الجزء الأول
تُسَيِّر مِنرفا، في صورة منتور، تلماك، فتُلقي عاصفة به في جزيرة كلبسو، تَقبَلُ هذه الآلهة، التي تضيق ذرعًا بذهاب أوليس، ابن هذا البطل أحسن قبول، هي لم تلبث أن هامت به أشد هيام فعرضت عليه الخلود إذا ما أراد الإقامة معها، تُلح كلبسو عليه أن يروي لها خبر مغامراته فيقص عليها نبأ سفره إلى بيلوس ولكدمونية وغرق سفينته على شاطئ صقلية، وما لاقى هناك من خطر ذبح أرواح أنشيز إياه، وما قدم هو ومنتور إلى ملك هذه الناحية، أَسِسْتُ، من مساعدةٍ في غارةٍ قام بها البرابرة، وما قابلهما به هذا الأمير من شكران بإعطائهما سفينةً فنيقية يعودان بها إلى بلدهما.
لم تكن كلبسو لتستطيع أن تسلو فراق أوليس، وكانت تُرى شقية بخلودها لما ألمَّ بها من ألمٍ، وعاد غارُها لا يدوِّي بنشيدها، ولم تجرؤ الحوريات، اللائي كن يخدمنها إلى الكلام إليها، وكانت، في الغالب، تتنزه وحدها على الكلأ الزاهر الزاخر بربيع دائم في جزيرتها، ولكن غدت هذه الأماكن لا تُسكن ألمها، ولم تفعل غير تذكيرها بذكرى أوليس الذي رأته هناك مراتٍ كثيرةً بجانبها، وما أكثر ما كانت تبقى جامدةً على شاطئ البحر مُبللة إياه بدموعها، فلا تنفك تنظر إلى الناحية التي غاب فيها مركب أوليس عن بصرها وهو يشق عُباب البحر.
وتشاهِد من فورها حُطام سفينةٍ غرقت، ومقاعد للجذاف محطمة، ومقاذيف على الرمل هنا وهناك مطروحةً، وتُبصر على الساحل صاريًا وحبالًا عائمةً، ثم تلمح من بعيدٍ رجلين يَلُوح أحدهما مُسنًّا ويبدو الآخر، مع شبابه، مشابهًا لأوليس، فله لطف أوليس وخُيلاؤه وقامته وجلال مشيته، وتُدرك الآلهة أن هذا هو تلماك ابن ذاك البطل، ولكن الآلهة — وإن كانوا يفوقون جميع الناس معرفةً — لم تستطع الآلهة إدراك أمر هذا الرجل الجليل الذي يصحبه تلماك؛ وذلك لأن الآلهة الأعلين يكتمون عن الأدنين ما يروقهم، فلم تُرد منرفا التي كانت ترافق تلماك على صورة منتور أن تعرفها كلبسو.
ومع ذلك فإن كلبسو فرحت بغرقٍ جعل في جزيرتها ابن أوليس الكثير الشبه بأبيه، وتتقدم نحوه، ولا تُظهر أنها تعرف من هو وتسأل: «كيف جرؤت على الرسو في جزيرتي؟ اعلم، أيها الغريب الشاب، أن مملكتي لا تُؤتَى بلا عقاب.»
وتحاول أن تُخفي تحت هذا الوعيد سرورها الذي كان يلوح على وجهها على الرغم منها.
ويجيب تلماك بقوله: «أتكونين جافية القلب تجاه بلاء ابن طلب أباه فعبثت به الرياح والأمواج فأبصر تكسر مركبه على صخرك، وذلك سواءٌ عليك أإنسانًا كنت أم إلهةً، وإن كان مظهرك يدل على أنك إلهة؟»
وتقول الإلهة: «ومن يكون، إذن، أبوك الذي تبحث عنه؟»
ويقول تلماك: «هو يُدعى أوليس، وهو من الملوك الذين دمروا تروادة الشهيرة بعد حصارٍ دام عشر سنين، وقد ذاع صيته في جميع بلاد اليونان وآسية عن شجاعةٍ في المعارك ودرايةٍ في النصائح، والآن، إذ يهيم في عُرض البحار، يجوب أشد المهالك هولًا، ويظهر أن وطنه يتناءى أمامه، وأراني، أنا ابنه، مع زوجه بنلوب قد فقدنا أمل لقائه، وأجول، مصادفًا مثل ما وجد من أخطار، لأعرف أين هو، ولكن ما الحيلة؟ قد يكون الآن دفين لُجج البحر العميقة، فارْثِي لبؤسنا، فإذا كنت تعرفين، أيتها الإلهة، ما صنعت الأقدار لإنقاذ أوليس أو إهلاكه فتفضلي بإخبار ابنه تلماك ذلك.»
وتُدهَش كلبسو وترِقُّ إذ تُبصِر حكمةً وبلاغةً بالغتَيْنِ في هذا الشباب الفياض، فلا تستطيع إرواء عينيها من النظر إليه، وتظل صامتةً، ثم تقول له: «سأخبرك، يا تلماك، بما حلَّ بأبيك، ولكن قصة ذلك طويلة، وقد أَنَى لك أن تستريح من عنائك، فتعالَ إلى منزلي حيث أَقْبَلُك مثل ولدي، تعالَ لتكون سُلواني في عزلتي، وسأصنع ما تكون به سعيدًا على أن تعرف أن تتمتع بهذا.»
ويتبع تلماك الإلهة محاطةً بجمعٍ من الحوريَّات الفتيات، وتظهر أنها تعلوهن بقامتها كما تعلو أغصان البلُّوطة الكثيفة جميع الأشجار التي تحيط بها في الغابة، ويُعجب ببهاء جمالها، وبأُرجوان ثوبها الطويل المتموج السَّنِي، وبضفائر شعرها المرسلة على ظهرها إرسال إهمالٍ، ولكن مع روعة، وباضطرام عينيها وحلمها الذي يُلطف هذا التأجج، ويرقب منتور تلماك مع غض بصرٍ وصمت ذي حياء.
أرت كلبسو تلماك جميع هذه الروائع الطبيعية، وقالت له: «استرِحْ، فثيابك مبلَّلة، وقد حل وقت تغييرها، وإلى اللقاء حيث أقُص عليك من الأنباء ما يأخذ بمجامع قلبك.»
وهي — في الوقت نفسه — تُدخله، هو ومنتور، إلى أبعد ما يكون خفاء وانزواء في غار مجاور للغار الذي تقيم به الإلهة، وتُعنَى الحوريات بإيقادهن في ذاك المكان نارًا من خشب الأرْز الذي تسطع رائحته الذَّكِيَّة في جميع الجهات، ويتركن هناك ثيابًا للضيفين الجديدين.
أبصر تلماك أنه أُعِدَّ له قميص من صوف ناعم يُزري بياضه ببياض الثلج، ورداءٌ أُرجوانيٌّ مطرَّزٌ بالذهب، فأخذته نشوة من اللذة طبيعية لدى شاب يُنعم النظر في هذا البهاء.
فقال له منتور برصانة: «أهذه، إذن، هي الأفكار التي يجب أن تشغل قلب ابن أوليس؟ أحرى بك أن تُعمل ذهنك في المحافظة على سمعة أبيك، وأن تقهر الطالع الذي يجور عليك، وليس الشاب الذي يودُّ أن يَزَّيَّنَ كالنساء على غير طائل أهلًا للحكمة والمجد، ولا يستحق المجد غير فؤادٍ يستطيع الصبر على الألم وأن يدوس الملاذَّ تحت قدميه.»
ويجيب تلماك عن هذا متأوِّهًا: «لأن تُهلكني الآلهة أهون من أن أعاني استيلاء النعيم والشهوة على فؤادي! كلا، كلا، لن يستحوذ على ابن أوليس فتون حياة الترف والتخنث، ولكن أي فضلٍ من السماء جمعنا بعد غَرَقِنا بهذه الإلهة، أو هذه المرأة، التي تغمرنا بالإحسان؟»
ويرد منتور عليه بقوله: «اخشَ أن تغمرك بسوءٍ، خَفْ ألطافها الخادعة أكثر من خوفك الصخر التي حطمت مركبك، فالغرق والموت أقل هولًا من الملاذ التي تغزو الفضيلة، احترز من تصديق ما تقص عليك، ألا إن الشباب معجب بنفسه، ألا إن الشباب يعلل نفسه بالأماني، ويعتقد الشباب قدرته على كل شيء وأنه ليس عليه أن يخشى أمرًا وإن كان ضعيفًا، وقلَّما يكون الشباب مُعَوِّلًا، وإذا وقع هذا فبلا احتراز، احذر أن تُلقِيَ السمع إلى كلام كلبسو العذب المُدالي الذي ينساب كالثعبان تحت الزهور، اخش السم الخفي، ولا تركن إلى نفسك، واستمع إلى نصائحي دائمًا.»
ثم يعودان عند كلبسو التي كانت تنتظرهما، وأول ما حدث هو أن الحوريات ذوات الضفائر والثياب البيض، قدمن طعامًا بسيطًا، ولكن لذيذًا نظيفًا، وكان لا يُرى من اللحوم فيه غير لحم الطيور التي اصطدنها بشباكهن أو الحيوانات التي أصمينها بسهامهن، وكانت تسيل من آنية كبيرة فضية خمر أعذب من الرحيق، وذلك في كئوس من ذهب متوجة بأزهار، ويُجلب في سلالٍ جميع الفواكه التي تُرجى من الربيع وتفيض على الأرض في الخريف، ويأخذ أربع حوريات فتيات في الغناء فيُشدن بملحمة الآلهة حيال الغيلان ويُنشدن معاشق جوبيتر وسمله، ويترنَّمن بولادة باخوس وتربيته من قبل الشيخ سيلين، وبسباق أتلنته وإبُّومن الذي كُتب له الفوز بفضل تفاحٍ من ذهب جاء من بستان هسبريد، ثم يُتغنى بحرب تروادة أيضًا، ويُرفع ذكر معارك أوليس وحكمته إلى السماء، وكانت أولى الحوريات تسمى لو كوتويه فتجمع بين توافقات قيثارتها وهذه الأصوات العذبة، فلما سمع تلماك اسم أبيه ذرفت دموعه على خديه وزادت جماله بهاءً، ولكن بما أن كلبسو أبصرت أنه لا يستطيع الأكل لما اعتراه من ألم أومأت إلى الحوريات فصرن يترنمن من فورهن بالسنتور واللابيت وبهبوط أورفه إلى الجحيم لإنقاذ أوريديس منه.
ولما فُرغ من الطعام تناولت الإلهة تلماك، وقالت له: «ترى، يا ابن أوليس العظيم، مقدار ما أُقابلك به من رعاية، وإني خالدة، ولا أحد من الناس يستطيع دخول هذه الجزيرة من غير أن يجازي على جُرأته، وما كان غرق سفينتك ليقيك من غضبي لو لم أحبك، وقد كان لأبيك مثل حظك، ولكنه لم يعرف أن ينتفع به مع الأسف، وذلك أنني أبقيته في هذه الجزيرة زمنًا طويلًا، وأنه ما كان عليه إلا أن يعيش معي فيها عيش خلود، غير أن ما كان يساوره من ولع أعمى بالرجوع إلى وطنه البائس حمله على نبذ جميع هذه المنافع، وأنت ترى كل ما أضاع ليعود إلى إيتاك التي لم يستطع أن يراها ثانيةً، ويُريد أن يتركني، ويذهب، وأنتقم بالعاصفة، وتعبث الرياح بمركبه وتبتلعه الأمواج، فاستفد من هذا المثال المحزن، وليس لك، بعد هذا الغرق، أن ترجو رؤيته وأن تملك جزيرة إيتاك بعده، ولك سلوانٌ عن فقده بوجود إلهةٍ هنا مستعدة لجعلك سعيدًا ولتقديم مملكةٍ إليك.»
وتضيف الإلهة إلى هذا القول كلامًا طويلًا لتبين مقدار ما كان يتمتع به أوليس من سعادة بجانبها، فقصت عليه نبأ مغامراته في غار العملاق الوحيد العين: بُوليفيم، ولدى ملك اللستريغون: أنتيفاتس، وهي لم تنسَ ما أصابه في جزيرة بنت الشمس: سَرْسَه، وما لاقى من أهوالٍ بين سيل وكاربد، وقد وصفت له أمر العاصفة الأخيرة التي أثارها نبتون حياله حينما ذهب من عندها، وقد أرادت إبلاغه نبأ هلاكه في هذه العاصفة وأخفت خبر وصوله إلى جزيرة الفياسيين.
ويُدرك تلماك، الذي أخذ الفرح بمجامع قلبه في البداءة من حسن ما عاملته به كلبسو، مكر كلبسو هذه في آخر الأمر كما يدرك سداد النصائح التي أسدى إليه بها منتور، فيجيب بالكلمات القليلة الآتية: «اعذريني على توجعي أيتها الإلهة، لا أستطيع الآن غير الحزن، وقد أكون أكثر قدرةً، فيما بعد، على تذوق السعادة التي تعرضين عليَّ، دعيني أبكي أبي في هذه الساعة، فأنت أحسن معرفةً مني بمقدار ما يستحق أن يُبكَى.»
ولم تُقدِمْ كلبسو على ضغطه في أول الأمر أكثر مما فعلت، حتى إنها تظاهرت بأنها متوجعةٌ لأوليس مُتحننةٌ عليه، ولكنها ودَّت لو تعرف ما تؤثِّر به في فؤاده أكثر مما صنعت فسألته كيف غرقت سفينته كما سألته عن المغامرات التي أتاها ليكون على هذه الشواطئ.
وتُلح عليه طويلًا، ولا يستطيع أن يقاومها، ويقول لها: «ذهبتُ من إيتاك لأسأل الملوك العائدين من حصار تروادة عن أخبار والدي، ويُدهش عشاق والدتي بنلوب من سفري، وقد حرصت على كتم ذلك عنهم لما أعلم من مكرهم، ولم يستطع نسطور الذي زرته في بيلوس، ولا منلاس الذي استقبلني في لكدمونية بِوُدٍّ، أن يخبراني هل أبي حيٌّ أو لا، وأظل حائرًا مترددًا زمنًا طويلًا، ثم أعزم على الذهاب إلى صقلية حيث ألقت الرياح أبي كما رُوي لي، بَيْدَ أن الحكيم منتور، الذي تَرَيْنَه حاضرًا هنا، قاوم هذا العزم البعيد من الفطنة، وذلك أنه، من ناحيةٍ، وصف لي السكلوب بأنهم غيلانٌ عماليق يفترسون الناس، وأنه، من ناحيةٍ أخرى، ذكر لي وجود أسطول ابنهِ والترواديين في تلك السواحل، ومما قال لي: «إن الترواديين يتميَّزون غيظًا من جميع الأغارقة، ولكنَّ أخصَّ ما يصنعون هو أن يسفكوا دم ابن أوليس مسرورين، فارجع إلى إيتاك، فلعلك تجد أباك، الذي يحبه الآلهة، قد بلغها فور وصولك إليها، ولكن إذا كان الآلهة قد قضوا بهلاكه فلا ينبغي له أن يرى وطنه مرةً أخرى، وجب عليك، على الأقل، أن تذهب للانتقام له ولإنقاذ أمك ولإثبات درايتك لجميع الأقوام ولتبرهن لجميع بلاد اليونان أنك ملك جدير بالملك جدارة أوليس نفسه.»
«كان هذا الكلام شافيًا، ولكنني لم أكن من الفطنة بحيث أتَّبعه، وما كنت لأتبع غير هواي، وقد بلغ منتور من حبه إياي ما تبعني معه في رحلتي الطائشة التي قمتُ بها على الرغم من نصائحه، وكان من أمر الآلهة أن سمحوا باقترافي خطأً يساعد على شفائي من عُجبي.»
وكانت كلبسو تنظر إلى منتور في أثناء كلام تلماك، وقد بُهتت إذ شعرت بشيء إلَهي فيه، ولكن ما كانت لتستطيع أن تميز بين هواجسها المبهمة، وهكذا ظلت كثيرة الخوف والاحتراز حيال هذا المجهول، وهنالك حَذِرَت أن يبدو ارتباكها، فقالت لتلماك: «واصل وأشبع فضولي.»
فعاد تلماك إلى حديثه كما يأتي: «اتفقت لنا ريح ملائمة زمنًا طويلًا كيما نذهب إلى صقلية، ثم أتت عاصفة سوداء فحجبت السماء عن أعيننا، ونرى بنور البروق مراكب أخرى معرَّضة لذات الخطر، ولم نلبث أن عرفنا أنها سفن إينه، وما كانت الصخر أَدْعَى إلى خوفنا منها، وهنالك أدركت، ولكن بعد الأوان، ما كان من منع الشباب الطائش إياي أن أنظر إلى الأمر بانتباه، ولم يظهر منتور في أثناء هذا الخطر حازمًا مقدامًا فقط، بل ظهر مسرورًا أكثر من المعتاد أيضًا، ومنتور هو الذي كان يشجعني فأشعر بأنه كان يوحي إليَّ بقوة لا تقاوم، وكان يُلقي جميع الأوامر هادئًا على حين كان الربان مضطربًا، وأقول له: «أي منتور العزيز! لمَ رفضتُ اتباع نصائحك؟ ألستُ شقيًّا إذ أردت أن أثق بنفسي في سنٍّ يكون الإنسان فيها خاليًا من البصر بالعواقب عاطلًا من تجربة الماضي ومن الاعتدال الذي يعالج به أمر الحاضر، وَيْ! ليتنا ننجو من هذه العاصفة، إذن لَحَذِرْتُ نفسي كما أحذر أخطر أعدائي، وأنت، يا منتور هو الذي سأصدقه دائمًا».»
ويجيبني منتور بقوله متبسمًا: «لا ألومك على الخطأ الذي اقترفت، ويكفي أن تُحسه وأن تنتفع به فتكون أكثر اعتدالًا في رغائبك إذا ما حدث أمر آخر، ولكن الخطر إذا ما زال عاد إليك زهوك على ما يحتمل، والآن يجب أن نتذرَّع بالشجاعة، أجل، يجب كشف الخطر واتِّقاؤه قبل وقوعه، ولكنه إذا ما وقع لم يبقَ غير عدم المبالاة به؛ ولذا كن سرَّ أبيك أوليس، وابدُ ذا قلبٍ أكبر من جميع المصائب التي تهددك.»
وأُفْتَنُ بحلم منتور وبسالته، ولكنني زدت عَجَبًا عندما رأيت مقدار ما أظهر من مهارة لإنقاذنا من الترواديين، فبينا أخذت السماء تصفو، ولم يُعوِز الترواديين أن يعرفونا إذ يروننا عن كَثَب، لاحظ أن إحدى سفنهم، التي أزاحتها الزوبعة، مشابهةٌ لسفينتنا تقريبًا، وأن مؤخَّرها متوَّج ببعض الأزهار، فأسرع إلى وضع أكاليل من الزهر مماثلة على مؤخَّرتنا، وربطها بنفسه بعصائب ذات لونٍ مطابقٍ للون عصائب الترواديين، وأمر جميع جُدَّافنا بالانحناء على طول مقاعدهم ما استطاعوا لكيلا يُعرف أنهم من الأعداء ونَمُرُّ من بين أسطولهم ونحن على هذه الحال، ويهتفون هُتاف الفرح حينما رأونا ظانِّين أننا رفقاءُ لهم كانوا قد اعتقدوا هلاكهم، حتى إننا اضطررنا إلى السير معهم زمنًا طويلًا بفعل هياج البحر، ثم تأخرنا عنهم قليلًا، وبينما كانت الرياح الصائلة تدفعهم نحو إفريقية بذلنا أقصى الجهود لندنو بقوة المجاديف من الشاطئ المجاور لصقلية.
ونصل إلى هذا الشاطئ فعلًا، ويظهر أن ما نبحث عنه ليس أقل شؤمًا من الأسطول الذي كان يحملنا على الفرار، وذلك أننا وجدنا على هذا الساحل من صقلية ترواديين آخرين معادين للأغارقة، وهناك كان يملك الشائب أَسِسْتُ الذي فرَّ من تروادة، ولم نكد نصل إلى هذا الساحل حتى اعتقد الأهلون أننا قوم آخرون من الجزيرة أتوا للإيقاع بهم بغتةً، أو أناسٌ من الأجانب جاءوا للاستيلاء على أرَضيهم، ويُحرقون مركبنا، ويذبحون جميع رفقائنا عن حُمَيَّا، ولم يُبقوا غيري وغير منتور كيما يُقدِّموننا إلى أسِسْت فيعرف منا ما مقاصدنا وما المكان الذي أتينا منه، وندخل المدينة مُوثَقِي الأيدي خلفَ الظهر، ولم يؤجَّل قتلنا إلا لاتخاذنا مشهدًا لفُرجة قومٍ قُساة عندما يُعلم أننا من الأغارقة.
وأول ما نقدَّم إلى أسست الذي كان يحكم في الشعب ممسكًا صولجانًا بيده فيُعدُّ ضحيةً كبيرة، ويسألنا عن بلدنا وعن سبب سفرنا بصوتٍ جافٍ، ويبادر منتور إلى الجواب بقوله: «أتينا من سواحل إسبيرية الكبرى، وليس وطننا بعيدًا من هناك.»
وهكذا فإنه احترز من بيانه أننا من الأغارقة، بيد أن أسست لم يسمع أكثر من هذا عادًّا إيانا من الأجانب الذين يُخفون مقاصدهم، فأمر بإرسالنا إلى غابةٍ قريبة حيث نخدم كعبيدٍ تحت إمرة من يقومون برعي مواشيه.
ويبدو لي هذا الوضع أشد من القتل، فأصرخ قائلاً: «أيها الملك! الموت أحبُّ إلينا من هذه المعاملة الكريهة، فاعلم أنني تلماك ابن ملك الإيتاكيين أوليس الحكيم، وأنني أبحث عن أبي في جميع البحار، فإذا كان يتعذر عليَّ أن أجده وأن أعود إلى وطني وأن أنجو من الرِّق فانزع مني حياتي التي لن أُطيقها.»
ولم أكد أنطق بهذه الكلمات حتى اعترى القوم هياجٌ فصرخوا مطالبين بإهلاك ابن الطاغية أوليس الذي أدت مكايده إلى تدمير مدينة تروادة.
فقال لي أسست: أي ابنَ أوليس، لا أستطيع أن أضن بدمك على أرواح أولئك الترواديين الكثيرين الذين أبادهم أبوك على ضفاف كوسيت، فستهلك أنت وذاك الذي أتى بك.
وفي الوقت نفسه اقترح أحد شيوخ الجيش أن نُذبح على ضريح أنشيز.
ومما قال: إن دمهما يَطِيبُ لِطَيْفِ هذا البطلِ، حتى إِنَّ أَمْرَ مثلِ هذا القربان يقع موقع القبول عند إينة حينما يُخبَر به لما يُبصر في هذا من حبكم البالغ لذاك الذي كان أعز الناس على العالم.
ويُصفق جميع القوم لهذا الاقتراح، وعاد القوم لا يفكرون في غير ذبحنا، ويؤتَى بنا إلى ضريح أنشيز، ويقام مذبحان حيث تُوقد النار المقدسة، ويكون السيف الذي أُعد لقتلنا أمام أعيننا، ونُكلَّل بالزهور، وما كانت أية رحمة لتضمن لنا الحياة، وكان أمرُنا قد فُرغ منه حينما طلب منتور بهدوءٍ أن يخاطب الملك، فقد قال: أي أَسِسْتُ! إذا كانت مصيبة الشاب تلماك، الذي لم يُوجِّه قط سلاحًا إلى التُّرواديين، لم تُثِرْ حنانك فارحم مصلحتك الخاصة على الأقل، فما لديَّ من علمٍ نلته من الطوالع وعزائم الآلهة يخبرني أنه لن تمضي ثلاثة أيام حتى يُغِيرَ عليك أقوام من البرابرة ويأتوك من فوق الجبال كالسيل، وذلك كيما يغمرون بلدك ويُدمرونها، فسارع إلى دفع شرهم، وادعُ جميع رعاياك إلى حمل السلاح، ولا تُضِعْ ساعةً لا تَرُدُّ فيها إلى داخل أسوارك ما تملك في الحقول من قُطعان كثيرة، فإذا ما انقضت ثلاثة أيام وظهر أن نبوءتي كاذبة أمكنك أن تذبحنا، وإذا ما ظهر صدقُها فاذكر أنه لا يجوز نزع حياة مَن أبقوا لك حياتك.
ويُدهش أسِسْت من هذا الكلام الذي خاطبه به منتور مطمئنًّا اطمئنانًا لم ير مثله في إنسانٍ آخر قط.
ويجيب أسست قائلًا: «أُبصِرُ جيدًا، أيها الغريبان، أن الآلهة، الذين أساءوا إسهامكما في جميع منح السعادة، قد وهبوا لكما من الحكمة ما هو أثمن من كلِّ يُسر.»
ويؤخر تقريب القربان في الوقت نفسه، ويبادر إلى إصدار ما يلزم من الأوامر ليُحبط الهجوم الذي أنذر به منتور، فصار لا يُرى من كل ناحيةٍ غير نساء مرتعشات وشيوخ حُدْب وأولادٍ باكين يلجأون إلى المدينة، وتأتي جماعات البقر وهي تجأر، وجماعات الشَّاءِ وهي تثغو، تاركةً مراعيها الخصيبة غير ملاقيةٍ من الزرائب الكافية ما تكون معه في مأمن، وصار لا يُسمع من كلِّ جهةٍ غير صُراخٍ مختلط صادر عن أناس يتدافعون ولا يتفاهمون ويجعلون من المجهول صديقًا ويركضون من غير أن يعرفوا أين يضعون أقدامهم، بيد أن وجوه المدينة ظنوا أنهم أعقل من الآخرين فذهبوا إلى أن منتور دجَّالٌ جاء بنبوءة كاذبة ليُنقذ حياته.
وبينا كانت هذه الهواجس تساورهم بشدة رُئِيَ علي منحدر الجبال المجاورة إعصار غبارٍ، ثم أُبصِرَ جنود من البرابرة المسلحين لا يُحصيهم عدد، وكان هؤلاء من الإميريين المتوحشين مع الأقوام الذين يسكنون جبال نبرود وذروة أكراتاس؛ حيث يسود شتاءٌ لم تُلطفه النِّسام قط، ويخسر أولئك الذين استخفوا بنبوءة منتور الصائبة عبيدهم وقطاعهم، ويقول الملك لمنتور: «أنسى كونك من الأغارقة، ويغدو أعداؤنا أصدقاءَ أوفياءَ لنا، وقد أرسلك الآلهة لإنقاذنا، فلا أنتظر من بأسك أقل من حصافة نُصحك، فبادر إلى مساعدتنا.»
وتبدو في عيني منتور جرأةٌ تُلقي الحيرة في أشد المقاتلين عتوًّا، ويتناول تُرسًا وخُوذة وسيفًا ورمحًا، ويَصُفُّ جنود أسست، ويزحف على رأسهم، ويتقدم نحو الأعداء بنظام، ولا يستطيع أسست أن يتبعه إلا من بعيد بسبب هَرَمه وإن كان بالغ الشجاعة، وأكون كثير القرب من منتور، ولكن من غير أن أستطيع مساواته بسالةً، وكانت درعه تشابه في المعركة مِجَنَّ الخلود، وكان الموت تحت ضرباته يعدو في كل مكان بين صفٍّ وصفٍّ، وكان شبيهًا بليث نُوميدية الذي عضَّه الجوع القاضم فدخل قطيعًا من النعاج الضعيفة وافترس وذبح وعام في الدم ففر الرعاة مرتجفين تخلصًا من صولته بعيدين من إغاثة الماشية.
ويُباغَت هؤلاء البرابرة ويضطربون مع أنهم كانوا يأملون دهم المدينة، ويُنعِشُ مثال منتور وأوامره رعية أسست فيبلغون من البسالة ما كانوا لا يُصدقون قدرتهم عليه، وأُصْمِي بسهمي ابنَ ملك هذا الشعب العدوِّ، وقد كان من لِدَاتي، ولكنه كان أطول مني؛ وذلك لأن هؤلاء القوم من عرق العماليق الذين هم من أرُومة السكلوب، وكان يزدري عدوًّا ضعيفًا مثلي، ولكن من غير أن يُدهشني بقوته العجيبة ولا بغلظته وتوحشه، وأُصوب سهمي إلى صدره وأوجب استفراغه سيلًا من الدم الأسود وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويَعِنُّ له أن يسحقني، ويُسمع لأسلحته حين سقوطه صوت يُدوِّي حتى الجبال، وأقبض على أسلابه وأعود إلى أسست مع أسلحة القتيل التي غنمتها، ويفرغ منتور من رَبْك العدو، ويُمزقهم شر ممزَّق، ويدحر الفُرَّارَ حتى الغاب.
ويؤدي هذا النصر غير المنتظر إلى عَدِّ منتور عزيزًا على الآلهة مُلهمًا منهم، ويُمازج أسست شكرانٌ فيُبلِّغنا أنه يخشى كل شيء في سبيلنا إذا ما عادت سفن إينِه إلى صقلية، ويعطينا واحدةً منها لنعود بها إلى بلدنا، ويغمرنا بالهدايا، ويحثنا على الانصراف دَرْءًا لكل ما يُبصر من شرٍّ قد يصيبنا، بيد أنه لم يُرد أن يزودنا بربَّانٍ أو جُدَّافٍ من قومه خشية تعريضهم للخطر في شواطئ اليونان، وإنما أصحبنا تجارًا من الفنيقيين كانوا ذوي صلاتٍ بجميع أمم العالم فلا يوجد ما يخافون فوجب عليهم أن يعيدوا السفينة إلى أسست بعد أن يتركونا في إيتاك، ولكن الآلهة الذين يعبثون بمصاير الناس كانوا يحفظون لنا أخطارًا أخرى.