًا فيه. وليس يربطني إليه سبب. ولئن
كنتما لم تحسا بعدُ الهرم فإني بدأت أحس وقر ثلاثمائة عام ترزح تحتها نفسي ..
الوداع يا إخوان الماضي! اذكرا عهدنا الجميل .. عهد دقيانوس! والآن .. أستودعكما
الله هانئين بشباب قلبيكما في حياتكما الجديدة ..
(ويذهب في بطء وكآبة على حين تتبعه أنظار مشلينيا ومرنوش في صمت
حتى يختفي …)
(ستار)