الجزء الرابع عشر

رأى تلماك، بعد منامات مختلفة، أن أباه عاد لا يكون في الدنيا، فنفذ خطته التي تصورها منذ زمن طويل للبحث عنه في الجحيم، توارى تلماك من المعسكر ليلًا، وذهب إلى غار أكرنسيا المشهور، إيغاله فيه بشجاعة وبلوغه ضفة ستكس حيث استقبله شارون في قاربه، مثوله أمام بلوتون الذي أذن له في البحث عن أبيه في الجحيم، كان الترتر، الذي رأى فيه عذاب الجاحدين وشاهدي الزور والملحدين والمنافقين ولا سيما أردياء الملوك، أول ما جاوز، ثم دخل الشنزليزه حيث نظر، مع اللذة، إلى السعادة التي يتمتع بها العادلون، ولا سيما الملوك الصالحون الذين أحسنوا سياسة الناس، اجتماعه بجده الأعلى، أرسزيوس، الذي وكد له حياة أوليس، وأنه سيعود، بعد قليل، إلى سلطانه في إيتاك حيث يملك هو وابنه من بعده، إنعام أرسزيوس على تلماك بأحكم النصائح حول فن الحكم، بيانه له مقدار حسن جزاء الملوك الصالحين الذين امتازوا في إقامة العدل والعمل بمبادئ الفضيلة، وزيادة هذا الثواب على ثواب من امتازوا ببسالتهم، خروج تلماك من مملكة بلوتون المظلمة، ورجوعه إلى معسكر الحلفاء على عجل.

ارتد أدرست، الذي وهنت كتائبه في المعركة كثيرًا، إلى خلف جبل أولون منتظرًا مددًا وجادًّا في مفاجأة أعدائه مرةً أخرى، فكان كالليث الجائع الذي دُحر من زريبةٍ فعاد منها إلى الغاب المظلمة ودخل عرينه حيث يشحذ أنيابه ومخالبه مرتقبًا الساعة الملائمة التي يفترس فيها جميع القطاع.

وعاد تلماك، بعد أن عني بإدخال نظام محكم إلى المعسكر، لا يفكر في غير تنفيذ خطة كانت قد عنت له فكتمها عن جميع رؤساء الجيش، وذلك أنه ما فتئ يتململ في ليالٍ كثيرةٍ حول منامات رآها عن أبيه أوليس، وأن صورة أبيه العزيزة كانت تعود إليه في آخر الليل، أي قبل مجيء الفجر ليطرد النجوم المتقلبة في السماء بنيرانه الناشئة، والنوم اللذيذ الذي يعقبه في الأرض جائل الأحلام، وأنه كان يعتقد، تارةً رؤيته أوليس عاريًا على ضفة نهر جار في جزيرة سعيدة وواقع في مرج مرصع بزهور، محاطًا بحوريات يلقين إليه ثيابًا ليستر بها نفسه، وأنه كان يعتقد، تارةً أخرى، سماعه أوليس وهو يتكلم في قصر ساطع بالذهب والعاج حيث ينصت له مع اللذة والإعجاب رجال متوجون بزهور، وأن أوليس كان يظهر له، بغتةً، في الولائم غالبًا، في هذه الولائم حيث يسطع الفرح بين أطايب النعم وحيث يسمع ما بين الصوت الجميل والكنارة من توافق أحلى مما بين كنارة أبولون وصوت جميع عرائس الأدب.

وكان تلماك، إذا ما أفاق، اغتم من هذه الأحلام البالغة الحلاوة، وصرخ قائلًا: «أبتاه! أبتِ العزيز أوليس! تكون أفظع المنامات أحلاها عندي! أُدركُ بصور النعيم هذه أنك هبطت إلى مقر الأرواح المباركة التي يكافئها الآلهة براحة أبدية في الشنزليزه، وَيْ! ما أقسى انقطاع الأمل! ماذا إذن؟! لن أراك يا أبتِ العزيز! لن أعانق ذاك الذي كان يحبني كثيرًا ولا أزال أبحث عنه بعناء بالغ! لن أسمع نطق ذلك الفم الذي كانت الحكمة تخرج منه! لن أقبل تينك اليدين، تينك اليدين العزيزتين، تينك اليدين الظافرتين اللتين قهرتا كثيرًا من الأعداء! لن تعاقب تانك اليدان عشاق بنلوب الحمق! لن تنهض إيتاك بعد خرابها! أراكم، أيها الآلهة، أيها الأعداء لأبي، ترسلون إلي هذه الأحلام المشئومة كيما تنزعون مني كل أمل في فؤادي! ألا إن هذا نزع لحياتي! كلا، عدت لا أستطيع الحياة مع هذا الارتياب! ما أقول! آه! إنني موقن بأن أبي عاد لا يكون موجودًا، سأبحث عن طيفه في الجحيم أيضًا، لقد هبط تيزه إلى الجحيم، تيزه الملحد الذي أراد إهانة آلهة الجحيم، مع أنني ذاهب إليها عن تقوى، لقد هبط إليها هركول، ولست هركول، وإنما يعد من الجميل تقليده، وقد استطاع أورفه أن يؤثر، بقصة مصائبه، في فؤاد ذلك الإله الذي وصف بالقسوة ففاز منه برجوع أوريديس إلى الأحياء، وأراني أجدر من أورفه بالرأفة؛ وذلك لأن خساري أعظم من ذاك، ومن ذا الذي يستطيع أن يقيس فتاةً، مشابهةً لمائة فتاة أخرى، بالحكيم أوليس الذي يعجب به جميع الأغارقة؟ لنذهب، لنمت إذا ما وجب ذلك، ولم الخوف من الردى ما دام الألم كثيرًا بهذا المقدار في هذه الحياة؟ أي بلوتون! أي بروزربين! لا ألبث أن أبتلى إذا ما كنتما جافيين كما يسمع عنكما! أبتاه! سأذهب لأرى هل أنت في ظلمات مقر الأموات أو لا، وذلك بعد أن جُبت الأرضين والبحار على غير جدوى، وإذا كان الآلهة يحرمونني حيازتك فوق الأرض وتحت ضوء الشمس فمن المحتمل ألا يحرموني رؤية طيفك في مملكة الليل على الأقل.»

نطق تلماك بهذا الكلام مبللًا فراشه بدموعه، وينهض من فوره، ويستعين بالنور على تخفيف ما أوجبته فيه هذه الأحلام من ألم مُمِضٍّ، بيد أن سهمًا أصاب فؤاده، وهو يحمله في كل مكان، وبينا كان يعاني هذا الألم عزم على النزول إلى الجحيم من محل مشهور غير بعيد من المعسكر، ويسمى هذا المكان أكرنسيا بسبب وجود غار مرعب فيه يهبط منه إلى ضفاف الأكرون الذي يخاف حتى الآلهة أن يقسموا به، وكانت المدينة قائمةً على صخرة كأنها وكر١ على شجرة، وكان يوجد عند أسفل هذه الصخرة ذاك الغار الذي كان الخُوَّف من الناس لا يجرءون على الاقتراب منه، والذي كان الرعاة يصدون قطاعهم عنه، وكان بخار مستنقع إستكس الكبريتي، الذي يسطع من تلك الفوهة بلا انقطاع، يفسد الهواء، وكان لا ينبت عشب ولا زهر في ذاك الجوار، وما كان ليُشعَر هنالك بنسيم لطيف، ولا بألطاف الربيع، ولا بهبات الخريف الزاخرة، أي أن الأرض الجديبة تَهِنُ هنالك، وكل ما يرى هنالك هو بضع شجيرات مجردة وبعض سروات نحسة، وكانت سيرس حول ذلك، حتى فيما بعد من ذلك، تضن على الزراع بحصائدها الذهبية، وكان يلوح من العبث إنعام باخوس بثماره الحلوة هنالك ما دامت عناقيد العنب تجف في ذاك المكان بدلًا من أن تنضج، وكان النائيد المكروبات لا يجرين موجًا صافيًا، فما انفكت أمواجهن تكون مرةً مكدرة، وكانت الطيور لا تغرد في هذه الأرض المزبئرَّة بالشوك والعوسج، وكان لا يوجد فيها غابة تأوي إليها، مفضلةً أن تترنم بحبها تحت سماء أكثر لطافةً، وكان لا يسمع غير نقيق الضفادع ونعيق الغراب، وكان الكلأ الذي تخرجه مرًّا فلا تشعر المواشي التي ترعاه بما يحفزها إلى القفز من نشوة السرور، وكان الثور يجتنب العجل، وكان الراعي الموعوك ينسى مزماره ونايه.

وكان يخرج من هذا الغار في الحين بعد الحين دخان كثيف أسود يحدث ما يشبه الليل في وسط النهار، وكانت الشعوب المجاورة تضاعف ضحاياها في ذلك الحين حتى يهدأ آلهة الجحيم، ولكن أخص ما كان يحدث، في الغالب، هو أن يتلهى هؤلاء الآلهة القساة بأن يقتلوا بالعدوى المشئومة مَن يكون في زهرة العمر وميعة الشباب فقط.

وهناك أزمع تلماك أن يبحث عن طريق مقر بلوتون المظلم، وكانت منرفا، التي لم تنفك ترقبه والتي كانت تستره بمجنها، قد جعلت بلوتون ملائمًا له، حتى إن جوبيتر قد قبل رجاء منرفا فأمر مركور، الذي ينزل كل يوم إلى الجحيم ليسلم إلى شارون عددًا من الأموات، بأن يبلغ ملك الأطياف وجوب سماحه لابن أوليس بأن يدخل مملكته.

ويتوارى تلماك من المعسكر ليلًا، ويسير على نور القمر، ويتوسل إلى الإلهة التي تكون كوكب الليل في السماء الساطعة وتكون ديانا الطاهرة في الأرض وهكات المرهوبة في الجحيم، وتستمع هذه الإلهة إلى دعائه سماع المستجيب، وذلك لصفاء قلبه ولسيره عن حب تقي يقوم به الابن نحو أبيه، ولم يكد يكون قريبًا من باب الغار حتى سمع هدير مملكة ما تحت الأرض، وترتجف الأرض تحت خطاه، وتتسلح السماء بالبروق والنيران التي كان يلوح سقوطها على الأرض، ويحس ابن أوليس الشاب أن قلبه يهتز وأن جميع بدنه مستور بعرق جامد، بيد أنه تماسك عن بسالة، ورفع عينيه ويديه إلى السماء وصرخ قائلًا: «أيها الآلهة العظام! أرضَى بهذه الفُئُول المباركة كما أعتقد، فأتموا عملكم!»

نطق بهذا وضاعف خطاه، ودخل بجرأة.

ولم يلبث الدخان الكثيف، الذي يجعل مدخل الغار مشئومًا حيال كل حيوان يدنو منه، أن تبدد، وتنقطع الرائحة السامة لوقت قصير، ويدخل تلماك وحده، وأي إنسان آخر يجرؤ على اتباعه؟ لقد رافقه، لمسافة ما من الغار، أقريطشيان كان قد أسرَّ إليهما بمقصده فظلَّا راجفين نصف ميتين على بعد من هناك، أي في معبد يقومان فيه بنذور مع اليأس من رجوع تلماك.

ويوغل ابن أوليس في أفظع الظلمات شاهرًا سيفه، ولسرعان ما أبصر بصيصًا من النور كالذي يُرى في الليل على الأرض، ويلاحظ أطيافًا طفيفة تحوم حوله فيطردها بسيفه، ثم يُبصر ضفاف النهر الكئيبة، ضفاف هذا النهر المنقعة، ضفاف هذا النهر الذي لا تصنع مياهه الحمئة٢ الراقدة غير الدوران، ومما اطلع عليه في هذه الضفاف وجود طائفة من الموتى لا تحصر حرمت اللحد فتمثل بين يدي شارون الجبار على غير جدوى، ويتوعدهم شارون، ويدفعهم هذا الإله الكئيب المشيب والدائم الغم، ويكون الشاب اليوناني أول من يقبل في قاربه، ولما دخل تلماك سمع أنين طيف لم يستطع أن يجد سلوانًا، وسأل: «ما بلاؤك إذن؟ ومَن كنت في الدنيا؟»

الطيف: «أنا نبوفرسان، وقد كنت ملكًا لبابل الرائعة، وقد كان جميع شعوب الشرق يرتجف عند ذكر اسمي، وقد حملت البابليين على عبادتي في معبد من رخام حيث مُثِّلت بتمثال من ذهب، وقد كان يحرق في المعبد ليل نهار أندَرُ عطورٍ إثيوبية، وما كان ليجرؤ أحد على معارضتي من غير أن يعاقَب حالًا، وكانت تبتكر في كل يوم ملاذُّ جديدة تجعل الحياة لي أكثر نعيمًا، وكنت لا أزال شابًّا عُصْلُبيًّا، آه! أي عامل ترفٍ لم أتمتع به فوق عرشي؟ بيد أنني أحببت امرأةً لم تحبني فشعرت بأنني لست إلهًا، وتسمني، وأعود غير موجود، وأمسِ يوضع رمادي في قارورةٍ من ذهب، وأبكى، ويُنتف الشعر من أجلي، ويتظاهر أناس بأنهم يريدون إلقاء أنفسهم في موقدي كيما يموتون معي، ويئنون عند أسفل ضريحي الرائع الذي وضع فيه رمادي، ولكن لم يأسف علي أحد، وتثير ذكراي نفورًا في أسرتي أيضًا، وهنا أعاني أفظع معاملة.»

ويؤثر هذا المنظر في تلماك فيقول: «هل كنت سعيدًا، بالحقيقة، في أيام سلطانك؟ وهل كنت تشعر بذلك السلام الحلو الذي يظل القلب بغيره منقبضًا كابيًا بين الملاذ؟»

ويجيب البابلي بقوله: «كلا، لا أعرف حتى ما تقول، فالحكماء يُطرُون ذلك السلام على أنه الخير الوحيد، وأما أنا فلم أشعر به قط، وكان فؤادي يهتز برغائب جديدة دائمًا عن خوف ورجاء، وكنت أحاول شغل بالي بهز أهوائي، وكنت أتعهد هذه النشوة جعلًا لها دائمةً، وكانت أقل فترة عقل هادئ تبدو لي مرةً، وهذا هو السلام الذي تمتعت به، وكان كل شيء غيره يظهر لي خيالًا وحلمًا، وهذه هي الخيرات التي آسف عليها.»

وبينا كان البابلي ينطق هكذا بكى بكاء رجل جبان خنَّثه الترف ولم يتعود احتمال المصيبة ثابت الجنان، وقد كان يوجد عنده عبيد قُتِّلوا تكريمًا لمأتمه، وقد سلمهم مركور إلى شارون مع ملكهم ومنحهم سلطانًا مطلقًا على هذا الملك الذي كانوا يخدمونه في الدنيا، وعادت أطياف هؤلاء العبيد لا تخاف طيف نبوفرسان، وصاروا يقيدونه ويورثونه أقسى ما يكون من عار، ويقول أحدهم له: «ألم نكن رجالًا كما كنت؟ وكيف بلغت من الحماقة ما اعتقدت معه أنك إله؟ ألا يجب تذكيرك بأنك من جنس الرجال الآخرين؟»

وقال آخر له قاصدًا إهانته: «حُقَّ لك أن تريد عدم عدك إنسانًا؛ وذلك لأنك كنت غولًا بلا إنسانية.»

وقال آخر له: «حسنًا، أين مراءُوك الآن؟ عاد لا يكون عندك شيء تعطيه أيها الشقي، وعدت عاجزًا عن صنع أي شر كان، وقد غدوت عبدًا لعبيدك أنفسهم، وقد أمهلك الآلهة فلم يعاقبوك لساعتك، وإنما جازوك في آخر الأمر غير مهملين.»

فلما سمع نبوفرسان هذا القول القاسي كب وجهه على الأرض ونتف شعره في سورة غضب بالغ ويأس شديد، ولكن شارون قال للعبيد: «جروه من قيده وارفعوه على الرغم منه، فلن يعطَى حتى حق سلوان ستر عاره، ويجب أن يكون جميع أطياف ستكس شهودًا على ذلك تزكيةً للآلهة الذين طال صبرهم على حكم هذا الملحد في الأرض، وليس هذا، أيها البابلي، غير فاتحة آلامك، فأعد نفسك للحكم في أمرك من قبل قاضي الجحيم القاسي: مينوس.»

وكان الزورق، في أثناء هذا الكلام الذي نطق به شارون الجبار، يلمس شاطئ مملكة بلوتون، وتُهرَع جميع الأطياف لتأمُّل هذا الرجل الحي الذي يظهر بين هؤلاء الأموات في القارب، ولكنها فرت حين وضع تلماك رجله على الأرض، فشابهت أشباح الليل التي تتبدد عندما يلوح أقل نورٍ من النهار، ويبدي شارون للشاب اليوناني جبينًا أقل تجهمًا، وعينين أقل شراسةً، من المعتاد، ويقول له: «بما أنه أذن لك، أيها الإنسان العزيز على الآلهة، في دخول مملكة الليل الممتنعة على الأحياء الآخرين فأسرع إلى حيث تدعوك الأقدار، وسر من هذا الطريق القاتم إلى قصر بلوتون الذي تراه فيه جالسًا على عرشه، وهو سيسمح لك بأن تدخل أماكن حظر عليَّ كشف سرها.»

ولم يلبث تلماك أن تقدم بخطًى كبيرة، ويرى تلماك في كل ناحية رفرفة أطياف تزيد على عدد الرمل الذي يستر شواطئ البحر، وهو، إذ يكون بين اهتزاز هذا الجمع الذي لا حد له، يعتريه ارتعاش رباني من ملاحظته سكون هذه الأماكن الواسعة، ويَقُفُّ شعره فوق رأسه عندما يقترب من مقر الجبار بلوتون، ويشعر بترنح ركبتيه، ويعوزه الصوت، ولا يستطيع أن يخاطب هذا الإله بالكلمة الآتية إلا بمشقة، قال تلماك: «أيها الرب المرهوب، ترى ابن أوليس التعس، فقد جئت لأسألك: أنزل أبي إلى مملكتك أم لا يزال تائهًا فوق الأرض؟»

وكان بلوتون جالسًا على عرش من الآبنوس، وكان أصفر الوجه عابسًا، وكانت عيناه غائرتين يتطاير الشرر منهما، وكان منظر الإنسان الحي كريهًا عنده كما يؤذي النور عيون الحيوانات التي تعودت عدم الخروج من عزلتها في غير الليل، وكانت تظهر بجانبه بروزربين مجتذبةً نظراته وحدها فتلطف فؤاده بعض الشيء كما يلوح، وكانت تتمتع بجمال جديد دائمًا، ولكن مع جمعها بين هذه الألطاف الربانية وما لا يوصف من قسوة زوجها وجبروته.

وكان عند أسفل العرش تظهر إلهة الموت مصفرةً مفترسةً باترةً، فتشحذ بلا انقطاع، وكانت الهموم السود رفرف حولها كما يرفرف حولها الحذر الجائر، والثأرات القاطرة دمًا والمستورة جروحًا، والأحقاد الطاغية والأطماع التي يقرض بعضها بعضًا، واليأس الذي يمزق بعضه بعضًا، والطموح الجامح الذي يقوض كل شيء، والخيانة التي تريد أن تقتات بالدم والتي لا تستطيع أن تتمتع بما تصنع من مصائب، والحسد الذي يصب سمومه القاتلة حوله، والذين يتحول إلى غيظ عند العجز عن الأذى، والإلحاد الذي يحفر لنفسه هوةً بلا قعر فيتدهور بلا أمل، والأشباح القباح، والأطياف التي تمثل الأموات لترعب الأحياء، والأحلام الكريهة، والأرق القاسي كالمنامات المحزنة، وتحيط جميع هذه الصور المشئومة ببلوتون المتكبر وتملأ القصر الذي يسكن، ويجيب تلماك بصوت خافت يئن منه قعر إرب، قال بلوتون: «اعلم، أيها الشاب الفاني، أن الأقدار قضت بأن تنتهك حرمة مقر الأطياف المقدس هذا، فاتبع طالعك الأعلى، ولن أقول لك: أين أبوك؟ وإنما يكفيك أن تكون طليقًا في البحث عنه، وبما أنه كان ملكًا في الأرض فإنه يجب عليك أن تجوب، من ناحية، مكان الترتر الأسود حيث يعاقب أشرار الملوك، وأن تجوب، من ناحية أخرى، مكان الشنزليزه حيث يحسن جزاء أبرار الملوك، ولكنك لا تستطيع أن تذهب من هنا إلى الشنزليزه إلا بعد أن تمر من الترتر، فأسرع إلى الذهاب هنالك والخروج من مملكتي.»

ويلوح تلماك من فوره أنه يطير في هذه المساوف الخالية الواسعة ما رغب أن يعرف هل يرى أباه، وأن يبتعد عن هذا الجبار الهائل الذي يخيف الأحياء والأموات، ولم يعتم أن أبصر الترتر الأسود قريبًا منه، وكان يخرج من الترتر دخان كثيف أسود تؤدي رائحته الوبيئة إلى الموت عند انتشارها في مقر الأحياء، ويستر هذا الدخان نهرًا من نار وأعاصير من لهب يشابه صوتها هدير أكثر السيول صولةً حين سقوطها من أعلى الصخور إلى قعر الهُوَى، فتوجب عدم تمييز ما يسمع في هذه الأماكن الكئيبة.

ويدخل تلماك، الذي أنعشته منرفا سرًّا، في هذه الهوة غير خائف، وكان أول ما شاهد عددًا كبيرًا من الناس الذين كانوا يقضون أرذل حال، فيعاقبون على طلبهم الثراء بالخداع والخيانة وضروب القسوة.

ومما رأى تلماك وجود كثيرين من الملحدين المرائين الذين كانوا يتظاهرون بحب الدين فيتخذونه أداةً لإشباع مطامعهم والعبث ببسطاء العقول، أي أن أولئك الناس، الذين أساءوا استعمال الفضيلة مع أنها أعظم مِنَن الآلهة، كانوا يعاقبون كما يعاقب أشد الناس إجرامًا، وكان الأولاد الذين قتلوا آباءهم وأمهاتهم، والنساء اللائي سفكن دماء أزواجهن، والخائنون الذين سلموا أوطانهم ناكثين أيمانهم، يعانون عذابًا أخف من عذاب هؤلاء المنافقين، وهذا ما أراد قضاة الجحيم الثلاثة، وحجتهم في هذا أن المنافقين لا يكتفون بكونهم أشرارًا كبقية الملحدين، بل يريدون أن يظهروا صالحين فيؤدون بفضيلتهم الزائفة إلى عدم ثقة الناس بالفضيلة الصحيحة، وهكذا فإن الآلهة، الذين استخفوا بهم فجعلوهم موضع ازدراء الناس، اتخذوا كل ما لديهم من قوة للانتقام لأنفسهم ممن أهانوهم.

وكان يظهر بجانب هؤلاء أناس آخرون لا يجدهم العوام مذنبين مطلقًا، فيبدون محلًّا للانتقام الرباني بلا رحمة، وهؤلاء هم الكُنْدُ، والكاذبون، والمراءون الذين مدحوا العيوب، والنقاد الماكرون الذين حاولوا تنقص أصفى الفضائل، وجميع من حكموا في الأمور رجمًا بالغيب، ومن غير اطلاع على أساسها، فآذوا بذلك سمعة الأبرياء، ولكن أشد ما عوقب عليه بين كل جحود هو التجديف على الآلهة.

وكان مينوس يقول: «ماذا إذن؟! يعد غولًا من لم يعترف بالجميل لأبيه أو لصديقه الذي نال منه بعض العون، ومن يجعل لنفسه مجدًا بكنوده نحو الآلهة الذين هم أصل الحياة وما تنطوي عليه الحياة من خير! والآلهة هم الذين يكون الإنسان مدينًا لهم بولادته أكثر مما لأبيه وأمه، وكلما أفلتت هذه الجرائم كلها من العقاب، وسُوغت، في الدنيا، غدت موضع انتقام شديد في الجحيم لا ينجو منه شيء.»

ويرى تلماك القضاة الثلاثة الجالسين، وهم يحكمون في أمر رجل، فيجرؤ على سؤالهم عن جرائمه، ويتناول المدين الكلام، ويصرخ قائلًا: «لم أصنع شرًّا قط، وقد قامت لذتي على فعل الخير، وقد كنت كريمًا جليلًا عادلًا رحيمًا، فعلام أُلامُ إذن؟»

مينوس: «لا تلام على شيء حيال الناس، ولكن ألست ملزمًا نحو الآلهة أكثر مما أنت ملزم به نحو الناس؟ وما العدل الذي تباهي به إذن؟ إنك لم تقصر في واجب نحو الناس الذين ليسوا شيئًا ذا بال، وقد كنت فاضلًا في ذلك لا ريب، وإنما عزوت فضيلتك كلها إلى نفسك، لا إلى الآلهة الذين أنعموا عليك بها؛ وذلك لأنك أردت أن تتمتع بثمرة فضيلتك الخاصة وأن تقصر نفسك على نفسك، فكنت إله نفسك، غير أن الآلهة الذين خلقوا كل شيء، ولم يخلقوا شيئًا إلا لأنفسهم، لا يمكن أن يتخلوا عن حقوقهم، وقد نسيتهم، فنسوك، وقد وكلوك إلى نفسك ما دمت قد وكلت نفسك إلى نفسك، لا إليهم؛ ولذا فابحث الآن عن سلوانك في فؤادك إذا ما كنت قادرًا على هذا، وهكذا فإنك قد فُصلت عن الناس الذين أردت أن تروقهم، وهكذا فإنك وحدك مع نفسك التي كانت صنمك، وهكذا فإن عليك أن تعلم أنه لا فضل حقيقيًّا من غير تبجيل الآلهة وحبهم، من غير إجلال هؤلاء الذين يعد كل شيء مدينًا لهم، وسوف يفحم فضلك الزائف الذي طال أمد فتنه لمن يسهل خداعه من الناس، وبما أن الناس لا يحكمون في أمر العيوب والفضائل إلا بما يصدمهم أو يلائمهم فإنهم عمي حيال الخير والشر، وأما هنا فإن نورًا ربانيًّا يقلب جميع أحكامهم السطحية رأسًا على عقب، وينقض ما يعجبون به في الغالب، ويسوغ ما يقوِّضون.»

ولما سمع هذا الفيلسوف ذلك ظهر كمن أصيب بصاعقة فصار لا يستطيع الصبر على نفسه، ويتحول إلى ألم ما كان يجد من لذة في تأمل اعتداله وإقدامه وميوله الكريمة، ويغدو عذابه في تأمل عدو الآلهة: فؤادِه، أي أنه يرى نفسه، ولا يستطيع الانقطاع من رؤية نفسه، ويُبصر بُطْل أحكام الناس الذين أراد أن يقع عندهم موقع الرضا في جميع أعماله، ويصنع ثورةً عامةً من جميع ما في باطنه كما لو قُلبت جميع أحشائه، وعاد لا يكون إياه، أي أن كل سند يعوز فؤاده، وينتصب ضده ضميره الذي كانت تحلو له شهادته، فيؤنبه ضميره بشدة على ضلاله وما ساوره من وهم في جميع فضائله التي لم تهدف إلى عبادة الآلهة عن مبدأ وغاية، وهكذا فإنه يبدو منكدًا وإلهًا مملوءًا خزيًا وندمًا وحزنًا، ولا تعذبه الفُوري مطلقًا، وتكتفي الفوري بوكوله إلى نفسه، وبانتقام قلبه للآلهة الذين ازدرى، ويطلب أقتمَ الأماكن كيما يتوارى من الأموات الآخرين ما دام لا يستطيع أن يتوارى من نفسه، ويبحث عن الظلمات، ولا يقدر أن يراها، وكيف يُمكنه ذلك وهو يتبعه نور مزعج إلى كل مكان، وفي كل مكان يأتي شعاع الحقيقة الثاقب لينتقم للحقيقة التي أهمل اتباعها، ويُصبح كل ما أحب ممقوتًا لديه لما غدا مصدر المصائب التي لا يمكن أن تنتهي مطلقًا، ويقول في نفسه: «يا لي من أرعن! إنني لم أعرف الآلهة ولا الناس ولا نفسي إذن! كلا، إنني لم أعرف شيئًا؛ لأنني لم أحب الخير الحقيقي الوحيد، ولم تكن خطواتي كلها غير ضلالات، ولم تكن حكمتي غير حماقة، ولم تكن فضيلتي غير زهوٍ إلحاديٍّ أعمى، وكانت نفسي صنمي.»

وأخيرًا أبصر تلماك الملوك الذين أساءوا استعمال سلطانهم، فمن جهة تعرض عليهم فورية منتقمة مرآةً يطلعون بها على قبح معايبهم كلها، أي أنهم يرون في هذه المرآة، ولا يستطيعون منع أنفسهم من أن ترى، زهوهم الغليظ الحريص على نيل أدعى المدائح إلى السخرية، وقسوتهم نحو من يجب أن يعاملوهم برفق، وجفاءهم تجاه الفضيلة، وفزعهم من سماع صوت الفضيلة، وميلهم إلى الأنذال المنافقين، وتوانيهم، وتخنثهم، وتثاقلهم، وحذرهم غير اللائق، وبذخهم، وبهاءهم البالغ القائم على بوار الشعوب، وطموحهم القائم على شراء قليل من المجد الباطل بدم رعاياهم، وجورهم الباحث في كل يوم عن ملاذ جديدة بين دموع كثير من البائسين وحزنهم، وهم لا ينفكون يرون أنفسهم في هذه المرآة فيرونها أفظع من العَنقاء التي غلبها بلروفون وأقبح من تنين لرن الذي قضى عليه هركول، ومن سربر الفاغر أفواهه الثلاثة، والقاذف منها دمًا سامًّا أسود يمكن أن يفسد جميع الجنس البشري الحي فوق الأرض.

ومن جهة أخرى كانت تكرر لهم، في الوقت نفسه، فورية أخرى، وذلك مع الإهانة، جميع المدائح التي خاطبهم بها مُراءوهم في أثناء حياتهم، وتقدم هذه الفورية إليهم مرآةً أخرى يرون أنفسهم فيها كما وصفهم عامل الرئاء، فعلى تباين هاتين الصورتين كان يقوم عذاب زهوهما، ومما لوحظ أن أشد هؤلاء الملوك شرًّا هم الذين خوطبوا بأفخم المدائح في أثناء حياتهم؛ وذلك لأن الأشرار يُخشَون أكثر مما يُخشى الأبرار، ولأنهم يطالبون، مع خلع عذار، بأسفل ما يصدر عن شعراء عصرهم وخطبائه من رئاء.

ويسمع أنينهم في هذه الظلمات العميقة حيث لا يستطيعون أن يجدوا غير ما يعانون من شتائم وسخريات، وحيث لا يرون حولهم غير من يدحرهم ويناقرهم ويخزيهم، وهم، بدلًا من استخفافهم بحياة الناس في الدنيا، وزعمهم أن كل شيء خُلق في سبيل خدمتهم، يُبصرون أنهم أسلموا في الترتر إلى أهواء عبيد يشعرونهم بعبودية قاسية، أجل، إنهم يقومون بالخدمة مع الألم، وإنه لا يبقى عندهم من الأمل ما يرجون به تخفيف أسْرِهم، وإنهم يئنون تحت ضربات هؤلاء العبيد الذين غدوا طغاةً أشداء نحوهم، وذلك كالسندان تحت طرقات مداق السكلوب عندما يحثهم فلكن على العمل في الأُتُن الحامية بجبل إتنة.

وهنالك شاهد تلماك وجوهًا شاحبة كريهة واجمة، وهذا كرب قاضم لهؤلاء المجرمين الذين يأنفون من أنفسهم، والذين لا يستطيعون الخلاص من هذا النفور إلا بالخلاص من طبيعتهم، والذين لا يحتاجون إلى عقاب آخر على خطيئاتهم غير خطيئاتهم نفسها، والذين لا ينفكون يرونها على أضخم ما يكون، وهي تبدو لهم كالأطياف الهائلة، وهي تتعقبهم، وهم يبحثون عن موت أقوى من الذي فصلهم عن أجسامهم كيما يتقونها، وهم، إذ يغمرهم ما هم فيه من غم، يستغيثون بموت يمكن أن يطفئ فيهم كل شعور وكل عرفان، وهم يسألون الهُوَى أن تبتلعهم تواريًا من أشعة الحقيقة المنتقمة التي تضطهدهم، بيد أنهم حفظوا ليذوقوا الانتقام المقطر الذي لا ينضب له معين مطلقًا، ويتجلى عذابهم في الحقيقة التي خافوا أن يروها، وهم يرونها، وليس لهم عيون إلا ليروها تنتصب حيالهم، ويطعنهم منظر الحقيقة ويفترسهم ويخلع قلوبهم، أي تظهر الحقيقة كالصاعقة التي تنفذ صميم الأحشاء من غير أن تخرب شيئًا في الخارج، ويشابه الروح معدنًا في أتون حام فتصهره هذه النار المنتقمة التي لا تبقي شيئًا على ما هو عليه مع عدم إفنائه، أي أنها تذيب حتى أصول الحياة من غير أن تميت، وينزع الفرد من نفسه، فلا يجد فيها سندًا ولا راحةً ولو لثانيةٍ، ويعود لا يكون إلا بالغضب على نفسه وبضياع كل أمل في فقد الإحساس.

وشاهد تلماك، بين هذه الأمور التي قف بها شعر رأسه، كثيرًا من ملوك ليدية السابقين الذين عوقبوا لإيثارهم نعم الحياة الناعمة على العمل الذي لا يجوز فصله عن المَلَكية تخفيفًا عن الرعية.

وكان هؤلاء الملوك يتلاومون على عماهم، فقال بعضهم لآخر كان ابنًا له: «ألم أكثر من إيصائك، في مشيبي وقبل موتي، بأن تُصلح الخطأ الذي كنت قد صنعت بإهمالي؟»

الابن: «أيها الأب البائس! أنت الذي ضيعني! وذلك أنني اقتديت بك في تعود البذخ والزهو والشهوة والقسوة على الناس! وذلك أني، إذ رأيتك تملك بتخنث بالغ مع وجود منافقين أنذال حولك، مردت على حب الرئاء واللذات، فاعتقدت أن بقية الناس إزاء الملوك كالخيل وغيرها من حيوانات الأثقال إزاء الناس، أي الحيوانات التي لا تعتبر إلا بمقدار ما تقدم لصاحبها من خِدَم وما تريح، وهذا ما اعتقدت، وأنت الذي حملني على اعتقاده، والآن أعاني مصائب كثيرةً لاقتدائي بك.»

وكانوا يضيفون إلى هذا التعاير أفظع اللعنات، ويظهرون غضابًا مستعدين لافتراس بعضهم بعضًا.

وكانت ترفرف حول هؤلاء الملوك، كالأبوام في الليل، طائفة من الظنون الجافية، والهموم اللاغية، وأفانين الحذر، التي تنتقم للرعايا من قسوة ملوكهم، وطائفة من الطمع الجامح في الثروات، والمجد الزائف الدائم الجور، والترف المترهل الذي يضاعف جميع ما يعانَى من أضرار من غير أن يمنح ملاذ دائمةً.

وشوهد كثير من الملوك نالوا أشد عقابٍ بسبب ما وجب عليهم أن يقوموا به من خير، لا بسبب ما أتوا من شر، وذلك أن جميع جرائم الرعية التي تنشأ عن إهمال العمل بالقوانين عزيت إلى الملوك الذين لا يجوز لهم أن يملكوا إلا بسلطان القوانين على يد وزرائهم، كما عُزي إليهم كل فسق صدر عن البذخ والترف وغير ذلك من الدَّعَر الذي يُلقي الناس في ضيق وإغواء لا يبالون معهما بالقوانين نيلًا للمال، وأخص ما يضاعف به عذاب الملوك هو عدم تفكيرهم في غير إضرار الرعية كالذئاب المفترسة بدلًا من أن يكونوا رعاةً للشعوب صالحين يقظين.

ولكن أكثر ما ذُعر منه تلماك هو مشاهدته في هوة الظلمات والآلام عددًا كبيرًا من الملوك الذين عدوا صالحين في الدنيا، فحكم عليهم بعذاب الترتر لأنهم سُيِّروا بأناس من الأشرار الماكرين، ولأنهم أغضوا عن أضرار وقعت أيام سلطانهم، ثم إن معظم هؤلاء الملوك لم يكونوا صالحين ولا طالحين عن خور كبير، وكانوا لا يخشون ألا يعرفوا الحقيقة، وكانوا لا يتذوقون الفضيلة، ولا يتلذذون بفعل الخير.

ولما خرج تلماك من هذه الأماكن تنفس الصُّعَدَاءَ كما لو أزيح عنه جبل كان قائمًا على صدره، وقد أدرك بهذا السلوان شقاء من كانوا محصورين هنالك من غير أمل في الخروج مطلقًا، ومما أوجب ذعره ما أبصر من كون عذاب الملوك أشد من عذاب المجرمين الآخرين، قال تلماك: «ماذا؟! كثير أخطار، وكثير أشراك، وكثير صعوبات يواجهها الملك في معرفة الحقيقة كيما يدافع عن نفسه حيال نفسه وحيال الآخرين، وكثير عذاب أليم في جهنم بعد أن يُلاقي في حياته القصيرة كثير إقلاق وحسد ومشاق! يا لحماقة من يبحث عن الملك! طوبى لمن يقتصر على حاله وهدوئه حيث لا يعسر عليه أمر الفضيلة!»

قام تلماك بهذه التأملات واضطرب في قرارة نفسه، وارتجف تلماك، وبلغ من الحزن أشده لما لاحظ من وضع أولئك التعساء، ولكنه كلما ابتعد عن هذا المقر المظلم الكئيب، وكلما نأى عن مكان الهول واليأس، عادت إليه شجاعته، ويتنفس، ويُبصر من بعيد نور مقر الأبطال اللطيف الصافي.

فهناك كان يسكن جميع الملوك الذين حكموا في الناس بما تقتضيه الحكمة ومبادئ العدل، وكما أن الأمراء الأشرار كانوا يعانون في الترتر عذابًا أشد بمراحل مما يعاني المجرمون الآخرون الذي قصروا إجرامهم على أحوال خاصة كان الملوك البررة يتمتعون في الشنزليزه بسعادة أعظم بمراحل من سعادة بقية الناس الذين أحبوا الفضيلة في الدنيا.

ويتقدم تلماك نحو هؤلاء الملوك الذين كانوا في غاب عطرة وعلى خضر ناشئة مزهرة، وكان يسقي هذه الأماكن الرائعة ألف جدول صغير ذي ماء نمير، فتنتشر فيها طراوة لذيذة، وكان يوجد هناك ما لا يُحصى من الطيور التي تملأ هذه الغاب بتغريدها العذب، وكان يُرى هناك اجتماع زهور الربيع، التي تنشأ تحت الخطا، مع أندر ثمار الخريف المتدلية من الشجر، وكان لا يُشعر هناك بحر السموم ولا بشمأل الشتاء، وما كانت الحرب الظمئة إلى الدم، ولا الحسد القاسي الذي يعض بسن سامة ويحمل أفاعي ملتويةً في صدره وحول ذراعيه، ولا الرغائب الفارغة؛ لتدنو من مقر السلام المبارك هذا، وما كان النهار لينتهي هناك، وما كان الليل وسدوله القاتمة لتعرف هناك، أي أن نورًا رائقًا لطيفًا كان ينتشر حول أجسام هؤلاء الرجال العادلين، ويحيط شعاعه بها كما يحيط الثوب بالبدن، ولا شبه، مطلقًا، بين هذا النور والنور القاتم الذي يُنير عيون تعساء الموتى ولا يكون غير ظلام، وذلك أن هذا النور ينفذ أكثف الأجسام نفوذًا دقيقًا كنفوذ أشعة الشمس في أصفى بلور، وأن هذا النور لا يبهر الأبصار، وإنما يُقوي العيون ويورث قرارة النفس ما لا يُوصف من صفاء، وهذا وحده هو ما يغذَّى به السعداء، ومن هؤلاء يخرج، وفيهم يدخل وينفذ، وبهم يمتزج امتزاج الأطعمة بنا، وهم يرونه، ويحسونه، ويتنفسون به، وهو يوجد فيهم منبع سلام وسرور لا ينضب له معين، أي أنهم يغوصون في هذه المهواة من الفرح كالأسماك في البحر، وقد عادوا لا يريدون شيئًا، وقد نالوا كل شيء من غير أن يحوزوا شيئًا، وبيان ذلك أن هذا الميل إلى الضياء الخالص يسكن جوع قلوبهم ويشبع جميع رغائبهم، وأن ما يتفق لهم من امتلاء يرفعهم فوق كل ما يطلبه الجياع الخاوون على الأرض، وأنهم لا يبالون بشيء من النعم التي تحيط بهم ما دام تمام سعادتهم في الباطن لا يدع لهم أي شعور حيال كل نعيم يأتي من الخارج، ومثلهم في هذا كمثل الآلهة الذين يرتوون من الرحيق وكل ما طاب فلا ينزلون إلى مرتبة الاغتذاء باللحم الغليظ الذي يُقدم إليهم على أفخر موائد الآدميين، وتفر جميع الشرور بعيدةً من هذه الأماكن الهادئة، فلا موت، ولا مرض، ولا فقر، ولا ألم، ولا حزن، ولا ندم، ولا خوف، ولا أمل ينطوي في الغالب على ما ينطوي عليه الخوف من كرب، ولا يجد الخلاف والنفور والغضب إلى هناك سبيلًا، ولَأَنْ تُقلَب جبال تراكية العالية الراسية في مركز الأرض، والمكسوة ذراها بالثلج منذ الأزل، والتي تشق السحاب، أقرب من اهتزاز قلوب هؤلاء الرجال العادلين، أجل، تساورهم رأفة حول البؤس الذي يخامر أحياء الناس في الدنيا، بيد أن هذه رأفة لطيفة ساكنة لا تكدر نعيمهم الهادئ مطلقًا، أجل، رسم على وجوههم شباب خالد، ونعيم لا حد له، ومجد رباني، بيد أن سرورهم لا يقوم على بطر ولا على هُجْر، وإنما هو سرور نضر كريم مملوء جلالًا، وإنما ذوق الحقيقة والفضيلة الرفيع هو الذي يهزهم، وهم لا ينفكون يتمتعون بمثل فرحة القلب التي تتفق للأم عند لقائها ولدًا لها كانت تعتقد موته، ولكن مع الفارق القائل: إن فرحة الأم هذه لا تلبث أن تفارقها مع أن سرور هؤلاء الرجال لا يفارق قلوبهم مطلقًا، ولا يذوي هذا السرور دقيقةً واحدة، وهو يتجدد فيهم دائمًا، ويتمتعون بجذل الثمل، ولكن بلا غول ولا خبل.

وهم يتحاورون حول ما يرون وما يذوقون، وهم يدوسون النعم الناعمة والعظمة الباطلة التي كانت تلازم سابق حالهم فيرثون لها، وهم يتمثلون مع اللذة تلك السنين الكئيبة القصيرة التي كانوا يضطرون فيها إلى مناهضة أنفسهم ومقاومة سيل الرجال الفاسدين كيما يكونون صالحين، وهم يُعجبون بعون الآلهة الذين سيروهم، كما لو كان هذا باليد، إلى الفضيلة، وذلك من خلال كثيرٍ من الأخطار، ولا يمكن وصف ما يجري في قلوبهم، بلا انقطاع، من أمر رباني يسيل كالسيل فيمتزج بهم، وهم ينظرون ويذوقون، وهم سعداء شاعرون بدوام سعادتهم، وهم ينشدون مدائح الآلهة معًا، ولا يخرج منهم غير صوت واحد، ولا يصدر عنهم غير رأي واحد، ولا يكون لهم غير فؤاد واحد، وتكون السعادة عينها كالجزر والمد في هذه النفوس المتحدة.

وتمر قرون وقرون على تمتعهم بهذا الطرب الرباني، وتكون القرون أسرع من الساعات بين الناس، ومع ذلك فإن ألوف ألوف القرون التي تمر لا تنزع شيئًا من سعادتهم التي تتجدد دائمًا ومن غير نقصان، وهم يملكون معًا، لا فوق عروش يمكن أن تدكها أيدي الناس، بل في أنفسهم بسلطان ثابت لا يتغير؛ وذلك لأنهم عادوا لا يحتاجون أن يكونوا مرهوبين بسلطان مستعار من رعية حقيرة بائسة، ولأنهم عادوا لا يلبسون تلك التيجان الباطلة التي ينطوي التماعها على كثير من الخوف والهموم السود، ويتوجهم الآلهة بأكاليل لا يكدرها شيء.

وبلغ تلماك، الذي كان يبحث عن أبيه فيخشى أن يجده في هذه الأماكن الرائعة، من التأثر بهذا السلام والسعادة ما ود معه لو يجد أوليس فيها، وما أسف معه على إلزامه بالعود، فيما بعد، إلى مجتمع الناس، وقد قال: «هنا الحياة الحقيقية، وأما حياتنا فليست غير موت.»

ولكن الذي حار منه هو ما أبصر من وجود ملوك كثيرين يعذبون في الترتر ومن وجود ملوك قليلين في الشنزليزه، وإنما أدرك بهذا وجود قليل من الملوك يكونون من الرصانة والبسالة بحيث يقاومون سلطانهم الخاص وينبذون رئاء كثير من الناس الذين يثيرون جميع أهوائهم، وهكذا فإن الملوك الصالحين نادرون كثيرًا وإن معظمهم بلغ من الخبث ما لا يكون الآلهة معه عادلين إذا لم يعاقبوهم عقب موتهم بعد أن صبروا على سوء استعمالهم لسلطانهم في أثناء حياتهم.

وبما أن تلماك لم ير أباه أوليس، قط، بين جميع هؤلاء الملوك فإنه بحث بعينيه، على الأقل، عن جده الكامل: لئرت، وبينا كان يبحث عنه على غير جدوى تقدم نحوه شيخ مبجل جليل، ولم يكن مشيبه ليشابه مشيب الرجال الذين حنت السنون ظهورهم في الدنيا، وإنما رئي أنه شاب قبل موته، فكان ما تجلى فيه مزيجًا بين ما ينطوي عليه المشيب من وقار وما ينطوي عليه الشباب من ألطاف؛ وذلك لأن هذه الألطاف تبعث حتى في أهمام٣ الشِّيب حين دخولهم في الشنزليزه، وكان هذا الرجل يتقدم بنشاط وينظر إلى تلماك مسرورًا كما لو كان عزيزًا عليه كثيرًا، ويعتري تلماك هم وحيرة حيال هذا الذي لا يعرف.

قال الشائب لتلماك: «أغفر لك، يا بني العزيز، عدم عرفتك إياي مطلقًا، فأنا أبو لئرت: أرسزيوس، وقد ختمت حياتي قبيل سفر حفيدي أوليس إلى حصار تروادة، وقد كنت في ذلك الحين طفلًا بين ذراعي مرضعك، وما فتئت منذ ذلك الزمن أعلق عليك آمالًا عظيمة، ولم تكن هذه الآمال خادعةً قط، ما دمت أراك قد نزلت إلى مملكة بلوتون للبحث عن أبيك، وما دام الآلهة يؤيدونك في مشروعك، أيها الولد السعيد! إن الآلهة يحبونك ويعدون لك مجدًا مساويًا لمجد أبيك، يا لي من سعيد برؤيتك! كف عن طلب أوليس في هذه الأماكن، فهو لا يزال حيًّا، وقد حفظ لرفع عماد آلنا في جزيرة إيتاك، ومع أن السنين حنت كاهل لئرت فإنه لا يزال يتمتع بالنور، وهو ينتظر رجوع ابنه ليغمض عينيه، وهكذا فإن الناس يمضون كالزهور التي تتفتح صباحًا، والتي تذبل وتداس مساءً، وتمر أجيال الناس مر مياه النهر السريع، ولا شيء يستطيع وقف الزمن الذي يجر وراءه كل ما يلوح أنه عادم الحركة، وأنت يا بني، وأنت يا بني العزيز، وأنت الذي يتمتع الآن بشباب نشيط خصيب باللذات، اذكر أن هذا العمر الرائع ليس سوى زهرة لا تلبث أن تجف بعد أن تتفتح، وسترى تحولك من غير أن تشعر، أي أن الألطاف الباسمة، والملاذ اللطيفة التي تلازمك، والقوة والصحة والبهجة، ستذوي فيك مثل حلم جميل، ولن يبقى لك منها غير ذكرى قاتمة، وسيأتي المشيب الذابل العدو للملاذ لتغضين وجهك وحَنْو جسمك وإضعاف أعضائك، واستنزاف منبع السرور في فؤادك، وجعلك تكره الحاضر وتخشى المستقبل وتفتر نحو كل شيء خلا الألم، وترى ذاك الوقت بعيدًا، آه! أنت تغر نفسك يا بني! فالزمن يُسرع، وليس بعيدًا منك ذاك الذي يأتي بسرعة، وقد بعُد الحاضر الذي يفر ما تلاشى في الدقيقة التي تتكلم فيها، ولا يمكن أن يدنو بعد الآن؛ ولذا فلا تعتمد يا بني على الحاضر، وإنما الزم طريق الفضيلة الوعر الصعب ناظرًا إلى المستقبل، وأعد لنفسك، بصفاء الأخلاق وحب العدل، مكانًا في مقر السلام المبارك هذا.

ثم لا تلبث أن ترى استرداد أبيك للسلطان في إيتاك، وقد ولدت لتملك بعده، ولكن، آه! ما أشد خداع المُلك يا بني! فإذا ما نُظر إلى الملك من بعيد لم يُرَ غيرُ العظمة والأبهة والنعم، وإذا ما نظر إليه عن كثب وجد كل شيء شائكًا، ويمكن الفرد أن يقضي حياةً حلوةً غامضة من غير أن يُفضح، وأما الملك فلا يستطيع أن يفضل حياة الترف والبطالة على واجبات الحكم الشاقة من غير أن يفضح، وهو ملزم بكل شيء نحو الناس الذين يملكهم، ولم يبح له أن يكون لنفسه وحدها قط؛ وذلك لأنه يكون لأقل عمل يأتيه من النتائج ما لا حد له؛ وذلك لأن هذا العمل يؤدي إلى شقاء الرعايا في قرون كثيرة أحيانًا؛ وذلك لأن من الواجب عليه أن يزجر جرأة الأشرار وأن يؤيد البراءة وأن يقضي على الافتراء، وليس بكافٍ ألا يصنع شرًّا، بل يجب عليه أن يفعل كل ما تحتاج إليه الدولة من خير ممكن، وليس بكاف أن يصنع الخير، بل يجب عليه أن يحول دون فعل الآخرين للشر، فخف إذن، خف، يا بني، حالًا حُفَّت بالمكاره، وتسلح بالشجاعة حيال نفسك وحيال أهوائك وحيال المنافقين.»

ولما نطق أرسزيوس بهذا الكلام رئي منتعشًا بنار ربانية، وأظهر لتلماك وجهًا طافحًا إشفاقًا حيال الشرور الملازمة للملك، قال أرسزيوس: «إذا ما اتُّخِذ الملك أداةً لقضاء الشهوات انطوى على طغيان فظيع، وإذا ما اتخذ وسيلةً للقيام بالواجبات ولسياسة الرعايا الكُثْر، كما يسوس الأب أولاده، انطوى على رق مرهق يقتضي شجاعة الأبطال وصبرهم، ومن المؤكد كذلك أن من يملكون وفق الفضيلة الصادقة يفوزون هنا بكل ما تستطيع قدرة الآلهة أن تمن به من تمام النعيم!»

وبينما كان أرسزيوس يتكلم هكذا كان كلامه ينفذ صميم فؤاد تلماك، فينقش فيه كما ينقش الصانع الماهر بمنقاشه، على النحاس، صورًا لا تطمس راغبًا إظهارها لأعين أبعد الأعقاب، وكان هذا الكلام الحكيم مثل شعلةٍ لطيفة تنفذ أحشاء الشاب تلماك، فيشعر باهتزاز نفسه والتهابها، ولا يعبر عن الشيء الرباني الذي يلوح إذابته فؤاده في باطنه، وما كان يحمل في صميم نفسه يوقده سرًّا، فلا يستطيع له منعًا، ولا احتمالًا، كما أنه لم يستطع أن يقاوم مثل هذا الانطباع الحائق، وكان هذا شعورًا قويًّا لذيذًا ممزوجًا بعذابٍ قادر على نزع الحياة.

ثم أخذ تلماك يتنفس بحرية أكثر من قبل، فعرف في وجه أرسزيوس كبير شبه بلئرت، وظن أنه يذكر مع الإبهام، أنه أبصر، من خلال هذا الشبه، أباه أوليس عند ذهابه إلى حصار تروادة، وتلين هذه الذكرى فؤاده، وتسكب عيناه دموعًا ناعمةً ممزوجةً بفرح، وأراد أن يُقبل شخصًا عزيزًا عليه إلى الغاية، وحاول هذا عدة مرات على غير جدوى، وذلك أن هذا الطيف الوهمي كان يفلت من قبلاته، فيشابه الحلم الخادع الذي يتوارى ممن يظن أنه يتمتع به، وتارةً يتبع فم هذا الرجل الناعس الظمآن ماءً شاردًا، وتارةً تهتز شفتاه لتؤلفا كلامًا لا يستطيع لسانه الخدر أن يلفظ به، وتمتد يداه بجهد ولا تظفران بشيء، وهكذا فإن تلماك لا يستطيع إشباع حنانه، وذلك أنه يرى أرسزيوس ويسمعه ويكلمه من غير أن يقدر على مسه، ثم سأل هذا الشيخ الحكيم عن الرجال الذين يشاهد حوله فنال الجواب الآتي: «ترى، يا بني، رجالًا كانوا زينة عصورهم ومجد الجنس البشري وسعادته، ترى هؤلاء الملوك القليلين الذين كانوا أهلًا للملك وقاموا بعمل الآلهة في الأرض مع الإخلاص، وأما الآخرون الذين تراهم قريبين من هؤلاء بعض القرب، ولكن مع انفصالهم عنهم بهذه السحابة الصغيرة، فذو مجد أقل من ذاك كثيرًا، فهم، وإن كانوا أبطال الحقيقة، لا يمكن قياس ثواب بسالتهم وما قاموا به من غزوات حربية بثواب الملوك الحكماء العادلين المحسنين.

ترى بين هؤلاء الأبطال تيزه الذي يعلو وجهه قليل حزن، وذلك أنه أحس بؤس كونه ميقانًا٤ حيال امرأةٍ ماكرة، وأنه أسف على سابق طلبه من نبتون موت ابنه هيوليت شر ميتة، فما أسعده لو كان غير نَزِق سريع الغضب بهذا المقدار فيما مضى! وترى، أيضًا، أشيل متكئًا على رمحه بسبب هذا الجرح الذي أصابه به النذل باريس على عقبه فقضى على حياته، ولو كان حكيمًا عادلًا معتدلًا بمقدار جرأته لأنعم الآلهة عليه بعهد طويل، بيد أن الآلهة رحموا الفتيوت والدلوب الذين كان لا بُدَّ من حكمه فيهم بعد موت يله فلم يشاءوا أن يفوضوا أمر كثير من الرعايا إلى هذا الرجل الغضوب الذي يسهل فورانه فيصير كالبحر الهائج إلى الغاية، فقصَّر البرْكُ أجله، وكان كالزهرة التي لا تكاد تتفتح حتى يقطعها المحراث وتسقط قبل نهاية اليوم الذي برزت فيه، ولم يُرد الآلهة استخدام أشيل إلا كالسيول والزوابع التي يعاقبون بها الناس على جرائمهم، فانتفع به في دك أسوار تروادة انتقامًا من لئوميدون على نقضه يمينه ومن باريس على غرامه الجائر، وقد هدأ الآلهة بعد استخدامهم هذه الآلة في انتقاماتهم، وقد أبوا أن يجيبوا داعي دموع تيتيس في إبقائهم حيًّا، يمشي على الأرض، هذا البطل الشاب الذي لم يكن ليصلح إلا لتعكير صفو الناس وتدمير المدن وهدم الممالك.

ولكن هل ترى هذا الآخر العبوس الوجه؟ هذا هو أجكس بن تلامون وابن لعم أشيل، وأنت تعرف، لا ريب، ما نال من مجد في المعارك، فلما مات أشيل زعم أنه لا يمكن أن يتسلم سلاحه رجل آخر غيره، ولم يعتقد أبوك وجوب التنزل له عنها، وفاز أوليس بحكم الأغارقة في ذلك، ويقتل أجكس نفسه غمًّا، ولا يزال الغيظ والغضب مرسومين على وجهه، ولا تدن منه يا بني، وذلك لاعتقاده أنك تريد بهذا إهانته في كربه، ومن الإنصاف أن يُرثى له، أو لا ترى أنه ينظر إلينا متألمًا، وأنه يدخل من فوره في هذه الغابة القاتمة عن نفور منا؟ وترى في هذه الناحية الأخرى هكتور الذي كان منيعًا لا يُقهر لو لم يظهر ابن تيتيس في الزمن نفسه، وها هو ذا أغاممنون يمر ولا يزال يحمل طابع غدر كليتمنستر، وأرتعش، يا بني، حينما أفكر في مصائب آل الملحد تنتال هؤلاء، فقد ملأ شقاق الأخوين، أتره وتيست، هذا البيت نفورًا ودمًا، آه! ما أكثر ما تجر الجريمة إلى جريمة أخرى! لم يستطع أغاممنون، بعد رجوعه من حصار تروادة على رأس الأغارقة، أن يتمتع بسلم المجد الذي نال، وهذا هو مصير جميع الفاتحين تقريبًا، وما ترى الآن من رجال فكانوا كلهم مرهوبين في الحرب، ولكن من غير أن يكونوا لطفاء فضلاء مطلقًا، وهم ليسوا في غير المقر الثاني من الشنزليزه لهذا السبب.

وأما هؤلاء فقد حكموا بالعدل وأحبوا رعاياهم، وهم أصدقاء الآلهة، وبينا ترى أشيل وأغا ممنون زاخرين بنزاعهما ومعاركهما محافظين على همومهما ونقائصهما الفطرية، وبينا تراهما أسفين، عبثًا، على حياة فقداها، وبينا تراهما يألمان من تحولهما إلى طيفين واهنين باطلين، تبصر هؤلاء الملوك العادلين قد صفوا بالنور الرباني الذي غُذوا به، وعادوا لا يرغبون في شيء من أجل سعادتهم، وينظر هؤلاء بعين الرأفة إلى هموم الناس، وتظهر لهم أعظم الأمور التي تهز الطامعين من الناس مثل لعب الصبيان، ولا عجب، فقلوبهم قد رويت من الحقيقة والفضيلة اللتين يغترفونهما من منبعهما، وقد عاد لا يُمِضُّهم شيء في نفوسهم، فلا رغائب، ولا احتياج، ولا مخاوف، وقد فرغوا من كل شيء خلا سرورهم الذي لا ينفد.

وانظر، يا بني، إلى الملك القديم إيناخوس الذي شاد مملكة أرغوس تجده يتمتع بهذا المشيب البالغ اللطف والجلال، وتنبت الزهور تحت خطواته، وتشابه رشاقة مشيته طيران الطير، ويمسك بيده كنارةً من عاج، ويتغنى بعجائب الآلهة عن وجد خالد، ويخرج من فؤاده وفمه عطر طيب، ويفتن الناس والآلهة بتوافق كنارته وصوته، وهكذا فإنه يكافأ على سابق حبه لشعبه الذي جمعه داخل أسواره الجديدة وأنعم عليه بقوانين.

ومن ناحية أخرى، يمكنك أن تنظر، بين هذا الآس، إلى سكروب المصري الذي كان أول من حكم في أثينة، في هذه المدينة الموقوفة على الإلهة التي تحمل اسمها، فقد هذب سكروب هذا أجلاف قُرى الأتيك وألف بينهم بروابط المجتمع، وذلك بما أتى به من قوانين مصر النافعة التي كانت منبع الآداب وحسن الطباع في بلاد اليونان، وقد كان سكروب هذا عادلًا رءوفًا رحيمًا، وقد أمتع سكروب هذا رعيته بضروب اليسر، ووضع أسرته في حال من الكفاف، قاصدًا بهذا ألا يقبض أبناؤه على زمام السلطان بعده معتقدًا أن غيرهم أحق بالملك منهم.

ولا بُدَّ لي من أن أدلك في هذا الوادي الصغير على إرختن الذي اخترع عادة استعمال النقود، وقد صنع هذا لتسهيل أمر التجارة بين جزر بلاد اليونان، بيد أنه أبصر ما يلازم هذا الاختراع من محذور فقال لجميع الرعايا: «أقبلوا على تكثير الثروات الطبيعية الحقيقية، أي ازرعوا الأرضين كيما يكون عندكم مقدار كبير من البُر والخمر والزيت والفواكه، وكونوا أصحاب قطاع كثيرة تغتذون بلبنها وترتدون أصوافها، فبهذا تغدون في حال لا تخشون معه الفقر مطلقًا، وكلما كثر أولادكم زاد ثراؤكم على أن تجعلوهم أهل جد وعمل؛ وذلك لأن الأرض كنز لا يفنى، ولأنها تزيد خصبًا بنسبة عدد سكانها الذين يُعنَون بزراعتها، ولأنها ترد على الجميع ثمرة أتعابهم بسخاء، ولأنها تبدو ضنينًا كنودًا نحو من يتهاونون بزراعتها؛ ولذا فاعكفوا على نيل الثروات الحقيقية التي تقضى بها حاجات الإنسان الواقعية؛ ولذا لا تقيموا وزنًا لغير ما هو ضروري من النقود لحرب لا مفر من القيام بها في الخارج أو لتجارة السلع الحاجية التي تعوز بلدكم، وهذا مع الرغبة في مكافحة التجارة بجميع الأشياء التي لا تؤدي إلى غير الترف والزهو والتخنث».»

وكان الحكيم إرختن هذا يقول في الغالب: «أخشى، يا بَنِي، أن أكون قد قدمت إليكم هديةً مشئومةً بمنحكم اختراع النقود؛ وذلك لأنني أبصر أن هذا الاختراع يثير الطمع والطموح والبذخ، وأنه يغذي ما لا يُحصى من الحرف الضارة التي لا توجب غير تأنيث الطباع وفساد الأخلاق، وأنه يجعلكم تأنفون من البساطة المباركة المؤدية إلى طمأنينة العيش وضمان الحياة، وأنه يحفزكم إلى ازدراء الزراعة التي هي أساس الحياة البشرية ومصدر جميع الخيرات الحقيقية، ولكن ليكن الآلهة شهودًا على صفاء نيتي بمنحي إياكم هذا الاختراع النافع بنفسه.»

وأخيرًا، عندما رأى إرختن أن النقد يفسد الرعية كما توقع، اعتزل في جبل مهجور عن ألم، وقضى فيه حياة فقر وبعد من الناس، حتى بلغ من الكبَر عتيًّا، وذلك من غير أن يرغب في إدارة شئون المدن.

ويمضي وقت قصير على ارتحاله فيظهر في بلاد اليونان تربتوليم الشهير الذي علمته سريس مهنة زراعة الأرضين وكسوها، كل سنة، بغلات ذهبية، ولا يعني هذا أن الناس كانوا لا يعرفون القمح وتكثيره بالبذر، وإنما يعني أنهم كانوا يجهلون إتقان الفلاحة، وأن تربتوليم، المرسَل من قبل سريس، أتى، والمحراث في يده، ليقدم هبات الإلهة إلى جميع الشعوب التي تتغلب على كسلها الطبيعي وتعكف على العمل المتواصل، ولم يلبث تربتوليم أن علم الأغارقة شق الأرض وجعلها خصيبةً بتمزيق بطنها، ولم يلبث الحاصدون الناشطون، الذين لا يكلون، أن أسقطوا بمناجلهم القاطعة صُفر السنابل التي تستر الحقول، حتى إن الشعوب الجافية المتوحشة، التي كانت تعدو مبعثرةً في كل ناحية من غاب إبير وإتولية لتغتذي بالبلوط، ألانت طباعها وخضعت لقوانين عندما تعلمت إنماء الحصائد وأكل الخبز، وأشعر تربتوليم قوم اليونان بلذة قصر ثرواتهم على أعمالهم والعثور في حقولهم على كل ما يجعل الحياة سائغةً سعيدة، وما تم لهم من هذا اليسر النقي البسيط القائم على الزراعة ذكرهم بنصائح إرختن الناضجة، فازدروا النقد وكل ثراء مصنوع لا يعد غنًى إلا وهمًا ولا يصنع غير إغراء الناس بالبحث عن الملاذ الخطرة وغير تحويلهم عن العمل الذي ينطوي على سر الرزق الحقيقي مع صفاء الطبائع وكمال الحرية؛ ولذا فقد أدرك أن الحقل الخصيب الحسن الزرع هو الكنز الصحيح لدى الأسرة التي بلغت من الحكمة ما تريد أن تعيش معه عيش قناعة كما عاش آباؤها، ويا لسعادة الأغارقة ما بقوا ثابتين على هذه المبادئ الصالحة التي يكونون بها أقوياء أحرارًا سعداء عن فضيلةٍ قويمة! ولكن من دواعي الأسف أن أخذوا يعجبون بالثراء الزائف مهملين، بالتدريج، ما صح من غنًى منحطين عن تلك البساطة الرائعة.

وسوف تقبض على زمام السلطان ذات يوم يا بني، فاذكر، إذ ذاك، وجوب رد الناس إلى الزراعة، وإكرام هذه المهنة، وكشف الغم عمن يتعاطونها، وذلك مع عدم احتمال كسل الناس ومزاولتهم حرفًا واقيةً للترف والتخنث، وهكذا فإن هذين الرجلين، اللذين كانا ذوي حكمة بالغة في الدنيا، عزيزان على الآلهة، واعلم، يا بني، أن مجدهم يفوق مجد أشيل وغيره من الأبطال الذين لم يبرعوا في غير المعارك، كما يفضل الربيع على الشتاء البارد، ونور الشمس على نور القمر.

وبينا كان أرسزيوس يتكلم هكذا أبصر أن تلماك دائم النظر إلى غابة غارٍ صغيرةٍ وإلى جدولٍ يقوم البنفسج والورد والزنبق وكثير من الزهور العطرية على جانبيه، فتشابه ألوانها الساطعة ألوان إيريس عند نزولها من السماء إلى الأرض كيما تبلغ بعض الناس أوامر الآلهة، والملك العظيم سيزستريس هو الذي عرف تلماك في هذا المكان الجميل ووجده أكثر جلالًا مما كان عليه فوق عرش مصر ألف مرة، وما كانت تخرج عيناه من نور لطيف كان يبهر عيني تلماك، ومَن ينظر إليه يعتقد أنه ثمل بالرحيق وأن روحًا ربانيًّا بالغًا جعله في حقل من الوجد يفوق العقل البشري، وذلك لمكافأته على فضائله.

قال تلماك لأرسزيوس: «لما يمر وقت كبير على معرفتي، يا أبتِ، ملك مصر الحكيم سيزستريس هذا.»

أرسزيوس : «ها هو ذا، وأنت ترى بمثاله مقدار كرم الآلهة في مكافأة الملوك الصالحين، ولكن يجب أن تعرف أن جميع هذه السعادة ليست أمرًا يؤبه له إذا ما قيست بما كان يعد له لو لم يُنسه اليسر البالغ مبادئ الاعتدال والعدل، وذلك أن ما ساوره من هوًى لخفض زهو الصوريين وبطرهم حفزه إلى الاستيلاء على مدنهم، وما تم له من فتح أثار فيه رغبة القيام بفتوح أخرى، ويغويه فخر الفاتحين الفارغ، وهكذا أخضع جميع آسية، وإن شئت فقل: خربها، فلما عاد إلى مصر وجد أخاه متغلبًا على المملكة، محرفًا أصلح قوانين البلد بحكومة ظالمة، وهكذا لم تنفع فتوحاته العظيمة لغير اضطراب مملكته، ولكن أشد ما جعله غير مقبول العذر هو ما خامره من نشوة مجده الخاص، فقرن بعربته أعز الملوك الذين قهر، ثم اعترف بذنبه فيما بعد واعتراه خجل من ظهوره قاسيًا بذاك المقدار، وهذه هي ثمرة انتصاراته، وهذا ما يصنعه الفاتحون ضد دولهم وضد أنفسهم بعزمهم على اغتصاب دول جيرانهم، وهذا ما يحط من منزلة الملوك البالغي العدل الكثيري الإحسان، وهذا ما يضع من درجة المجد الذي كان الآلهة قد أعدوه لهم.
أو لا ترى، يا بني، هذا الآخر الذي تبدو جروحه ساطعةً جدًّا؟ هو ملك كاري المسمى ديوقليد! هذا هو الملك ديوقليد الذي جاد بنفسه من أجل شعبه في إحدى المعارك؛ وذلك لأن هاتف الغيب أخبر بأن النصر، في الحرب بين الكاريين والليديين، سيكون نصيب الأمة التي يهلك ملكها.

وألقِ نظرةً إلى هذا الآخر، إلى هذا المشترع الحكيم الذي أنعم على أمته بقوانين تجعلهم سعداء صالحين، والذي ألزمهم بأن يقسموا على عدم نقض أي من هذه القوانين في أثناء غيابه، ثم سافر، وأبعد نفسه من وطنه، ومات فقيرًا في بلدٍ أجنبي حملًا لأمته، بهذا القسم، على العمل إلى الأبد بهذه القوانين النافعة إلى الغاية.

وهذا الآخر الذي ترى هو ملك البيليين: أونيزيم، هو أحد أجداد الحكيم نسطور، هو الذي ضرع إلى الآلهة، في أثناء طاعونٍ خرب الأرض فستر ضفاف الأكرون بأطيافٍ جديدة، أن يسكنوا غضبهم ببذل حياته منقذًا ألوفَ الأبرياء، ويستجيب الآلهة دعاءه، ويجعلون له هنا هذه المملكة الحقيقية التي لا تعد جميع ممالك الدنيا غير ظلال باطلة بجانبها.

وهذا الشائب الذي تراه متوجًا بالزهور هو بيلوس الذائع الصيت، هو ملك مصر بيلوس، هو زوج أنشنويه بنت الإله نيلوس الذي أخفى منبع مياهه وأغنى الأرضين التي أروى بفيضاناته، وقد كان له ولدان، فأما أحدهما، دنايوس، فتعرف قصته، وأما الآخر فهو إجبتوس الذي أطلق اسمه على هذه المملكة الجميلة، وكان بيلوس يعتقد أنه، باليسر الذي جعل لأمته وبحب رعيته له، أغنى مما بجميع الضرائب التي يستطيع أن يفرضها عليهم، ويعيش هؤلاء الرجال الذين تعتقد موتهم يا بني، وليست الحياة الهزيلة التي تُقضى في الدنيا غير موت وإن تغيرت الأسماء، ولعل الآلهة ينعمون عليك بصلاح تكون به أهلًا لهذه الحياة المباركة التي لا يستطيع شيء أن يقضي عليها ولا أن يكدرها، بادر إلى البحث عن أبيك، لقد حان الوقت، آه! ما أكثر ما ترى من سفك دم قبل أن تجده! ولكن أي مجد ينتظرك في حقول هسبرية! واذكر نصائح الحكيم منتور، على أن تعمل بها، فبهذا تكون عظيمًا بين جميع الأمم وفي جميع العصور.»

قال هذا، وسار بتلماك نحو الباب العاجي الذي يستطيع أن يخرج به من مملكة بلوتون المظلمة، ويفارقه تلماك دامع العينين ومن غير أن يقدر على تقبيله، ويغادر هذه الأماكن القاتمة ويعود إلى معسكر الحلفاء على عجل، وذلك بعد أن لحق، في طريقه، بالأقريطشيين الشابين اللذين كانا قد رافقاه إلى مكان قريب من الغار وعادا لا يأملان رجوعه.
١  الوكر: عش الطائر.
٢  الحمئة: ذات الحمأة، وهي الطين الأسود.
٣  الأهمام: جمع الهم، الشيخ القديم.
٤  الميقان: الذي لا يسمع شيئًا إلا أيقن به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤