بعض ما نُشِر عن كتاب «أهل الكهف»
بالعربية
أول مقال نُشر عن كتاب «أهل الكهف» لفضيلة الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر (الأسبق).
***
كنتُ ذات يوم أسير في بعض شوارع القاهرة، فلمحت في وجه دكان من دكاكين الورَّاقين كتابًا أنيقًا، في جمال شكله بساطة تدل على ذوق وفهم.
هذا كل ما كُتِبَ بظاهر الكتاب. أمَّا «توفيق الحكيم» فمُؤلِّف لم تتداول اسمَه الجرائدُ، ولا تناقلت المجلات صورته. وقد يكون أفنديًا أصيلًا، وقد يكون شيخًا مُعمَّمًا أو مطربَشًا. ففي الشيوخ أفندية أيضًا.
و«أهل الكهف» نسمع قصصهم من قارئ السورة في المسجد يوم الجمعة، ويجري ذكرهم على ألسن الناس مثلًا مضروبًا لمن ينام نومًا طويلًا. فهل الأمر تفسير لسورة الكهف؟ أو هو بحث في قصة أهل الكهف وكيف تناقلتها الأجيال وتجاذبتها الأساطير والأخبار؟ .. مرَّت كل تلك المعاني بخاطري. ولمَّا كنت غير مولع بتفاسير المُحدِّثين، ولا مُغرم بتحقيق الأقاصيص القديمة وأصولها، فقد مضيت مكتفيًا بمتعة النظر.
وما هو إلا أن عُدْتُ إلى داري حتى أقبل صديق يحمل إليَّ هذا الكتاب الذي كان يستوقف نظري منذ قريب. وإذا صاحب الكتاب ليس شيخًا ولا مُعمَّمًا بل هو أفندي من خيار الأفندية. ولمَّا شرعتُ في مطالعة الكتاب أحسست بأن جمال معناه لا يقل عن جمال صورته.
رواية تقوم على قصة أصحاب الكهف. وقد درس مُؤلِّفها القصة درسًا محيطًا، ثم أسلم جوهرها إلى خيال مُوفَّق وفكر مستقيم وذوق سليم، فصوَّر من كل أولئك موضوعًا روائيًّا طريفًا كساه الأسلوب السهل الفصيح حلة رائعة.
في رواية أهل الكهف أشخاص تستشِفُّ من حوارهم طبائع نفوسهم وخبايا ضمائرهم وأسرار خلائقهم. وفي أهل الكهف ما يُريك الدين إيمانًا يملأ الصدر، وما يريكه موهَنًا تلينه عواطف اليأس وتُدافِعه زينةُ الحياة وشهواتها. وفي الرواية تحليل للعواطف في هدأتها وتحليل للعواطف في ثورتها. وفي أسلوبها أحيانًا ثوب من السخرية يرمي في لطف إلى مرمى بعيد.
وفيها حب — إذا كان لا بُدَّ للناس من حب، وإن لبثوا في كهفهم ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعًا.
كان مشلينيا الوزير يُحب بريسكا متبناة دقيانوس قبل أن يرقد في الكهف قرونًا. فلمَّا أحياه الله وذهب إلى قصر الملك وجد بريسكا أخرى هي بنت صاحب القصر فحسبها حبيبته. وأمرُ مشلينيا وبريسكا من أقوى حوادث الراوية وأروعها وأدلها على مهارة الكاتب في تصوير مواقف الحب تصويرًا يكشف بعض المعاني كشفًا صريحًا بليغًا، ويومئ إلى بعض المعاني إيماءً رقيقًا بليغًا.
يذهب هذا الحب القوي الشقي إلى أسمى مراتب الحب وينتهي إلى أنبل نهاياته من الجود بالنفس في سبيله عن سكينة ورضا.
وقصة أهل الكهف من خير ما عرف القصص العربي وليست تحتاج إلى عناء لتكون رواية تمثيلية قلما ظفر بمثلها المسرح المصري.
وإذا كان هذا الأثر باكورة الثمرات بقلم الأستاذ توفيق الحكيم، فهي نفحة النبوغ تتفتق أكمامه عن زهره. وإن كان للأستاذ آثار من قبلها فهذه آية نضجه واكتمال مواهبه.
والمُؤلِّف الذي يفر من مجد إحسانه، بما في طبعه من حياء النُّبل والتواضع جدير بأن يحفز في سبيل المجد والإحسان من كل معنيٍّ بنهضة الأدب.
بَيْدَ أن العبقرية تشق سبيلها إلى الكمال والنجاح على كل حال.
السياسة الأسبوعية
ملحق العدد ٣١٠٧، ٨ مايو ١٩٣٣
بالألمانية
من دراسة طويلة منشورة في مجلة «فكروفن» الألمانية لناجي نجيب العدد ٤٠، العام ٢٠، ١٩٨٤م ميونيخ، ألمانيا الغربية، بعنوان: «أهل الكهف» ونشأة الأدب المسرحي العربي (المقروء).
***
حين نَشَرَ توفيق الحكيم عام ١٩٣٣م مسرحيته «أهل الكهف» (وكان قد كتبها قبل ذلك عام ۱٩٢٩م) استقبلها أعلام الأدباء والكُتَّاب كحدث كبير، فيها — كما يذهب طه حسين في مقال له في «مجلة الرسالة» (أواخر مايو ١٩٣٣م) — نشأ فن وفُتِح باب جديد في الأدب العربي .. «ويُمكن أن يُقال إنها رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة .. بل ويُمكن أن يُقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نُقَّاد أجانب يستطيعون أن يقرءوها إن تُرجِمت لهم …» فهي «مزاج معتدل» من الروح المصري العذب و«الروح الأوربي القوي» ..
بمسرحية «أهل الكهف» دخل الأدب الدرامي دائرة الوعي العام كفرع من فروع الأدب العربي الرسمي، وقد ارتفع إلى هذه المرتبة بعيدًا عن خشبة المسرح.
ويُلخِّص الحكيم الأصداء التي أثارتها «أهل الكهف» بين معاصريه (الشيخ مصطفى عبد الرازق والعقاد والمازني …) والاحتفاء الكبير الذي قوبلت به فيقول: «الذي استقر في ضمائر أهل الأدب يومئذٍ أن شيئًا ما، على أساس ما، وُضِع، ولم يشذ أحد من الأدباء عن اعتبار العمل لونًا من الأدب العربي، مُثِّل أو لم يُمثَّل!» (مقدمة «الملك أوديب» ١٩٤٩).
وبوجه عام فقد استقبل الشباب المثقف في الثلاثينيات أعمال الحكيم القصصية والدرامية بحماسة كبيرة باعتبارها فنونًا أدبية مستحدثة لم يعرفها الأدب العربي من قبل. ويُعبِّر بهاء طاهر (من مواليد عام ١٩٣٥م) عن موقف الجيل التالي من «أهل الكهف» ومسرحيات الحكيم الذهنية إذ يقول: «كانت «أهل الكهف» و«شهرزاد» مدخل جيل بأكمله إلى الفن الدرامي، جيل عرف الدراما عن طريق القراءة قبل أن يعرفها على خشبة المسرح. ففي الأربعينيات وأوائل الخمسينيات لم يكن للحياة المسرحية وجود حقيقي. وكانت هذه القِطع الأدبية الجميلة تُلهب خيالنا باعتبارها نماذج سامية لفن مفقود. وحين كان يُثار الجدل في ذلك الوقت عن مسرح توفيق الحكيم وعن المسرح الذهبي الذي كان يُقرأ ولا يُمثَّل، لم نكن نفهم المشكلة بالضبط. فقد كنا نجد في «أهل الكهف» و«شهرزاد» ما نجده في سائر المسرحيات العالمية التي أُتيح لنا أن نقرأها من حوار رائع وفكر جليل». («ألغاز شهرزاد» في «الكاتب» ١٩٦٦م، العدد ٦٩، ۱۲۰).
وبمعنى مُشابه يقول ألفريد فرج (من مواليد عام ١٩٢٩م): «إن مسرحيات الحكيم هي التي ألهمت فناني ومثقفي جيلنا حب هذا الفن … اقترن أول لقاء بين جيلنا والمسرح بالدهشة والحب أمام «أهل الكهف» و«شهرزاد» و«الخروج من الجنة» …» («دليل المُتفرِّج الذكي إلى المسرح»، ١٩٦٦م).
ويقول ناجي نجيب: إن هناك خلفية تاريخية واضحة لذلك الاستيعاب نلمسها في العديد من المصادر، وفي مقدمتها الإحساس العام بضآلة الثقافة المصرية وضعفها.
هناك شكوى في هذه الفترة (في العشرينيات والثلاثينيات) وهي نقص الغذاء الفكري في الحياة المصرية وأنه لا سبيل إلى تلمُّس هذا النوع من «الغذاء» في الإنتاج المصري. وكان المُثقَّف إذ ذاك مزيجًا من الأمل ومن مشاعر السأم والملل. والأمر أعم وأشمل، وما الثقافة سوى مظهر واحد من مظاهر الضعف أو القصور.
ويحمل أحمد أمين في مقال بعنوان «بين اليأس والرجاء» («الرسالة»، ١٩٣٣م، العدد ١٦) أبعاد القضية، فيُشير إلى أن روح التشاؤم والشك قد شملت أبواب الثقافة والاجتماع والسياسة، وأن هذا الطعن في «حياة الشرق» قد زاد الطين بلة؛ «فدُعاة اللغة والأدب» يلحون على أن «الأدب الأجنبي أدب الثقافة والفن والعلم، ولا شيء من ذلك في الأدب العربي، وأن من شاء أن يفتح عينيه فليفتحهما على أدب أجنبي ولغة أجنبية، وإلا ظل أعمى …»
وبإيجاز فحاجة المثقفين في هذه الفترة إلى «الغذاء الفكري والروحي» كبيرة، وبالمثل حاجتهم إلى إثبات الشخصية الذاتية لمعادلة ما يحسونه من نقص وضعف، وأيضًا للتعويض عن الواقع السيئ. هناك حاجة مُلحة «للمعنويات» لتخطي حقائق الواقع و«ماديات» الحياة من حولهم. هذا هو التناقض الذي نشأت من خلاله «أهل الكهف» ومسرحيات الحكيم الذهنية «شهرزاد» و«بجماليون» و«أوديب». ويشرح الحكيم في إحدى مقالاته في الثلاثينيات بروز فكرة الشخصية الذاتية وارتباطها بمفاهيم «الثقافة» و«الفن» عند جيل الرُّوَّاد، وعلى وجه الخصوص بمفاهيم «الإبداع» و«الخلق» و«البحث عن الأسلوب». وهي مفاهيم جديدة ذات معانٍ مستحدثة ..
ليس غريبًا مع هذا التعطُّش إلى «الثقافة» وإلى «الغذاء الفكري» و«المعنويات» أن يكون الطريق إلى تأهيل الفن الدرامي للقبول في حديقة الأدب العربي هو الفكر، وليس من خلال المسرح وفن التمثيل بمقدار اكتشافهم لعالم الفكر والفن الغربي، وما يحويه من ثراء ذهني وروحي، تطلعوا بعين الخيال إلى آفاق العالمية وقضايا الإنسان «في أفكاره الثابتة في كل زمان» (بتعبير الحكيم)، وتطلعوا إلى «الخلق» و«الإبداع»، والمشاركة في سماء الحضارة الرفيعة. وهذه جميعًا من مفردات هذا الجيل (جيل «الحنين الحضاري»)، وينعكس هذا بوضوح على تعليق طه حسين على «أهل الكهف»، وعلى المنظور الذي استوعب منه المثقفون وكبار الأدباء هذا العمل الأدبي. فطه حسين في تعليقه السابق لا يتوقَّف لحظة ليُناقش محتوى «أهل الكهف»، وإنما يقيمها فحسب من مضمون ما حقَّقته للأدب العربي إزاء الآداب الأخرى أو إزاء أدب الغرب. وعلى نحو مُشابه استوعبها الجيل التالي الذي عبَّر عنه بهاء طاهر (ومن هذا المنظور استوعب البعض أيضًا «عودة الروح»).
وهكذا دخل النص الدرامي حديقة الأدب العربي الحديث من خلال مسرح الفكر، أي كفنٍّ من فنون القول لا التمثيل. ويُوضِّح الحكيم في «سجن العمر» كيف استوعبت البيئة الأدبية مسرحه الفكري دون صعوبات: «فالبيئة الأدبية في بلادنا كانت فعلًا مستعدة لتقبله؛ في حين أن البيئة المسرحية كانت لا تزال في وادٍ آخر .. وخاصة بعد عودتي من الخارج … فقد اختفت حتى المترجمات الحميدة، وخضع المسرح وقتئذٍ إلى تيارين اثنين؛ التيار الإضحاكي والتيار الإبكائي، وكان لا بُدَّ إذن من تيار ثالث هو التيار الثقافي …»
وبديهي أن الترجمة والتعريب — على ما لهما من تأثير — لا يكفيان لترسيخ فن مفقود، والأغلب أن تظل روائع الأدب المسرحي المترجمة بعيدة عن آفاق الجمهور في غياب النصوص الأدبية العربية الدرامية المماثلة. ومن هنا كان الدور الذي أدَّته مسرحيات الحكيم الذهنية. وبهذه الأعمال الأدبية الأولى اشتهر الحكيم وانضم بها إلى أعلام الأدب وقتذاك (خليل مطران وطه حسين والعقاد والمازني والزيات …) كانت شيئًا جديدًا، عبَّر عنه «أستاذ الجيل» لطفي السيد في أول لقاء له مع الحكيم بعد نشر «أهل الكهف» و«شهر زاد» بقوله: «أنت شيخ طريقة»!