الفصل الثالث
(منظر الفصل الثاني عينه: بهو الأعمدة. مشلينيا ينتظر نافد الصبر بين العمد. الوقت ليل والمكان مضيء. يظهر غالياس في حذر)
مشلينيا
(يهرع نحو غالياس في اهتمام)
:
ما وراءك؟ (غالياس يطرق في خشوع) أين الأميرة؟
غالياس
(في تردُّد ورعدة)
:
أيها القديس!
مشلينيا
:
أوَلم تُخبِرها بما قلت لك؟
غالياس
:
نعم .. نعم ..
مشلينيا
:
وبماذا أجابت؟
غالياس
:
لا شيء .. أيها القديس!
مشلينيا
:
لا شيء؟! ألم تقل لها إني أطلب رؤيتها منذ البارحة ولا أجد إليها سبيلًا، وإنه لا
بُدَّ لي من رؤيتها الليلة مهما يكن من أمر؟!
غالياس
:
أيها القديس!
مشلينيا
(في سأم وضيق)
:
دعني من «أيها القديس». أخبرني أنتَ ماذا قالت. أخبرني بالله .. تكلم ..
غالياس
(مطرقًا في خشية)
:
أيها القديس ..
مشلينيا
(ضَيِّق الذَّرْع)
:
قلت لك دعني من هذا القديس، لا تُنادني به بعد الآن، أتوسَّل إليك. إني لست
قديسًا .. أفاهم؟
غالياس
(مطرقًا في خوف)
:
نعم .. أيها القديس.
مشلينيا
(يتفرَّس فيه)
:
عجبًا! إن هذا الرجل أحمق ولا شك. ماذا تصنع أنت في القصر؟ (غالياس لا يحير
جوابًا) أجب. ماذا تصنع هنا؟
غالياس
:
مُؤدِّب الأميرة ..
مشلينيا
:
مُؤدِّب؟ ومُؤدِّب الأميرة؟! منذ متى؟ إني لم أرك في القصر إلا أمس!
غالياس
:
أيها القديس .. إني .. إني …
مشلينيا
:
وبعد؟ أفلا نفع يُرجَى منك أيها الأبله؟ أفلا تستطيع أن تخبرني بشيء عن الأميرة؟
(كأنما يُخاطب نفسه) أتراها تقصد إساءتي والإغضاء عني لأمر في نفسها؟! أم ماذا يا
ربي؟ وأنتَ أيها الشيخ، ألا تعاونني قليلًا؟ (غالياس مطرق، وكأنه لا يفهم) اذهب!
اذهب أيها الرجل! لا أفلحت ..!
غالياس
(في خشوع وهو يُريد الخروج)
:
أيها القديس ..
مشلينيا
:
أكاد أجن جنونًا. إني بقربها ولا أراها. وهذه الوحدة حولي تكاد تقتلني قتلًا. لو
أن هنا مرنوش على الأقل (كمَن تذكَّر) قف أيها المُؤدِّب! كلمة! (غالياس يقف
خاشعًا) ألم يأتِ من مرنوش خبر منذ ذهب إلى بيته أمس؟
غالياس
:
لست أدري .. أيها القديس ..
مشلينيا
:
أوَلم يعد بعد حتى العبدُ الذي رافقه وحمل له الهدايا؟
غالياس
:
لست أدري .. أيها القديس ..
مشلينيا
:
أنت لا تدري شيئًا أيها المُؤدِّب! (كأنما يُخاطب نفسه) ها هو ذا مرنوش قد أنساه
ولده وامرأته كل شيء في الوجود. وها أنا ذا لم أزل كما جئت بالأمس في تربص وانتظار
على غير جدوى! أأستطيع أن أبيت تحت سقف هذا القصر ليلة أخرى ولم أكلمها بعد؟ أيها
الرجل .. أين هي في هذه اللحظة؟!
غالياس
:
مَن؟ أيها القديس!
مشلينيا
(في حدة)
:
الأميرة؟
غالياس
:
عند الملك ..
مشلينيا
:
عجبًا! وما تراها تصنع عند الملك في مثل هذه الساعة من الليل؟!
غالياس
:
أيها القديس .. إن …
مشلينيا
(في قوة)
:
تكلم ..
غالياس
:
إن الملك إذا أرق طلبها لتقرأ له ..
مشلينيا
(شبه ثائر)
:
في مخدعه الخاص؟ هذا الرجل الغريب عنها؟! فهمتُ فهمت. أهذا هو العهد المُقدَّس
..!
غالياس
(جاثيًا)
:
أيها القديس! أيها القديس! مغفرة! إن الأميرة مسيحية كمن تحمل اسمها وحافظة للعهد
المُقدَّس.
مشلينيا
(دهشًا قليلًا)
:
كيف علمتَ ذلك؟
غالياس
:
إني أعرف الأميرة أيها القديس ..
مشلينيا
(في رفق)
:
أهي قالت لك عن …
غالياس
:
نعم أيها القديس نعم ..
مشلينيا
(في لطف آخذًا بيده)
:
تعال يا .. ما اسمك أيها المُؤدِّب؟
غالياس
:
غالياس أيها القديس!
مشلينيا
:
تعال يا غالياس! ولنتفاهم .. إني أراك تكتم عني أمورًا .. وتهابني وتجعل بينك
وبيني حاجزًا أكثر مِمَّا ينبغي. لِمَ لا يفهم أحدنا الآخر؟ ما أيسر هذا لو أنك
فتحت لي صدرك قليلًا، وفتحتُ لك نفسي .. (غالياس يُحملق فيه) لماذا تنظر إليَّ
هكذا؟ ألست مثلكم؟ انظر إلى ثيابي! ما الذي يجعلني إذن غريبًا في عينيك؟ (بعد لحظة)
أأنت واثق بأن بريسكا حافظة للعهد؟
غالياس
:
ثقتي بأنك وليُّ الله الحق.
مشلينيا
:
دعنا من هذا الآن يا .. غالياس .. أخبرني كيف سلوكها مع وصيها؟ ..
غالياس
(غير فاهم)
:
وصيها؟ مَن أيها القديس؟!
مشلينيا
:
هذا الملك.
غالياس
:
هذا الملك أشد الملوك تمسكًا بالمسيحية أيها القديس وأكثرهم إيمانًا بالله
الواحد!
مشلينيا
(في ضيق)
:
لست أسأل عن هذا أيها الأحمق! (غالياس يُطرق خوفًا) إن هذا الملك ليس من دم
دقيانوس فيما أظن؟
غالياس
:
دقيانوس؟ دقيانوس الوثني؟! حاشا لله أن يكون ملكنا من دم ذلك المشرك الطاغية الذي
لعنه التاريخ!
مشلينيا
:
هذا ما أقول يا غالياس .. نعم .. إن هذا الملك ليس من أسرة دقيانوس لأني لم أره
من قبل .. ولعله من القواد المسيحيين سرًّا؛ جاء بجيشه فقلب دقيانوس في يومين وجلس
على العرش مكانه، ونصب نفسه قيِّمًا على بريسكا، كل هذا حسن. ولكن .. أن يستبيح
لنفسه طلبها إلى مخدع نومه ليلًا لتقرأ له كما تقول! .. (يبدو على غالياس عدم
الفهم) ولكن هي لماذا تجيبه إلى طلبه؟ أخوفًا ومداراة؟ أم مباسطة ورضاء؟ ثم هذا
الإعراض عني؟! آه يا غالياس .. يا غالياس (يمسك بعنق غالياس) ويلكم مني إن كان ما
أفهم صحيحًا! وويلها وويل نفسي إن كانت خائنة للعهد!
غالياس
(يجثو)
:
أيها القديس إنها حافظة للعهد كجدتها القديسة. سل العرَّاف. لو أن العرَّاف على
قيد الحياة؟ لقد قال إنها تشبه جدتها في كل شيء.
مشلينيا
:
تُشبه جدتها .. جدتها مَن؟
غالياس
:
بريسكا .. القديسة بريسكا ..
مشلينيا
:
ما هذا الخرف أيها الشيخ الهرم.
غالياس
:
إني أقول الصدق أيها القديس. إن العرَّاف يوم ميلادها قال ذلك.
مشلينيا
:
أي عرَّاف؟
غالياس
:
نعم العرَّاف أيها القديس.
مشلينيا
:
مسكين أنت أيها الشيخ! اذهب إلى فراشك فلا حاجة لي بك .. (غالياس يتحرَّك) بل
اسمع أيها الرجل .. كلمة أخرى، الأميرة ولا شك ستعود إلى مخدعها بعد أن تفرغ من
مسامرة هذا الملك.
غالياس
:
نعم أيها القديس.
مشلينيا
:
وستمر طبعًا بهذا البهو؟
غالياس
:
نعم أيها القديس.
مشلينيا
:
حسن. اذهب أنت .. ليس لي بك حاجة الآن؟ (غالياس يخرج) فلأنتظرنها طول الليل!
(يمشي في البهو منتظرًا ثم يسمع أنينًا يدنو) ما هذا الأنين؟
مرنوش
(يئن في الخارج)
:
مشلينيا! .. ﻣﺸﻠ .. ﻴﻨ .. ﻴﺎ ..
مشلينيا
(في خوف)
:
مَن يُناديني؟
مرنوش
(داخلًا)
:
ﻣﺸﻠﻴ .. ﻨﻴﺎ ..!
مشلينيا
:
مرنوش!
(يدخل مرنوش في ثياب حديثة كثياب مشلينيا وقد حلق مثله.)
مرنوش
(وهو يجر جسمه جرًّا ويئن متوجعًا)
:
مشلينيا! ..
مشلينيا
(ذاهبًا إليه ومسندًا إيَّاه)
:
ماذا بك؟
مرنوش
:
مشلينيا! ..
مشلينيا
:
ما بك يا مرنوش؟
مرنوش
(يقع رأسه على صدر مشلينيا)
:
ولدي ..
مشلينيا
:
ماذا بولدك؟
مرنوش
(في أنين)
:
مات ..
مشلينيا
(في جزع)
:
ماذا تقول؟!
مرنوش
:
ما .. ت ..
مشلينيا
:
متى؟
مرنوش
:
ما .. ت.
مشلينيا
(بعد لحظة)
:
لا تجزع هكذا! عد إلى نفسك قليلًا، وقص عليَّ ما حدث!
مرنوش
:
مات ..
مشلينيا
:
مرنوش! ألا تسمع لي؟ قلت لك انتبه إليَّ قليلًا وحدِّثني بما رأيت، علني أستطيع
بعض التخفيف عنك .. (مرنوش لا يجيب) مرنوش! (يهزه برفق) أهكذا فقدتَ كل قوة وكل أمل
وصرتَ شيئًا لا يصلح لشيء؟ ثم كيف تركت امرأتك وجئت في مثل هذه الساعة، لعلها
محتاجة إليك؟!
مرنوش
:
ماتت ..
مشلينيا
:
مَن؟ هي أيضًا؟ (مرنوش لا يجيب) امرأتك كذلك؟ ..
مرنوش
:
ماتت ..
مشلينيا
:
متى؟ وكيف؟ حدِّثني بالله يا مرنوش! ..
مرنوش
:
ﻣﺸﻠﻴ .. ﻨﻴﺎ ..
مشلينيا
:
نعم .. تكلم ..
مرنوش
:
مشلينيا! مات أهلي يا مشلينيا ..
(مشلينيا يطرق.)
مرنوش
:
مات أهلي يا مشلينيا ..
مشلينيا
:
لا تجزع! املك نفسك يا مرنوش. أَقُتِلا في المذبحة؟!
مرنوش
:
أي مذبحة؟
مشلينيا
:
كيف ماتَا إذن؟
مرنوش
:
لستُ أعلم ..
مشلينيا
:
ألم تسأل أحدًا؟
مرنوش
:
لا أحد يعلم ..
مشلينيا
:
عجبًا! ومنزلك، ألم تجد أثرًا في منزلك يدلك على شيء؟
مرنوش
:
منزلي! آه .. أين هو منزلي؟!
مشلينيا
:
ألم تجد منزلك؟
مرنوش
:
وجدتُ مكانه سوقًا للرماح والدروع!
مشلينيا
:
عجبًا! ومن أخبرك إذن بموت أهلك؟
مرنوش
:
شحَّاذ هَرِم بالسوق ..
مشلينيا
:
ماذا قال لك هذا الشحَّاذ الهَرِم؟
مرنوش
:
قال إنه يذكر عن آبائه هذا الاسم ..
مشلينيا
:
أي اسم؟ أكنت ذكرت له اسم أحد؟
مرنوش
:
اسم ولدي ..
مشلينيا
:
فبماذا أجاب؟ (مرنوش لا يحير جوابًا) تكلم يا مرنوش بالله! ماذا أجاب؟
مرنوش
:
مات ..
مشلينيا
:
ولدك؟ أجاب بأن ولدك قد مات؟
مرنوش
:
وأخذ بيدي إلى المقابر وأراني قبرًا متهدمًا ..
مشلينيا
:
قبره؟
مرنوش
:
وقرأتُ بعيني أسطرًا متآكلة ..
مشلينيا
:
ماذا قرأت؟
مرنوش
:
اسم ولدي .. ثم …
مشلينيا
:
ثم ماذا؟
مرنوش
:
ثم عبارة لم أفهمها ..
مشلينيا
:
قلها .. قلها يا مرنوش ..
مرنوش
:
«مات شهيدًا في سن الستين بعد أن جلب النصر لجيوش الروم!»
مشلينيا
:
أهذا ما قرأت على حجر القبر؟! ..
مرنوش
:
نعم.
مشلينيا
:
تُريد أن تزعم أنت يا مرنوش ما زعم يمليخا أمس؟!
مرنوش
:
لا شكَّ عندي الآن ..
مشلينيا
:
أيها المسكين! لقد جُنِنتَ مثل يمليخا. هذا كل ما في الأمر.
مرنوش
:
أنت لا ترى الحقيقة. ابني مات في سن الستين.
مشلينيا
:
هب أن هذا حدث .. أتبكيه اليوم يا مرنوش؟ هب أنه مات في سن الستين كما تزعم،
شريفًا بعد أن عاش حياته شريفًا، وقاتل في صفوف الأبطال وربما بلغ القيادة ومُجِّدَ
اسمه كما ترى. فماذا تريد لابنك أكثر من ذلك؟ (لنفسه) يا له من كلام يتضاءل بجانبه
هذيان المَمْرورين!
مرنوش
:
ولكنه مات. مات قبل أن يفرح بهديتي التي كنت أحملها إليه مع العبد!
مشلينيا
:
أيها المسكين! إنه لم يمت البارحة، بل مات شيخًا هَرِمًا بعد أن قضى حياة طويلة
كلها سعادة وفخار!
مرنوش
:
ولدي الصغير مات شيخًا هَرِمًا! أتسخر مني يا مشلينيا في هذه الساعة؟
مشلينيا
:
إني لا أسخر قط .. أنت الذي جئت تروي هذا الجنون. ماذا أصنع لك؟ وما دمتَ تُصدِّق
الآن يمليخا فلا ريب في أن ولدك شَبَّ وكبر وسار في حياته العادية آمنًا مطمئنًا،
ولعله تزوَّج وأتى بذرية صالحة من ذكور وإناث .. كل ذلك ونحن في الكهف
نائمون!
مرنوش
:
ذرية صالحة؟ مَن هذا؟ ولدي الصغير الذي كان ينتظر أَوْبَتي بلعبة يلهو
بها!
مشلينيا
:
أيها المسكين. أنت لا تستطيع أن تتصوَّر ولدك إلا كما رأيته آخر مرة. ومهما تسمع
عن ثلاثمائة العام فهي كلمات وأرقام لا تُغيِّر شيئًا من صورة ولدك الصغير .. تلك
الصورة المنطبعة في مُخيِّلتك ..
مرنوش
(صائحًا)
:
كفى هراءً! كفى هراءً! ولدي قد مات ولا شيء يربطني الآن بهذا العالم! هذا العالم
المخيف. نعم صدق يمليخا .. هذه الحياة الجديدة لا مكان لنا فيها. وإن هذه المخلوقات
لا تفهمنا ولا نفهمها. هؤلاء الناس غرباء عنَّا. ولا تستطيع هذه الثياب التي
نُحاكيهم بها أن تجعلنا منهم. لقد عرفني الناس من وجهي ومن كلامي برغم ثيابي
فتبعوني أنا والعبد. وحتى العبد الذي نصبه الملك لخدمتي ما كان يفهم أغلب ما أقول،
وكان يبتعد عني كأني أجرب أو أبرص. ولقد صرنا نتخبَّط طول اليوم في المدينة نسأل
ونبحث واليأس والرجاء يُقطِّعان قلبي، والناس من حولي لا تفهم ما أُريد، ولا أسمع
منهم إلا صياحًا يتبعونه بإشارة إليَّ هامسين «هذا أحدهم! هذا أحدهم! تعالوا
شاهدوا! هذا أحدهم!» ثم المدينة! أهي طرسوس؟ مستحيل أن تكون طرسوس! نعم يا مشلينيا.
إنا بعيدون عن هذه المدينة وسُكَّانها بمقدار ثلاثمائة عام. وإن يمليخا لم يُجَن
ولم يكذب. إني الآن فقط أُدْرِك هذه الحقيقة .. ثلاثمائة عام مضت، وها هو ذا عالم
آخر يُحيط بنا كأنه بحر زاخر لا نستطيع الحياة فيه، كأننا سمك تغيَّر ماؤه فجأة من
حلو إلى ملح ..
مشلينيا
:
لماذا لم تقل هذا الكلام أمس؟ ألست أنتَ الساخر من يمليخا؟
مرنوش
:
لقد صدق هذا الراعي.
مشلينيا
:
منذ متى؟
مرنوش
:
مشلينيا! لقد مات قلبي يا مشلينيا ولا فائدة مِنِّي بعد اليوم. تعال معي يا
مشلينيا!
مشلينيا
:
إلى أين؟
مرنوش
(وهو يجذب يده)
:
إلى عالمنا نحن ..
مشلينيا
(يسحب يده منه)
:
أمجنون أنت؟
مرنوش
:
أتدعني أذهب وحدي؟ (مشلينيا لا يجيب) مشلينيا! أتتركني أذهب وحدي؟
مشلينيا
:
لا تذهب. ابقَ هنا.
مرنوش
:
لا أستطيع ..
مشلينيا
:
لماذا؟ ما يمنعك؟
مرنوش
:
لا أستطيع.
مشلينيا
:
بل تستطيع. لكنه اليأس والحزن على ولد مات منذ قرون في سن الستين بعد حياة تامة
ناضجة أيها الأحمق! تُريد أن تلحق به وأنت لم تعرف الستين بعد! وأنت لم تزل فتًى
أمامك النضج والحياة!
مرنوش
(ضاربًا رأسه بيده)
:
أنا فتًى وابني شيخ! تقول هذا الكلام في بساطة كأنْ ليس لك عقل يعي ويضبط ما
تقول؟! آه .. إنك ستودي بي حتمًا إلى الجنون ..
مشلينيا
:
ماذا تريد؟ إمَّا أن كل هذا حقيقة وإمَّا أن كل هذا خلط، وأن ليلة الكهف المخيفة
قد أثَّرت في عقولنا! وأغلب ظني أن هذا ليس حقيقة، فها هي ذي بريسكا موجودة كما
فارقتُها. ماذا تقول في بريسكا يا مرنوش وقد رأيتها مثلي البارحة. أعاشت هي كذلك
ثلاثمائة عام؟!
مرنوش
:
بريسكا؟ نعم صدقت! لكن ابني؟ ماذا تقول في ابني؟ كلا إن هذا حقيقة لا ريب فيها.
إنك لم ترَ المدينة. إنك لم ترَ شيئًا ..! بريسكا .. ولدي! رُحماك اللهم! سأفقد
عقلي! سأفقد عقلي!
مشلينيا
(رافعًا رأس مرنوش)
:
لا تبكِ يا مرنوش! ما فائدة بكاء ولدك الآن؟
مرنوش
:
لستُ أبكي ولدي أيها الأحمق!
مشلينيا
:
إذن، ما بكاؤك هذا؟
مرنوش
:
عذاب .. عذاب آخر لا تفهمه أنت. يا ربي لماذا تركتني فريسة للعقل؟! ثلاثمائة عام!
ابني في سن الستين وأنا فتًى أمامي النضج والحياة ..
مشلينيا
:
لا تفكر في هذا يا مرنوش. عُد كما كنت أمس واسخر مِمَّا تسمع. هاته الأعوام
الثلاثمائة أو أكثر منها، إن هي إلا كلمات، أعداد، أرقام، هب أنها مجرد ألفاظ
وأرقام لا معنى لها كما كنت تفعل أمس، ماذا تستطيع هذه الأرقام أن تُغيِّر من
إحساسك بالحياة؟ هب كل ذلك صحيحًا، إنما أنت الآن في الواقع أمام حياة، وأنت لم تزل
فتًى. هب أنها حياة جديدة قد مُنحتها، أتأباها؟!
مرنوش
:
حياة جديدة! ما نفعها؟ إن مجرد الحياة لا قيمة لها. إن الحياة المطلقة المجردة عن
كل ماضٍ وعن كل صلة وعن كل سبب لهي أقل من العدم، بل ليس هناك قط عدم، ما العدم إلا
حياة مطلقة.
مشلينيا
:
لستُ من رأيك يا مرنوش. إن أيَّة حياة منحة. وأثمن منحة تُعطى مخلوقًا هي الحياة.
ومع ذلك، هذا كان رأيك في الحياة أمس. فلماذا لا تعود إلى ما كنتَ عليه أمس.
مرنوش
:
هيهات! هيهات! ..
مشلينيا
:
لماذا؟
مرنوش
:
أمس كنت مثلك.
مشلينيا
:
مرنوش!
مرنوش
:
لأني كنت أعيش في حياة لها صلة ولها سبب، هو القلب، والقلب لا يخضع لناموس الزمن.
فما كانت عندي مئات الأعوام إلا كلماتٍ وأرقامًا!
مشلينيا
:
واليوم إذن؟
مرنوش
:
مات.
مشلينيا
:
مَن؟ ماذا؟
مرنوش
(مستمرًّا)
:
ولم يبقَ لي إلا العقل. فها أنا ذا للعقل وحده. وها هو ذا يُعيدني إلى عالمه ..
عالم الزمان والمكان ..
مشلينيا
:
لستُ أفهم ..
مرنوش
:
نعم. مع الأسف. لستَ تفهم هذا الآن ..
مشلينيا
:
إني أفهم أنك رجل متزن ولا تندفع إلى الهلاك وراء عاطفتك.
مرنوش
(في صوت جاف وهو يتحرَّك)
:
الوداع! ..
مشلينيا
:
مرنوش! أتراني لم أفهم قصدك؟ ..
مرنوش
:
نعم .. الوداع ..
مشلينيا
:
امكث معي يا مرنوش. إني في حاجة إليك لقد أنسيتني ما أنا فيه. إن لديَّ أشياء
كثيرة أُريد أن أفضي بها إليك. أشياء عرفتها اليوم. أشياء حدثت وأريد معونتك. امكث
يا مرنوش، امكث!
مرنوش
:
لا أستطيع.
مشلينيا
(متشبثًا)
:
لماذا؟ لماذا لا تستطيع يا مرنوش؟! لماذا؟
مرنوش
:
لقد قلت لك.
مشلينيا
:
ولدك؟
مرنوش
(ذاهبًا)
:
الوداع .. أيها الأحمق!
مشلينيا
(يستوقفه)
:
مرنوش! مرنوش! أريد أن أفهم. إني خائف. إني أرى في وجهك أشياء لا أدركها.
مرنوش
(يُخلِّص نفسه ليذهب)
:
ولن تدركها اليوم ..
مشلينيا
:
مرنوش! لن تذهب قبل أن تقول لي ..
مرنوش
:
لقد قالها يمليخا.
مشلينيا
:
ماذا؟
مرنوش
:
إنَّا أشباح .. إنَّا الآن مِلْك الزمن.
مشلينيا
(في تفكُّر وشيء من الارتجاف)
:
مرنوش ..!
مرنوش
:
إنَّا مِلْك التاريخ .. ولقد هربنا من التاريخ لننزل عائدين إلى الزمن ..
فالتاريخ ينتقم! .. الوداع يا مشلينيا ..! (يخرج مرنوش ويترك مشلينيا
ذاهلًا).
مشلينيا
:
ربَّاه! أخشى أن يكون حقيقة قد جُنَّ .. (يبقى لحظة متأملًا ذاهلًا بلا حراك ثم
تظهر بريسكا وحدها وبيدها كتاب).
الأميرة
(تجتاز البهو وترى مشلينيا فتجفل)
:
آه .. مَن هنا؟
مشلينيا
(يستدير سريعًا ويلتفت إليها)
:
ها أنتِ ذي أخيرًا يا بريسكا العزيزة!
(الأميرة: يعقد الخوف لسانها فتقف كالتمثال.)
مشلينيا
:
إني أترقبكِ منذ وقت طويل .. (الأميرة لا تجيب) عجبًا! أهذا استقبالكِ لي؟!
(الأميرة لا تتحرَّك) ما كنتِ ولا ريب تتوقعين رؤيتي الساعة؟ (لحظة صمت .. الأميرة
ذاهلة) بل ربما كنتِ لا تحبينها. بل لعلكِ ساخطة على المصادفة التي جاءت بكِ الآن
إلى هذا المكان، إني أرى ذلك في وجهكِ. لا بأس. بالرغم من هذا لا أكتمكِ أن مرآكِ
في هذه اللحظة قد صيرني سعيدًا .. سعيدًا يا بريسكا إلى أقصى غاية .. (الأميرة في
دهش) لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟ (بريسكا لا تتحرَّك وينظر مشلينيا إلى ثيابه)
أيدهشكِ شيء في هيئتي؟ ماذا ترين فيَّ قد تغيَّر (بريسكا لا تجيب) عجبًا! ألا
تتكلمين؟ ألا تنطقين بحرف؟ أليس لديكِ الآن ما تقولين لي! أُتريدين أن أظن بكِ ما
ظننت الساعة. (بريسكا لا تتحرَّك، مشلينيا يتقدَّم خطوة نحوها، ويقول في شيء من
الحدة) تكلمي! انطقي! إني لست بعد قادرًا على احتمال ما يُحيط بكِ من صمت وغموض ..
تكلمي! .. تحدَّثي بشيء ..!
بريسكا
(في صوت خافت)
:
أيها القديس.
مشلينيا
:
أيها القديس! أتتهكمين؟ (بريسكا لا تجيب) عدتِ إلى الصمت. أهذا كل ما عندكِ؟
«أيها القديس»! لست قديسًا أيَّتها العزيزة بريسكا. وأنتِ تعرفين ذلك. ابحثي عن شيء
آخر تقولينه.
بريسكا
(في دهشة)
:
لستَ قديسًا؟!
مشلينيا
(في فتور)
:
كلا.
بريسكا
:
ألستَ القديس ذا المنظر المخيف الذي رأيته أمس هنا؟
مشلينيا
:
إن كنتِ ترينني مخيف المنظر فأنا هو.
بريسكا
:
كلا. أنتَ لستَ مخيف المنظر.
مشلينيا
(متصنعًا السذاجة في غيظ مكتوم)
:
صحيح؟!
بريسكا
(تتأمَّل منظره)
:
إنك صرت شخصًا آخر. مخلوق أمس كان يبدو شيخًا أو على الأقل ذا شعر أشعث كشعر
الشيخ .. أمَّا أنت ..
مشلينيا
:
أمَّا أنا؟
بريسكا
:
فتبدو فتى .. إنك فتى.
مشلينيا
(في تهكُّم مُر)
:
شيء جميل. ما أبرعكِ!
بريسكا
:
لماذا؟
مشلينيا
(في تهكُّم وغيظ)
:
لأنكِ عرفتِ أني فتى وأني إنسان .. مرحى مرحى! ما كنتُ أحسبكِ تعرفين من أمري كل
هذا المقدار.
بريسكا
:
لستُ أفهم ..
مشلينيا
:
أنا كذلك لستُ أفهم. إني أعرف بريسكا بسيطة وديعة صافية النفس، مؤمنة القلب،
طاهرة الضمير، وما عرفتها قط قديرة على التصنُّع والتخابث والختل ..
بريسكا
:
أأنت تعرفني إذن؟
مشلينيا
:
بريسكا. احترسي. إن لصبري حدًّا.
بريسكا
(في دهشة)
:
مَن أنت؟ إنك تُخاطبني كما لو كنت تعرفني من قبل، أو كما لو أنك لي بعل؟!
مشلينيا
(في ألم)
:
شكرًا لكِ.
بريسكا
:
ما بك؟ (مشلينيا لا يجيب) إني لم أقصد إغضابك يا هذا. لكن …
مشلينيا
(منفجرًا)
:
وأنتِ تخاطبينني كما لو أنك امرأة خائنة مرائية تُريد أن تتجاهل ما سلف وتنقض
عهودها المقدسة متوسلة بأخس الأسباب. ما كان أحراكِ أن تسلكي طريق الصراحة والصفاء
وتواجهيني بالحقيقة بدل أن تنكريني هذا الإنكار. أيَّتُها الأميرة، إني أعرف كل شيء
ولم أتهدَّم بعد، ولم تَمِد بي الأرض بعد، ولم تنطبق السماوات. وها أنا ذا واقف
أمامك قويًّا محتملًا لا أضعف، عاقلًا لم أُجَن. كم أنتِ مخطئة أن تظني بي الضعف عن
احتمال خبر خيانتكِ. إن القلب الذي امتلأ يومًا بكِ ليستطيع أن ينبض بدونكِ على
الأقل يومًا أو يومين. إني ما كنت أحسبني بهذه القوة، إني لا أزعم أني أستطيع أن
أخلع من نفسي تلك التي كانت لي عقيدة أو أكثر من عقيدة، ولا أن أُشوِّه من ذاكرتي
أجمل إحساس ارتفعت به نفس بشر، ولكني أستطيع أن أزعم أني أعيش بعد كل هذا. نعم أعيش
.. ألا ترين؟ انظري ها أنا ذا أعيش! ها أنا ذا أعيش! ها أنا ذا أعيش!
بريسكا
(مأخوذة في غير استنكار بل في سرور خفي لا تدركه)
:
أأنت تخاطبني أنا بكل هذا؟ (مشلينيا لا يجيب، بريسكا كأنما تخاطب نفسها) هذا كلام
لم يقله لي أحد من قبل .. إلا أنتَ اليوم! ما أجملك بطلًا من أبطال المآسي
الإغريقية التي كنت أطالعها خفية عن غالياس، وأنا صغيرة.
مشلينيا
(يتظاهر بالهدوء والفتور)
:
معذرة أيَّتُها الأميرة. إني ما قصدت بكلامي شيئًا سوى إبراء ذمتكِ ..
بريسكا
:
إبراء ذمتي؟ ممَّ؟ ..
مشلينيا
:
مِمَّا ارتبطت به من عهد.
بريسكا
:
أي عهد؟!
مشلينيا
(في هدوء)
:
أوَلا تعرفين هذا أيضًا؟! عهد الخطبة بيننا.
بريسكا
(وهي تنظر إليه في حسرة)
:
وا أسفاه! الآن لا شكَّ عندي …
مشلينيا
(في مرارة)
:
أخيرًا ..
بريسكا
(متممة عبارتها السابقة)
:
في أنك مجنون!
مشلينيا
:
أشكرك أيَّتُها الأميرة. لأن أكون مجنونًا خير من أكون خائنًا!
بريسكا
(هادئة)
:
أنا خائنة؟! ما هي تلك الخيانة المزعومة التي ترميني بها منذ لحظة؟ (مشلينيا ينظر
إليها ولا يجيب) تكلم. أرني إلى أي حد يصل الجنون .. الأمر العجيب أنكَ لم تعد
تخيفني. نعم، لست أخاف جنونك اللذيذ هذا .. بل إني لأحب أن أستمع إلى قصصك .. تكلم.
ما هو نوع خيانتي؟ ولِمَن؟ لك أنتَ؟
مشلينيا
(هادئًا. في أسف وكأنما يقول لنفسه)
:
بريسكا! إنكِ لستِ بريسكا!
بريسكا
:
دعنا من هذا. هذا جنون سهل مبتذل. حدِّثني عن الخيانة ..!
مشلينيا
:
بريسكا. إنكِ ما كنتِ على هذا الذكاء ..!
بريسكا
(باسمة)
:
متى؟
مشلينيا
(في مرارة)
:
أهكذا انتهى كل شيء ..؟
بريسكا
:
أي شيء؟
مشلينيا
:
بهذه الوسيلة الهيِّنة! أي شيطان يجرؤ على هذا وأي ضمير .. (لحظة) لكن .. لا ..
ينبغي أن أتريَّث قبل أن أتهمكِ هذا الاتهام الشنيع. بريسكا الملاك الطاهر؟! أتراني
أسرف وأبالغ؟ لعلي مجنون كما تقولين إذ أسمح لنفسي بالارتياب فيكِ. بريسكا .. لعل
هذا ما تقصدين! وافرحتاه، لو أن هذا صحيح! هذا الخاطر قد يرد إليَّ الحياة، بريسكا
.. تكلمي! أأنا مجنون لأني أرتاب فيكِ؟
بريسكا
:
قد يكون هذا ولكن ما يحملك على الارتياب فيَّ؟ وما هو نوع ريبتك؟
مشلينيا
(يتقدَّم نحوها مادًّا يديه في فرح)
:
أسألكِ الصفح!
بريسكا
(تتقهقر)
:
لا تلمسني .. لا تلمسني ..
مشلينيا
(يقف في مكانه طائعًا)
:
نعم إني أثِمت يا بريسكا! إنها رعونتي لم تتغيَّر، وكذلك …
بريسكا
:
ماذا؟ تكلم ..
مشلينيا
:
الغيرة.
بريسكا
(في دهشة وعجب)
:
الغيرة؟!
مشلينيا
(خافت الصوت مطرقًا)
:
نعم.
بريسكا
(باسمة في غير استنكار)
:
هذا جميل!
مشلينيا
(في عتب)
:
لأنكِ أهملتِني وأغفلتِ شأني يا بريسكا. لستُ أدري لماذا؟ ومنذ البارحة وأنا
أتقطَّع لرؤيتكِ وأطلبك وأرسل إليك وأنتظر الليل. فيُقال لي اليوم إنكِ عند هذا
الرجل في مخدعه تسامرينه، وتلهينه في ساعة كهذه مريبة ..!
بريسكا
:
إنك فاتن حقًّا أيها القديس!
مشلينيا
:
عُدتِ إلى التهكُّم!
بريسكا
:
كم يكون كلامكَ هذا أشد عجبًا وغرابة لو أنك بقيت على منظر الأمس، بلحيتك وشعرك
وثيابك الغريبة (مشلينيا لا يجيب). ولكنِّي لست أكتمك أني ما كنت أستطيع الاقتراب
منك، والإصغاء إليكَ كما أفعل الآن .. (مشلينيا يكظم غيظه ولا يجيب)
أأغضبتك؟
مشلينيا
:
مَن عَلَّمكِ هذه اللهجة؟ وكيف انقلبتِ امرأة أخرى في هذا الزمن القليل؟! أين
الوداعة والخَفَر والحياء العميق وصوت الملائكة الذي لا يكاد يُسمَع؟
بريسكا
:
كل شيء إلا الحياء العميق وصوت الملائكة أيها القديس! من أين جاءك أني كنتُ
كذلك؟
مشلينيا
:
كنتِ كذلك يوم كان الحب يرفعكِ عن هذه الأرض.
بريسكا
:
الحب!
مشلينيا
:
الذي كان عندكِ أقوى من العقيدة، أقوى من الدين، لأن عقيدة الملائكة حب.
بريسكا
:
عقيدة الملائكة حب؟
مشلينيا
:
أتجهلين ذلك الآن؟
بريسكا
:
هذا أحسن ما سمعتُ منكَ أيها القديس! وأعقل ما قلتَ اليوم.
مشلينيا
(في أسف)
:
ومع ذلك فلستُ أنا قائله.
بريسكا
:
من إذن؟
مشلينيا
:
أنتِ.
بريسكا
(في دهشة)
:
أنا؟
مشلينيا
:
نعم أنتِ التي أريتني هذا وأفهمتنيه.
بريسكا
:
متى؟ متى كان ذلك؟!
مشلينيا
:
يوم كنتِ أقل ذكاءً وأعمق قلبًا.
بريسكا
:
ومن قال لكَ إن قلبي ليس عميقًا؟!
مشلينيا
:
عيناكِ .. كنتُ أرى فيهما ما لا أرى الآن .. وكانتا وحدهما اللتين تتكلمان على
حين كان لسانكِ الساذج قاصرًا لا يستطيع أن يقول كل ما قلتِ الآن.
بريسكا
(بعد لحظة تأمُّل)
:
جميل هذا الدرس الذي تُلقيه عليَّ أيها القديس! ليتك غالياس، هذا المُؤدِّب الذي
طالما أثقل عليَّ بأكاذيبه وحماقاته!
مشلينيا
(في برود)
:
إني ما جئت لأُلقي دروسًا.
بريسكا
:
إذن لعلها رسالتك إلى هذا العالم أيها القديس! ثق بقولي، ما أجملها رسالة
إلينا!
مشلينيا
(منفجرًا في غيظ)
:
إلى عالم موبوء كله ختل وخيانة. نعم، وا أسفاه! لو أن رسالات السماوات كلها تنفع
في إعادة الطهر إلى قلب امرأة خائنة!
بريسكا
:
عدتَ إلى ذكر الخيانة؟ (مشلينيا ينظر إليها ولا يجيب) لماذا تنظر إليَّ هكذا؟!
تكلم .. إني أصغي إليكَ على كل حال .. تحدَّث ..
مشلينيا
(يجثو)
:
بريسكا. إني أتعذَّب. لماذا تُعذِّبينني؟ .. لماذا لا تُخبرِينني بالصدق بدل
التهكُّم والمداورة؟ قولي كلمة واحدة بصوتكِ العميق الصادق وأنا أقتنع وأستريح ..
بل أقسمي .. أقسمي لي ..
بريسكا
:
أقسم لكَ؟
مشلينيا
(يرى الصليب في جيدها)
:
نعم أقسمي على هذا الصليب .. وا فرحتاه .. هذا صليبي ما زلتِ تحملينه .. شكرًا
لكِ يا بريسكا ..
بريسكا
(في دهشة)
:
صليبك؟!
مشلينيا
:
أليس في هذا دليل على حفظكِ لعهدي؟! نعم .. قلبي يُحدِّثني دائمًا أنكِ بريئة. بل
إني لواثق. لكنِّي أطلب التأكيد .. التأكيد .. حتى لا أسمح لنفسي بعد بالشك
..
بريسكا
(تُقلِّب الصليب في يدها وكأنها تقول لنفسها)
:
أتراك عُدتَ إلى الخلط والجنون؟ وأنا التي كادت تُعنَى بما تقول ..
مشلينيا
:
نعم إنه جنون أن أشك في بريسكا. إني أفقد وعيي كلما خطر لي .. إذن فلأطرد من رأسي
كل فكرة من شأنها أن … نعم فلنترك هذا الموضوع إلى الأبد .. ولنتكلم في شيء آخر ..
أعدكِ يا بريسكا وعدًا صادقًا أني لن أجن بعد الآن، فهل تصفحين عني؟ (بريسكا تنظر
إليه صامتة) لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟ بريسكا! هل تمنحينني عفوكِ؟ أجيبي!
بريسكا
(بغير انتباه)
:
نعم ..
مشلينيا
(يُريد أن يلثم يدها)
:
ما أسعدني! إني الآن سعيد أيَّتُها العزيزة! يا خطيبتي المعبودة! (بريسكا شاردة
تحس شفة مشلينيا على يدها فتنتزعها من يده في الحال) لماذا لا تُريدين أن ألثم
يدكِ!
بريسكا
:
انهض أيها المجنون! إني أصغيت إليكَ أكثر مِمَّا يجب ..
(تتحرَّك ذاهبة.)
مشلينيا
(صائحًا في يأس)
:
بريسكا. إلى أين؟ أتذهبين بهذه السرعة وعلى هذا النحو؟ وقبل أن تقولي لي.
بريسكا
(تستدير)
:
أقول لك ماذا؟
مشلينيا
:
إني لن أستطيع النوم الليلة، إن لم تزيلي كل ما بنفسي من .. مهما تبلغ ثقتي بكِ
فإني محتاج أن تُوضِّحي لي هذا الغموض .. أريد أن أعرف .. لا تُعذبيني! لا تقتليني!
أريد أن أعرف يا بريسكا.
بريسكا
:
تعرف ماذا؟
مشلينيا
:
مَن هذا الرجل؟
بريسكا
(في دهشة)
:
أي رجل؟
مشلينيا
:
الذي كنتِ عنده الساعة!
بريسكا
:
لم أكن عند رجل الساعة! ولئن جاز لك أن تخلط وتهرف .. فليس لك أن تُهينني!
مشلينيا
:
صفحا يا بريسكا! .. إني وحشيُّ التعبير وما قصدت إهانة .. لكنه القلق وحب
المعرفة، إني أردت أن أسألكِ أين كنت الساعة قبل أن تمري بهذا البهو؟
بريسكا
:
كنتُ عند أبي.
مشلينيا
(دهشًا)
:
أبوكِ؟! .. أريد من كنتِ تقرئين له الآن وتسامرينه ..
بريسكا
:
نعم هو أبي .. إذا أَرِقَ دعاني لأُطالع له حتى ينام. مشلينيا (في حدة)
بريسكا!
بريسكا
:
ماذا دهاكَ؟! ولِمَ تُحملق فيَّ بعينيك؟!
مشلينيا
:
بريسكا. أتمزحين وتتخابثين؟ .. أم .. أم تريدين خداعي .. أم أنا في …؟
بريسكا
(في دهشة)
:
ماذا تقول؟!
مشلينيا
:
أأنا عميت؟ .. إن هذا ليس بدقيانوس .. إن هذا الملك ليس دقيانوس.
بريسكا
:
دقيانوس؟! طبعًا لا. إن أبي ليس بدقيانوس.
مشلينيا
:
بريسكا! ألستِ ابنة دقيانوس؟
بريسكا
:
أأنت مجنون؟! أأكون ابنة ملك مات منذ ثلاثمائة عام؟!
مشلينيا
(رأسه بين يديه كأنما ينتظر طامَّة)
:
من أنتِ إذن؟ إلهي! أكاد أُجن! سأُجن ..
بريسكا
(تمد يديها إليه في قلق)
:
ماذا بكَ؟!
مشلينيا
:
ابنة هذا الرجل؟ هذا الملك؟ ربَّاه كيف يمكن هذا ..؟!
بريسكا
:
من كنت تحسبني إذن؟! آه .. (تصيح فجأة إذ تبرق في رأسها فكرة) آه .. نعم .. نعم
.. يا إلهي. فهمت .. فهمت ..
مشلينيا
(رافعًا رأسه)
:
ماذا؟ ماذا؟ ..
بريسكا
:
فهمت. إني لست بريسكا التي تقصدها! يا إلهي! كل هذا الذي قلت لم يكن لي إذن .. بل
للأخرى ..
مشلينيا
:
لستُ أفهم ..
بريسكا
:
أنسيت أن عمرك ثلاثمائة عام؟! أنسيت أنك لبثت في الكهف ثلاثمائة عام؟
مشلينيا
:
وماذا يهم ..؟!
بريسكا
(في كآبة ومرارة وكأنما تقول لنفسها)
:
صدقت! أنا أيضًا نسيت ذلك الساعة!
مشلينيا
:
بريسكا. ماذا تقولين؟
بريسكا
:
لا. لا شيء!
مشلينيا
:
تكلمي بالله ..
بريسكا
(لمشلينيا)
:
إنها كانت ابنة دقيانوس! دقيانوس الوثني، ولكنها اعتنقت دين المسيح!
مشلينيا
:
نعم. من أجلي يا بريسكا. أليس كذلك؟
بريسكا
:
أوَكان ذلك من أجلك! آه. إذن كان ذلك من أجلك! نعم. نعم. وغالياس يقول إنها قديسة
وإن المسيح جاءها في المنام وقلدها هذا الصليب الذهبي.
مشلينيا
:
بل هو صليبي الذي أهديتك إيَّاه يا بريسكا عقب ذهابنا إلى الراهب .. ألا
تذكرين؟!
بريسكا
(مُفكِّرة كمن تُخاطب نفسها)
:
نعم. نعم. أدركتُ كل شيء الآن ..
مشلينيا
(في رجاء)
:
أدركتِ الآن! يا بريسكا .! تذكرتِ؟
بريسكا
(تلتفت إليه في قوة، وتقول في لهجة قاطعة)
:
اسمع! أتريد أن تُصغِي إليَّ مليًّا، وتعي ما أقول؟
مشلينيا
(يلتفت إليها بكل جوارحه)
:
نعم.
بريسكا
:
إن بريسكا ابنة دقيانوس. خطيبتك التي تهواها ماتت منذ ثلاثمائة عام.
مشلينيا
(بغير فهم)
:
ماتت؟
بريسكا
:
نعم. عذراء طاهرة كما تركتها، وقد حافظتْ على عهدك المُقدَّس .. وظلت طول حياتها
تقول إنها تنتظر. تنتظرك أنتَ بالطبع حتى تعود.
مشلينيا
(كالمخبول)
:
ماذا أسمع؟!
بريسكا
:
ولقد وفَّتْ بوعدها وانتظرتك حتى أدركها الموت في الخمسين من عمرها، وقد طلبت في
النَّفَس الأخير أن تُحمل لتموت في هذا البهو، لماذا؟ أكنتما تتلاقيان هنا؟! تكلم
يا هذا!
مشلينيا
(في غير وعي)
:
نعم. نعم.
بريسكا
:
الآن وقد عرفتَ. اذهب وابكها. إنها ولا ريب تنتظر دموعك. الوداع!
مشلينيا
(يتمسَّك بأذيالها وهي تهم بالانصراف)
:
بريسكا! لا تذهبي ..
بريسكا
(في حدة غريبة)
:
قلت لكَ إني لستُ ببريسكا.
مشلينيا
(في توسُّل)
:
لستِ أنتِ .. لِمَ هذا يا بريسكا؟ رُحماك! أتريدين أن أفقد عقلي؟
بريسكا
(في حدة)
:
ألم تسمع ما قلتُ ..؟ لست بريسكا التي تُحبها. ماذا تُريد مني؟
مشلينيا
(يحملق فيها كالمجنون)
:
رحمتك يا ربي! من أنتِ إذن! إني لستُ أدري بعدُ هل لي رأس فوق كتفيَّ؟
بريسكا
(في تجهم)
:
إني أشبهها. ولست هي. انظر جيِّدًا. وليعد إليك عقلك.
مشلينيا
(يحملق كمن لا يصدق)
:
تشبهينها! تشبهين من يا بريسكا؟!
بريسكا
:
ولقد أسموني باسمها.
مشلينيا
(كمن كاد يفهم)
:
ربَّاه!
بريسكا
:
ألم يُخبِرك أحد بقصة العرَّاف الذي جاءوا به ساعة ميلادي لينظر طالعي؟
مشلينيا
(كمن يتذكَّر)
:
العرَّاف!
بريسكا
:
لقد تنبَّأ بأني حينما أكبر سأشبه القديسة بريسكا ابنة دقيانوس. ولهذا دعوني باسم
بريسكا.
مشلينيا
:
العرَّاف؟! نعم يُخيَّل إليَّ أني سمعت شيئًا كهذا .. أين ومتى؟!
بريسكا
:
أوَضَحَتْ لعينيك الحقيقة الآن؟!
مشلينيا
(ينظر إليها طويلًا)
:
لستِ إيَّاها؟!
بريسكا
:
كلا، لستُ إيَّاها. اذهب! ماذا تنتظر بعد في هذا المكان؟ قلبك لم يعد هنا!
مشلينيا
(وهو لم يزل ينظر إليها)
:
قلبي لم يعد هنا؟!
بريسكا
(تنظر إليه طويلًا ثم تقول بصوت خافت)
:
الوداع!
(تنصرف.)
مشلينيا
(كمن أصابه خبل يمد يديه نحوها)
:
بريسكا! عزيزتي تعالي .. أنتِ هي! ربَّاه! أنتِ هي ..! لست هي؟ ومن تكونين إذن ..
أنتِ؟ أنائم أنا؟ أحيٌّ أنا؟! أأكون في حلم مضطرب مختلط؟! إلهي. إلهي! أيها المسيح!
أيها الإله! أعطني عقلًا أرى به. أعطني النور أو أعطني الموت. اليقظة. النوم.
العقل. العقل .. مرنوش. أين أنت يا مرنوش؟ أين نحن .. أين نحن الآن. أحلام الكهف؟
أهي أحلام الكهف؟ أأنا في حقيقة؟ أأنا في الكهف؟ ما هذه الأعمدة؟ .. (يتخبَّط بين
العُمُد في البهو) إليَّ يا مرنوش .. يا يمليخا .. إنا لا نصلح للحياة .. إنا لا
نصلح للزمن .. ليست لنا عقول .. لا نصلح للحياة! (يخرج فيصطدم بغالياس
الداخل).
غالياس
(يفرك عينيه وينظر في أثر مشلينيا الذي خرج)
:
ماذا بالقديس؟ ما بال القديس هائجًا؟!
بريسكا
(تعود على مهل وتبحث بعينيها وتقول بصوت خافت كأنما هو
لنفسها)
:
ذهب؟!
غالياس
:
مولاتي! ألم تأوي بعد إلى مخدعك؟
بريسكا
:
لستُ أريد النوم.
غالياس
:
كنتُ أنتظركِ على مقعد قرب باب الملك ولكن غلبني النعاس فلم أرَكِ تخرجين.
بريسكا
(غير ملتفتة إلى كلامه)
:
غالياس!
غالياس
:
مولاتي!
بريسكا
(بعد لحظة .. في تردُّد)
:
غالياس ..
غالياس
(يدنو منها)
:
مولاتي! لبيكِ يا مولاتي .. ماذا بكِ؟
بريسكا
:
لا .. لا شيء. اذهب إلى فراشكَ إذا شئت ..
غالياس
:
أوَتبقين وحدكِ هنا. ونحن في ساعة متأخرة من الليل؟
بريسكا
:
نعم.
غالياس
(ينظر إليها)
:
ماذا بكِ يا مولاتي؟ إني لم أركِ قط على هذه الحال؟
بريسكا
:
ماذا ترى بي؟
غالياس
:
لستُ أدري على التحقيق .. ولكن …
بريسكا
:
غالياس! أُريد أن أقول لكَ .. أُريد أن أقول لك شيئًا .. مُروِّعًا.
غالياس
:
يا ألله! تكلمي يا مولاتي!
بريسكا
:
لقد وجدتُ .. وفقدتُ .. في طرفة عين ..
غالياس
:
ماذا وجدتِ يا مولاتي؟!
بريسكا
:
وفقدتُ .. وينبغي لي أن أفقد .. إلى الأبد! لأن هذا جنون. هذا مُروِّع!
غالياس
:
وجدت ماذا؟
بريسكا
:
حلمي ..
غالياس
:
حلمكِ؟ أي حلم يا مولاتي؟ (لحظة) نعم أذكر أنكِ قلتِ لي بالأمس عن حلم رأيته ..
حلم مفزع مخيف.
بريسكا
:
هو ذاك أيها الأحمق! اذهب عنِّي لا فائدة لي منك.
غالياس
:
مولاتي! لا تُراعي، ولا تعتقدي كثيرًا بالأحلام! .. ولا سيما أحلام مَن في سنك.
إن أحلام الشباب غالبًا أضغاث.
بريسكا
(في حسرة)
:
أحلام الشباب غالبًا أضغاث! (كمن تُخاطب نفسها) نعم .. صدقت في هذا.
غالياس
:
ألم تحلمي أنكِ دُفنتِ حيَّة؟! أوَتصدقين حلمًا كهذا؟
بريسكا
(تنتبه لعبارته)
:
ماذا؟ نعم يا للمصادفة العجيبة! لقد رأيتُ ذلك حقًّا البارحة؟ أجل يا غالياس ..
ولِمَ لا؟ لقد بدأت تَصدُق الرؤيا ..
غالياس
(في قلق)
:
ماذا تعنين يا مولاتي؟
بريسكا
:
لا شيء .. اذهب ..
غالياس
:
لست أفهم .. هذه أول مرة لا أفهم فيها كلامكِ يا مولاتي؟ .. إنكِ اليوم تتكلمين
كما يتكلم هؤلاء القديسون!
بريسكا
:
لا تُهِن القديسين يا غالياس.
غالياس
:
حاشا لله يا مولاتي! حاشا لله! إن الله ليشهد بما في صدري من خشوع وخضوع. غير أني
أردت أن أقول إن خيرًا للقديسين أن يظلوا في السماء من أن ينزلوا بيننا على الأرض
..
بريسكا
:
إنهم ما نزلوا يا غالياس إلا ليرفعونا معهم إلى السماء.
غالياس
:
هذا شرف عظيم يا مولاتي. ولكن لا يناله إلا الأخصَّاء ..
بريسكا
(في حزن وكأنما تُخاطب نفسها)
:
صدقتَ (لحظة) إذن لا ينبغي أن نطمع حتى في هذا؟
غالياس
:
ومع ذلك. مَن يدري؟ ألم يقل العرَّاف إنكِ ستُشبهين القديسة؟ إن الله لم يخلق هذا
الشبه عبثًا ..
بريسكا
(مضطربة)
:
ويلكَ! ماذا تعني؟
غالياس
:
أعني يا مولاتي أنكِ قد تصيرين خليفتها.
بريسكا
:
خليفتها! خليفتها في ماذا؟ يا للفظاعة؟ أجننتَ يا غالياس؟ إني أُفضِّل العذاب
والموت على شيء فظيع كهذا ..
غالياس
:
شيء فظيع! أستغفر الله! أستغفر الله!
بريسكا
:
ألا تتصوَّر فظاعته! آه. ولكنك لا تفهم شيئًا أيها الرجل. اذهب.
غالياس
:
أستغفر لكِ الله! وأنا الذي رجا لكِ يا مولاتي رضاء الله وولايته، وتفاءل منذ
قليل إذ ألحَّ القديس مشلينيا في طلبكِ مرة أخرى الساعة .. وكان مهتمًّا غاية
الاهتمام.
بريسكا
(مطرقة)
:
نعم. أعرف لمن كان هذا الاهتمام.
غالياس
:
أقابلتِه يا مولاتي؟ إني انتظرتك بباب الملك لهذا، ولأرجو منكِ ألا تفزعي منه
..
بريسكا
:
قابلته .. ولم أفزع منه مع الأسف ..
غالياس
:
وماذا قال لكِ؟
بريسكا
(تُغالب تأثُّرها)
:
قال لي أشياء. أشياء. وفي وجهي ..
غالياس
(ينظر إليها)
:
أتبكين يا مولاتي؟!
بريسكا
:
قال إن القديسة بريسكا كانت عميقة القلب، أمَّا أنا فلا. وإنها كانت ذات صوت
ملائكي لا يكاد يُسمع أمَّا أنا فلا. وإنها كانت ذات وداعة وصفاء وحياء جميل أمَّا
أنا فلا ..
غالياس
:
كيف ذلك يا مولاتي؟ أهو يعرفها؟!
بريسكا
(في غيظ)
:
اسكت أو اذهب أيها الغبي الجاهل الأحمق! إنه يُحبها وتُحبه وخطيبها وخطيبته
وبينهما عهد مُقدَّس لا بينها وبين الله أيَّها المؤدِّب الأبله. وكانت تنتظره حتى
الموت .. تنتظره هو لا المسيح وهو الذي أعطاها هذا الصليب الذهبي ..
غالياس
:
عجبًا! القديس مشلينيا هذا؟!
بريسكا
:
نعم هذا الفتى الجميل .. خطيب جدتي الغابرة. ولا يُحب سواها في الوجود .. في أي
وجود. اذهب الآن أيَّها المُؤدِّب وارقد. إني في حاجة إلى السكون والوحدة ..
غالياس
(مستذكرًا)
:
نعم. إنهما وُجِدَا وعاشَا في عصر واحد تحت حكم دقيانوس — كما ورد في كتاب
الراهبين ..
بريسكا
:
قلتُ لك اذهب!
غالياس
(وهو منصرف)
:
ذهبتُ .. أيَّتُها الأميرة! (يخرج وتبقى بريسكا ورأسها إلى عمود).
(مشلينيا يعود ..)
بريسكا
(تحس به فتستدير ملتفتة إليه)
:
لِمَ عدت؟ (مشلينيا يطرق ولا يجيب) ألم تفهم إذن ما قلتُ لك الليلة؟ إني لستُ
إيَّاها ..
مشلينيا
(في صوت خافت)
:
فهمت ..
بريسكا
:
إذن لماذا رجعت؟ (مشلينيا يطرق ولا يحير جوابًا) تكلم يا هذا!
مشلينيا
:
لم أستطع البُعد عن هذا المكان ..
بريسكا
:
نعم .. هذا المكان حيث كنتما تتلاقيان. وما أشقَّه عذابًا على نفسك أن تفارق موضع
الذكرى! أليس هذا ..؟
مشلينيا
(في حزن)
:
ليته هذا!
بريسكا
:
إذن فأنت جئت تبحث عن أثر من آثارها تتعزى به.
مشلينيا
:
آثار مَن؟
بريسكا
:
آثار من تُحب ..
مشلينيا
:
إنها لم تمت.
بريسكا
:
ماذا تعني؟
مشلينيا
:
بل أنا الذي مت .. عندها ..
بريسكا
:
لماذا تنظر إليَّ هكذا؟ .. احذر يا هذا! إن كنتَ تريد أن تتذكرها في صورتي!
وتتأمَّلني كطيف لها. وتجعلني تمثالًا يشبهها، فإني لا آذن لكَ بذلك.
مشلينيا
:
ليتكِ كنتِ تمثالًا ولكنكِ كائن حي.
بريسكا
:
يا له من أمر مريع! ابتعد عني ..
مشلينيا
:
لا تخافي! إني لم أنس أن بيننا ثلاثمائة عام!
بريسكا
:
بل أفظع من هذا أنك تمزج شخصيتي بشخصيتها. إنك لا تراني أنا .. بل تراها هي فيَّ
.. إنها لم تمت عندك بل أنا التي ماتت، اذهب عني! اذهب من هنا على الفور أيها
الرجل!
مشلينيا
(في يأس)
:
بريسكا ..! بريسكا ..
بريسكا
:
صه! لا تُنادني كما كنتَ تُناديها. ليس بيني وبينك صلة ما أيها الرجل! فلتحفظ
الاحترام الواجب لي، أو فاخرج!
مشلينيا
:
صفحًا .. إنه اليأس ..
بريسكا
:
وبعد .. فماذا تُريد من بقائكَ هنا؟
مشلينيا
:
صدقتِ .. هذا مستحيل .. بقائي هنا .. مستحيل ..
بريسكا
:
نعم .. وإن كنت تأمل في النظر إلى وجهي فثق أني سوف أمنع عنك هذه الصورة وأُحطِّم
هذا التمثال.
مشلينيا
:
وأي نفع؟ لقد قلتِها الآن ليس بيني وبينكِ صلة ما.
بريسكا
:
وهيهات لروح أحدنا أن يتصل بروح الآخر.
مشلينيا
:
نعم .. نعم .. بيننا الهوة السحيقة .. هوة ثلاثمائة عام!
بريسكا
:
بل شيء آخر .. قلتَهُ أنت الساعة ولن أنساه إن الأخرى ذات الصوت الملائكي أعمق
قلبًا وأجمل وداعة وأصفى نفسًا! إذن اذهب إليها يا هذا! فإن هذا الزمان كما قلتَ
أنتَ لم يعد فيه صفاء في النفوس ولا عمق في القلوب ولا وداعة سماوية، ولا شيء واحد
من تلك الأشياء التي تُحِبُّها ..
مشلينيا
(في ذهول)
:
بريسكا ..!
بريسكا
:
قلتُ لك إني أكره سماع هذا الاسم.
مشلينيا
:
ولكنه اسمكِ!
بريسكا
:
من سوء الحظ! ليت لي اسم آخر وصورة أخرى!
مشلينيا
:
لو كان ذلك لما كنت وجدتكِ ولكان مصيري كمصير يمليخا ومرنوش!
بريسكا
:
قلتُ لك إنك لم تجدني بل وجدتها هي ..
مشلينيا
(في شبه فرح)
:
نعم وجدتها.
بريسكا
(تكتم تأثُّرها)
:
نعم. وجدت ورأيت وأحببت كل ما هو لها الاسم والصورة. أمَّا كل ما هو لي .. ومع
ذلك فماذا يهمك؟ إنك فَرِح أنك وجدتها ..
مشلينيا
:
نعم. وجدتها.
بريسكا
:
نعم ..
(تجفف دمعة سقطت من عينيها برغمها.)
مشلينيا
:
أتبكين؟
بريسكا
:
اخرج من هنا. إني لأرجو منك ..
مشلينيا
(في فرح وذهول)
:
يا للعجب! إني لم أركِ قط تبكين!
بريسكا
:
لم ترها قط تبكي! نعم. لأن الملائكة لا تبكي. إنها رقيقة دقيقة لا تتحمَّل
البكاء. وقطرة دمع واحدة قد تُدمِّر تركيبها اللطيف!
مشلينيا
:
إذن لماذا بكيتِ؟
بريسكا
:
لم أبكِ.
مشلينيا
:
هذه الدمعة التي رأيتها الآن.
بريسكا
:
أنت أعمى. لا ترى ..
مشلينيا
(في سذاجة وذهول)
:
ربما. بل إني لأعترف بأني لا أرى شيئًا الآن .. ولا أعي أيَّة حقيقة. إني كإنسان
يعميه نور .. نور كثير وسط عالم من الأحلام .. فمهما أرَ وأسمعْ من حقائق هائلة فهي
عندي بسمات أو نسمات تَمُر دون أن تترك أثرًا فيما أنا فيه. ما هي ثلاثمائة العام؟!
وما هي تلك البراهين التي تستطيع أن تثبت لي أنكِ لستِ إيَّاها؟! وما هو ذلك الويل
المُروِّع الرهيب الذي يتربَّص بي إذ ينكشف لي أنكِ امرأة أخرى. وأن بيننا هوة؟! كل
هذا لا يهمني الآن لأني عائش الآن في حقيقة واحدة أني سعيد هنا .. وأن قلبي
هنا!
بريسكا
(تتحرك ذاهبة)
:
إذن ابقَ هنا.
مشلينيا
(في خوف)
:
وأنتِ؟!
بريسكا
:
وما شأني بكَ؟
مشلينيا
(في قنوط)
:
لا تذهبي! لا تذهبي سريعًا .. لا تذهبي ..
بريسكا
:
ماذا تُريد مني؟ ينبغي لك أن تصحو .. آن الوقت لأن تُبصر ..
مشلينيا
:
لا أُريد. لستُ أُريد أن أبصر الآن. الإبصار لي موت. أتُريدين أن أموت؟
بريسكا
:
لو أني في مكانك لآثرت اللحاق بها في السماء ..
مشلينيا
:
إني الآن في السماء .. معكِ في السماء ..
بريسكا
(في مرارة)
:
في سماء خيالك أيها المجنون!
مشلينيا
(ضارعًا)
:
بريسكا! لا تتركيني! لا تتركيني وإلا سقطت في الجحيم.
بريسكا
(تخلع الصليب الذهبي من جيدها)
:
أُعْطِيكَ شيئًا يمنعكَ من السقوط .. هذا الصليب الذهبي ..!
مشلينيا
:
هذا الصليب الذي أهديتكِ إيَّاه؟
بريسكا
(تمده إليه)
:
بل الذي أهديته إليها هي .. إني أرده .. فهو ليس لي ..
مشلينيا
:
بل هو لكِ.
بريسكا
:
لن يستطيع صدري حمله بعد اليوم. إن جسدي ليرجف من لمسه الآن كما لو أنه أفعى
لادغة ..
مشلينيا
:
إنكِ تخيفينني ..
بريسكا
(تُشير إلى يده)
:
أليست هذه اليد ذاتها التي وضعت هذا الصليب على صدرها هي منذ ثلاثمائة عام؟!
..
مشلينيا
:
ثلاثمائة عام!
بريسكا
:
وهاتان الذراعان الفتيتان، أما التفتا حول خصرها المرهف الدقيق؟! ..
مشلينيا
:
ماذا تقولين؟
بريسكا
:
وهاتان الشفتان وما زالتَا، للأسف، جميلتين .. ومن يدري .. لعلهما أيضًا
..
مشلينيا
:
اسكتي ..
بريسكا
:
مِمَّ خفتَ يا خطيب جدتي؟! ..
مشلينيا
:
هذا .. مُروِّع! ..
بريسكا
:
والآن بعد هذا كله تكاد تلمس جسدي هذه اليد وهاتان الذراعان و…
مشلينيا
:
كفى .. كفى ..!
بريسكا
(تُشير إلى جسدها)
:
نعم .. هذا الجسد! انظر يا حبيب جدتي .. ألا تعرف كم عمره؟ عشرون ربيعًا
فقط.
مشلينيا
(يُخفي وجهه براحتيه)
:
يا لفظاعة ما تقولين! ..
بريسكا
:
أرأيتَ؟! ما دُمنا في عالم القلب فلن نرى إلا نورًا .. ذلك هو النور الذي تحكي
عنه ..
مشلينيا
:
نعم .. نعم ..
بريسكا
:
وكان ينبغي أن تذكر الجسد المادي لننزل إلى عالم العقل فنرى الفظاعة والهول
والشقاء الآدمي الذي ينتظرنا ..
مشلينيا
:
نعم .. نعم .. الوداع! يا .. يا .. لست أجسر! الآن أرى مصيبتي وأحس عِظَم ما نزل
بي. لا مرنوش ولا يمليخا رُزِئَا بمثل هذا .. إن بيني وبينكِ خطوة .. بيني وبينكِ
شبه ليلة .. فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها. وإذا الليلة أجيال .. أجيال .. وأمد
يدي إليكِ وأنا أراكِ حيَّة جميلة أمامي فيحول بيننا كائن هائل جبار هو التاريخ.
نعم، صدق مرنوش .. لقد فات زماننا ونحن الآن مِلْك التاريخ .. ولقد أردنا العودة
إلى الزمن ولكن التاريخ ينتقم .. الوداع!
بريسكا
(ترنو إليه طويلًا وهو ينصرف حتى يختفي فتقول في صوت خافت
عميق)
:
الوداع يا مشلينيا!
(ستار)