الجزء الثالث عشر

عانى تلماك، حين إقامته عند الحلفاء، مصاعب كبيرةً في مداراة كثير من الملوك المتحاسدين، يقع خصام بينه وبين رئيس اللكدمونيين، فلنت، من أجل بعض أسرى الدونيين الذين يدعي كل منهما أنهم ملْك له، بينا كان يناقش حول القضية في مجلس الملوك المتحالفين ذهب أخو فلنت، هبياس، ليأخذ الأسرى ويرسلهم إلى تارنت، هجوم تلماك على هبياس بصولة وقَهْرُه إياه نتيجةً لتبارزهما، خجل تلماك من هيجانه وسعيه في رتق ما بينهما، اطلاع ملك الدونيين، أدراست، على هذا الشقاق بين تلماك وهبياس، وما نشأ عنه من ذعر في الجيش، والتزامه خطة الهجوم المفاجئ، مباغتته مائةً من مراكبهم، ونقل جنوده بها، وهجومه على معسكر فلنت وقتله هبياس، وسقوط فلنت جريحًا، وصول نبأ ذلك إلى تلماك، وتقلد تلماك سلاحه الرباني، ووثوبه خارج المعسكر، وجمعه جيش الحلفاء حوله، وإدارته الحركات بحكمة، ودحره العدو المنصور في وقت قصير، كان ينال نصرًا كاملًا لو لم تفصل إحدى العواصف بين الجيشين، زيارة تلماك للجرحى بعد المعركة، وقيامه بكل ما يحتاجون إليه من تفريج الكَرْب، كان أخص ما عني به تلماك هو فلنت وجنازة هبياس الذي نقل رماده إلى فلنت بنفسه ضمن قارورة من ذهب.

بينما كان فلكتت يقص نبأ مغامراته ظل تلماك حائرًا جامدًا، وكان محدقًا إلى هذا الرجل الكبير الذي يتكلم، وكانت تتجاذب وجه تلماك الساذج، بالتناوب كما يظهر، جميع الأهواء التي هزت هركول وفلكتت وأوليس ونيوبتوليم، وذلك كلما عرضت هذه الأهواء وفق سياق الحديث، ومما كان يحدث أحيانًا أن يصرخ ويقاطع فلكتت من غير تفكير، ومما كان يحدث أحيانًا أن يظهر حالمًا كمن يفكر تفكيرًا عميقًا في نتائج الأمور، ولاح تلماك، عندما وصف فلكتت ارتباك نيوبتوليم الذي لا يعرف أن يداجي مطلقًا، في مثل هذا الارتباك فيبدو للناظر أنه نيوبتوليم نفسه.

وكان جيش الحلفاء في ذلك الحين يسير سيرًا منتظمًا لقتال ملك الدونيين، أدراست، الذي يستخف بالآلهة ولا يحاول غير مخادعة الناس، ويجد تلماك مصاعب عظيمةً في مداراة كثير من الملوك المتحاسدين؛ وذلك لأنه كان يجب ألا يكون موضع ارتياب أحد، وأن يكون محبوبًا لدى الجميع، أجل، إنه كان حسن الطبع مخلصًا، ولكن مع قليل مدالاة، أي أنه لم يَعِنَّ له ما يمكن أن يصنع ليروق الآخرين، أي أنه كان عزوفًا عن الثراء من غير أن يعرف العطاء، أي أنه، وإن كان نبيل القلب محبًّا للخير، لم يبدُ تواقًا إلى إحسان، ولا مشتاقًا إلى أخْدان، ولا نَدِي الكف، ولا ملتفتًا إلى ما يحبى به من عناية، ولا مكترثًا لتمييز ما بين المزايا، أي أنه كان يتبع ميله بلا تأمل، ولا غرو، فأمه بنلوب كانت قد ربته، على الرغم من منتور، في جو من الزهو والكبرياء يكدر فيه صفو ألطف ما فيه، وهكذا كان يعد نفسه من جِبِلة غير جِبِلة الناس، فكأن الآلهة لم يخلقوا الآخرين إلا ليروقوه ويخدموه ويتمثلوا رغائبه ويعزوا كل أمر إليه كما يعزون إلى الآلهة، وكان يرى أن سعادة خدمته جائزة سامية لمن يقومون بها، وأنه لا مستحيل عندما يدور الأمر حول إرضائه، فكان أقل إبطاء يثير طبعه الحاد.

وكان مَن يرى هذه الناحية من سجيته يحكم بأنه عاجز عن حب شيء غير نفسه، وأنه لا يبالي بغير مجده ولذته، بيد أن عدم اكتراثه للآخرين ودوام رعايته لنفسه دون سواها لم يَصدرا عن غير استمرار فورانه بفعل صولة أهوائه، وقد دالته أمه منذ مهده، وقد كان أعظم مثال على شقاء من يولدون في المعالي، وما كانت شدائد الطالع التي أحسها منذ أول شبابه لتعدل صولة هذا الزهو، ولم يفقد شيئًا من خيلائه مع تجريده من كل شيء ومع تركه وشأنه وكونه عُرضةً لكل بلاء، وهو ما فتئ يرتفع كسعف النخل اللين الذي يعلو بلا انقطاع مهما بُذل من جُهد لخفضه.

وكانت هذه النقائص خافيةً ما دام تلماك مع منتور، وكانت تتوارى يومًا بعد يوم، وكان تلماك كالحصان الجامح الذي يثب في المروج الواسعة فلا تقفه الصخور الوعرة ولا الهوى ولا السيول، والذي لا يعرف غير صوت رجل واحد، ويد رجل واحد، قادر على ترويضه، أي أن تلماك، المملوء صولةً أصيلة، كان لا يمكن زجره إلا من قبل منتور، ومنتور هو مَن كانت إحدى نظراته تكفي لوقف أشد صولاته دفعةً واحدة، أي أنه كان يُحس، أول وهلةٍ، معنى هذه النظرة، فيذكر في صميم فؤاده جميع مشاعر الفضيلة، ولا تعتم الحكمة أن تحول وجهه، في أقرب من لمح البصر، إلى وجهٍ طليقٍ رائق، وما كان نبتون، إذا رفع خطافه الثلاثي الشوكات وهدد الأمواج الهائجة، ليسكن الزوابع بأسرع من ذلك.

فإذا ما كان تلماك وحده استردت مجراها جميع هذه الأهواء المزدَجَرة كالسيل الذي يَقِفُه سد قوي، ولم يُطق غطرسة اللكدمونيين وكبرياء زعيمهم فلنت، وكانت هذه المستعمرة، التي أُقيمت بها تارنت، مؤلفةً من فتيان وُلدوا في أثناء حصار تروادة فخلوا من أية تربية كانت، وما كان من أصلهم غير الشرعي، ومن دعارة أمهاتهم وما نشأوا عليه من فجور، أكسبهم ما لا يُعبر عنه من غلظة وتوحش، فكانوا أقرب إلى زمرة من قُطاع الطرق مما إلى مستعمرة يونانية.

ولم ينفك فلنت يحاول معارضة تلماك في كل مناسبة، وما أكثر ما كان يقاطعه في المجالس مزدريًا آراءه كما تُزدرى آراء شاب غير مُجرب! فكان إذا ما تكلم قابله ساخرًا عادًّا إياه ضعيفًا مخنثًا، مبديًا لرؤساء الجيش جميع هفواته مهما كانت طفيفةً، وكان يسعى أن يبذر في كل مكانٍ عوامل الحسد حول تلماك، وأن يجعل زهوه ممقوتًا لدى جميع الحلفاء.

ويأسر تلماك بعض الدونيين ذات يوم، ويزعم فلنت أن هؤلاء الأسرى مُلك له كما يُفرض، وذلك لادعائه بأنه، وهو رئيس للكدمونيين، هزم تلك الكتيبة من الأعداء، وأن تلماك، وهو يُبصر قهر الدونيين وفرارهم، لم يبذل من الجهد غير منحهم الحياة وجلبهم أُسارى إلى المعسكر، ويذهب تلماك إلى غير هذا فيرى أنه هو الذي حال دون غلب فلنت وأنه هو الذي تم له النصر على الدونيين، ويذهبان إلى مجلس الملوك ليتقاضيا إليه حول الخلاف، ويبلغ تلماك من الحدة ما يهدد معه فلنت، وكادا يصطرعان من فورهما لو لم يُحجز بينهما.

وكان يوجد لفلنت أخ اسمه هبياس، وكان هبياس هذا مشهورًا في الجيش بشجاعته وقوته ومهارته، وكان أهل ترانت يقولون: إن بولكس ليس أحسن من هذا الملاكم في الصراع، وإن كستور لا يفوقه في سَوْق الحصان، ويكاد يكون له مثل قامة هركول وقوته، وكان جميع الجيش يخشاه؛ لأنه أشد خصامًا وأعظم شراسةً منه بسالةً وبأسًا، ويبصر هبياس شدة ما هدد به تلماك أخاه فلنت من كبرياء، ويبادر إلى أخذ الأسرى كيما يرسلون إلى ترانت غير منتظر حكم المجلس، ويسر إلى تلماك بذلك، ويخرج مرتجفًا غضبًا، ويشابه خنزيرًا بريًّا متنمرًا باحثًا عن الصائد الذي جرحه، فيطوف في المعسكر، ويطلب عدوه، ويهز السهم الذي يريد طعنه به، ثم يلقاه، ويتضاعف غيظه، ويعود غير ذلك الحكيم تلماك الذي هذبته منرفا في صورة منتور، أي يظهر مسعورًا أو أسدًا ثائرًا.

وينادي هبياس من فوره بقوله: «قف يا أنذل الناس! قف! سنرى هل تستطيع أن تنزع مني ما غنمت ممن غلبت، لن تسوق أسلابي إلى ترانت، اذهب واهبط إلى ظلمات ستكس لساعتك.»

قال هذا ورشقه بسهمه، وبلغ من الهياج حين رميه ما لم يستطع أن يقيس معه ضربته، ويخطئ السهم هبياس، ولم يلبث تلماك أن تناول حسامه الذي كان ذا مقبض من ذهب، والذي كان لئرت قد أعطاه إياه حينما غادر إيتاك ليكون عربون حنانٍ لديه، وكان لئرت قد انتفع بهذا السيف انتفاع ماجد بالغ المجد حينما كان جَذَعًا، وكان ملطخًا بدم كثير من ربابنة الإيبريين في أثناء حرب انتصر فيها لئرت، ولم يكد تلماك يستل هذا السيف حتى انقض هبياس، الذي أراد اغتنام فرصة قوته، لينزعه من يدي ابن أوليس الشاب، ويتكسر السيف في أيديهما، ويقبض كل منهما على الآخر، ويضغط كل منها الآخر، ويظهران مثل ضاريين يحاول كل منهما أن يمزق الآخر، ويتطاير الشرر من أعينهما، ويتقلصان، ويمتطلان،١ ويَوْطآن ويطولان، وينزوان،٢ وإلى الدم يعطشان، ويتصارعان، وتلتف السيقان والذرعان، فيلوح أن هذين الجسمين المشتبكين لا يؤلفان غير بدن واحد، بيد أن أسنهما هبياس كان يظهر مرهقًا لتلماك الذي كان شبابه الغض أضعف عضلًا، ويضيق نفس تلماك، ويشعر بترنح ركبتيه، ويرى هبياس ارتجاجه، ويضاعف جهوده، وكان يفرغ من أمر ابن أوليس، وكان يحتمل نتيجة تهوره وفورانه لو لم تقرر منرفا أمر فوزه، وهي التي ترقبه عن بعد، وهي التي لم تدعه يعاني أقصى الخطر إلا لتؤدبه.

أجل، إنها لم تغادر سلنتة قط، وإنما أرسلت مرسال الآلهة العجول: إيريس، وتطير هذه المرسال على جناح السرعة، وتشق مساوف الهواء الواسعة تاركةً وراءها أثرًا من النور طويلًا مصورًا لسحابة ذات ألف لون، وهي لم تسترح إلا على شاطئ البحر حيث معسكر جيش الحلفاء اللجب، وهي تشاهد من بعيد نزاع المتعاركين وحُمَيَّاهما وجدهما، وهي ترتعش من رؤية الخطر الذي يحيق بالشاب تلماك، وهي تدنو محاطةً بغمامة وضيئة ألفتها من الأبخرة اللطيفة، وبينا كان هبياس يشعر بكمال قوته ويعتقد أنه منصور غشت إيريس ربيب منرفا الشاب بالمجن الذي أودعته هذه الآلهة عندها، ولم يلبث تلماك، الذي نهكت قواه، أن أخذ ينتعش، وكلما كان تلماك ينتعش ارتبك هبياس وحار بأمر رباني مرهق له، ويضغطه تلماك ويصول عليه متخذًا وضعًا تارةً ووضعًا آخر تارةً أخرى، ويزعزعه، ولا يدع له ثانيةً يهدأ فيها، وأخيرًا يطرحه وينقض عليه، وما كانت دوحة البلوط، التي تقطع في جبل إيدا بألف ضربة فأس يدوي بها جميع الغابة؛ لتحدث صوتًا، عند سقوطها، أفظع مما أحدث هبياس عند سقوطه، فقد رنت الأرض بذلك كما اهتز جميع الجوار.

وقد عادت الحكمة إلى تلماك مع القوة، ولم يكد هبياس يسقط تحت ابن أوليس حتى أدرك هذا الابن خطأ مهاجمته أخًا لأحد الملوك المتحالفين الذين أتى لإنجادهم، أي أنه ذكر في نفسه، مع الارتباك، ما كان منتور قد حباه به من نصائح غالية، فخجل من نصره، وأدرك مقدار ما كان يستحق من قهره، ويكون فلنت بالغ الغضب في تلك الساعة، ويُهرع إلى مساعدة أخيه، وكاد يطعن تلماك بسهم كان يحمله لو لم يخش أن يطعن، أيضًا، هبياس الذي كان مطروحًا على التراب تحته، أجل، كان ابن أوليس يستطيع أن ينزع حياة عدوه بلا عناء، ولكن بما أن الغضب قد ذهب عنه عاد لا يفكر في غير إصلاح خطئه بإظهار اعتداله، وينهض، ويقول: «أكتفي، يا هبياس، بأن تعلم مني عدم ازدراء فتائي، عاش هبياس! أعجب ببأسك وبسالتك، لقد أجارتني الآلهة، فاخضع لسلطانهم، ولا نفكر في غير قتال الدونيين معًا.»

وبينما كان تلماك يقول ذلك نهض هبياس مستورًا بالرَّغام والدم، مملوءًا خزيًا وغيظًا، ولم يجرؤ فلنت على نزع حياة ذاك الذي وهب الحياة لأخيه بسخاء، ويحار، ويضطرب، ويسرع الملوك المتحالفون، ويفرقون بين تلماك وفلنت وهبياس الذي خسر زهوه ولم يسطِع أن يرفع عينه، ويقضي جميع الجيش كل العجب من كون تلماك الشاب، الذي لا تكتمل قوى من يكون في مثل سنه من الرجال، قد استطاع أن يطرح هبياس الذي يشابه ببأسه وعظمه غيلان الأرض الذين أقدموا في الماضي على طرد الخالدين من الألنب.

بيد أن من المستبعد أن يتمتع ابن أوليس بلذة هذا النصر، فبينا كان محل إعجاب انزوى في خيمته خجلًا من غلطه ضائقًا بنفسه ذرعًا، ويئن من تسرعه، ويعرف ما ينطوي عليه هياجه من جور وعدم صواب، ويجد ما يشتمل عليه هذا الزهو البالغ الطاغي من بُطْل وضعف ولؤم، ويعلم أن العظمة الحقيقية لا تكون إلا في الاعتدال والعدل والتواضع والحلم، وهو يبصر جميع هذا، ولكن من غير أن يجرؤ على رجائه إصلاح نفسه بعد تكرار هذه الزلات، وهكذا كان ينازع نفسه فيسمع له هدير كزئير الأسد الهائج.

ويقبع تلماك في خيمته يومين وحده، وذلك مع معاقبته نفسه ومن غير أن يستطيع القطع في الاشتراك في أي مجتمع كان، ويقول تلماك في نفسه نادمًا: «آه! هل أجرؤ على الاجتماع بمنتور ثانيةً؟ هل أنا ابن أوليس الذي هو أحكم الناس وأكثرهم صبرًا؟ وهل جئت لأحمل بذور الشقاق والفساد في جيش الحلفاء؟ وهل يجب علي أن أسفك دمهم، لا دم أعدائهم الدونيين؟ لقد كنت متهورًا، ولم أستطع حتى رمي سهمي، وقد عرضت نفسي لقتال هبياس مع تفاوتنا قوةً، وقد صرت لا أنتظر غير الموت مع عار الانكسار، ولكن ما أهمية ذلك إذا ما عدت غير موجود، إذا ما عاد تلماك الهيِّر الأرعن، الذي لا ينتفع بأية نصيحة كانت، غير موجود، أي إذا ما انتهى خزيي بانتهاء حياتي؟ آه! ليتني أستطيع أن آمل، على الأقل، ألا أعود إلى صنع ما أنا نادم على فعله! إذن أصبح سعيدًا جدًّا، إذن أصبح سعيدًا جدًّا، ولكن من المحتمل ألا ينصرم النهار قبل أن أعمل، أو أريد أن أعمل، عين السيئات التي توجب الآن خجلي أو تثير نفوري، يا له من نصر مشئوم! يا له من ثناءٍ لا أطيق! يا له من مدح أعده لومًا على حماقتي!»

وبينما كان وحيدًا لا عزاء له أتى نسطور وفلكتت لزيارته، وقد جاءه نسطور لينبهه على ما اقترف من خطأ، ولكن بما أن هذا الشيخ الحكيم أدرك من فوره مقدار حزن هذا الشاب حوَّل تأنيبه إلى كلام لين تسكينًا لغمه.

وقد وقف الأمراء المتحالفون زحفهم بسبب هذا النزاع، وما كانوا ليستطيعوا السير إلى العدو إلا بعد إصلاح ما بين تلماك وفلنت وهبياس، وكان يُخشى في كل ساعة أن تصول كتائب ترنت على مائة الشاب الأقريطشي الذين اتبعوا تلماك في هذه الحرب، وكل كان مضطربًا بسبب خطأ تلماك وحده، بسبب تلماك الذي كان يحيط به كثير من الشرور الحاضرة والأخطار القادمة، فيساوره ألم شديد، ويغدو الأمراء في ضيق شديد، ولا يُقدمون على أمر الجيش بالزحف خشية اصطراع أقريطشيي تلماك وترنتيي فلنت، ويُبذل جهد شاق لرد جماحهم في المعسكر الذي كانوا يُرقبون فيه عن كثب، ولم ينفك نسطور وفلكتت يترددون ذهابًا وإيابًا بين خيمة تلماك وخيمة الحَقود فلنت الذي كان لا يُفكر في غير الانتقام، وما كانت بلاغة نسطور المؤثرة ونفوذ فلكتت العظيم ليسكنا فؤاد فلنت الجافي الذي ما فتئ يثور بفعل كلام أخيه هبياس المملوء غيظًا، ويظهر تلماك أكثر رأفةً، ولكن مع هدِّه بألم لا يمكن أن يخففه شيء.

وبينا كان الأمراء في هذا الهرج والمرج كانت جميع الكتائب واجمةً ذُعرًا، وكان جميع المعسكر يظهر كبيت حزين فَقَدَ صاحبَه الذي هو سند جميع أقربائه ومحل أمل حفدته، وبينا كان يسود الجيش هذا الارتباك والهلع بوغت الجمع بسماع ضجيج هائل صادر عن عربات وسلاح وصهيل خيل وصراخ أناس بعضهم غالب توَّاق إلى القتل وبعض آخر منهم فارٌّ أو محتضَر أو مجروح، وتتألف من دُجى النقع طبقة كثيفة تحجب السماء وتكتنف جميع المعسكر، ويُضاف إلى الغبار دخان ثخين يكدر الجو ويقف النفس، ويُسمع صوت أصم مشابه لصوت أعاصير اللهب الذي يقذفه جبل إتنة من أعماق بطنه المضطرم، وذلك على حين يُطرِّق فلكن والسكلوب صاعق لأبي الآلهة، ويكاد الفزع يخلع القلوب.

وبيان الأمر أن اليقظ الجَلْد، أدرست، باغت الحلفاء بعد أن كتم عنهم زحفه واطلع على سيرهم، وبعد أن أسرع مدة ليلتين، بما لا يُصدق، في الدور حول جبل وعر استولى الحلفاء على جميع مسالكه، وأن الحلفاء، بعد أن استولوا على جميع سبل هذا الجبل، اعتقدوا أنهم في مأمنٍ، وزعموا أنهم يستطيعون، بهذه الدروب التي قبضوا عليها، أن ينقضوا على العدو خلف الجبل عندما تصل إليهم الكتائب التي ينتظرون، وأن أدرست، الذي كان يوزع المال ذات اليمين وذات الشمال ليعرف سر أعدائه، اطلع على مقاصدهم؛ وذلك لأن الربانَيْنِ البالغَيِ الحكمة والحنكة، نسطور وفلكتت، لم يكونا كاتمين للسر في مغامراتهما، فأما نسطور فقد كان، في هذا الدور من المشيب، يُسَرُّ بقصه كل ما يمكن أن يجلب إليه شيئًا من الثناء، وأما فلكتت، وإن كان أقل كلامًا عن طبع، فقد كان نزقًا، فإذا ما حُث هياجه قليلًا حُمل على بيان ما كان يرغب في السكوت عنه، وقد وجد المحتالون مفتاح فؤاده الذي يستخرجون به أهم أسراره، أي ما كان عليهم إلا أن يُهيجوه حتى يثور ويفقد اتزانه ويتوعد ويُباهي بحيازته وسائل وثيقةً ينال بها ما يريد، وكان، على ما يكتنف هذه الوسائل من ظنون، يبادر إلى إيضاح أمرها بلا روية، فيبوح بأدق الأسرار، وما كان فؤاد هذا الربان الكبير ليستطيع كتم شيء، شأن الإناء الثمين المتصدع الذي يسيل منه ألذ المشروبات، وما كان ليُعْوِزَ الخائنين، الذين فسدوا بمال أدرست، أن يعبثوا بضعف هذين الملكين، ومن ذلك أن كانوا يصانعون نسطور بالمدائح الباطلة بلا انقطاع، ويذكرونه بسابق انتصاراته، ويُطرون بصره بالأمور، ولا يسأمون من الثناء عليه، ومن ذلك أن كانوا لا يكلون من نصب الحبائل لذي الطبع الهلوع، فلكتت، فلا يحدثونه إلا عن المصاعب والمعاكسات والأخطار والمشاكل والأغاليط التي يتعذر إصلاحها، فإذا ما أُلهب صاحب هذا المزاج السريع الانفعال توارت حكمته، وعاد لا يكون الرجل نفسه.

وكان تلماك أكثر حذرًا وكتمًا للسر على الرغم من النقائص التي ذكرنا، وقد مَرَنَ على هذا بمصائبه وباضطراره إلى الاختفاء من عشاق بنلوب، وكان يعرف أن يحفظ السر من غير أن يكذب، وذلك مع عطله من مثل هيئة كاتمي السر المعتادة القائمة على التحفظ والغموض، وذلك أنه كان لا يظهر مثقَلًا بحمل السر الذي يجب أن يحفظه، أي أنه كان يُرى في كل وقت طليقًا صريحًا غير متصنع كمن يكون قلبه على شفتيه، ولكنه إذا ما قال كل ما يستطيع أن يقول بلا حاصل عرف أن يقف بلا تكلف عند حد الأمور التي يمكن أن تكون محل ظنون وإفشاء سر، وبدا فؤاده منيعًا لا يمكن نفوذه، حتى إنَّ أصلح أصدقائه كانوا لا يعرفون غير ما يرى من المفيد كشفه لهم وصولًا إلى نصائح حكيمةٍ، ومنتور وحده هو الذي لا يحترز منه على الإطلاق، أجل، إنه يثق بأصدقاء آخرين، ولكن على درجات، وعلى نسبة ما اختبر من صداقتهم وحكمتهم.

ومما لاحظ تلماك، في الغالب، أن قرارات المجلس كانت تشيع في المعسكر بعض الشيء، فوجه إلى ذلك نظر نسطور وفلكتت: بيد أن هذين الرجلين المحنكين لم يلتفتا إلى هذا الرأي النافع بما فيه الكفاية، وذلك لبعد المشيب من المرونة، ولأن العادة قيدت المشيب ولا حيلة للمشيب حيال نقائصه، ولا عجب، فالناس إذا ما بلغوا حدًّا معينًا من العمر عادوا غير قادرين على مقاومة بعض العادات التي تشيب معهم وتنفذ حتى المخ من عظامهم، وهم في هذا كالأشجار التي صلبت سوقها العقد القاسية في كثير من السنين فعاد لا يمكن تعديلها، وهم يعرفون تلك العادات غالبًا، ولكن بعد الأوان، وهم يئنون منها على غير جدوى، ودور الشباب وحده هو السن التي يستطيع الإنسان أن يسيطر فيها على نفسه وأن يقومها.

وكان يوجد في الجيش رجل من الدلوب اسمه أريماك، وكان هذا الدلوبي مرائيًا مداريًا قادرًا أن يلائم جميع أذواق الأمراء وميولهم، كما كان أريبًا في الخداع ماهرًا في البحث عن كل وسيلة جديدة ليروقهم، وكان مَن يسمعه يجد أنه لا عسر عنده، وكان، إذا ما سئل عن رأيه، يحزر ما يقع عند السائل موقع الرضا، وكان ساخرًا ماجنًا حيال الضعفاء ملاطفًا تجاه من يخاف من الرجال، حاذقًا في صوغ المدائح الدقيقة التي يحسن قبولها حتى عند أكثر الناس تواضعًا، وكان يظهر رصينًا نحو كل رصين داعبًا نحو كل داعب، أي كان يسهل عليه أن يلبس لكل حالة لَبُوسها، وما كان الفضلاء المخلصون الثابتون الذين يعملون بمبادئ الفضيلة ليقعوا موقع الرضا، كما يقع أريماك، لدى الأمراء التابعين لأهوائهم.

وكان أريماك خبيرًا بالحرب قديرًا في أمور الإدارة، وكان مغامرًا انحاز إلى نسطور وحاز ثقته، وكان يستخرج كل ما يريد أن يعرف من فؤاد نسطور المغتر الذي يؤثر فيه بالمدح، ومع أن فلكتت كان لا يثق به مطلقًا فإن الغضب والهلع كانا يصنعان منه ما تصنع الثقة في نسطور، فما كان على أريماك إلا أن يناقره ويثيره حتى يطلع منه على كل شيء، وكان أريماك قد نال مبالغ كبيرةً من أدرست كيما يخبره بجميع خطط الحلفاء، وكان يوجد في جيش ملك الدونيين جنود يلجأون إلى معسكر الحلفاء على أن يعود الواحد منهم بعد الآخر إليه، فكان أريماك، كلما وُجد أمر مهم يرى إطلاع أدرست عليه، يرحل أحد هؤلاء الجنود اللاجئين، وما كان ليمكن أن تعرف الخديعة بسهولة ما دام هذا الجندي اللاجئ لا يحمل كتابًا، وهو إذا ما فوجئ لم يضبط معه شيء يكون به أريماك ظَنِينًا، ويطَّلع أدرست على جميع خطط الحلفاء في تلك الأثناء، وكان المجلس إذا ما اتخذ قرارًا صنع الدونيون ما يحولون به دون نجاحه، ولم ينفك تلماك يبحث عن السبب ويثير حذر نسطور وفلكتت، ولكن على غير جدوى، فقد عميا.

وكان مما أقره المجلس أن ينتظر وصول الكتائب الكثيرة التي لا بُدَّ من مجيئها، وقد أرسلت مائة سفينة في الليل سرًّا لتجلب هذه الكتائب إلى المعسكر على عجل، وذلك من ساحل وعر جدًّا، وكان جمع الحلفاء يعتقد أنه في مأمن ما دام قابضًا على مضايق الجبل المجاور المنيع الذي هو من سلسلة الأبنين، وكان المعسكر على ضفاف نهر غاليز القريبة من البحر، وكانت هذه الحقول غنيةً بالمراعي وبجميع الثمرات التي تستطيع إطعام الجيش، وكان أدرست خلف الجبل، وكان يُحسَب أنه لن يستطيع المرور، ولكن بما أنه علم أن الحلفاء لا يزالون ضعفاء، وأنهم ينتظرون مددًا كبيرًا، وأن المراكب تنتظر وصول الكتائب التي لا بُدَّ من قدومها، وأن الجيش منقسم بسبب النزاع بين تلماك وفلنت، فإنه بادر إلى القياد بدورة عظيمة، ويبلغ ساحل البحر مواصلًا سيره ليل نهار، ويمر من دروب كان يعتقد أنها غير مسلوكة، وهكذا فإن الإقدام والعمل المتصل يزيلان أعظم العوائق، وهكذا فإنه لا مستحيل، تقريبًا، لدى ذوي الجرأة والصبر، وهكذا فإن الراقدين، الذين يعدون المصاعب من المستحيلات، يستحقون أن يفاجأوا وأن يُرهَقوا.

ويباغت أدرست عند الفجر مائة المركب التي هي ملك الحلفاء، وبما أن هذه السفن كانت سيئة الحراسة، وكان لا يحذر من شيء، فإنه استولى عليها بلا مقاومة وانتفع بها في نقل كتائبه عن مصب نهر غاليز بسرعة لا توصف، ثم سار نحو منبع النهر على جناح السرعة، وظن الجنود، الذين كانوا في المراكز الأمامية حول المعسكر عند النهر، أن هذه المراكب أتت بالكتائب المنتظرة، وتعلو هتافات الفرح، وينزل أدرست وجنوده إلى البر قبل أن يُعرفوا، وينقضون على الحلفاء الذين لم يأخذوا حِذرهم، ويجدونهم في معسكر مكشوف بلا نظام ولا رؤساء ولا سلاح.

وكانت الناحية التي هاجم أدرست منها في البداءة هي جهة الترنتيين الذين يقودهم فلنت، ويدخل الدونيون هناك بصولة لم يقدر أن يصدها شبان اللكدمونيين الذين أُخذوا على حين غفلة، وبينا كان هؤلاء يبحثون عن سلاحهم متدافعين مرتبكين أشعل أدرست المعسكر، ولم يلبث اللهب أن تصاعد من الخيام وبلغ السحاب، وكان زفير النار كهدير السيل الذي يغمر جميع الحقول جارفًا في أثناء اندفاعه أشجار البلوط العظيمة مع جذورها والغلات والأهراء٣ والزراب والقطاع، وتدفع الرياح ذاك اللهب من خيمة إلى خيمة بصولة، ولم يعتم المعسكر أن صار مثل غابةٍ قديمة أحرقتها شرارة.

ولا يستطيع فلنت، الذي يرى الخطر عن كثب، أن يتداركه، وهو يدرك أن جميع الكتائب تهلك في هذا الحريق إذا لم يبادر إلى مغادرة المعسكر، ولكنه يدرك، أيضًا، مقدار ما في بلبلة هذا التقهقر من الخطر أمام عدو ظافر، فيأخذ في أمر الشبيبة اللكدمونية، التي لا تزال نصف عزلاء، بالخروج، بيد أن أدرست لا يدع لهم مجالًا يتنفسون فيه على الإطلاق، فمن ناحية ترى كتيبةً من النبالة الماهرين يطعنون بسهامهم، التي لا تحصى، جنود فلنت، ومن ناحية أخرى ترى رماةً بالمقلاع يقذفون وابلًا من الحجارة الضخمة، ويسير أدرست نفسه، والسيف في يده، على رأس كتيبةٍ مختارة من أشجع الدونيين متعقبًا، على نور النار، كتائب العدو الفارة، ويحصد بالحديد القاطع كل من سلم من النار، ويسبح في الدم ولا يشبع من الذبح، وما كانت الأسود والنمار لتساويه صولةً عندما تفترس الرعاء مع قطاعها، وتنحلُّ قوة كتائب فلنت وتعوزها الشجاعة، ويجمد الدم في عروقها بفعل إله الموت الذي تسوقه زبانية جهنم المزبئر رأسها بالأفاعي، وتتصلب أعضاؤها الخدرة، وتقضي ركبهم المترنحة حتى على أملهم في الفرار.

ويرفع فلنت، الذي يجد بقية قوةٍ وبأس عن حياء ويأس، يديه وعينيه نحو السماء، ويرى سقوط أخيه هبياس على رجليه تحت الضربات التي تُنزلها يد أدرست الهائلة، ويتململ هبياس على التراب، ويسيل من جُرحه العميق في جنبه دم فائر كأنه جدول، وتُطبق عيناه حيال النور، ويفيض روحه مع دمه، ويُبصر فلنت، المغمور بدم أخيه من غير أن يقدر على إنجاده، أنه محاط بجمع من الأعداء يحاول صرعه، ويُخرق ترسه بألف سهم ويُجرح في نواحٍ كثيرة من جسمه، ويعود عاجزًا عن جمع شمل كتائبه الفارة، ويراه الآلهة، ولا يرحمونه مطلقًا.

وكان جوبيتر، المحاط بجميع الآلهة، ينظر، من فوق جبل الألنب، إلى ذبح الحلفاء، ويرجع إلى الأقدار التي لا رادَّ لها، ويرى جميع الرؤساء الذين لا بُدَّ من قطع نسيجهم في ذلك اليوم بمقص البارك، وكان كل من الآلهة كثير الانتباه إلى وجه جوبيتر كيما يعرف إرادته، ولكن أبا الآلهة والناس هذا قال لهم بصوتٍ لينٍ رصين: «ترون أية شدة يعاني الحلفاء، وترون أدرست الذي يُنكل بجميع أعدائه، بيد أن هذا منظر خادع، فحبل مجد الأشرار ونجاحهم قصير؛ ولذا فلن ينال الملحد المقيت لسوء نيته، أدرست، نصرًا مؤزرًا مطلقًا، ولا يُصاب الحلفاء بهذا البلاء إلا ليعرفوا كيف يُصلحون أنفسهم وكيف يكتمون سر خططهم، وهنا تُعد الحكيمة منرفا مجدًا جديدًا للشاب تلماك الذي يطيب لها.»

هنالك كف جوبيتر عن الكلام، ويداوم الآلهة على ملاحظة المعركة.

ويُخبر نسطور وفلكتت، في تلك الأثناء، بأن قسمًا من المعسكر قد أُحرق، وأن اللهب المدفوع بالريح يتقدم بلا انقطاع، وأن الكتائب فقدت نظامها، وأن فلنت عاد لا يستطيع أن يقف صولة الأعداء، ولم يكد هذا النبأ المشئوم يقرع آذانهما حتى أسرعا إلى السلاح وجمع القادة والأمر بترك المعسكر على عجل اجتنابًا لهذا الحريق.

وينسى تلماك، الكامد الذي لا يُعزَّى، ألمه، ويتناول سلاحه الذي هو هبة ثمينة من منرفا الحكيمة في صورة منتور مدعيةً أنها أخذته من عامل ماهر في سلنتة، مع أنها كانت قد أمرت فلكن بصنعه في مغاور جبل إتنة الداخنة.

وكان هذا السلاح صقيلًا كالزجاج لامعًا كأشعة الشمس، وكان يُرى فيه نبتون وبلاس اللذان كان كل منهما ينازع الآخر شرف إطلاق اسمه على إحدى المدن الناشئة، وكان يُرى فيه نبتون وهو يضرب الأرض بخطافه الثلاثي الشوكات فيخرج منها حصان جامح يتطاير الشرر من عينيه والزبد من فمه، ويتموج شعره مع الريح، وتنثني ساقاه اللينتان العضلتان بشدة ورشاقة، ويثب بقوة ولا يسير مطلقًا، ويبلغ من سرعة القفز ما لا يترك معه أثرًا لخاطه، ويُظن أنه يصهل.

وكانت تُرى فيه منرفا وهي تُنعم على أهل مدينتها الجديدة بالزيتون، بثمرة هذه الشجرة التي غرست، والتي يمثل غصنها الحامل لثمرها ذاك السلام العذب الرخي المفضل على اضطراب الحرب التي يعد ذاك الحصان خيالًا لها، وكانت هذه الإلهة تظهر ظافرةً بهباتها البسيطة النافعة، وكانت مدينة أثينة الرائعة تحمل اسمها.

وكانت منرفا تُرى فيه وهي تجمع حولها جميع الفنون الجميلة التي تتجلى في أولاد أماليد٤ مجنحين يلجأون إليها مذعورين من غضب مارس الذي يُخرب كل شيء، وذلك كالحملان التي تلجأ إلى تحت أُمَّاتِها عندما ترى الذئب الجائع ينقض لافتراسها فاغرًا فاه مضطرمًا، وكانت منرفا، الأَنُوف الغضوب، تُخزي بمآثرها الرائعة أراكنة الرعناء التي أقدمت على منازعتها أمر إتقان الوشي، فيُرى تحول جميع أعضاء هذه الشقية الهزيلة إلى عنكبوت.

وكانت منرفا تظهر في حرب الغيلان من ناحية أخرى، فتعمل مستشارةً لجوبيتر نفسه وتشد أزر الآلهة الآخرين الذاهلين، وأخيرًا تبدو على ضفاف الإكزنت والسمويس مع سهمها ومجنها، آتيةً بأوليس من يده منعشة كتائب اليونان الفارة، مقاومة جهود أشجع قواد تروادة وأفعال هكتور الهائل نفسه، مدخلةً أوليس إلى ذلك الجهاز المقدر الذي يقضي على دول بريام في ليلة واحدة.

وكان هذا الترس يمثل، من ناحية أخرى، سيريس في حقول إنة الخصيبة الواقعة في وسط صقلية، وكانت هذه الإلهة ترى وهي تجمع الأهلين المبعثرين هنا وهناك باحثين عن طعامهم بالصيد أو ملتقطين الثمار البرية الساقطة من الأشجار، وكانت هذه الإلهة تعلم هؤلاء الناس الغلاظ فن تطرية الأرض واستخراج غذائهم من بطنها الخصيب، وكانت تُقدم إليهم محراثًا وتقرن به ثيرانًا، وكانت الأرض ترى مشقوقةً أتلامًا بحد المحراث، وكانت الحصائد الذهبية كاسيةً لتلك الحقول الخصيبة، كما يُرى الحاصد وهو يقطع بمنجله ثمرات الأرض اللذيذة، وهكذا فإن الحديد، المعد لتقويض كل شيء في الأماكن الأخرى، لا يُستعمل في هذا المحل إلا لإعداد اليسر ولإحداث جميع الملاذ.

وكانت الحوريات المتوجات بالزهور يرقصن معًا في مرج واقع على ضفة نهر بالقرب من غابة، وكان بان يعزف على الناي، وكانت حيوانات الإقليم وبنات الغاب تقفز في زاوية من المكان، وكان باخوس يظهر هناك، أيضًا، مُكللًا باللبلاب متكئًا بإحدى يديه على عِذْق،٥ وممسكًا بيده الأخرى داليةً مزينة بغصونٍ وأوراقٍ وعناقيد كثيرةٍ، وكان باخوس هذا وسيمًا غضًّا مع نبلٍ وولعٍ وذبول، وكان باخوس هكذا حينما ظهر للبائسة أريانه على شاطئ مجهول ووجدها وحدها مهملةً غارقةً في لجةٍ من الألم.

وأخيرًا كان يُرى في كل ناحية جمع كثير مؤلف من شِيبٍ يحملون بواكير ثمارهم إلى المعابد، ومن شبانٍ يرجعون إلى أزواجهم تعبين من عمل النهار، ومن نساء يقصدن أزواجهن ممسكاتٍ بأيدي صغارهن ملاطفاتٍ لهم، وكان يُرى، أيضًا، رعاء مغنون راقصون على أنغام مزمارهم، وكل كان يُمثل السلام والرخاء والنعيم، وكلٌّ كان يظهر ضاحكًا سعيدًا، وكان يُرى في المراعي ذئاب ترتع بين الغنم، ويترك الأسد والنمر ضراءهما ويسرحان مع الحُملان الودعاء، ويسوقهما راعٍ صغير مع هذه الخراف بعصاه، فتذكر هذه الصورة بالعصر الذهبي.

ويحمل تلماك تلك الأسلحة الربانية، ويتناول، بدلًا من حمالته المعتادة، ذاك المجن الهائل الذي أرسلته منرفا إليه مع مرسال الآلهة السريعة: إيريس، وتنزع إيريس حمالته منه من غير أن يشعر: وتناوله، بدلًا منها، ذاك المجن المرهوب حتى لدى الآلهة أنفسهم.

ويُهرع خارج المعسكر، وهو في هذه الحال، اجتنابًا للهب، ويدعو إليه جميع رؤساء الجيش بصوتٍ جهيرٍ، ويُنعش هذا الصوت جميع الحلفاء الذاهلين، وتلمع نار ربانية في عيني هذا المجاهد الشاب، ويبدو حليمًا دائمًا، طليقًا هادئًا دائمًا، عاكفًا على إصدار الأوامر دائمًا، وذلك كما لو كان شيخًا حكيمًا دءوبًا في تنظيم أمور أسرته وتأديب أولاده، وذلك مع ظهوره حازمًا سريعًا في التنفيذ، شأن النهر الصائل الذي يجر في جريته أثقل المراكب السائرة عليه فضلًا عن دحرجته أمواجه المزبدة مسرعًا.

ويشعر فلكتت ونسطور وزعماء المندور وغيرهم من الأمم بسلطان فيه يُذعن له الجميع، وتعوزهم حنكة الشيوخ، ويفقد جميع القواد قوة التأمل وصفة الحكمة، وتنطفئ في قلوبهم حتى الغيرة التي فُطر الناس عليها، ويُنصت الجميع، ويُعجب الجميع بتلماك، ويصطف الجميع ليطيعوه كما لو كانوا قد تعودوا ذلك، ويتقدم، ويصعد في تل، ويرقب وضع الأعداء، ثم يقضي، من فوره، بوجوب المبادرة إلى مباغتتهم وهم في فوضاهم التي فرضوها على أنفسهم حين إحراق معسكر الحلفاء، ويقوم بحركة تطويق على عجل ويتبعه أكثر القواد تدريبًا، ويغير على الدونيين من الخلف في وقت كانوا يعتقدون فيه أن جيش الحلفاء محاط بلهب الحريق، ويرتبكون بهذه المفاجأة، ويسقطون تحت يد تلماك كأوراق شجر الغاب في أواخر أيام الخريف، وذلك عندما تأتي ريح الشمال الشديدة بالشتاء فتئن بها سوق الشجر القديم وتهتز جميع الغصون، وتُكسَى الأرض بمن أسقط تلماك من الناس، ويطعن تلماك بسهمه قلب إفكلس الذي هو أصغر أولاد أدرست، وذلك أن إفكلس تصدى لتلماك في المعركة إنقاذًا لأبيه الذي ظن أنه أُخذ على حين غرةٍ من قِبَل تلماك، وكان كل من ابن أوليس وإفكلس وسيمًا قويًّا ماهرًا باسلًا، وكان كل منهما مثل الآخر قوامًا وحلمًا وسنًّا، وكان كل منهما عزيزًا على أبويه، ولكن مع كون إفكلس شبيهًا بزهرةٍ تفتحت في الحقل فحان قطافها بمنجل الحصَّاد، ثم صرع تلماك أفريون الذي هو أشهر الليديين الآتين من إترورية، ثم طعن بسيفه كليومن الذي تزوج حديثًا فوعد زوجه بأن يحمل إليها غنائم العدو الثمينة، والذي لن يرى هذه الزوج.

ويشتاط أدرست غيظًا إذ يرى قتل ابنه العزيز وكثيرٍ من القادة وإفلات النصر من يديه، ويبدو فلنت، الذي أُسقط حتى رجليه تقريبًا، مثل القربان نصف المذبوح الذي تملص من السكين المقدس ففر بعيدًا من المذبح، وعاد أدرست لا يحتاج إلى غير دقيقة واحدة حتى يُجهز على هذا اللكدموني، ويسمع فلنت، الغارق في دمه ودم الجنود الذين يحاربون معه، صيحات تلماك القادم لنصره، ويشعر في هذه اللحظة بأن الحياة عادت إليه، وبتبدد السحابة التي تغشى عينيه، ويُبصر الدونيون هذا الهجوم المفاجئ، ويتركون فلنت ليدحروا العدو البالغ الخطر، ويظهر أدرست كالنمر الذي نزع الرعاة المتجمعون فريسته بعد أن كاد يلتهمها، ويبحث تلماك عنه في المعركة، ويريد أن يختم الحرب بغتةً بتخليص الحلفاء من هذا العدو الذي لا يُشفى له غليل.

بيد أن جوبيتر لم يُرد أن يُنعم على ابن أوليس بنصرٍ سريع رخيص، وكذلك منرفا أرادت أن يقاسي مصائب أطول من تلك تدريبًا له على حسن إدارة أمور الناس أكثر من قبل؛ ولذا فإن أبا الآلهة قد أبقى الملحد أدرست كيما يكون لتلماك من الوقت ما ينال فيه مجدًا وفضيلةً أكثر من قبل، وتُنقذ الدونيين سحابةٌ ركمها جوبيتر في الجو، وتُعرب صاعقةٌ هائلة عن مشيئة الآلهة، فيُخيل إلى الناظر أن القباب الخوالد في جبل الألنب الشامخ تسقط على رءوس الضعفاء الهالكين، وكانت البروق تشق السحاب بين القطبين، وبينا كانت تبهر الأبصار بنورها الثاقب كان الليل يُرخى سدوله، وينهمر المطر مدرارًا فيفصل بين الجيشين.

وينتفع أدرست بعون الآلهة من غير أن يتأثر بقدرتها، ويستحق بهذا الكُنُود أن يُدَّخَر لأقسى انتقام، ويُسرع في تسيير كتائبه بين المعسكر نصف المحترق والمستنقع الممتد حتى النهر، ويُبدي في قيامه بهذا الارتداد من المهارة والرشاقة ما يدل على سعة حيلته وسرعة خاطره، أجل، أراد الحلفاء، الذين شد تلماك عزيمتهم، أن يتعقبوه، ولكنه نجا منهم بفضل هذه الزوبعة، وكان في هذا كالطائر الخفيف الجناح الذي يفلت من حبائل الصائدين.

وعاد الحلفاء لا يفكرون في غير الرجوع إلى معسكرهم وتلافي خسارتهم، ولما دخلوا المعسكر رأوا ما تُسفر عنه الحرب من نتائج تثير الكدر، رأوا من المرضى والجرحى مَن لم يستطيعوا جر أنفسهم خارج الخيام فلم يقدروا أن يقوا أنفسهم من النار، فبدوا نصف محرقين مخرجين نحو السماء صرخات أليمةً بصوت محزن مائل إلى الخفوت، ويمزق هذا فؤاد تلماك، ولا يستطيع تلماك أن يمنع نفسه من البكاء، ويحول عينيه عدة مرات عن نفور ورأفة، ولا يقدر أن يرى، من غير أن يرتعش، هذه الأجسام التي لا تزال حيةً مع مكابدتها موتًا طويلًا قاسيًا، وتشابه هذه الأجسام لحم الضحايا الذي يُحرق فتسطع رائحته في جميع الجهات.

ويقول تلماك صارخًا: «آه! هذه هي المصائب التي تؤدي إليها الحرب! يا للغيظ الأصم الذي يصدر عن هؤلاء التعساء الفانين! يا للأيام القليلة التي يقضونها فوق الأرض! يا لبؤس هذه الأيام! لم تعجيل موت قريب جدًّا! لم إضافة أحزان هائلة كثيرة إلى المرارة التي ملأ الآلهة بها الحياة القصيرة جدًّا؟ إنما الناس إخوة، ومع ذلك فإن بعضهم يفترس بعضًا! إن الضواري أقل قسوةً من الناس، ولا عجب، فالأسود لا تحارب الأسود، والنمار لا تحارب النمار، وهي لا تغير على غير حيوانات من أنواع أخرى، والإنسان وحده يصنع، على الرغم من عقله، ما لا تصنع الحيوانات الخالية من العقل، وأسأل ثانيةً: لم هذه الحروب؟ ألا توجد في العالم أرضون تزيد على ما يستطيع الناس أن يزرعوه؟ ما أكثر الأرضين الخالية! لا يستطيع الجنس البشري أن يعمرها، ماذا إذن؟! الحرب تشتعل في بلدان واسعة عن مجد زائف أو لقب فاتح باطل يريد الأمير أن يناله! وهكذا فإن رجلًا واحدًا، فرضه الآلهة على العالم عن غضب، يضحي بأناس كثيرين جافيًا إرواءً لصلفه! يحب أن يهلك الجميع، وأن يسبح الجميع في الدم، وأن يلتهم اللهب جميع الناس، وألا ينجو من الجوع من ينجو من الحديد والنار، وذلك كيما يعبث رجل واحد بطبيعة الإنسان كلها، فيجد في هذا الدمار الشامل لذته ومجده! يا له من مجد فظيع! وهل يكفي مقت من نسوا الإنسانية بهذا المقدار أو احتقارهم؟ كلا، كلا، ليس هؤلاء من أنصاف الآلهة، ليس هؤلاء من الناس أيضًا، يجب أن يكونوا موضع لعنة القرون التي يطمعون أن يكونوا محل إعجاب فيها، آه! يجب أن يحترز الملوك من الحروب التي يقومون بها! يجب أن يكون الملوك منصفين، ولا يكفي هذا، بل يجب ألا يكون للمصلحة العامة غنًى عنهم، لا ينبغي أن يُسفك دم الأمة إلا لإنقاذ هذه الأمة عند أقصى الضرورة، بيد أن النصائح المدالية، وزائف الآراء حول المجد، والغيرة الباطلة، والطمع الجائر الذي يستر بأروع الذرائع، والالتزامات الفارغة، كلها أمور تجر الملوك دائمًا تقريبًا إلى حروب يغدون بها تعساء، إلى حروب يخاطرون فيها بكل شيء من غير ضرورة، إلى حروب تورث رعاياهم أضرارًا كما تورث أعداءهم.»

وهكذا كان تلماك يبرهن.

ولكنه كان لا يكتفي بالرثاء لمصائب الحرب، بل كان يسعى لتخفيف هذه الويلات أيضًا، فكان يُرى ذاهبًا إلى الخيام ليسعف المرضى والمحتضَرِين بنفسه، معطيًا إياهم مالًا ودواء مسليًا مشجعًا بكلام مملوء ودادًا، وكان يُرسل من يقوم مقامه في زيارة من لا يستطيع زيارته.

وكان يوجد بين الأقريطشيين الذين معه شائبان يُدعى أحدهما ترومافيل ويُدعى الآخر نوزوفوج، وكان ترومافيل مع إيدومنه في حصار تروادة، وكان قد تعلم فن شفاء الجروح الرباني من ولدي إسكولاب، وذلك أنه كان يصب في أعمق الجروح وأشدها سمًّا سائلًا عطريًّا ماصًّا للحم الميت الفاسد من غير احتياج إلى بَضْع، ومكونًا بسرعة لحمًا جديدًا أسلم من اللحم الأول وأحسن.

وأما نوزفوج فلم ير ولدَيْ إسكولاب قط، وإنما كان عنده، بفضل مريون، كتاب مقدس سري أنعم إسكولاب به على ولديه، ثم إن نوزوفوج كان صديقًا للآلهة، وكان قد وضع مدائح تمجيدًا لولدي لاتون، وكان يُقدم في كل يوم شاةً بيضاء لا شِيَةَ فيها كقربان إلى أبولون الذي كان يستلهمه غالبًا، وكان إذا ما أبصر مريضًا عرف سبب مرضه من عينيه ولون وجهه وتكوين بدنه، وكان يُعطي أدويةً معرِّقةً فيدل بنجاح العرق على مقدار ما توجبه زيادة العرق أو نقصه من اضطراب في الجهاز البدني أو انتظام فيه، وكان يُعطي، عند الذبول، بعض الأشربة التي تقوي القلب والكبد والدماغ بالتدريج، وترجع الناس إلى شبابهم بتنقية دمهم، ولكن مع توكيده احتياج الناس إلى الطب في الغالب عن عدم اتصاف بالفضيلة والشجاعة.

ويقول نوزوفوج: «عار على الناس أن يصابوا بأمراضٍ كثيرة كهذه، ما دام حسن الأخلاق يؤدي إلى الصحة، ومن عمل البِطْنة تحويل الأطعمة المعدَّة لحفظ الحياة إلى سموم قاتلة، ومن عمل الإفراط في الملاذ تقصير أجل الناس أكثر من إطالة الأدوية له، ويكون الفقراء، في الغالب، أقل مرضًا من الأغنياء عن عُدْم فيهم دون هؤلاء؛ وذلك لأن الأطعمة التي تدالي الذوق كثيرًا وتحمل على الأكل فوق الحاجة تسمم بدلًا من أن تغذي، ويعد العلاج نفسه شرًّا حقيقيًّا يوهن الكيان فلا يجوز أن يستعمل إلا عند أقصى الضرورة، ويتجلى العلاج الناجح النافع في القناعة والاعتدال حيال جميع الملاذ وفي راحة البال وتمرين البدن، وهذا ما يسفر عن دم نقي معتدل، وهذا ما يبدَّد به جميع الأخلاط الزائدة.»

وهكذا فإن الحكيم نوزوفوج أقل إثارةً للعجب بأدويته مما بالنظام الذي ينصح باتباعه دفعًا للأمراض وجعلًا للأدوية غير مجدية.

وهذان الرجلان هما اللذان أرسلهما تلماك لعيادة جميع مرضى الجيش، وهما قد شفيا الكثيرين بأدويتهما، ولكن أكثر ما تجلى به شفاؤهما هو فيما بذلا من همةٍ في حملهم على استعمال الأدوية عند الضرورة، وذلك مع جدهما في نظافتهم وفي اعتراضهما بهذه النظافة دون فساد الهواء، وفي إلزامهم بنظام من القناعة التامة في أثناء نقههم.

ويتأثر جميع الجنود بهذه المساعدات فيحمدون الآلهة على إرسال تلماك إلى جيش الحلفاء.

ويقول الجنود: «ما هذا بشرًا، إن هذا إلا إله محسن في صورة إنسان، وهو إذا ما كان إنسانًا كان أكثر شبهًا بالآلهة مما بالناس، وهو لم يظهر في الأرض إلا لصنع الخير، وهو أكثر لطفًا بحلمه ورفقه مما ببسالته، يا ليتنا نستطيع أن نجعله ملكًا لنا! ولكن الآلهة يحفظونه لشعب آخر سعيد يحبونه فيريدون أن يجددوا العصر الذهبي به.»

وبينا كان تلماك ذاهبًا لزيارة أقسام المعسكر ليلًا عن حذر من مكايد أدرست سمع هذه المدائح التي لا يشوبها رئاء، والتي ليست من نوع مدح المنافقين للأمراء مواجهةً مع عطل هؤلاء الأمراء من التواضع واللطف، والتي يطرونهم فيها بلا حساب نيلًا للحُظْوة عندهم، وما كان ابن أوليس ليذوق غير ما هو حقيقي، وما كان ليطيق من المدائح غير التي تقال عنه في غيابه سرًّا، والتي يستوجبها حقًّا، أجل، إن فؤاده ليس جافيًا حيال هذه المدائح، أجل، إنه يذوق هذه اللذة العذبة الصافية التي أناطها الآلهة بالفضيلة وحدها والتي لا يمكن أن يشعر بها الأشرار ولا أن يدركوها عن عدم اختبار، ولكنه لا يُقبل على هذه اللذة مطلقًا؛ وذلك لأن خطاياه لا تلبث أن ترجع إلى ذهنه جملةً، ولأنه لا ينسى زهوه الطبيعي وعدم اكتراثه للناس، ولأنه يخجل سرًّا من ولادته جافيًا وظهوره إنسانيًّا، فتراه يرد إلى الحكيمة منرفا جميع المجد الذي نال والذي يعتقد عدم استحقاقه إياه.

وقد كان يقول: «أنتِ، أيتها الإلهة العظيمة، هي التي أنعمت علي بمنتور لتهذيبي ولإصلاح سوء طبعي، أنتِ التي أنعمت عليَّ بحكمة الاستفادة من سيئاتي حتى أحذر نفسي، أنت التي تزجر أهوائي الصائلة، أنتِ التي تشعرني بلذة تفريج الغم عن البائسين، ولولا أنتِ لكنت ممقوتًا جديرًا بأن أُمقت، ولولا أنتِ لاقترفت ذنوبًا يتعذر إصلاحها، ولكنت كالصبي الذي لا يشعر بضعفه فيترك أمه ويقع منذ الخطوة الأولى.»

ويُدهَش نسطور وفلكتت إذ يريان تحول تلماك إلى رجلٍ بالغ الحلم، كثير الإحسان إلى الناس، شديد الميل إلى صنع المعروف لهم وإلى إنجادهم، عظيم الجد في قضاء حاجاتهم، أي أنهما صارا لا يدريان ما يبصران وأنهما عادا لا يبصران فيه نفس الرجل الذي يعرفان، وكان أشد ما دهشا له هو ما بذل من همةٍ في مأتم هبياس، فقد ذهب لإخراج جثته الدامية المشوهة من المكان الذي حجبت فيه تحت كومة من الجثث، ويسكب عليها عبرات سخينة، ويقول: «الآن تعرف، أيها الطيف العظيم، مقدار تقديري لبسالتك! أجل، كنت قد أثرتني بزهوك، بيد أن نقائصك صدرت عن شباب مضطرم، وأعلم مقدار ما يحتاج إليه هذا العمر من صفح، وقد غدونا متفقين اتفاقًا خالصًا فيما بعد، وقد أخطأت من ناحيتي، فلم اختطفتموه مني، أيها الآلهة، قبل أن أستطيع حمله على حبي؟»

ثم غسل تلماك جثته بسوائل عطرية، ثم أمر بإعداد كومة حطب، وكانت أشجار الصنوبر تئن تحت ضربات الفئوس فتسقط متدحرجةً من أعلى الجبال، وتسقط على ضفة نهر غاليز أشجار البلوط التي هي أولاد أقدمون للأرض يتوعدون السماء كما يلوح، وتسقط على هذه الضفة، أيضًا، أشجار الحَوَر العالية، وأشجار الدردار التي تزين رءوسها أوراق خضر كثيفة إلى الغاية، وأشجار الزان التي هي فخر الغاب، وهناك ترتفع كومة مشابهة للبيت المنتظم، ويأخذ اللهب في الظهور، وتتصاعد عاصفة من الدخان حتى السماء.

ويتقدم اللكدمونيون بخطًا وئيدة محزنة منكَّسِي الحراب مطرقين ذارفي العيون مكتئبين، ثم يرى حضور الشيخ فرسيد الذي حنت السنون ظهره أقل مما هدَّه ألم بقائه حيًّا بعد هبياس الذي رباه منذ صباه، ويرفع فرسيد، نحو السماء، يديه وعينيه المغرورقتين، وقد امتنع فرسيد عن الطعام منذ قتل هبياس، وقد فارق النوم اللذيذ جفنيه منذ هذا الحادث، وقد حرم الرقاد الذي يسكن كربه العظيم ساعةً في اليوم، ويسير بخُطًا مرتجفة وراء الجمهور، ولا يدري أين يذهب، ولا ينطق بكلمةٍ لانقباض صدره كثيرًا، وهذا هو صمت اليأس وانحطاط القوى، ولكنه حينما أبصر اشتعال كومة الحطب ظهر صائلًا وقال صارخًا: «أي هبياس! لن أراك يا هبياس! عاد هبياس لا يكون، وأجدني حيًّا مع ذلك! أي هبياس العزيز، أنا الجائر، أنا الجافي، إذ علمتك ازدراء الموت! كنت أعتقد أنك تغمض عيني بيديك وأنك تقتطف نفسي الأخير، أيها الآلهة الطغاة، لقد أطلتم حياتي لأرى موت هبياس! أيها الفتى العزيز الذي ربيت والذي كلفتني رعايته غاليًا، لن أراك بعد الآن، ولكن سأرى أمك التي ستموت غمًّا حين تلومني على موتك، سأرى زوجك الفتاة وهي تلطم صدرها وتنتف شعرها، ثم أُعَدُّ سبب هذا! أيها الطيف العزيز، نادني إلى ضفاف ستكس، صرت أمقت النور، وأنت وحدك، يا هبياس العزيز، من أريد أن أرى، هبياس! هبياس! أيها العزيز هبياس! لم أبقَ حيًّا إلا لأقوم بالواجب الأخير نحو رمادك!»

وتُرى جثة الشاب هبياس مطروحةً محمولةً في تابوت مزين بالأرجوان والذهب والفضة، وما كان الموت، الذي أطفأ عينيه ليزيل جماله، وكانت الألطاف تظهر مرسومةً على وجهه المصفر، وكان يُرى حول عنقه، الأشد بياضًا من الثلج والمائل إلى كتفه، تموُّج شعره الطويل الأسود الذي هو أجمل من شعر أتيس وغنميد، والذي سيتحول إلى رماد عما قليل، ويلاحظ على جنبه ذاك الجرح العميق الذي سال منه دمه فأوجب نزوله إلى مملكة بلوتون المظلمة.

ويتبع تلماك الحزين الموعوك تلك الجثة عن كثب، وينثر عليها زهورًا، فلما بلغ الموقد لم يستطع ابن أوليس أن يرى اللهب، وهو ينفذ النسائج المشتملة بها تلك الجثة، من غير أن يبكي مجددًا، وقد قال: «وداعًا يا هبياس الهُمام! وأدعوك بالهمام لأنني لا أجرؤ أن أدعوك صديقي! وداعًا أيها الطيف الذي استحق كثيرًا من المجد! لو لم أحبك لحسدتك على سعادتك، لقد نجوت من البؤس الذي لا يزال ملازمًا لنا، وقد خرجت منه بأمجد طريق، آه! ليتني أكون سعيدًا بأن أنتهي إلى مثل ما انتهيت إليه! آه! ليت نهر ستكس لا يعوق طيفك مطلقًا! آه! ليت الشنزليزه يفتح لك أبوابه! وليبقَ اسمك خالدًا في ذاكرة الأجيال وليرقد رمادك في سلام!»

ولم يكد تلماك يختم هذا الكلام الممزوج بالزفرات حتى أُعْوَل جميع الجيش، وترق القلوب لهبياس الذي أخذ الناس يذكرون مآثره وموته الأليم وجميع محاسنه، ناسين نقائصه التي أدى إليها شبابه الصائل وتهذيبه السيئ، وكان الجمع أكثر تأثرًا بمشاعر تلماك الرقيقة، قال الناس: «أذلك، إذن، حال هذا الشاب اليوناني البالغ الزهو والخيلاء والامتهان والجموح؟ ها هو ذا قد صار حليمًا رءوفًا حنونًا، لا ريب في أن منرفا التي أحبت أباه تحبه أيضًا، لا ريب في أن منرفا حَبَتْه بأثمن ما يمكن الآلهة أن ينعموا به على إنسان، أنعمت عليه بالحكمة وبقلب ودود.»

وتُحْرِق النار جميع البدن، وينضح تلماك بالسوائل المعطرة ذاك الرماد الذي لا يزال داخنًا، ثم يضعه في قارورة من ذهب مكللًا إياها بالزهور، ويحمل هذه القارورة إلى فلنت، وكان فلنت مستلقيًا مطعونًا بجروح كثيرة، وكان يُبصر من خلال ضعفه المتناهي أبواب جهنم القاتمة قريبةً منه.

وكان ترومافيل ونوزوفوج، المرسلان من قِبَل ابن أوليس، قد أمداه بكل إسعاف يقول به فنُّهما، ويردان إليه بالتدريج روحه الذي يوشك أن يفيض، وتُنعشه أرواح أخر من حيث لا يدري، وتسري قوة لطيفة نفاذة، يسري مرهم الحياة، من عرق إلى عرق حتى صميم فؤاده، وتحجبه حرارة مستحبة عن يدي الموت الجامدتين، والآن، إذ ذهب الوهن جاء دور الألم، وأخذ يشعر بفقد أخيه الذي لم يكن في حال يحسه فيها حتى هذا الحين، ويقول: «آه! لم يُعنَى بي كثيرًا حتى أعيش؟ ألم يكن من الأفضل أن أموت وألحق بهبياس العزيز؟ لقد رأيته يهلك بجانبي، أي هبياس، أي حلاوة حياتي، أي أخي، أي أخي العزيز، عدت غير موجود؛ ولذا لن أراك، ولن أسمعك، ولن أقبلك، ولن أطلعك على همومي، ولن أسليك في همومك! أيها الآلهة العدو للناس! عاد هبياس غير موجود في نظري! أهذا ممكن؟ ولكن أليس هذا حُلمًا؟ كلا، بل هذا حقيقة واضحة، أي هبياس، لقد خسرتك، لقد أبصرت مصرعك، لا بُدَّ لي من حياة تكفي للانتقام لك، أريد أن أذبح الباغي الملطخ بدمك، أدرست، في سبيل روحك.»

وبينا كان فلنت يتكلم هكذا كان ذانك الحكيمان يحاولان تسكين ألمه خشية زيادة تعبه ووقف فعل الأدوية، وبينا كان على هذا الوضع حضر تلماك عنده، وكان أول ما ساوره عاملان متباينان، وذلك أنه كان يحفظ في نفسه غيظًا حول ما حدث بين تلماك وهبياس، فجعل ضياع هبياس هذا الغيظ أشد عنفًا، وأنه كان يعلم أنه مدين بحفظ حياته لتلماك الذي أنقذه من يد أدرست داميًا ونصف ميت، ولكنه عندما أبصر قارورة الذهب التي تشتمل على رماد أخيه هبياس العزيز عليه إلى الغاية سكب سيلًا من الدموع وعانق تلماك أول وهلة من غير أن يستطيع الحديث إليه، ثم قال بصوت ضعيف تقطعه الزفرات: «أي ابن أوليس وسر أبيه! إن فضيلتك تحملني على حبك، وأجدني مدينًا لك ببقية حياتي التي تنطفئ، ولكنني مدين لك بشيء أعز علي من هذا، وذلك أن جثة أخي كانت تذهب فريسة العِقبان لولا همتك، وأن طيفه، الذي يكون عاطلًا من اللحد، يطوف في ضفاف ستكس، ولا ينفك يدفع من قبل القاسي شارون مع الأسف، أوَ يجب أن أكون مدينًا كثيرًا لرجل مقتُّه كثيرًا؟ أيها الآلهة، أحسنوا جزاءه، وخلصوني من حياة بالغة الشقاء! وأنت، يا تلماك، أحسن إلي بآخر الخِدَم كما أحسنت إلى أخي، فلا يفوت مجدك شيء.»

نطق فلنت بهذا الكلام وظل منهوكًا موعوكًا بأشد الآلام، ويجلس تلماك بجانبه من غير أن يجرؤ على الحديث إليه منتظرًا استرداد قواه، ولم يعتم فلنت أن زال وهنه فتناول القارورة من يدي تلماك وقبلها غير مرة وبللها بدموعه وقال: «أيها الرماد العزيز! أيها الرماد الغالي! متى يكون رمادي معك في هذه القارورة؟ أي طيف هبياس، أنا تابع لك في الجحيم، وسينتقم لنا تلماك.»

ومع ذلك فإن مرض فلنت ينقص يومًا بعد يوم، وذلك بعناية الرجلين اللذين كان عندهما علم إسكولاب، ولم ينفك تلماك يكون معهما بجانب المريض حملًا لهما على تعجيل شفائه بمضاعفة العناية به، وكان جميع الجيش يعجب بالقلب الصالح الذي يسعف به تلماك عدوه الأزرق أكثر من إعجابه ببسالته وحكمته اللتين أظهرهما في المعركة منقذًا جيش الحلفاء.

وكان تلماك، في الوقت نفسه، يظهر غير كالٍّ من أقسى أعمال الحرب، فينام قليلًا، ويقطع نومه في الغالب بما يتلقى من الآراء آناء الليل وأطراف النهار، أو بزيارة جميع أقسام المعسكر من غير أن يقوم بهذه الزيارة مرتين متتابعتين في الساعة نفسها، وذلك كيما يفاجئ من ليسوا يقظين بما فيه الكفاية، وكان تلماك يعود إلى خيمته، في الغالب، راشحًا عرقًا ومستورًا غبارًا، وكان طعامه بسيطًا، وكان يعيش كالجنود ليجعل من نفسه مثال القناعة والصبر، ويقل القوت في المعسكر فيرى أن يقطع تذمر الجنود بمعاناته، مختارًا، ما يعانون من ضنك، وكان بدنه يشتد ويجسأ كل يوم بدلًا من أن يهن في حياة شاقة جدًّا، وعاد غير حائز لتلك الألطاف الناعمة التي هي كزهرة الدور الأول من الشباب، ويظهر لونه أكثر اسمرارًا وأقل دقةً، وتظهر أعضاؤه أقل نعومةً وأكثر عصبيةً.

١  امتطل: طال والتف.
٢  نزا: وثب.
٣  الأهراء: جمع الهرى، وهو بيت كبير يُجمع فيه القمح وغيره.
٤  الأماليد: جمع الأملود، وهو الناعم اللين من الناس أو الغصون.
٥  العذق: عنقود العنب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤