الجزء الثاني عشر
نال تلماك، في أثناء إقامته بين الحلفاء، حب رؤسائهم، حتى حب فلكتت الذي لم يرتح إليه في البداءة بسبب أبيه أوليس، قص عليه فلكتت خبر مغامراته وسبب حقده على أوليس، فأطلعه على نتائج الغرام الهائم الذي انتهى بقصة موت هركول الفاجعة، علم تلماك منه كيف نال من هذا البطل سهامًا فاتكةً ما كانت تروادة لتسقط بغيرها، وكيف عوقب على إفشائه سر موت هركول بجميع البلايا التي عاناها في جزيرة ليمني، وكيف انتفع أوليس بنيوبتوليم حملًا له على الاشتراك في حصار تروادة حيث شفاه ابنا إسكولاب من جرحه.
أثبت تلماك، في تلك الأثناء، بسالته حيال أخطار الحرب، وجدَّ، عقب مغادرته سلنتة، في نيل محبة الرؤساء الذين بلغوا الغاية من الصيت، وعامله مثل ولد له نسطور الذي كان قد اجتمع به في جزيرة بيلوز، والذي ما فتئ يحب أوليس، وأطلعه نسطور على معارف دعمها بأمثلة كثيرة، وقص عليه نسطور نبأ مغامرات شبابه وجميع ما شاهد من أعمال أشهر الأبطال في الجيل الماضي، ولا غرو، فذاكرة هذا الشيخ الحكيم، الذي عاصر ثلاثة أجيال من الناس، تعد مثل تاريخ للأزمنة القديمة منقوش على الرخام أو النحاس.
ولم يكن فلكتت ليحمل من العطف نحو تلماك مثلما كان يحمل نسطور، فما يغلي في قلبه من غل حيال أوليس كان يبعده من ابنه، فلم يطق إلا بمشقة أن يرى ما يعد الآلهة من منافع يساوي بها هذا الشاب أولئك الأبطال الذين دمروا مدينة تروادة، بيد أن اعتدال تلماك تغلب على أحقاد فلكتت كلها، في آخر الأمر، وعاد فلكتت هذا لا يستطيع منع نفسه من حبه لهذا الفاضل الدَّمِث المتواضع، ويتناول تلماك ويقول له: «أي بني، وهذا ما لا أخاف أن أدعوك به، أعترف بأنني بقيت أنا وأبوك متعاديين زمنًا طويلًا، وأعترف، أيضًا، بأن قلبي لم يهدأ ثائره قط بعد إسقاطنا مدينة تروادة الرائعة، ولما وقع نظري عليك شق علي أن أحب الفضيلة في ابن أوليس وقد لمت نفسي على هذا غالبًا، بيد أن الفضيلة إذا ما قامت على الاعتدال والبساطة والصدق والتواضع ذللت كل شيء.»
ويا للآلهة! ويا لضعف الرجال وتقلبهم! والرجال يبيحون كل شيء لأنفسهم، ولا يردون شيئًا، آه! إن هركول العظيم عاد فوقع في أشراك رب الغرام الذي كان كثير الازدراء له، وأولع بدجانيره، وما أعظم ما يكون سعيدًا لو ثبت على الكلف بهذه المرأة التي صارت زوجًا له! ولكن ما أسرع ما فتن فؤاده بفَتَاءِ يُولَ التي كانت الألطاف مرسومةً على وجهها! وتحترق دجانيره غيرةً، وتذكر ذاك القميص المشئوم الذي كان الغول نسوس قد تركه لها حين موته مثل وسيلة ثابتة لإيقاظ غرام هركول في كل مرة يظهر هاجرًا لها محبًّا لغيرها، وكان هذا القميص، الملطخ بدم الغول السام، مشتملًا على سم السهام التي طعن بها هذا الغول، وأنت تعلم أن سهام هركول، القاتل للغول المخاتل، كانت قد سُقيت بدم أفعوان لرن، فسم هذا الدم تلك السهام، وصارت جميع الجروح التي تؤدي إليها ممتنعة الشفاء.»
ولم يلبث هركول بعد لُبس هذا القميص أن شعر بنار مفنية تنساب حتى المخ من عظامه، فصار يصرخ صراخًا هائلًا ردد صداه جبل إيتا ودوَّت به جميع الأودية العميقة، حتى البحر اهتز به كما ظهر، ولم تكن الثيران الهائجة، التي تخور في صراعها، لتخرج أصواتًا أفظع من ذلك، ويجرؤ الشقي ليخاس الذي أتاه بهذا القميص من قِبَل دجانيره، على الاقتراب من هركول، ويتناوله هركول هذا في سورة من الألم، ويديره كما يدير الرامي بالمقلاع حجرًا في مقلاعه كيما يقذفه إلى مسافة بعيدة، وهكذا فإن ليخاس، الذي قُذف من فوق الجبل بيد هركول القوية، سقط في البحر، وتحول من فوره إلى الصخرة التي لا تزال على صورة البشر، والتي تلطمها الأمواج الهائجة دائمًا فتثير ذعر أحكم الربابنة.
ورأيت، بعد مصيبة ليخاس هذه، أنني لا أستطيع الركون إلى هركول، فعنَّ لي أن أختفي في أعمق الكهوف، وأبصره وهو يقلع بيد واحدة، ومن غير عناء، أشجار الصنوبر العالية وأشجارى البلوط القديمة التي استخفَّت بالرياح والزوابع منذ قرون كثيرة، وأبصره وهو يحاول أن يخلع القميص المشئوم عن ظهره على غير جدوى، فقد لصق بجلده، وبدا كالمدمَّج في أعضائه، وكان كلما مزقه مزق جلده ولحمه وسال دمه وبل الأرض، ثم تغلبت قوة نفسه على ألمه، وقال بصوت جهير: «ترى، يا فلكتت العزيز، ما أصابني به الآلهة من سوء، فالآلهة عادلون، وأنا الذي خالفهم، وذلك أنني نقضت مقتضى الحب بين الأزواج، وذلك أنني بعد أن قهرت أعداء كثيرين قُهرت بحب امرأة باهرة الجمال، وأهْلِكُ، وأرْضَى بهلاكي تسكينًا للآلهة، ولكن، آه! أين هربت يا صديقي العزيز؟ أجل، إن فرط الألم حفزني إلى اقترافي قسوةً حيال البائس ليخاس ألوم نفسي عليها، حيال هذا البائس الذي لم يعرف أي سم قدَّم إليَّ، حيال هذا البائس الذي لا يستحق ما أوجبتُ من عذابه، ولكن أتعتقد أنني أستطيع نسيان ما أنا مدين لك به من صداقة فأنزع حياتك؟ كلا، كلا، لن أكف عن حب فلكتت الذي سيشهد موتي القريب، عن حب فلكتت الذي سيجمع رفاتي، أين أنت، إذن، يا فلكتت العزيز؟ أين أنت يا فلكتت الذي هو موضع رجائي الوحيد في هذه الدنيا؟»
وأهرع إليه عند سماعي هذه الكلمات، ويمد إلي ذراعيه، ويريد أن يعانقني، ولكنه يمسك عن هذا خشية أن يشعل في أحشائي تلك النار الجافية التي احترق بها، ويقول: «آه! حتى هذا السلوان أُحْرَمُه!»
قال هذا وهو يُكَوِّم فوق الجبل تلك الأشجار التي اجتثها، ويصعد في الكومة هادئًا، ويبسط جلد أسد نيمه الذي كان يستر به كتفيه حينما كان يطوف بين طرفي الأرض لجندلة الغيلان وإنقاذ البائسين، ويتوكأ على دبوسه، ويأمرني بإيقاد الكومة، ولم تستطع يداي المرتجفتان أن ترفضا تنفيذ هذا الفرض القاسي؛ وذلك لأن الحياة عادت لا تكون هبةً من الآلهة في نظره ما بدت شؤمًا عليه بهذا المقدار، وقد خشيت أن يحفزه ألمه البالغ إلى قيامه بأمر لا يناسب هذا الفضل الذي أدهش العالم، وبينا أبصرَ اللهب ينال الحطب صرخ قائلًا: «الآن أشعر، يا فلكتت العزيز، بصداقتك الحقيقية؛ وذلك لأنك تحب سعادتي أكثر من حبك حياتي، ولْيُثبك الآلهة على ذلك، وإنما أترك لك أعز ما لدي في الدنيا، وهو هذه السهام المسقَّاة بدم أفعوان لرن، فأنت تعلم أن ما تؤدي إليه هذه السهام من جروح ممتنع الشفاء، وسيمتنع قهرك بفضلها كما كنت، ولن يجرؤ إنسان على قتالك، واذكر أنني أموت مخلصًا لصداقتنا، ولا تنسَ مقدار ما أنت عزيز علي، ولكنك إذا كنت متأثرًا بمصائبي حقًّا أمكنك أن تلقي آخر سلوان في نفسي، وهو أن تعدني بألا تكشف لإنسان أمر موتي، ولا المكان الذي ستواري فيه رفاتي.»
واحرباه! لقد وعدته بذلك، حتى إنني أقسمت له بذلك مبللًا كومته بدموعي، ولكن زوبعةً من اللهب أحاطت به، وخنقت صوته، وحجبته عن عيني تقريبًا، ومع ذلك لم أفتأ أراه مشرق الوجه من خلال اللهب كما لو كان مكللًا بزهور ومستورًا بعطور في وليمة فاخرة بين أصدقائه.
ولم تلبث النار أنْ أحرقت كل ما هو دنيوي فانٍ فيه، ولم يلبث أن زال كل ما نال من أمه ألكمن حين ولادته، بيد أنه احتفظ، بأمر من جوبيتر، بذلك العنصر الخالد اللطيف، بذلك اللهب السماوي الذي هو أصل الحياة والذي تلقاه من أبي الآلهة، وهكذا ذهب مع الآلهة، تحت قباب الألنب الساطع المذهبة، ليشرب الرحيق في كوب جوبيتر العظيم قبل أن ينال غانيميد هذا الشرف.
وأما أنا فقد وجدت في هذه السهام، التي أعطاني إياها هركول لأفوق بها جميع الأبطال، منبع آلام لا ينضب.
ولم يلبث الملوك المتحالفون أن عزموا على الانتقام لمنيلاس من الرذيل باريس الذي اختطف هيلانة وعلى تقويض دولة بريام، وقد سمعوا من هتاف أبولون أنه لا ينبغي لهم أن يأملوا ختام هذه الحرب بتوفيق ما لم يفوزوا بسهام هركول.
ويأخذ أبوك أوليس، الذي كان في كل وقت أخبر من في المجالس كلها وأكثرهم مهارةً، على عاتقه أن يقنعني بالذهاب معهم إلى حصار تروادة وبأن أجلب معي تلك السهام التي يعتقد وجودها عندي، ولا عجب، فقد مر زمن طويل على عدم ظهور هركول فوق الأرض، وعدم سماع خبر عن مأثرة جديدة يقوم بها هذا البطل، وقد صار الغيلان والمجرمون يظهرون بلا عقاب، ولا يعرف الأغارقة ما يقولون عنه، فبعضهم ذهب إلى أنه مات، وذهب بعض آخر إلى أنه انتهى إلى ما تحت الدب الجامد ليقهر السيت، وكان أوليس ممن قال: إنه مات، فحاول أن يحملني على الاعتراف.
ويأتي أوليس ليلقاني في وقت لم أكن أستطيع أن أسلو فيه فقد ألْسيد العظيم، ويجد عناءً بالغًا في الاقتراب مني، وذلك لما عدت لا أطيق النظر إلى الناس، ولما عدت لا أحتمل انتزاعي من مجاهل جبل إيتا حيث شاهدت هلاك صديقي، ولما عدت لا أتمثل غير صورة هذا البطل ولا أفكر في غير البكاء عند النظر إلى هذه الأماكن الكئيبة، بيد أن الإقناع العذب القوي كان على شفتي أبيك، أي أن أباك بدا حزينًا مثلي تقريبًا، وأنه سكب دموعًا، وأنه عرف أن يفتنني من حيث لا أدري، وأن ينال ثقتي، وأن يعطِّفني على ملوك اليونان الذاهبين للقتال في سبيل قضية عادلة والذين لا يستطيعون أن يُنصروا بغيري، ومع ذلك فإنه لم يستطع أن ينزع مني سر موت هركول الذي أقسمت ألا أبوح به مطلقًا، ولكنه لم يشك قط في أمر موته، فألح علي بأن أكشف له عن المكان الذي واريت فيه رفاته.
آه! لقد أنفت من الحنث في يميني بأن أفشي له سرًّا أقسمت بالآلهة أن أكتمه على الإطلاق، ولكنني كنت من الضعف بحيث أتملص من يميني مع عدم الإقدام على نقضها، وقد عاقبني الآلهة على هذا، وذلك أنني خبطت برجلي مكان وضعي رفات هركول، ثم ذهبت لألحق بالملوك المتحالفين الذين استقبلوني مبتهجين كما لو كنت هركول نفسه، وبينا كنت مارًّا من جزيرة ليمني أردت أن أطلع جميع الأغارقة على ما يمكن سهامي أن تصنع، وبينا تأهبت لإصماء أيِّل يقفز في غابة سقط السهم من القوس على رجلي عن غفلة، فأوجب فيَّ جرحًا لا أزال أشعر بأثره، ولسرعان ما صرت أحس عين الآلام التي كان يعانيها هركول، وأملأ الجزيرة بصراخي ليل نهار، ويسيل من جرحي دم عفن أسود يفسد الهواء وينشر في معسكر الأغارقة نتونةً يمكن أن تخنق أقوى الناس، وينفر جميع الجيش من رؤيتي على هذه الحال، وكلٌّ يذهب إلى أن هذا عذاب أرسله الآلهة العادلون إلي.
وكان أوليس الذي حضني على هذه الحرب أول من هجرني، وقد علمت، فيما بعد، أنه لم يصنع هذا إلا لتفضيله مصلحة بلاد اليونان العامة والنصر على جميع عوامل الصداقة أو على كل مجاملة خاصة، لما عاد لا يمكن ذبح الضحايا في المعسكر ولما كان من انزعاج الجيش بفظاعة جرحي البالغة ونتنه وشدة صراخي، ولكنني، عندما رأيتني منبوذًا من قبل جميع الأغارقة وفق رأي أوليس، بدت لي هذه السياسة أقبح ما يكون قسوةً وأسود ما يكون خيانةً، آه! لقد كنت أعمى، فلم أرَ أن من العدل أن يكون أحكم الناس ضدي، وكذلك الآلهة الذين أَثَرْت غضبهم.
وأبقى وحيدًا في جميع أيام حصار تروادة تقريبًا، أبقى بلا معين ولا أمل ولا سلوان، أبقى رهين أفظع الآلام في هذه الجزيرة البائرة الغامرة حيث كنت لا أسمع غير هدير أمواج البحر التي تتكسر على الصخر، وأجد في سواء هذه العزلة غارًا خاليًا في صخرة ذات حدين مرتفعين نحو السماء كما لو كانا رأسين، وكانت تجري من هذه الصخرة عين صافية، وكان هذا الغار مأوًى للضواري التي أغدو عرضةً لها ليل نهار، وأجمع بعض الأوراق لأستلقي عليها، ولا يبقى عندي من المال غير إناء خشبي غليظ الصنع وثياب ممزقة أضمد بها جرحي وقفًا لنزيفه وأنتفع بها لتنظيفه، وهنالك، حيث هجرني الناس وأُسلمت إلى غضب الآلهة، كنت أقضي وقتي في اصطياد الحمائم والطيور، التي تطير حول هذه الصخرة، بسهامي، وكنت إذا ما أصميت طيرًا لآكله زحفت على الأرض متألمًا لأتناول صيدي، وهكذا كانت يداي تعدان لي ما أغتذي به.
أجل، إن الأغارقة تركوا لي، عند انصرافهم، بعض القوت، بيد أن هذا القوت لم يبقَ إلا قليلًا، وكنت أوقد النار بالحصى، ومهما يكن من فظاعة هذه الحياة فإنها كانت تبدو لي سائغةً بعيدةً من كافري النعمة المخادعين لو لم يبرِّح بي الألم ولو لم تساورني مغامرتي المحزنة بلا انقطاع.
وأقول في نفسي: «ماذا! أُنْزَع من وطني رجلًا يستطيع وحده أن ينتقم لبلاد اليونان، ثم أُترَك في هذه الجزيرة المهجورة في أثناء رقادي!»
وذلك لأن الأغارقة انطلقوا في أثناء نومي، وتصور مقدار ما كان من ذهولي وما سكبت من دموع عندما أفقت من رقادي ورأيت المراكب تشق عباب البحر، آه! لقد بحثت في جميع جهات هذه الجزيرة المهملة المرعبة فلم أجد غير الألم، ولا يوجد في هذه الجزيرة مرفأ ولا تجارة ولا قِرًى ولا إنسان يدنو منها مختارًا، ولا يوجد في هذه الجزيرة غير التعساء الذين قذفتهم الزوابع فيها، وما كانت لتُرجى عِشرة فيها إلا بما يسفِر عنه غرق السفن، وهذا إلى أن من يأتون هذا المكان كانوا لا يجرءون على إعادتي خشية غضب الآلهة والأغارقة.
وأعاني العار والألم والجوع عشر سنين، وأتعهد جرحًا كان يفترسني، وينطفئ حتى الأمل في فؤادي، وبينا كنت راجعًا من البحث عن نبات طبي نافع لجرحي أبصرت في غاري شابًّا وسيمًا لطيفًا، ولكن مع زهو ومع قامة بطل، وقد لاح لي أني أشاهد أشيل ما بدت عليه ملامحه ونظراته ومشيته، وسنه وحدها هي التي جعلتني أدرك أنه ليس أشيل، وألاحظ على وجهه في مجموعه علامات الشفقة والارتباك، وذلك أنه تأثر بما رأى من مكابدتي مشقةً وبطوءًا حين زحفي، وأنه رق لِمَا أُخْرِج من أصوات حادة أليمة يدوِّي صداها في جميع ذلك الشاطئ.
وأقول له من بعيد: «أي شقاءٍ ساقك إلى هذه الجزيرة المهجورة أيها الغريب؟ أعرف الثوب اليوناني، وهذا الثوب لا يزال عزيزًا علي، وَيْ! يا لإبطائك في إسماعي صوتك ونطقك بهذه اللغة التي تعلمتها منذ طفولتي والتي لم أستطع أن أخاطب بها إنسانًا في هذه العزلة منذ زمن طويل! لا يرعبك أن ترى رجلًا بالغ الشقاء مثلي، والرحمةُ ما يجب أن تظهر له.»
ولم يكد نيوبتوليم يقول لي: «إنني يوناني» حتى قلت بصوت جهير: «يا له من كلام عذب بعد أعوام كثيرة من سِنِي الصمت والألم بلا سلوان! أية مصيبة أو زوبعة أو ريح ملائمة ساقتك إلى هنا، يا بني، حتى تختم أوصابي؟»
ويجيبني بقوله: «إنني من جزيرة إسكيروس، وأعود إليها، ويقال: إنني ابن أشيل، وأنت تعرف كل شيء.»
وما كان مثل هذا الكلام الموجز ليرضي فضولي، وأقول له: «أي ابن الأب الذي أحببت كثيرًا، أي رضيع ليكوميد، كيف جئت إلى هنا إذن؟ من أين أتيت؟»
ويجيبني بأنه آتٍ من حصار تروادة.
وأقول له: «ألست من الحملة الأولى؟»
ويقول لي: «وأنت هل كنت فيها؟»
وهنالك أجيبه بقولي: «يظهر لي جيدًا أنك لا تعرف اسم فلكتت، ولا مصائبه، آه! يا لي من شقي! إن مضطهديَّ يهينونني في بؤسي، إن بلاد اليونان تجهل ما أعاني، إن ألمي يزيد، إن الأتريد هم الذين جعلوني في هذه الحال، جازاهم الآلهة!»
ثم قصصت عليه كيف تركني الأغارقة.
ولم يكد يسمع شكواي حتى بثني شكواه.
ويقول لي: «بعد موت أشيل …»
وأقطع كلمته بقولي: «ماذا؟! مات أشيل! اغفر لي، يا بني، إذا ما عكرت حديثك بعبرات أسكبها من أجل أبيك.»
ويجيب نيوبتوليم بقوله: «أنت تعزيني بقطع كلامي، فما أحلى ما أرى فلكتت يبكي أبي!»
ويعود نيوبتوليم إلى حديثه قائلًا: «بحث عني أوليس وفنكس بعد موت أشيل وقالا لي: إنه لا يمكن القضاء على مدينة تروادة بغيري، ولم يجدا أية مشقةٍ في جلبي؛ وذلك لأن ما اعتراني من ألم بسبب موت أشيل، وما ساورني من شوق إلى تراث مجده في هذه الحرب المشهورة، حملني على اتباعهما، وأصل إلى محل الحصار، ويجتمع الجيش حولي، وكل يقسم إنه يبصر فيَّ أشيل، ولكن، آه! لم يقع ما يُرجى، وذلك بما أنني شاب لم تحنكني التجارب فإنني اعتقدت إمكان رجائي كل شيء ممن غمروني بالثناء، وكان سلاح أبي أول ما طلبت من الأتريد فقالوا بغلظة: «ستحوز بقية ما كان له، وأما أسلحته فقد صارت إلى أوليس»، وأضطرب من فوري، وأبكي، وأحتد، ويقول لي أوليس من غير أن يهتز: «لم تكن معنا، أيها الفتى، في أخطار هذا الحصار الطويل، وما كنت لتستحق مثل هذا السلاح، وقد تكلمت مختالًا، ولن تحوزها مطلقًا»، وأعود إلى جزيرة إسكيروس مسلوبًا من قِبَل أوليس على غير حق، ولكن مع سخطي على الأتريد أكثر مما على أوليس، ثم يقال: كيف يكون صديق الآلهة من يعاديهم؟! لقد قلت لك كل شيء يا فلكتت.»
وأسأل نيوبتوليم، حينئذ، عن السبب في عدم درء أجكس بن تلامون لهذا الجور، ويقول لي: «إنه مات!»
وأقول صارخًا: «مات! ولا يموت أوليس مطلقًا، وأوليس يلمع نجمه في الجيش!»
ثم أسأله عما عنده من أخبار أنتيلوك بن الحكيم نسطور، ومن أخبار بتروكل العزيز كثيرًا على أشيل.
ويقول لي: «إنهما ماتا أيضًا.»
وأقول من فوري صارخًا أيضًا: «ماذا! ماتا! واهًا واهًا! ما تقول لي؟ إن الحرب الطاحنة تحصد الأبرار وتبقي الأشرار؛ ولذا فإن أوليس لا يزال حيًّا! ولا ريب في أن ترسيت لا يزال قيد الحياة أيضًا! هذا ما يصنع الآلهة، ثم نسبِّح لهم!»
وبينا كنت أشتاط غيظًا من أبيك لم ينفك نيوبتوليم يداليني، وقد أضاف الكلمات المحزنة الآتية إلى سابق قوله: «إني ذاهب للعيش في جزيرة إسكيروس المهجورة راضيًا بعيدًا من الجيش اليوناني حيث يتغلب الشر على الخير، وها أنا ذا مسافر، شفاك الآلهة!»
وأقول له من فوري: «عزمت عليك، يا بني، بروح أبيك وأمك وبكل من هم أعز عليك في الدنيا ألا تدعني وحدي مبرَّحًا بهذه الآلام التي ترى، ولا أدري مقدار إزعاجي لك، ولكن عار عليك أن تتركني، واطرحني في مقدم السفينة أو مؤخرها أو مرحاضها أو في أي مكان آخر منها أكون فيه أقل مضايقةً لك، ولا يوجد غير ذوي القلوب من يعرفون مقدار ما يكون من شرف في صنع المعروف، لا تتركني في فلاة لا أثر للإنسان فيها، إيتِ بي إلى وطنك، إلى جزيرة أوبه غير البعيدة من جبل إيتا ومدينة تراشين وضفاف نهر سبرسيوس اللطيفة، خذني إلى أبي، آه! أخاف أن يكون قد مات، لقد طلبت منه أن يرسل إلي سفينةً، فهو إما أن يكون قد مات، أو يكون الذين وعدوا بتبليغه ذلك قد أخلفوا، أعوذ بك يا بني! اذكر عطب أمور الإنسان، وليخش من كان موسرًا سوء استعمال هذه الأمور وليسارع إلى مساعدة المنكوبين.»
هذا ما حملني فرط ألمي على قوله لنيوبتوليم، ويعدني نيوبتوليم بأن يأتي بي، وهنالك صرخت قائلًا: «يا له من نهار سعيد! يا لكونك سر أبيك أيها الحبيب نيوبتوليم! أي رفيق هذه الرحلة العزيز، اغفر لي وداعي لهذا المكان الكئيب، انظر أين عشت، أدرِك أين ألمت، ما كان ليستطيع أحد غيري أن يحتمل ذلك، بيد أن الضرورة دربتني، وهي تعلم الناس ما لا يستطيعون أن يتعلموه بغيرها، ومن لم يألمْ لا يعرفْ شيئًا ولا يَمِزِ الخيرَ من الشر، ويجهلِ الناس، ويجهلْ نفسه.»
وأتناول قوسي وسهامي بعد قولي هذا، ويرجو نيوبتوليم مني أن أسمح له بتقبيل هذه الأسلحة المشهورة جدًّا، والمقدسة كثيرًا لدى هركول المنيع، وأقول له: «تستطيع صنع كل شيء، فاليوم، يا بني، أنت الذي يعيد إلي النور، كما يعيد إليَّ وطني وأبي الذي حناه المشيب، وأصدقائي ونفسي؛ ولذا يمكنك أن تمس هذه الأسلحة، وأن تباهي بأنك الوحيد، بين الأغارقة، الذي استحق أن يمسها.»
ويعتريني ألم هائل في تلك الأثناء، ويزعجني، وأعود غير عارف بما أفعل وأطلب سيفًا باترًا أقطع به رجلي، وأقول صارخًا: «لِمَ لَمْ تزرني أيها الموت الذي أشتاق إليه كثيرًا؟ أحرقني، أيها الفتى، من فورك كما حرَّقت ابن جوبيتر! أيتها الأرض! أيتها الأرض! استقبلي محتضرًا لا يستطيع النهوض!»
وأسقط عن هذا الألم المبرح، ويغشاني نعاس شديد بغتةً على حسب عادتي، ويتصبب عرقي، ويخف وجعي، ويسيل دم عفن من جرحي، وكان يسهل على نيوبتوليم أن يأخذ سلاحي في أثناء رقادي وأن يذهب به، ولكنه ابن لأشيل، ولم يولد ليخادِع، وأستيقظ، وأعرف ارتباكه، ويتأوه مثل رجل لا يعرف أن يخفي أمرًا وأن يسير خلافًا لفؤاده.
وأقول له: «أتريد أن تغرني؟ وما الأمر إذن؟»
ويجيبني بقوله: «يجب أن تسير معي إلى حصار تروادة.»
وأقول معقبًا: «آه! ماذا قلت لك يا بني؟ أعد إلي هذه القوس، أنا أخان! لا تنزع حياتي، آه! لم يجبني بكلمة، وينظر إلي هادئًا، ولا يؤثر فيه شيء، يا للسواحل! يا لمرتفعات هذه الجزيرة! يا للضواري! يا للصخور الوعرة! إليك أشكو، ولا أجد غيرك من إليه أشكو: أنتِ ألفت أناتي، وهل يجب أن يخونني ابن أشيل؟ ويسلبني سهم هركول المقدس، ويريد جري إلى معسكر الأغارقة كيما يفوز بي، ولا يرى أنه يفوز بميت، بطيف، بصورة فارغة، وَيْ، ليته هاجمني في كمال قوتي! … ومع ذلك فإنه لم يقم الآن بذلك إلا مغافلًا، وما الحيلة؟ أعد، يا بني، أعد، وكن مثل أبيك الذي تشابهه، ما تقول؟ … أنت لا تقول شيئًا! أيتها الصخرة الصماء! إليك أرجع عاريًا بائسًا مهجورًا جائعًا، سأموت وحيدًا في هذا الغار عاطلًا من قوسي التي أقتل بها الضواري، ستفترسني الضواري، لا ضير، ولكنك لست شريرًا كما يظهر بابني، إنك مسير برأي غيرك، أعد إلي سلاحي، إليك عني!»
ويقول نيوبتوليم مخافتًا دامع العينين: «ليتني لم أغادر إسكيروس قط.»
هنالك أقول صارخًا: «آه! ما أرى! أأنت أوليس؟»
لم ألبث أن سمعت صوته، وقد قال لي: «أجل، أنا ذاك.»
فلو فتحت مملكة بلوتون القاتمة أبوابها، ولو أبصرت الترتر السوداء التي يخافها حتى الآلهة، ما شعرت بنفور كبير كما شعرت وقتئذ على ما أعترف، وأصرخ أيضًا قائلًا: «كوني شاهدةً يا أرض ليمني، وأنت ترينه أيتها الشمس، وتحتملينه!»
ويقول أوليس من غير أن يهتز: «يريد جوبيتر هذا، وأنا أنفذ ما يريد.»
وأقول له: «أتجرؤ على ذكر اسم جوبيتر؟ أترى هذا الشاب الذي لم يولد ليخادِع والذي يألم حين ينفذ ما تحمله على فعله؟»
ويقول لي أوليس: «لم نأتِ لنمكر بك ولا لنضرك، وإنما أتينا لإنقاذك وشفائك ومنحك مجد تدمير تروادة ولنعود بك إلى وطنك، فأنت، لا أوليس، عدو لفلكتت.»
هنالك خاطبت أباك بكل ما يمكن أن يوحي به الغضب إلي، ومن ذلك: «لم لا تتركني مستريحًا في هذا الشاطئ ما دمت قد تخليت عني فيه؟ اذهب وابحث عن مجد المعارك وجميع اللذات، تمتع بسعادتك مع الأتريد، دعني أنا وبؤسي وألمي، لمَ اختطافي؟ عدت لا أكون شيئًا مذكورًا، أنا في عداد الأموات، ولمَ لا تعتقد اليوم، كما كنت تعتقد، أنه لا يمكنني الذهاب، وأن صراخي ونتن جرحي يزعج الجيش؟ أي أوليس، أي سبب مصائبي أوليس، أضرع إلى الآلهة أن يصيـ …! بيد أن الآلهة لا يستجيبون دعائي مطلقًا، وعلى العكس أرى الآلهة يحرضون عدوي علي، أي أرض وطني الذي لن أراه! … أيها الآلهة، إذا ما وجد بينكم عادلون يرحمونني فليعاقبوا أوليس، ففي هذا شفائي.»
وبينا كنت أتكلم هكذا كان أبوك الهادئ ينظر إلي بعين عطوف، شأن الرجل الذي يحتمل، من غير أن يهتز، اضطراب رجل بائس هزه الطالع مع عذره على هذا الاضطراب، وشأن الصخرة القائمة على جبل والتي تلهو بالرياح العاصفة وتدعها تهدأ مع بقائها ساكنةً، وهكذا كان أبوك صامتًا منتظرًا ذهاب غضبي عني، وذلك لعلمه أنه لا ينبغي أن تصاول الأهواء لقهرها وردها إلى حظيرة العقل إلا بعد أن تأخذ في الوهن عن إعياء، ثم قال لي أبوك ما يأتي: «ما صنعت بعقلك وشجاعتك يا فلكتت؟ هذا هو وقت إظهارهما، إذا ما أبيت اتباعنا لإنجاز مقاصد جوبيتر العظيمة المعقودة عليك فوداعًا، لما يظهر، إذ ذاك، أنك غير أهل لإنقاذ بلاد اليونان وتدمير تروادة، ابقَ في ليمني، فلي بهذه الأسلحة التي آخذ ما يضمن لي نصرًا أعد لك، لنذهب يا نيوبتوليم، لنذهب ما ظهرت مخاطبته غير مجدية، ولا يجوز أن يلزمنا العطف على رجل واحد بأن نتخلى عن سلامة بلاد اليونان بأسرها.»
هنالك شعرت بأنني مثل لبُوءة خطف صغارها فملأت الغاب بزئيرها، فقلت في نفسي: «لن أتركك أيها الكهف مطلقًا، ستكون أيها الكهف قبرًا لي! أي مقرَّ ألمي عدت لا أملك قوتًا ولا أملًا! مَن ذا الذي يعطيني حسامًا أطعن به نفسي؟ وَيْ! لتخطفني الكواسر! … عدت لا أرميها بسهامي! يا للقوس الثمينة، يا للقوس التي قدستها يد ابن جوبيتر! أي هركول العزيز، ألا تشتاط غيظًا لو بقيت ذا إحساس؟ عادت هذه القوس لا تكون قبضة صديقك الوفي، صارت هذه القوس في يد أوليس الماكر غير النقية، أيتها الكواسر، أيتها الضواري، لا تفروا من هذا الغار بعد الآن، فقد عادت يداي لا تقبض على سهام، لقد صرت بائسًا، ولا أستطيع لكم ضرًّا، إيتوا لنزعي، أو لتسحقني صاعقة يرسلها جوبيتر الجبار!»
ويتخذ أبوك جميع الوسائل الأخرى لإقناعي، ثم يرى أن أحسن وسيلةٍ لبلوغ الغرض هو أن يعاد سلاحي إلي، ويومئ إلى نيوبتوليم، ويعيدها هذا إلي من فوره، فأقول له: «أي ابن أشيل الخليق بأبيه، لقد أثبت أنك سر أبيك، ولكن دعني أطعن عدوي.»
ولم أتمالك أن أردت طعن أبيك بسهم، بيد أن أباك صدني عن ذلك قائلًا: «أنت مضطرب عن غضب، والغضب يحول دون رؤيتك العمل الكريه الذي تريد أن تفعله.»
ويظل أوليس هادئًا حيال سهامي وشتائمي، وأتأثر بهذا البأس وهذا الصبر، وأخجل من عزمي، عند تسلمي هذا السلاح، أن أبدأ بقتل ذاك الذي أمر برده إلي، ولكن بما أن غيظي لم يهدأ بعد فإن عيني لم تقر بكوني مدينًا بسلاحي لرجل أمقته كثيرًا.
ويقول لي نيوبتوليم في تلك الأثناء: اعلم أن الكاهن هيلانوس بن بريام خرج من مدينة تروادة بأمر الآلهة ووحي منهم وكشف لنا عن المستقبل حيث قال: «إن مدينة تروادة البائسة ستسقط، ولكن لا يمكن أن تسقط إلا بعد أن يهجم عليها حامل سهام هركول، ولا يمكن أن يُشفى هذا الرجل إلا أمام أسوار تروادة، وأبناء إسكلاب هم الذين سيشفونه.»
فلما سمعت هذا شعرت بانقسام قلبي، وذلك أنني تأثرت من سذاجة نيوبتوليم ومن حسن نيته التي رد بها قوسي إلي، ولكن مع عدم ذهابي بعد إلى وجوب الإذعان لأوليس، وأتردد عن عار، وأقول في نفسي: «ألا أشاهد مع أوليس والأرتيد؟ وما يقال عني؟»
وبينا كنت واقعًا في هذه الحيرة سمعت صوتًا لا يشابه أصوات البشر، وذلك أنني رأيت هركول محاطًا بأشعة من المجد في سحابة وضيئة، ويسهل علي أن أعرف ملامحه الجافية وبدنه المتين وأوضاعه البسيطة، ولكن مع علو وجلال لم يظهر بهما قط أيام كان يقهر الغيلان، ويقول لي: «أنت تسمع هركول وتراه، فاعلم أنني غادرت الألنب لأبلغك أوامر جوبيتر، وأنت تعرف الأعمال التي نلتُ بها الخلود، وأنت يجب عليك أن تذهب مع ابن أشيل لتسير على أثري في طريق المجد، وستشفى، وستطعن بسهامي باريس الذي هو سبب كثير من المصائب، وسترسل، بعد فتح تروادة، غنائم ثمينةً إلى أبيك بياس فوق جبل إيتا، وستوضع هذه الغنائم على ضريحي مثل أثر لنصر تمَّ بسهامي، وأنت، يا ابن أشيل، أصرح لك بأنك لا تستطيع أن تغلب بغير فلكتت، ولا يستطيع فلكتت أن يغلب بغيرك؛ ولذا فاذهبا مثل أسدين يبحثان عن فريستهما معًا، وسأرسل إسكولاب إلى تروادة ليشفي فلكتت، وأنتم، أيها الأغارقة، أحبوا الدين وتمسكوا به على الخصوص، فكل شيء فانٍ إلا الدين، والدين لا يموت أبدًا.»
ولما سمعت هذا الكلام قلت بصوتٍ عالٍ: «أيها النهار المبارك، أيها النور اللطيف، أنت تظهر نفسك بعد سنين كثيرة، إنني أطيعك، إنني ذاهب بعد تحية هذه الأماكن، وداعًا يا حوريات هذه المروج الرطيبة، لن أسمع بعد الآن ضجيج أمواج هذا البحر الصم، وداعًا أيها الشاطئ الذي عانيت فيه تقلبات الجو، وداعًا أيها الرأس المرتفع حيث رددتِ الحورية إكو أناتي مرات كثيرةً، وداعًا أيتها العيون العذبة التي كانت تظهر لي حامزةً، وداعًا يا أرض ليمني، دعيني أسافر سعيدًا ما دمت ذاهبًا إلى حيث تدعوني مشيئة الآلهة وإرادة أصدقائي.»
وهكذا انصرفنا، ونصل إلى حصار تروادة، ويشفيني مكاءون وبودالير بعلم رباني تلقياه عن أبيهما إسكولاب، أو يجعلاني، على الأقل، في الحال التي تراني عليها، أجل، إنني عدت لا آلم، أجل إنني استعدت جميع قوتي، ولكنني أعرج قليلًا، وأُصْمِي باريس مثل شادن أنثى الأيِّل الوجل الذي يطعنه الصائد بسهامه، ولم تلبث إليون أن تحولت إلى رماد، وأنت تعرف البقية، ومع ذلك فإنني كلما ذكرت سابق مصائبي ساورني نفور من الحكيم أوليس لا أستطيع أن أعبر عنه، وما كانت فضيلته لتسكن هذه البغضاء، بيد أن منظر ابنه الذي يشابهه، والذي لم أقدر أن أمنع نفسي من حبه، يجعلني أحن إلى أبيه أيضًا.