الجزء العاشر
اقترح الحلفاء على إيدومنه دخول حلفهم حيال الدونيين، موافقة هذا الأمير على ذلك ووعده بأن يمدهم بجنود، لوم منتور إياه على توريط نفسه في حرب جديدة مع أنه محتاج إلى سلم طويل يوطد فيه، بما يقيم من معاهد، دعائم مدينته ومملكته اللتين لم تكادا تقومان، اعتراف إيدومنه بخطئه وعمله بنصيحة منتور الذي رأى أن يكتفي الحلفاء بوجود تلماك مع مائة شاب أقريطشي في جيشهم، بينا أوشك تلماك أن يذهب ويودع منتور أبدى دهشه لسلوك إيدومنه، اغتنام منتور لهذه الفرصة في إشعار تلماك بالحيف في الاسترسال في انتقاد أولياء الأمور، تدقيق منتور، بعد انصراف الحلفاء، في شئون مدينة سلنتة ومملكتها وحالِ تجارتها وجميع أقسام إدارتها، إلزامه إيدومنه بوضع نظم حكيمة عن التجارة والإدارة، وحمله إيدومنه على تقسيم الرعية إلى سبع طبقات وتمييز ما بينها باللباس، إبطاله للترف والمهن غير المفيدة حملًا للصناع على مزاولة الحرف التي لا بُدَّ منها في التجارة ولا سيما الزراعة، رد كل شيء إلى البساطة، نتائج هذا الإصلاح الطيبة.
إن كلمة «التهور» تؤذيك كما أرى جيدًا، ومن الخطأ أن يستعملها غيري ما وجب تبجيل الملوك ومداراة نزقهم، حتى عند لومهم، ولا عجب، فالحقيقة نفسها تؤذيهم ولو لم تستعمل معهم عبارات قوية، وأما أنا فقد ظننت أنك تحتمل مخاطبتي إياك بلا تلطيف كيما أكشف لك خطأك؛ وذلك لأنني كنت أهدف إلى تعويدك أن تسمع دعوة الأشياء بأسمائها وأن تدرك أن الآخرين لا يجرءون على تبليغك جميع ما يرون عندما ينصحونك حول سلوكك، ومما يجب، إذا ما أردت ألا تُخدَع، أن تدرك، دائمًا، أكثر مما يقولون لك عن الأمور التي تضرك، وإني، وإن كنت أود تلطيف كلامي وفق ميلك، أرى أن مما ينفعك أن يخاطبك الرجل الخالي من الغرض والأَرَب بلهجة قاسية إذا ما كلمك سرًّا، ولا يوجد غيري من يقدم على قوله لك: إنك لا ترى الحقيقة إلا ناقصةً مستترة ضمن غُلف لطيفة.
فلما سمع إيدومنه هذه الكلمات ذهب عنه غضبه الأول، وأظهر حياءه من نزقه، وقال لمنتور: «ترى ما توجبه في الإنسان عادة مداراته، وأراني مدينًا لك بسلامة مملكتي الجديدة، ولا أرى حقيقةً لا أجدني سعيدًا بسماعها من فمك، ولكن ألطف بملكٍ سمَّه نفاق الناس، فلم يجد، حتى في أثناء مصائبه، رجالًا بلغوا من الكرم ما يُقدِمون معه على قول الحقيقة له، كلا، لم أجد أحدًا بلغ من حبه لي ما يريد معه ألا يروقني بتبليغه الحقيقة كاملةً إلي.»
قال إيدومنه هذا دامع العينين، وعانق منتور عناق حنان.
هنالك قال له الشيخ الحكيم: «يؤلمني أن أضطر إلى تبليغك أمورًا قاسية، ولكن أيمكنني أن أخونك بإخفائي عنك الحقيقة؟ إنك إذا ما خدعت حتى الآن فلأنك أردت أن تُخدع ولأنك خشيت الناصحين البالغي الإخلاص، وهل بحثت عمن هم أكثر الناس خلوًّا من الغرض وأعظمهم استعدادًا لمعارضتك؟ وهل وددت لو تحمل على الكلام أقل الناس مبادرةً إلى الوقوع عندك موقع الرضا وأكثرهم قدرةً على ذم أهوائك ومشاعرك الجائرة؟ ومتى وجدت منافقين فأقصيتهم عنك؟ ومتى حَذِرْت من المرائين؟ كلا، كلا، إنك لم تصنع قط صنع من يحبون الحقيقة فيُعَدُّون أهلًا لمعرفتها، ولننظر الآن هل لديك من الشجاعة ما تُزريك به الحقيقة التي تدينك.»
ولذا أقول: «إن الذي يجلب إليك كثيرًا من الثناء لا يستحق غير العَذْل، وذلك أنك، بينما كان لك عدو كثير في الخارج يهددون مملكتك التي لم تزل سيئة الوضع، لم تفكر في غير القيام بآثار فخمة في داخل مملكتك الجديدة، وهذا ما أورثك ليالي سيئةً كما اعترفت لي، وقد استنفدت ثراءك، ولم تفكر في زيادة عدد رعيتك ولا في زراعة أَرَضِي هذا الساحلِ الخصيبة، أوَ لا تَعُدُّ الأمرين الآتيين أساسيين لضمان سلطانك، وهما: اشتمالك على رجال صالحين وحيازتك أرَضِين حسنة الزراعة لتغذيتهم؟ كان لا بُدَّ من سلم طويل في البداءة وصولًا إلى زيادة عدد رعيتك، وكان من الواجب ألا تفكر في غير الزراعة ووضع أقوم القوانين، وكان يخامرك من العُجْب الباطل ما دفعك إلى طَرَف الهُوَّة، وكدت تقضي على عظمتك الحقيقية من حيث أردت أن تظهر عظيمًا، فبادر إلى إصلاح خطئك، وقف جميع مشاريعك الكبيرة، ودع عنك هذا البذخ الذي يقوض دعائم مدينتك الجديدة، وأمتع رعاياك بالسلام، واسع أن ينالوا يسرًا تسهيلًا للزواج، واعلم أنك لست ملكًا إلا بوجود رعايا تملكهم، وأن من الواجب ألا يقاس سلطانك باتساع الأرضين التي تملك، بل بعدد من يسكنون هذه الأرضين ويودون أن يطيعوك، واملك أرضًا صالحة ولو كانت بين بين، واعمرها برعايا كثيرين مجدين مؤدبين، وحبب نفسك إلى هؤلاء الرعايا، تَغْدُ، إذن، أقوى من جميع الفاتحين الذين يخربون الممالك وأكثر منهم سعادةً وأعظم مجدًا.»
ويبدو إيدومنه عند سماع هذه الكلمة كمن أزيح عنه حمل ثقيل، ويقول لمنتور: «إنك تنقذ، يا صديقي العزيز، شرفي وشهرة هذا البلد الناشئ الذي تكتم ضناه عن جميع جيراني، ولكن ما ظاهر الحق في قولك: إنني أريد إرسال كتائب إلى إيتاك لأعيد إليها أوليس أو ابنه تلماك على الأقل مع أن تلماك متطوع بالذهاب لمحاربة الدونيين؟»
ويسهل على منتور تبليغ الملوك المتحالفين وجوب تدبير إيدومنه لأمور تلماك في أثناء ذهاب تلماك معهم، ويكتفي هؤلاء الملوك بأن يشتمل جيشهم على الشاب ابن أوليس مع مائة من الشبان الأقريطشيين جعلهم إيدومنه يرافقونه، وكان هؤلاء الشبان زهرة طبقة الأشراف الفَتِيَّة التي جاء بها الملك من أقريطش، الغالب، ومَن يفضل طموحه الباطل على سلامة الباعث العام يستحق العقاب لا الجوائز.
ولذا فاحترز، يا بني، من طلب المجد فاقدَ الصبر، وأصدق وسيلة لنيله هو أن تنتظر الفرصة الملائمة هادئًا، وتكون الفضيلة أدعى إلى الحمد بالبساطة والاعتدال ومقتِ كل زهو، وكلما زادت ضرورة تعريض الإنسان نفسه للخطر وجب عليه أن يتذرع بوسائل احتراس وبسالة جديدة متزايدة دائمًا، واذكر، مع ذلك، أنه لا ينبغي إثارة حسد أحد، ولا تكن، من ناحيتك، حاسدًا للآخرين على نجاح أصابوه، وأثنِ عليهم في كل ما يستحق الثناء، ولكن مع الاحتراز، وذلك كأن تقول خيرًا وأنت مسرور، وألا تجهر بالسوء، وألا تتصوره إلا متألمًا، ولا تسبق هؤلاء القادة القدماء في القطع بأمر لما لديهم من تجارب لا يمكن أن تكون عندك، واستمع إليهم مع التوقير، وشاورهم، وارجُ من أمهرهم أن يزودك بمعارف، ولا تخجل من عزوك إلى ما تزودت من معارفهم كلَّ ما صنعت به من أمر صالح، ثم لا تُلقِ سمعك إلى كلام يراد به إثارة حذرك أو حسدك حيال الرؤساء الآخرين، وخاطب هؤلاء واثقًا صادقًا، وإذا ما آنست منهم عدم مراعاة لك فأطلعهم على ما يساورك واشرح لهم ما عندك من أسباب، فإذا كانوا أهلًا لإدراك نبل هذا السلوك أخذت بمجامع قلوبهم ونلت كل ما تنتظر منهم، وإذا لم يكونوا من الصواب بحيث يدركون مشاعرك أدركت بنفسك ما يعانَى من جورهم واتخذت من التدابير حتى نهاية الحرب ما لا تتصل معه بهم إلا بمقدار، ولا لوم عليك، وأخص ما يجب عليك هو ألا تخاطب أهل النفاق فيما تألم به من قادة الجيش لما يلقي المنافقون من بذور الشقاق.
وسأبقى هنا لمساعدة إيدومنه في كل ما يضمن سعادة رعيته ولإصلاح كل خطأٍ أدى إليه مستشارو السوء والمنافقون في قيام مملكته الجديدة.
هنالك لم يستطع تلماك أن يمنع نفسه من إبدائه لمنتور دهشه وازدراءه حيال سلوك إيدومنه، ولكن منتور تناوله بلهجة شديدة، قال له منتور: «أَوَ تعجب من كون أدعى الناس إلى الاحترام هم من الآدميين الذين يبدون ما يلازم الإنسان من ضعف بين ما لا يفصل عن الملك من أشراكٍ وارتباكٍ لا يحصى لهما عدد؟ أجل، كان إيدومنه قد نُشِّئ في حقل من مبادئ البذخ والكبرياء، ولكن أي فيلسوف كان يصون نفسه من عامل النفاق لو كان في مكانه؟ أجل، إنه أفرط في العمل بما كان يشير عليه به معشر ثقته، ولكن مع العلم بأن أحكم الملوك يُخدَعون غالبًا مهما اتخذوا من وسائل الحذر، ولا يستطيع ملك أن يستغني عن وزراء يخففون حمله ويعول عليهم ما دام غير قادر على صنع كل شيء بنفسه، ثم إن الملك أقل معرفة من الأفراد بمن يحيطون به، أي إن من هم حوله يكونون مُقنَّعين دائمًا فيتخذون ضروب الحِيَل لمخادعته، آه! يا تلماك العزيز، ستختبر ذلك كثيرًا! ولن ترى في الناس فضيلةً ولا ما تقتضيه الفضيلة من مناقب، وكلما دُرِسَ الناس وأُنعِمَ النظرُ فيهم أُخْطِئَ في تقدير أمرهم، ولا ينجح حتى في صنع أناس صالحين للقيام بالشئون العامة كما تقتضيه الضرورة، وذلك لما يساور هؤلاء من عناد وتنافٍ وتحاسد، ولا يمكن إقناع هؤلاء ولا إصلاحهم مطلقًا.»
وكلما كثر عدد الرعايا الذين يحكم فيهم وجب وجود وكلاء يقومون بما لا يقدر الناس عليه بأنفسهم، وكلما وقع احتياج إلى أناسٍ يقومون بأمر السلطة تطرق الخداع في اختيارهم، ومن يوجه اليوم سهام النقد إلى الملوك بلا هوادة فيعهد إليه في الملك غدًا يكُ دونهم صلاحًا بمراحل، ويقترف مثل خطاياهم مع خطيئاتٍ أخرى أعظم منها بدرجات، وذلك أنه إذا ما أضيف إلى وضع مَن يكون خارج الحكم شيء من حسن البيان سُتِرت جميع عيوبه الطبيعية وبدت مناقبه البراقة ودل هذا على رجلٍ أهلٍ لجميع المناصب البعيدة منه، ولكن السلطة هي التي تضع جميع المناقب على محكِّ الاختبار وتكشف عن أعظم العيوب.
وما العظمة إلا كبعض الزجاج الذي يجسم جميع الأشياء، فجميع العيوب تبدو كبيرةً في هذه المناصب العالية حيث يكون لأقل الأمور عظيم النتائج وحيث يؤدي أخف الهَنَات إلى أعنف الصدمات، ولا غرو، فجميع الناس عاملون على رقابة رجل واحد في كل ساعة وعلى الحكم في أمره بكل شدة، ولا يوجد في من يقضون في أمره أية تجربة عن الحال التي يكون فيها، ولا يشعرون بمشكلاته مطلقًا، ولا يريدونه بشرًا ما طالبوه بالكمال، ولا يدرون أن الملك بشر مهما بلغ من الصلاح والحكمة، ويُرى لعقله حدود كما يُرى لفضله، ويرى له من المزاج والأهواء والعادات ما لا يسيطِر عليه تمامًا، ويلازمه أناس من ذوي المكر والمآرب، ولا يجد ما يبحث عنه من عون مطلقًا، ويصاب بخيبة أمل كل يوم، وذلك بفعل أهوائه تارةً وبفعل عماله تارةً أخرى، ولا يكاد يصلح خطأً حتى يسقط في خطأٍ آخر، فهذه هي حال أكثر الملوك نورًا وفضلًا.
ويعد أطول العهود وأحسنها من القِصَر والنقص ما لا يكفي لإصلاح ما فسد في البداءة من غير قصد، ويحمل المُلْك في ثنياته جميع هذه المشاق، ويرزح تحت حمل مرهِق، ويجب أن يُرثى للملوك وأن يُعذروا، ألا يرثى لهم لأنهم يقومون بالحكم في أناس كثيرين لا حدَّ لاحتياجاتهم فيجد من يريد الإجادة في الحكم فيهم مصاعب عظيمة؟ ولو أردنا الصراحة في القول لرثينا للناس ما رأينا ملكًا من البشر مثلهم يحكم فيهم، وما وجب أن يقوم الآلهة بتقويم الناس، ولكن مع العلم بأن الملوك ليسوا أقل من الناس محلًّا للرثاء ما داموا بشرًا، ضعفاء ناقصين كبقية البشر، عُهِد إليهم في الحكم في ذلك الجمع المؤلف من أناس ماكرين فاسدين لا يُحصى عددهم.
ولذا فعود نفسك، يا تلماك، ألا تنتظر وجود رجال أعظم من الذين تستطيع البشرية أن تنجب بهم، ومن شأن الشبيبة غير المجربة أن تُكِبَّ على نقد قائم على العُجب تنفر به من كل مثال تحتاج إلى الاقتداء به، ويلقيها في حقل من الجماح لا يُشفَى منه، ولا ينبغي لك أن تَقصِر همك على حب أبيك والاقتداء به ولو لم يبلغ أوْج الكمال، بل يجب عليك أن تحمل أسمى توقير لإيدومنه أيضًا، وذلك على الرغم من جميع سهام اللوم التي وجهتها إليه؛ وذلك لأنه مخلص بفطرته مستقيم منصف كريم محسن بالغ الشجاعة مبغض للخداع إذا ما عرفه سائر مع ميل فؤاده سيرًا حرًّا، ولأن جميع مناقبه الظاهرة عظيمة تناسب مقامه، ولأن بساطته في الاعتراف بخطئه، وحلمه، وصبره على ما كل ما أوجِّه إليه من قوارص الكلام، وشجاعته حيال نفسه لإصلاح زلاته جهرًا، وجعله نفسه فوق كل نقد من الناس، أمور تدل على نفسه العظيمة حقًّا، أجل، إن السعادة أو نصيحة الآخرين يمكن أن تصون الملك القليل الذكاء من بعض السيئات، ولكن لا يوجد غير الفضيلة النادرة ما يستطيع أن يحض الملك، الذي أغواه النفاق زمنًا طويلًا، على إصلاح خطئه، وعندي أن النهوض بعد السقوط أدعى للمجد من عدم السقوط، ولا مراء في أن إيدومنه أتى من الزلات كما أتى جميع الملوك تقريبًا، غير أنك لا تجد من الملوك، تقريبًا، من صنع صنعه لإصلاح نفسه، ولا يسعني إلا الإعجاب به حين يسمح لي بمعارضته، فاعجب به يا تلماك العزيز، وإني أسوق إليك هذه النصيحة من أجل منفعتك أكثر مما في سبيل سُمْعَتِه.»
وقد أشعرَ منتور تلماكَ في هذا الكلام بمقدار الجور في توجيه سهام النقد إلى الآخرين، ولا سيما أولئك الذين يحملون هموم الحكم ومشاكله.
ثم قال منتور لتلماك: «لقد أتى وقت الرحيل، وداعًا، واذكر، يا تلماك العزيز، أن الذين يخافون الآلهة لا يرون في الناس ما يخافون، وستلاقي أهوالًا، ولكن اعلم أن منرفا لن تتركك مطلقًا.»
فلما سمع تلماك هذه الكلمات أيقن أنه يشعر بحضور الآلهة، وكان يذهب إلى أنها هي التي تتكلم لتملأه ثقةً لو لم تأتِ الآلهة به إلى خيال منتور حين قال له: «لا تنسَ، يا بني، جميع ما حبوتك به من رعاية في أثناء صباك كيما أجعلك حكيمًا شجاعًا مثل أبيك، ولا تصنع شيئًا لا يكون خليقًا بمُثُله العظيمة وبمبادئ الفضيلة التي بذلتُ وُسْعِي في تلقينك إياها.»
وتطلع الشمس، وتُذَهِّب ذرى الجبال، ويغادر الملوك مدينة سلنتة ليلحقوا بكتائبهم، وتسير هذه الكتائب، المعسكرة حول هذه المدينة، بقيادة قوادها، ويُرى من كل ناحيةٍ الْتِمَاع حديد الحِراب الشائك ولمعان التروس الذي يبهر العيون، وتَصَاعُدُ ضباب من الغبار حتى السحاب، ويرافق الملوك المحالفين في الحقول منتورُ وإيدومنه، ويبتعدان عن أسوار سلنتة، ثم يفترق كل من الفريقين عن الآخر بعد تبادل إشارات الصداقة الحقيقية، وعاد الحلفاء لا يشكون في دوام السلم عندما عرفوا طيبة قلب إيدومنه الذي كان قد قدم إليهم على خلاف حقيقته، أي إنه كان يحكم في أمره وفق حال المستشارين المنافقين الذين وَكَل نفسه إليهم.
ويأتي إيدومنه بمنتور إلى جميع أحياء المدينة بعد انصراف الجيش، قال منتور لإيدومنه: «لنطلع على عدد ما عندك من رجال في المدينة وفي الأرياف المجاورة، ولنقم بإحصاءٍ للوصول إلى هذا الغرض، ولنقف كذلك على عدد الفلاحين بين هؤلاء الرجال، ولنعلم مقدار ما تنتج أَرَضُوك في السنين العادية من بُرٍّ وخمر وزيت وغيره من الأشياء المفيدة، وسنعلم بهذه الوسيلة هل تزود الأرض بما يطعم جميع سكانها أو لا، وهل تبلغ فضلة ما تنتج مقدارًا يصلح للتجارة مع البلدان الأجنبية أو لا، ولنبحث كذلك عن عدد ما عندك من سفن وملاحين، فبهذا كله يمكن أن يُحكَمَ في قوَّتك.»
ويزور منتور الميناء ويدخل كل سفينة، ويسأل عن البلدان التي يقصدها كل مركبٍ للتجارة، وعن نوع السلع التي يجلب إليها، وعما يأتي به في العودة، وعن نفقات المركب في أثناء السفر، وعن القروض التي ينالها بعض التجار من بعض، وعن الشركات التي يؤلفونها فيما بينهم وهل هي عادلة وتراعَى شروطها بإخلاص، ثم عن مخاطر غرق السفن وغيره من مصائب التجارة، وذلك لتدارك من فضة مع خاتم، ومن غير وسام، ويلبس أصحاب المرتبة الثالثة ثيابًا خضرًا من غير أهدابٍ ولا خاتم، ولكن مع وسام، ويلبس أصحاب المرتبة الرابعة ثيابًا صفرًا ذهبية، ويلبس أصحاب المرتبة الخامسة ثيابًا حمرًا وردية، ويلبس أصحاب المرتبة السادسة ثيابًا رمادية سماوية، ويلبس أصحاب المرتبة السابعة، وهي آخر طبقات الأمة، ثيابًا صفرًا بيضًا، وهذه هي ثياب الطبقات السبع الحرة، وأما ثياب جميع العبيد فتكون رمادية، وهكذا يُماز كل واحد وفق طبقته ومن غير طبقته، وهكذا يُقصَى من سلنتة جميع الحرف التي لا تصلح لغير بقاء البذخ، وهكذا يُستخدَم أرباب الحرف الضارة في المهن الضرورية القليلة العدد، أو في التجارة، أو في الزراعة، وهكذا لا يعانَى أي تحول في طبيعة النُّسُج، ولا في شكل الثياب؛ وذلك لأن من غير المناسب أن يتلهى أناس، أُعِدُّوا لحياة جدٍّ ونبل، باختراع حُلِي خادعة، ولا أن يبيحوا لنسائهم، اللائي تحسب تلك الأُلْهِيات أقل سببًا لحيائهن، أن يركبن متن هذا الشطط.
ويبدو منتور كالبستاني الماهر الذي يقطع العيدان غير النافعة من أشجاره المثمرة فيسعى، على هذا الوجه، أن يبتر البذخ غير المفيد الذي يفسد الأخلاق، أي أن يرد كل أمر إلى بساطة أصيلة قائمة على القناعة، وقُلْ مثل هذه عن تنظيمه لغذاء المواطنين والعبيد، قال منتور: «يا للعار في إقامة أرقى الناس عظمتهم على الأطعمة المعللة التي يخنِّثون بها نفوسهم ويقوِّضون بها صحة أبدانهم على وجه غير محسوس! يقضي الواجب بأن يقيموا سعادتهم على اعتدالهم، وإمكان صنعهم خيرًا للآخرين، وعلى الصيت الذي ينالون بأعمالهم الصالحة، ومن عملِ القناعة جعلُ أبسط الأطعمة لذيذًا إلى الغاية، والقناعة، مع الصحة الجيدة، هي التي تنعم بأصفى الملاذ وأثبتها؛ ولذا فإن من الواجب أن تقتصروا في وجباتكم على أطيب اللحوم، ولكن مع الطبخ بلا تعليل بالتوابل، والتعليل بالتوابل فن لتسميم الناس بتحريك شهوة الطعام فيهم زيادةً على احتياجهم الحقيقي.»
أجل، إن إيدومنه أدرك جيدًا أن من الخطأ تركه أهل مدينته الجديدة يخنثون طباعهم ويفسدون أخلاقهم بمخالفتهم جميع شرائع مينوس في القناعة، غير أن الحكيم منتور جعله يلاحظ أن الشرائع نفسها، وإن جُددت، تبقى غير مجدية إذا كان الملك لا يؤيدها بمثاله الذي لا يمكن أن يأتي من غيره، ولَسُرعان ما نظم إيدومنه مائدته التي عادت لا تشتمل على غير خبز طيب وقليل من خمر البلد القوية اللذيذة وعلى لحومٍ بسيطة، كما كان يأكل مع الأغارقة الآخرين في أثناء حصار تروادة، ولم يجرؤ أحد على التوجع من نظامٍ فرضه الملك على نفسه، وهكذا شفى كلٌّ نفسه من الإسراف والتأنق اللذين كان قد أكب عليهما في الوجبات.
ثم أبطل منتور الموسيقا الناعمة المخنَّثة التي كانت تفسد الشباب، وليس أقل من هذا قضاؤه بشدة على الموسيقا الباخوسية التي لا تقل عن الخمر إسكارًا، والتي تسفر عن طبائع مملوءةٍ هيامًا وسفاهةً، وقد قصر جميع الموسيقا على الأعياد في المعابد ترنيمًا لمدائح الآلهة والأبطال الذين جعلوا من أنفسهم مثلًا لأعز الفضائل، وكذلك لم يسمح لغير المعابد بالزخارف البنائية كالعمد والأروقة والمثلثات في المقدم، وقد وضع نماذج لفن بناء بسيط ظريف تقام على حسبه بيوت معتدلة باسمة طليقة حسنة المنظر ملائمة للأسر الكثيرة العدد سهلة التنظيف والتنظيم قليلة النفقات، وقد أراد أن يشتمل كل بيت واسعٍ بعض الاتساع على بهوٍ ودهليزٍ صغير وغرفٍ ضيقة لجميع العزاب، ولكنه نهى بشدةٍ عن كثرة الزيادات في المنازل وعن فخامة المساكن، ومما أدى إليه اختلاف نماذج البيوت باختلاف كبر الأسر تزيين قسم من المدينة بنفقات قليلة وجعل هذه المدينة منتظمة، وأما القسم الآخر منها، وكان قد أُتِم وفق هوى الأفراد وبذخهم، فقد كان أقل لطافةً وراحةً على الرغم من فخامته، ولم يتطلب بناء هذه المدينة غير وقت قليل جدًّا لما كان الشاطئ المجاور من بلاد اليونان يزود بمهندسين معماريين ماهرين ولما كان من جلب بنائين كثيرين من إيبرية وغيرها من البلدان الأخرى، وذلك بشرط استقرارهم حول سلنتة بعد إنجازهم أشغالهم وبشرط أخذهم أرضين للإحياء ومساعدتهم، بذلك، على عَمْر الحقول.
ولاح التصوير والنحت لمنتور من الفنون التي لا يجوز تركها، ولكنه أراد ألا يسمح بمزاولتها في سلنتة إلا لأناس قليلين، فأنشأ مدرسةً يرأسها معلمون من ذوي الذوق الرفيع ليقوموا بامتحان التلاميذ، قال منتور: «لا ينبغي أن ينطوي هذان الفنَّان، اللذان هما غير ضروريين، على ما هو خسيس ضعيف، ومن ثم لا يجوز أن يقبل في هذه المدرسة غير فتيانٍ من النوابغ يرجى منهم إنتاج وافر ويهدفون إلى الإتقان، وأما الفتيان الآخرون فقد ولدوا ليقوموا بفنونٍ أقل نبلًا، وليستخدموا في قضاء احتياجات الدولة العادية، ولا يجوز اتخاذ النحاتين والمصورين إلا للمحافظة على ذكرى أعاظم الرجال وجليل الأعمال، وفي المباني العامة والضرائح ما يجب تصوير ما كان قد صنع في خدمة الوطن مع الفضل البالغ.»
ومع ذلك فإن اعتدال منتور وزهده لم يحُولا دون إباحته قيام أبنيةٍ عظيمة معدة لسباق الخيل والعربات ومبارزة المصارعين ومباراة الملاكمين وما إليها من التمرينات التي ترعى الأبدان جعلًا لها أكثر رشاقةً وأشد قوةً.
ويحذف عددًا هائلًا من التجار الذين كانوا يبيعون نُسُجًا مصنوعةً في البلدان الأجنبية، ومطرزاتٍ عالية الثمن وآنيةً من ذهبٍ وفضة مشتملةً على صور للآلهة والناس والحيوان، ومشروباتٍ وعطورًا، ويريد أن يكون أثاث كل منزلٍ بسيطًا متينًا يدوم طويلًا فيأخذ أهل سلنتة، الذين كانوا شديدي التوجع من فقرهم، في الشعور بمقدار ما كان من بُطْل ثرائهم، من عدم جدوى هذا الثراء الخادع الذي كان يفقرهم، ويغدون أغنياء، بالحقيقة، كلما غدوا من الشجاعة بحيث يتجردون منه، وقد قال أهل سلنتة فيما بينهم: «حقًّا أن سر الغنى هو في ازدراء مثل هذه الثروات التي تستنزف الدولة، وفي تقليل الحاجات بردِّها إلى مقتضيات الطبيعة.»
ويبادر منتور إلى زيارة مصانع الأسلحة وجميع المخازن ليعلم هل الأسلحة وجميع عدد الحرب في حال جيدة، وذلك لما يرى من وجوب الاستعداد لمصيبة الحرب دائمًا درءًا لاحتمال حمل الدولة عليها، ويجد نقص كثير من أمورها في كل مكان، ولسرعان ما جُمع عمال للعمل في الحديد والفولاذ والنحاس، فصار يرى قيام أفران حامية تتصاعد منها أعاصير من الدخان واللهب كالتي يقذفها جبل إتنة، ويطرق المدق على السندان ويئن السَّندان تحت الضربات الهائلة، وتدوِّي الجبال وسواحل البحر بذلك، فيخيل إلى الإنسان أنه مقيم بتلك الجزيرة التي يحض فلكن فيها السكلوب ويطرق الصواعق لأبي الآلهة، وهكذا يرى جميع أُهَب الحرب ضمن سلم عميق نتيجةً لاحتراسٍ عريق.
ثم خرج منتور من مدينة سلنتة مع إيدومنه ووجد مساحات واسعةً من الأرضين الخصيبة المهجورة كما بدت له أرضون أخرى مزروع نصفها عن إهمال الفلاحين أو فقر في الحُرَّاث الذين يُعْوِزُهم الناس فتعوزهم الشجاعة وقوة البدن اللتان لا بُدَّ منهما للسير بالزراعة نحو الكمال.
ويقول منتور للملك حينما شاهد هذه الحقول التي عمها الخراب: «أجل، إن الأرض لا تطلب هنا غير إغناء الأهلين، ولكن الأهلين يسيئون إلى الأرض، ولنأتِ، إذن، بجميع أولئك الصناع الذين غدوا غير نافعين في المدينة والذين يتصرف فيه الفقراء، أي إن كلًّا سيكون ذا أرض، ولكن صغيرة يُحَث على زرعها جيدًا لصغرها، وإذا ما قلت الأرضون هنا مع الزمن أنشئت مستعمرات تنمو بها هذه الدولة.
ومما أرى أن تحترز من السماح بانتشار الخمر كثيرًا في مملكتك، فإذا ما أكثر من غرس الكَرْمة وجب قلعها، فالخمر مصدر أعظم الشرور بين الرعية، وهي علة الأمراض والمنازعات والاضطرابات والفراغ والنفور من العمل واختلال الأسر؛ ولذا فلتكن الخمر ضربًا من العلاج أو مشروبًا نادرًا لا يستعمل إلا لتقريب القرابين أو في الأعياد غير العادية، ولكن لا تأمل حمل الناس على مراعاة قاعدة مهمة كهذه إذا لم تجعل من نفسك قدوةً لهم.
ثم يجب أن تأمر الناس باتباع شرائع مينوس في تربية الأولاد، وأن تنشِئَ مدارس عامةً لتعليم الطلبة مخافة الآلهة وحب الوطن واحترام القوانين وتفضيل الشرف على الشهوات وعلى الحياة نفسها وأن تنصب حكامًا يرقبون الأسر وسلوك الأفراد، وارقب بنفسك أنت الذي ليس ملكًا، أي راعيًا للشعب، إلا ليلاحظ رعيته ليل نهار، فبهذا تحول دون وقوع ما لا يحصى من الجرائم والمفاسد، وكن شديد العقاب من فورك على ما لا تستطيع أن تمنع حدوثه منها، ومن الرحمة أن توجد، منذ البداءة، عِبَرٌ تَقِفُ مجرى الفسادِ، وإذا ما أريق قليل دم في الوقت المناسب حقن دم كثير فيما بعد، وهاب الناس وليَّهم، وعاد صاحب الأمر لا يحتاج إلى استعمال الشدة في الغالب.
ولكن أي مبدأٍ ممقوت لا يقوم على اعتقاد الملك ضمان سلامته باضطهاد رعيته! وهل عدم تعليم الرعية، وعدم سوقهم إلى الفضيلة، وعدم الوقوع موقع الحب من نفوسهم، ودفعهم بالهول إلى اليأس، وجعلهم في وضع كريه لا يستطيعون أن يتنفسوا معه بحرية، أو يضطرون معه إلى خلع نِيرك الجائر عنهم، وسيلة صحيحة للحكم بلا اضطراب؟ وهل هذا هو السبيل الصحيح الذي يؤدي إلى المجد؟
واذكر أن البلاد التي يكون سلطان أولياء الأمر فيها مطلقًا هي التي يكونون فيها أقل اقتدارًا، وذلك أنهم يستأثرون بكل شيء ويقوضون كل شيء ويتصرفون في الدولة وحدهم، فتَهِنُ الدولة بأسرها، وتبور الحقول، وتقفر تقريبًا، وتنقص المدن كل يوم، وتنضب التجارة، وبما أن الملك لا يستطيع أن يكون ملكًا وحده، ولا يكون عظيمًا إلَّا برعاياه، فإنه يضمحل على مهل باضمحلال رعاياه مقدارًا فمقدارًا، باضمحلال هؤلاء الرعايا الذين ينال منهم ثراءه وسلطانه، وتنفَدُ دولته مالًا ورجالًا، وهذا هو الخسران المبين، وهذا هو الخسران الذي لا يمكن تلافيه.
أجل، إن من مقتضيات سلطانه المطلق صنع عبيد من جميع رعاياه، أجل، إنه يدالَى، أجل، يتظاهر الناس بعبادته، أجل، إنه يرتجف عند أقل نظرة منه، ولكن انتظر أقل ثورة، تَرَ أن هذا السلطان الفظيع البالغ البَغْي لا يستطيع أن يدوم، ولا غرو، فهو خالٍ من أي منبعٍ في قلب الشعب أي إنه يكون قد أعيا جميع عناصر الدولة وغاظها، فيتنفس الصعداء، بعد الانقلاب، جميع أعضاء هذا الكيان عن اضطرار، ويكبكب الصنم عند أول صدمة توجه إليه، ويحطم، ويداس، ولا غرو، فالاحتقار والحقد والخوف والغيظ والارتياب وجميع الآلام، كما هو مجمل القول، تجتمع ضد سلطان ممقوت بهذا المقدار، ولا غرو، فالملك، الذي لا يجد في دور إقباله الباطل من يجرؤ على قول الحق له، لن يجد في دور إدباره من يتفضل بالتماس عذرٍ له أو بالدفاع عنه حيال أعدائه.»
ويقنع إيدومنه بما قال منتور، ويسرع في توزيع الأرضين الخالية، ويحشر فيها جميع من لا نفع فيهم من أرباب الحرف، وينفذ كل أمر قُطع فيه، وإنما احتفظ للبنائين بالأرضين التي كان قد أعدها لهم فلا يستطيعون زرعها إلا بعد تمام أشغالهم في المدينة.
وتجتذب حكومة إيدومنه اللينة المعتدلة، من كل ناحية، جماعاتٍ كثيرةً لتندمج في حكومته ولتبحث عن سعادتها تحت سلطانٍ محبوب جدًّا، وتبشر تلك الحقول، التي ظلت مكسوة عوسجًا وشوكًا زمنًا طويلًا، بغلات وافرة وثمراتٍ كانت غير معروفة حتى ذلك الحين، وتفتح الأرض صدرها للمحراث القاطع، وتُعِد خيراتها لمكافأة الفلاح، ويسطع الأمل من كل جهة، وتشاهد في الأودية الصغيرة وعلى التلال قطاعٌ من الضأن التي تقفز فوق الكلأ كما تشاهد قطعان كبيرة من البقر والعجول التي يُدَوِّي بخوارها أعلى الجبال، وتنفع هذه المواشي في تسميد الحقول، ومنتور هو الذي وجد وسيلةً لحيازة هذه المواشي، وذلك أنه أشار على إيدومنه بأن يعطي قبائل البوسيت المجاورة جميع الزوائد التي عاد لا يُسمح بها في سلنتة ويأخذ في مقابلها القطاع التي يعوزها السلنتيون.
وكانت مدينة سلنتة والقرى المجاورة لها زاخرة، في الوقت نفسه، بشبابٍ أوهنهم البؤس زمنًا طويلًا فلم يجرءوا على الزواج خشية زيادة بلائهم، فلما أبصر هؤلاء الشبان أن إيدومنه انتحل لنفسه مشاعر إنسانيةً وأراد أن يكون أبًا لهم عادوا لا يخافون الجوع وغيره من الآفات التي تصيب السماءُ بها الأرض، وعاد لا يُسمع غير أصوات الفرح وأغاني الرعيان والفلاحين الذين يحتفلون بأعراسهم، فكان يخيل إلى الناظر أنه يرى الإله «بان» يرقص مع الساتير والفون والحوريات على أنغام الناي تحت ظل الغاب، وكل كان هادئًا ضاحكًا، ولكن مع اعتدالٍ في الفرح وعدم صلاح اللهو لغير الراحة بعد العمل الطويل، وكل كان يظهر أكثر نشاطًا وأشد نقاءً.
ويدهش الشيوخ من مشاهدتهم ما لم يجرءوا على رجائه في أثناء عمرهم الطويل، ويبكون فرحًا شديدًا ممزوجًا بحنان، ويرفعون أيديهم إلى السماء ويقولون: «أي جوبيتر العظيم، بارك للملك الذي يشابهك والذي هو أعظم هبةٍ أنعمت بها علينا، هو قد وُلد لخيرنا، أعطه جميع الخيرات التي ننالها منه، سيكون ذرارينا، الذي تسفر عنهم هذه الزواجات المحببة إليه، مدينين له بكل شيء، حتى بولادتهم، وسيكون أبًا لجميع رعاياه لا ريب.»
وكان الفتيان، ومن تزوجوا من الفتيات، لا يظهرون سرورهم إلا بشدو المدائح عن ذاك الذي هو مصدر هذا السرور العذب، وكان اسمه يملأ الأفواه والقلوب بلا انقطاع، وكان الواحد يرى نفسه سعيدًا برؤيته، وكان يُخشى افتقاده، ما دام فقده منبع حزن شديد لدى كل أسرة.
هنالك اعترف إيدومنه لمنتور بأنه لم يشعر في حياته بلذةٍ مؤثرةٍ كلذة كونه محبوبًا ولذة جعله أناسًا كثيرين من السعداء، قال إيدومنه: «ما كنت أعتقد، كما يلوح لي، إلا أن عظمة الأمراء كلها تقوم على الإرهاب، وأن بقية الناس خلقوا من أجلهم، وأن ما سمعت من ظهور ملوك كانوا مدارَ حب الرعايا وسعادتهم هو من الأقاصيص الصِّرفة، فالآن أعترف بحقيقة ذلك، ولكن يجب أن أقص عليك كيف سمم فؤادي منذ نعومة أظفاري حول سلطة الملوك، وهذا ما أدى إلى جميع مصائب حياتي.»
وقد أخذ إيدومنه يسرُد هذه القصة.