الجزء الخامس عشر
ناهضت تلماك، في مجلس لرؤساء الجيش، فكرة مباغتة فينوز التي اتفق الفريقان على تركها وديعة في أيدي اللوكان، لم يُبْدِ تلماك حكمة أقل من تلك في أمر جنديين لاجئين، فوَّض أدرست إلى أحدهما، أكنت، أن يسمه، وعرض الآخر منهما، الذي يسمى ديوسكور، على الحلفاء أن يأتي برأس أدرست، أثار تلماك، في المعركة التي نشبت فيما بعد، عجب الناس ببسالته وفطنته، وذلك أنه حمل الموت في طريقه إلى كل ناحية باحثًا عن أدرست في ميدان الوغي، بحث أدرست عنه من ناحيته محاطًا بخيرة كتائبه ممنعًا في تقتيل الحلفاء وذبح أشجع ضباطهم، اشتاط تلماك غيظًا عندما شاهد ذلك، فانقض على أدرست الذي لم يلبث أن قهره وحفظ حياته، لم يكد أدرست ينهض حتى حاول مباغتة تلماك ثانيةً فطعنه تلماك بسيفه، هنالك مد الدونيون يدهم إلى الحلفاء طلبًا للصلح، سائلين، كشرط وحيد للسلم، أن يسمح لهم بأن يكون ملكهم من أمتهم.
اجتمع رؤساء الجيش في تلك الأثناء ليروا هل يجب أن يستولوا على فينوز، وكانت فينوز هذه مدينة حصينة اغتصبها أدرست من الأبوليين البوستيين، فدخل هؤلاء في الحلف ضده طلبًا للعدل حيال هذا الغزو، وأراد أدرست تسكينهم فوضع هذه المدينة وديعةً في أيدي اللوكانيين، ولكنه رشا الحامية اللوكانية وقائدها رشوًا يكون به سلطان اللوكانيين على فينوز ضعيفًا، فخدع الأبوليون في موافقتهم على تدبير قيام اللوكانيين بحراسة فينوز.
وكان دموفنت، الذي هو من أبناء فينوز، قد عرض على الحلفاء سرًّا بأن يسلم إليهم أحد أبواب هذه المدينة ليلًا، ويمكن تمثل نفع هذا عند الاطلاع على وضع أدرست عدته وميرته في حصن مجاور لفينوز لا يمكن الدفاع عنه إذا ما سقطت هذه المدينة، ويصر فلكتت ونسطور على وجوب اغتنام هذه الفرصة، ويهتف، استحسانًا لهذا الشعور، جميع الزعماء الذين غرهم نفوذهما وبهرهم نفع مثل هذه الغارة السهلة، بيد أن تلماك بذل، عند رجوعه، آخر جهد لتحويلهم عن ذلك، وقد قال لهم: «لا أجهل أنه إذا وجد رجل يستحق أن يفاجأ ويخادع فهو أدرست الذي أكثر من خداع جميع العالم، وأبصر جيدًا أنكم إذا ما باغتم فينوز لم تصنعوا غير حيازتكم مدينةً يملكها الأبوليون الذين هم من أمم حلفكم.
وأعترف أنكم تستطيعون صنع هذا معذورين بعض العذر ما دام أدرست الذي وضع هذه المدينة وديعةً قد رشا القائد والحامية رشوًا يمكنه أن يدخلها به متى رأى الوقت مناسبًا.
ثم إنني أدرك، كما تدركون، أنه إذا ما استوليتم على فينوز غدوتم قابضين، منذ الغد، على الحصن الذي وضع أدرست فيه جميع عدته الحربية، وفرغتم بذلك من هذه الحرب الضروس في يومين.
ولكن أليس الهلاك أفضل من النصر بمثل هذه الوسائل؟ ألا يجب رفض ثمرة الغدر؟ ألا يقال: إن ملوكًا كثيرين، تحالفوا لمعاقبة الملحد أدرست على خدائعه، غدوا مخادعين مثله؟ إذا ما أبيح لنا أن نصنع كما يصنع أدرست صار غير مذنب وكنا مخطئين في عزمنا على مجازاته، ماذا؟! إنه لا يوجد لدى جميع هسبرية، التي يؤيدها كثير من المستعمرات اليونانية ومن الأبطال العائدين من حصار تروادة، سلاح آخر غير المكر والحنث في اليمين! لقد أقسمتم بأقدس الأشياء على ترككم فينوز وديعةً في أيدي اللوكانيين، وأنتم تقولون: إن الحامية اللوكانية قد رُشيت بمال أدرست، وأعتقد صدق ما تدعون، غير أن هذه الحامية تتناول أجرتها من اللوكانيين، ولم تمتنع عن إطاعة هؤلاء قط، وقد التزمت جانب الحياد ولو في الظاهر على الأقل، ولم يدخل أدرست، ولا أتباعه، فينوز قط، والمعاهدة باقية، ولم ينسَ الآلهة يمينكم قط، ألا نحافظ على القول الذي نُعطي إلا عندما تعوزنا الذرائع المحتملة لنقضه؟ ألا نكون مخلصين متحسبين في الأيمان إلا عندما لا يكون لنا غُنم في نقضها؟
وإذا ما عاد حب الفضيلة ومخافة الآلهة لا يؤثران فيكم فتأثروا بسمعتكم ومصلحتكم على الأقل، وإذا ما قدمتم إلى العالم هذا المثال السيئ في نقض القول واليمين للفراغ من حربٍ فأي حروبٍ لا تثيرونها بهذا السلوك الإلحادي؟ وأي جار لا يضطر، إذ ذاك، إلى الخوف منكم مع المقت؟ ومن يستطيع أن يثق بكم عند الضرورة الملحة؟ وأي ضمان يمكن أن تقدموا عندما تودون أن تخلصوا وأن تُقنعوا جيرانكم بإخلاصكم؟ أبمعاهدةٍ رسمية وقد دستموها؟ أم بيمين؟ آه! ألا تكونون قد حسبتم الآلهة أمرًا غير ذي بالٍ إذا ما أملتم نيل بعض الفوائد بنكث اليمين؟ لن يكون السلام في نظركم، إذن، أكثر ضمانًا من الحرب، وسيعد كل ما يصدر عنكم حربًا خافيةً أو ظاهرة، أي ستعدون عدوًّا دائمًا لدى جميع من نكبوا بجوارهم لكم، وسيتعذر عليكم كل أمر يتطلب صيت صلاح وثقة، وستخلون من كل وسيلةٍ تصدقون بها فيما تعدون.
وإليكم مصلحةً ملحةً يجب أن تقف نظركم إذا ما بقي فيكم شيء من النزاهة والبصر حول منافعكم، وذلك أن سلوكًا خادعًا كهذا يهاجم حلفكم من الداخل ويقوضه، وُيسفر نقضكم العهد عن انتصار أدرست.»
ولما سمع جميع المجلس هذا الكلام بلغ من الاهتزاز ما سأل تلماك معه عن جرأته على قوله: إن عملًا كذاك ينال الحلف به نصرًا عزيزًا يمكن أن يقوض هذا الحلف، واسمع جواب تلماك: «كيف يستطيع بعضكم أن يركن إلى بعض إذا ما قضيتم، ذات مرة، على حسن النية التي هي رابطة المجتمع واعتماده الوحيدة؟ ومن منكم يستطيع، بعد وضعكم مبدأ قائلًا بإمكان نقض قواعد النزاهة والإخلاص حيال مصلحة كبيرة، أن يعتمد على الآخر عندما يجد هذا الآخر نفعًا عظيمًا لنفسه في نقض كلامه ومخادعة غيره منكم؟ وما يحدث لكم؟ ومن منكم لا يريد، حينئذ، أن يُبطل حيل جاره بحيله؟ وما يكون مصير حلف بين كثير من الأمم إذا ما اتفقت فيما بينها، بعد تشاور، على مفاجأة جارها ونقض العهد المعطى؟ وما الذي لا يجر إليه حذر بعضكم من بعض وانقسامكم وما تبذلون من نشاط لإهلاك أنفسكم؟ سيعود أدرست غير محتاج إلى الهجوم عليكم ما افترس بعضكم بعضًا وسوغتم مكايده.
أيها الملوك الحكماء الأجلاء! أيها الملوك الذين اتفق لهم ما لا يُحصى من التجارب حيال الأمم! لا تُعرضوا عن السماع لنصائح شاب مثلي، فإذا ما وقعتم في أفظع شدة تُلقي الحرب فيها الناس أحيانًا وجب أن تنهضوا بفعل انتباهكم وجهود فضيلتكم؛ وذلك لأن الشجاعة الحقيقية لا تُقهر أبدًا، ولكنكم إذا ما قوضتم سياج الشرف والإخلاص، ذات مرة، تعذر إصلاح هذا الخسران، وعدتم عاجزين عن إعادة الطمأنينة التي لا بُدَّ منها لتمام النجاح في جميع الأمور المهمة، وعن رد الناس إلى مبادئ الفضيلة بعد أن تعلموهم ازدراءها؟ وما تخافون؟ أليس عندكم من البسالة ما يكفي لنيل النصر من غير خداع؟ ألا تكفيكم فضيلتكم مضافةً إلى قوات أمم كثيرة بهذا المقدار؟ لنحارب، خير لنا أن نموت، إذا ما وجب الموت، من أن ننال نصرًا خلافًا للياقة، إن أدرست، إن الملحد أدرست، قبضتُنا، وذلك على أن نشمئز من نذالته وسوء نيته.»
ولما أتم تلماك كلامه هذا شعر بأن الإقناع العذب يجري من شفتيه نافذًا صميم الأفئدة، ولاحظ في المجلس صمتًا عميقًا، وكان كل واحد غارقًا في بحر من التفكير، لا في تلماك، ولا في لطف كلامه، بل في الحقيقة البالغة التي أُحِسَّت في نتيجة برهانه، ويعلو الوجوهَ دَهَشٌ، ثم يُسمع همس أصم ينتشر في المجلس شيئًا فشيئًا، وينظر بعض الحضور إلى بعض، ولا يجرؤ أحد أن يكون أول مَن يتكلم، وكل ينتظر إعراب رؤساء الجيش عما في أنفسهم، وكل يجد مشقةً في ضبط مشاعره، ثم نطق نسطور الرزين بما يأتي: «أي سرَّ أبيه أوليس! لقد أنطقك الآلهة، لقد وضعت في فؤادك منرفا، التي كانت كثيرة الوحي إلى أبيك، ما أبديت من رأي حكيم كريم، لا أنظر إلى شبابك مطلقًا، لا أتنور غير منرفا في كل ما قلت، لقد تكلمت في سبيل الفضيلة، ولولا الفضيلة لتحول أعظم المنافع إلى خسران واقع، ولولا الفضيلة لوقع انتقام الأعداء حالًا، لجُلب حذر الحلفاء حالًا، لظهر في الحال نفور جميع رجال الخير وغضب الآلهة العادل، ولندع فينوز في يد اللوكانيين، ولا نُفكر، بعد الآن، في غير قهر أدرست ببسالتنا.»
نطق بهذا، وهتف جميع المجلس لهذا القول الحكيم، ولكن كل مَن في المجلس كان، وهو يهتف، يرجع البصر إلى ابن أوليس معتقدًا أنه يُبصر فيه تلألؤ حكمة منرفا التي تُوحي إليه.
ولسرعان ما ثارت في مجلس الملوك مسألة أخرى لم ينل بها تلماك مجدًا أقل من ذاك، وذلك أن أدرست، الذي لم ينفك يكون قاسيًا ماكرًا، أرسل إلى المعسكر جنديًّا لاجئًا اسمه أكنت؛ كيما يسم أشهر رؤساء الجيش، وكان أخص ما أمر به ألا يدخر وسعًا في قتل الشاب تلماك الذي كان قد ألقى الهول بين الدونيين، وكان تلماك من شدة البأس وسلامة النية بحيث لم يجنح إلى الحذر، فاستقبل هذا البائس استقبال وداد، استقبل هذا المسكين الذي كان قد رأى أوليس في صقلية فقص عليه خبر مغامرات هذا البطل، وأخذ تلماك يغذيه ويسعى في تخفيف بؤسه، وذلك أن أكنت توجع من مكر أدرست به وسوء معاملته إياه، وذلك من غير أن يعرف تلماك أن ذلك يعني تغذيةً لحية سامة في صدر أكنت وتدفئةً لها كيما تلدغ تلماك وتقتله.
ويباغت جندي لاجئ آخر، اسمه أريون، كان أكنت قد أرسله إلى أدرست ليخبره بحال معسكر الحلفاء وليوكِّد له سمه في الغد لأهم الملوك مع تلماك، وذلك في وليمة أعدها لهم، ويُقبض على أريون، ويعترف بخيانته، ويُتهم بأنه على اتفاق مع أكنت لما بينهما من صداقة قوية، بيد أن أكنت المداجي الجريء أجاد الدفاع عن نفسه فلم يمكن إثبات جرمه ولا كشف أساس المؤامرة.
ويرى كثير من الملوك أنه، عند الشبهة، يجب أن يُضحَّى بأكنت في سبيل الأمن العام، وقد قالوا: «يجب قتله، فلا يؤبه لحياة رجل واحد إذا ما دار الأمر حول حفظ حياة كثير من الملوك، وما أهمية هلاك بريء إذا ما دار الأمر حول حفظ وكلاء الآلهة بين الناس؟»
وكان تلماك من النفوذ والحماسة في كلامه هذا بحيث استهوى الأفئدة وغمر أصحاب ذاك الرأي المنحط بالخجل، ثم هدأ ثائره وقال لهم: «وأما أنا فلست من حب الحياة بحيث أريد العيش بذاك الثمن، وأفضل أن يكون أكنت شريرًا على أن أكون هكذا، وأفضل أن ينزع حياتي على أن أهلكه بشبهة على غير حق، ولكن اسمعوا لي، ودعوني أسأل أكنت أمامكم، يا مَن نصبوا ملوكًا، أي قضاة الأمم، يا مَن يجب عليهم أن يحكموا بين الناس بالعدل والنباهة والاعتدال.»
ولم يلبث تلماك أن سأل ذاك الرجل عن صلته بأريون، ويلحف في سؤاله حول ما لا يُحصى من الأحوال، ويتظاهر، غير مرة، بأن يعيده إلى أدرست مثل جندي لاجئ يستحق العقاب، وذلك ليرى هل يخشى إرساله هكذا أو لا، غير أن أكنت ظل هادئًا وجهًا وصوتًا، فاستدل تلماك بهذا على إمكان عدم براءة أكنت.
وبما أنه لم يستطع استخراج الحقيقة من صميم فؤاده فقد قال له: «أعطني هذا الخاتم، فأنا أريد إرساله إلى أدرست.»
ويصفر وجه أكنت عند هذا الطلب ويرتبك، ويلاحظ ذلك تلماك الذي لم ينفك ينظر إليه، ويتناول تلماك هذا الخاتم، ويقول له: «سأرسل هذه الخاتم إلى أدرست بواسطة بولتروب اللوكاني الذي تعرف متظاهرًا بأنه مرسل من قبلك سرًّا، فإذا ما استطعنا بهذه الوسيلة كشف صلتك بأدرست أهلكت بأشد ما يكون من نكال، وإذا ما اعترفت بذنبك منذ الآن عُفي عنك، واكتفي بإرسالك إلى جزيرةٍ لا يعوزك فيها شيء.»
ويعترف أكنت بكل شيء من فوره، ويهب الملوك له الحياة بطلبٍ من تلماك وفق سابق وعده، ويُرسل إلى إحدى جزر إخنادس حيث يعيش آمنًا.
ويَمضِي وقت قصير على ذلك فيأتي إلى معسكر الحلفاء ليلًا دونيٌّ غامض النسب ولكن مع نشاط وإقدام، يأتي دونيٌّ اسمه ديوسكور، وذلك ليعرض عليهم ذبح الملك أدرست في خيمته، وكان قادرًا على ذلك؛ وذلك لأن من لا يُبالي بحياته يغدو مولى حياة الآخرين، وكان هذا الرجل يبغي الانتقام لما حدث من اغتصاب أدرست زوجه التي شغفته حبًّا والتي كانت تساوي حتى فينوس جمالًا، وكان قد عزم على إهلاك أدرست واسترداد امرأته أو يهلك دون ذلك، أجل، كان على اتفاق سري حول دخوله خيمة الملك سرًّا ومساعدته في خطته من قبل كثير من الضباط الدونيين، بيد أنه كان يرى ضرورة غارة الحلفاء على معسكر أدرست في الوقت نفسه كيما يسهل عليه، حين الارتباك، إنقاذ زوجه واختطافها، وهذا مع العلم بأنه يرضى أن يهلك إذا لم يستطع خطفها بعد قتله الملك.
ولم يكد ديوسكور يشرح خطته للملوك حتى اتجهت الأبصار إلى تلماك كما لو كانت تسأله عن حكمه في ذلك، قال تلماك: «حرَّم الآلهة انتفاعنا بالخائنين بعد أن حفظونا منهم، وتكفي مصلحتنا وحدها بنبذ الخيانة ولو لم يكن من الفضيلة ما نزدريها معه، ونحن إذا ما أبحناها بمثالنا كنا جديرين بأن ترتد علينا، ومن يكون منا آمنًا بعد ذلك؟ يمكن أدرست أن يفلت من الضربة التي تهدده وأن يُنزلها على ملوك الحلفاء، وبهذا تعود الحرب غير حرب، وبهذا لا يبقى محل للحكمة والفضيلة، ولا نرى غير الغدر والخيانة والاغتيال، ونشعر بنتائج هذه الأعمال المشئومة، ونستحقها ما أبحنا أعظم الشرور؛ ولذا أرى رد الخائن إلى أدرست، وأعترف بأن هذا الملك لا يستحق هذا، بيد أن جميع هسبرية وجميع بلاد اليونان الناظرة إلينا تستحق أن نسلك هذا السبيل كيما نكون محل تقديرها، ونحن مدينون لأنفسنا، وللآلهة العادلين أكثر مما لأنفسنا، بنفورنا من الغدر.»
ولسرعان ما أُرسل ديوسكور إلى أدرست، فارتجف أدرست من الخطر الذي يحيق به، ولم يستطع أن يُعجب بجود أعدائه، ما عجز الأشرار عن إدراك معنى الفضيلة الخالصة، وإنما حار أدرست، مرغمًا، حيال ما رأى، وإن لم يُقدم على امتداحه، ومن شأن ذاك العمل الكريم الذي قام به الحلفاء أن يكون ذكرى مخزيةً لجميع خدائعه ومظالمه، ويحاول الحط من قيمة نُبل أعدائه، ويجد من الفضائح أن يظهر كنودًا مع ذلك، وهو مدين لهم بحياته، ولكن الرجال الفاسدين لا يلبثون أن يقسوا تجاه كل مَن يمكن أن يدنو منهم.
وبما أن أدرست أبصر زيادة صيت الحلفاء كل يوم فقد رأى القيام نحوهم بعمل باهر، وبما أنه كان عاجزًا عن صنع أي شيءٍ تأمر به الفضيلة فإنه أراد أن يتفوق عليهم بالسلاح على الأقل فبادر إلى القتال.
ويحل يوم النزال، ولم يكد الفجر يفتح للشمس أبواب المشرق في طريق زاخرة بالورد حتى أفلت تلماك، الذي فاق بجدِّه انتباه أكثر القواد حنكةً، من بين ذراعي النوم اللذيذ، وسيَّر جميع الضباط، وكانت خوذته المستورة بسبائب متموجة تلمع فوق رأسه، وكانت درعه التي على ظهره تبهر عيون جميع الجيش، ولا غرو، فقد كان لصنع فلكن، مع جماله الطبيعي، سناء المِجَنِّ المستتر تحته، ويحمل رمحه بيده كما يشير بيده الأخرى إلى المراكز التي يجب شغلها، وكانت منرفا قد وضعت في عينيه نارًا ربانية وعلى وجهه جلالًا زاهيًا يبشر بالنصر.
ويسير، وينسى الملوك سنهم ومقامهم، ويشعرون بأنهم مسيرون بقوة علوية تحملهم على اتباع خطواته، وعاد الحسد الواهي لا يجد سبيلًا إلى قلوبهم، وكل يخضع لذاك الذي تقوده منرفا من يده خافيةً عن الأبصار، ولم تشب عمله صولة ولا لهوجة، وكان حليمًا هادئًا صبورًا دائم الاستعداد لسماع الآخرين والانتفاع بنصائحهم، ولكن مع النشاط والحذر والانتباه إلى أقصى حد، ولكن مع تنظيم كل شيء بما يلائم، ولكن مع عدم ارتباك حيال أي أمر كان، ولكن مع الإغضاء عن الزلات وإقالة العثرات وتذليل الصعوبات، وذلك من غير أن يحمل أحدًا فوق طاقته موحيًا بالحرية والثقة في كل مكان، وكان إذا ما أصدر أمرًا ظهر هذا الأمر بسيطًا جليًّا، وكان يكرر الأمر مبالغةً في إرشاد من يقوم بتنفيذه، وكان يُبصر في عيني هذا هل أدركه أو لا، وكان يحمله، بعد ذلك، على إيضاح الوجه الذي أدرك به كلامه وهدف خطته الرئيس إيضاحًا ذا دالة، فإذا ما أحس حسن فهم مَن يرسل ومَن يطلع على وجهة نظره لم يصرفه إلا بعد أن يُبدي تقديره له وثقته به كيما يشجعه، وهكذا فإن جميع من يبعث كان يطفح نشاطًا كيما يروقه وكيما يفوز، بيد أن هؤلاء كانوا لا يخشون عزوه إليهم سوء التوفيق ما دام يلتمس المعاذير حول كل خطأ لا يصدر عن سوء نية.
وكان الأفق يلوح أحمر ملتهبًا بأشعة الشمس الأولى، وكان البحر زاخرًا بنيران النهار الناشئ، وكان الشاطئ يعج بحركة الرجال والسلاح والخيل والعربات، وكان هذا ضجيجًا مختلطًا مشابهًا لضوضاء الأمواج الهائجة عندما يثير نبتون سود الزوابع في أسفل مهاويه، وهكذا أخذ مارس يبذر الغيظ في القلوب بقعقعة السلاح وجهاز الحرب المرتج، وكانت الحقول مملوءةً بالحراب المزبئرة المشابهة للسنابل التي تكسو الأتلام الخصيبة أيام الحصاد، وكان يتصاعد سحاب من الغبار يحجب الأرض والسماء عن أعين الناس مقدارًا فمقدارًا، وكان يتقدم الاختلاط والهول والذبح والموت الزؤام إلى الأمام.
ولم تكد السهام الأولى تُطلق حتى رفع تلماك عينيه ويديه نحو السماء ونطق بما يأتي: «أي جوبيتر، أي أبا الآلهة والناس، ترى بجانبنا ما لا نستحي بالبحث عنه من عدل وسلام، وترانا نقاتل على الرغم منا، وقد أردنا حقن دماء الناس ونحن لا نبغض حتى هذا العدو وإن كان ظالمًا ماكرًا ملحدًا، فاحكم بيننا وبينه، وإذا كان لا بُدَّ من موتنا فها هي ذي حياتنا بين يديك، وإذا كان لا بُدَّ من إنقاذ هسبرية وصرع الطاغية نلنا هذا النصر بقدرتك وحكمة ابنتك منرفا، وكنا مدينين لكما بهذا المجد، وأنت، يا مَن يحمل الميزان بيده، دبر مصير المعارك، وأنت تعلم أننا نجاهد في سبيلك، وبما أنك عادل فإن أدرست عدو لك أكثر من أن يكون عدوًّا لنا، وإذا ما تم النصر لحزبك قبل آخر النهار أريقت دماء الضحايا في محاريبك.»
قال هذا، ودفع جياده الوثابة المزبدة إلى صفوف الأعداء المتحفزة فكان برياندر اللكريني أول من لاقى، وكان برياندر هذا لابسًا جلد الأسد الذي قتله في أثناء رحلة قام بها في كليكية، وكان مسلحًا بدبوس عظيم كما كان هركول، وكان يشابه الغيلان بقامته وقوته، فلما رأى تلماك ازدرى شبابه وجمال وجهه، وقال له: «أتريد، أيها الغلام المتخنث، أن تنازعنا مجد المعارك؟ اذهب، أيها الولد، اذهب وابحث عن أبيك بين الأطياف.»
قال هذا وهو يرفع دبوسه الأعقد الثقيل المجهز بنواتئ من حديد والذي يظهر مثل صاري المركب، وكل يخشى ضربته، ويهدد رأس ابن أوليس بالكسر، ويصد تلماك الضربة عنه، وينقض على برياندر بسرعة النسر الذي يشق الهواء، ويكسر الدبوس حين هُوِيه عجلة عربة كانت بجانب عربة تلماك، ويطعن هذا الفتى اليوناني برياندر في عنقه، ويخنق دمه، الذي يجري من جُرحه البليغ فقاقيع فقاقيع، صوته، وعادت جياده الوثابة لا تشعر بيده الخائرة وصارت أعنَّتها المتموجة على رقابها تتموج ذات اليمين وذات الشمال، ويسقط من فوق عربته مغمض العينين حيال النور بادي الموت على وجهه المصفر المشوه، ويرق تلماك له، ويُسلم جثته إلى خدمه من فوره محتفظًا بجلد الأسد مع الدبوس كدليل على نصره.
ثم بحث تلماك عن أدرست في المعترك، ولكنه ألقى، وهو يبحث عنه، جمعًا من المقاتِلة في الجحيم، ومن هؤلاء هيله الذي قرن بعربته حصانين، مشابهين لحصن الشمس، كان قد علفهما في المروج التي تُروى بماء نهر أوفيد، ومنهم ديموليون الذي كاد في صقلية يساوي إركس في الملاكمات، ومنهم كرنتور الذي كان نزيل هركول وصديقه عندما مر ابن جوبيتر هذا على هسبرية وقضى على اللعين كاكوس، ومنهم مِنِكْرات الذي يشابه بولكس في المصارعة كما يُروى، ومنهم هبوكون السلابي الذي كان يضاهي كستور مهارةً وكياسةً في ترويض الخيل، ومنهم الصائد المشهور أوريميد الذي ما فتئ يلطخ بدم ما يصطاد من دببة ورتتة يقتلها في ذرى جبال الأبنين المكسوة ثلجًا والذي كان عزيزًا على ديانا المعلمةِ إياه رمْيَ النشاب كما يقال، ومنهم نكسترات القاهر لغولٍ يقذف النار في الصخر من جبل غرغان، ومنهم كليانت الذي كان يجب أن يتزوج الفتاة فلويه بنت نهر ليريس، وذلك أن أباها كان قد وعد بتزويجها مَن ينقذها من ثعبانٍ مجنح ولد على ضفاف هذا النهر ووجب أن يفترسها في بضعة أيام وفق نبوءة هاتف الغيب، وأن هذا الشاب الذي أولع بها غرامًا، وقف نفسه على قتل هذا الغول فوفق لهذا، ولكن من غير أن يذوق ثمرة فوزه، وأن فلويه كانت تستعد لعرس رائع وتنتظر كليانت فارغة الصبر فعلمت أنه اتبع أدرست في معاركه، وأن البرك قصفت أيامه، وتملأ فلويه الغاب والجبال القريبة من ذاك النهر بعويلها، وتُغرق عينيها بالدموع، وتنتف شعرها الأشقر الجميل، وتنسى أكاليل الزهر التي تعودت اقتطافها، وتتهم السماء بالظلم، وبما أنها لم تكف عن البكاء ليل نهار فإن الآلهة رقوا لأحزانها ووضعوا حدًّا لآلامها استجابةً لدعاء النهر، وتحولت إلى ينبوعٍ بغتةً عن سكبٍ لعبراتها، تحولت إلى ينبوعٍ يجري في صميم النهر مضيفًا مياهه إلى مياه الإله أبيها، بيد أن ماء هذا الينبوع لا يزال مرًّا، ولا يُزهر العشب على ضفافه مطلقًا، ولا يوجد على هذه الضفاف الكئيبة غير ظل السرو.
ويُخبر أدرست في تلك الأثناء بأن تلماك ينشر الذعر في كل محل، فيبحث عنه بنشاط، ويأمل أن يسهل عليه قهر ابن أوليس الذي لا يزال في ميعة الشباب، ويجمع حوله ثلاثين دونيًّا أقوياء بارعين بالغي الجرأة، ويعدهم بجوائز سنيةٍ إذا ما استطاعوا في المعركة أن يُهلكوا تلماك على الوجه الذي يقدرون عليه، ولو لُقي تلماك في بدء المعركة لأحاط هؤلاء الرجال الثلاثون بعربته، ولهجم أدرست عليه من الأمام، ولم يُلاقِ أية مشقةٍ في قتله، غير أن منرفا أضلتهم.
ويخيل إلى أدرست أنه يرى تلماك ويسمعه في مكانٍ غائرٍ من السهل واقعٍ في سفح تل حيث يوجد جمع من المقاتلين، ويعدو ويطير ويريد أن يرتوي من الدم، ولكنه يجد، بدلًا من تلماك، الشيخ نسطور وهو يرمي بيده المرتعشة بعض السهام على غير جدوى، ويُريد أدرست أن يطعنه عن غيظٍ، بيد أن كتيبةً من البيليين تُسرع إلى نسطور وتحيط به لحمايته، وهنالك يُظلم الجو بغيمٍ من السهام يغشى المقاتلين، وهنالك لا يُسمع غير صراخ المحتضرين وأنينهم، وغير صوت سلاح من يسقطون في المعركة، وتُعول الأرض تحت كُدْسٍ من القتلى، وتجري جداول دمٍ من كل جهة، وتظهر بلون ومارس وفوري النار لابسةً أرديةً كريهةً ملطخةً بالدم، وتملأ عيونها الجافية بهذا المنظر وتجدد الغيظ في القلوب بلا انقطاع، وتدرأ هذه الآلهة العدوة للناس عن الفريقين كل شفقةٍ كريمة وكل بسالةٍ معتدلة وكل إنسانيةٍ لطيفة، فعاد لا يُرى في هذا الكدس المختلط من الناس الذين يفترس بعضهم بعضًا غير القتل والانتقام والغم والكيد القاسي، وتُبصر بلاس الحكيمة المنيعة ذلك فترتجف وتتراجع نفورًا.
ويسير فلكتت بخطًا وئيدةٍ في تلك الأثناء ممسكًا سهام هركول، ثم يخف إلى إمداد نسطور، وبما أن أدرست لم يستطع إصابة الشيخ الرباني هذا فإنه رشق بسهامه كثيرًا من البيليين وسقاهم كأس المنون، ومن هؤلاء أن صرع كتيزيلاس البالغ من سرعة العدو ما لا يكاد يطبع معه أثر قدميه في الرمل، والذي كان يسبق في بلده أسرع أمواج الأروتاس والألفِه، وصرع عند قدميه أتيفرون الذي هو أجمل من هيلاس كما أسقط بتيريلاس الذي لحق نسطور في حصار تروادة والذي كان أشيل نفسه قد أحبه لبسالته وقوته، وأسقط أرستوجيتون الذي كان قد غطس، كما يُروى، في مياه نهر أخيلوس فنال من هذا الإله، سرًّا، مزية اتخاذ جميع الأشكال، والذي بلغ من المرونة والنشاط في جميع حركاته ما كان يُفلت معه من أقوى الأيدي، والذي صار، مع ذلك، لا يُبدي حراكًا بطعنة سهمٍ من أدرست، والذي فاض روحه مع دمه.
ويرى نسطور سقوط أشجع ضباطه تحت يد الطاغية أدرست كما تسقط السنابل الذهبية في أثناء الحصاد تحت منجل الحصاد القاطع، فينسى الخطر الذي يعرض له مشيبه على غير جدوى، وتتخلى عنه حكمته، وعاد لا يُفكر في غير تعقبه بعينيه ابنه بزسترات الذي كان يُدير المعركة من ناحية أبيه ليبعد الخطر عنه، وتأتي الساعة النحسة التي لا بد لبزسترات من أن يُشعر فيها نسطور بمقدار ما ينطوي عليه التعمير طويلًا من شقاء.
ويوجه بزسترات إلى أدرست طعنة سهمٍ شديدةً كانت تُهلكه لو أصابته، ويتجنبها هذا الدوني، وبينا كان بزسترات، الذي ارتج بالضربة الخاطئة التي صوبها، يُقوِّم سهمه طعنه أدرست بحربةٍ في بطنه، وتأخذ أحشاؤه في الخروج مع جدولٍ من الدم، ويكبو لونه كالزهرة التي تقطف يد الحورية في المروج، وتنطفئ عيناه، ويضعف صوته، ويسنده إليه، عند سقوطه، مربيه ألسه الذي كان بجانبه، ولم يكن لديه من الوقت غير إحضاره ليكون بين ذراعي أبيه، وهناك يُريد أن يتكلم، ويُبدي آخر علامات الحنان، ولكنه لفظ نفسه الأخير حينما فتح فاه.
وبينما كان فلكتت ينشر القتل والهول حوله دفعًا لجهود أدرست كان نسطور يضم جثة ابنه بين ذراعيه ويملأ الهواء بعويله غير محتمل للنور، وقد قال: «يا لشقاء مَن يكون أبًا ويُعمَّر طويلًا! آه! أيها القدر القاسي، لِمَ لم تختم حياتي حين اصطياد الرتتة في كليدون أو الرحلة إلى كلكس أو في أثناء حصار تروادة الأول؟ إذن، لكنت قد مِتُّ مكللًا بالمجد خاليًا من الغم، وأما الآن فإنني أُقاسي مشيبًا أليمًا عرضةً للازدراء والعجز، عدت لا أعيش إلا لأعاني ضروب المصائب، عاد لا يكون لي من المشاعر غير الكروب، أي بني، أي بني، أي ابني العزيز بزسترات! غدوت موضع سلواني بعد فقد أخيك أنتيلوك، وأما الآن فقد فقدتك، وخسرت بفقدك كل شيء، ولا أجد ما يُسليني عن همومي، وفرغت من جميع شئوني، وصار الأمل، الذي هو مسكن آلام الناس الوحيد، لا يظهر لي خيرًا أبالي به، أي أنتيلوك، أي بزسترات، أي ولديَّ العزيزين، أعتقد اليوم أنني فقدتكما، ولا عجب، فموت أحدكما نكأ الجرح الذي أصاب به الآخر صميم فؤادي، لن أراكما! ومن ذا الذي يُغمضن عينيَّ؟ ومن ذا الذي يجمع رمادي؟ أي بزسترات! لقد مت شجاعًا كما مات أخوك، وأنا الذي لا يستطيع أن يموت.»
أجل، أراد نسطور أن يطعن نفسه بنبلةٍ كان يمسكها عندما نطق بهذه الكلمات، بيد أنه قُبض على يده، ونزعت منه جثة ابنه، وبينا كانت قوى هذا الشيخ الشقي تخور حمل إلى خيمته حيث استرد قواه وود أن يعود إلى المعركة، ولكنه مُنع من عزمه على الرغم منه.
وكان كل من أدرست وفلكتت يبحث عن الآخر في تلك الأثناء، وكان الشرر يتطاير من عيني كل منهما كما يتطاير من عين الأسد والفهد حين يحاول كل منهما أن يفترس الآخر في الحقول التي يرويها نهر كايستر، ويبدو الوعيد والغيظ الصائل والانتقام الأليم في أعينهما الملتهبتين، وكانا يحملان الموت إلى كل مكان يرميانه بسهامهما، وكان جميع المقاتلين ينظرون إليهما فزعين، وكان كل منهما ينظر إلى الآخر، وكان فلكتت قابضًا بيده على أحد السهام الهائلة التي لم تُخطئ طعنتها قد عندما كان يُلقيها فتوجب من الجروح ما لا يُشفى، بيد أن مارس، الذي كان يعاضد الطاغية الجريء أدرست، لم يُطق هلاك هذا الجبار بسرعة، فأراد أن يُطيل به فظائع الحرب وتكثير المذابح، وهكذا لم يزل أدرست مدينًا لعدل الآلهة بتعذيب الناس وسفك دمائهم.
ويُخرج فلكتت حينما أراد الهجوم على أدرست، وذلك بطعنة سهم أصابه بها الشاب اللوكاني أنفيماك الذي هو أجمل من نيره المشهور، والذي كان لا يفوقه جمالًا غير أشيل بين مقاتلة الأغارقة في أثناء حصار تروادة، ولم يكد فلكتت يتلقى تلك الضربة حتى رمى أنفيماك بسهمه وأصاب قلبه، ولسرعان ما انطفأت عيناه السوداوان الجميلتان وغشيهما ظلام الموت، ويذبل فمه القرمزي الأشد حمرةً من كل وردٍ يبذره الفجر الناشئ في الأفق، ويُكبي خديه شحوب كريه، ويشوه هذا الوجه اللطيف الناعم بغتةً، ويرق له فلكتت نفسه، ويئن جميع المحاربين حين مشاهدتهم هذا الشاب الصريع يتململ في دمه، ويتمرغ شعره، الجميل كشعر أبولون، في التراب.
ويضطر فلكتت إلى مغادرة المعركة بعد قهره أنفيماك وفقده دمه وقواه، ويكاد جرحه القديم ينغل وتكاد آلامه تتجدد كما يلوح، وذلك لما بذل من جهدٍ في المعركة ولأن ولدَيْ إسكولاب لم يستطيعا شفاءه تمامًا مع ما كان عندهما من علمٍ رباني، وها هو ذا قد أوشك أن يسقط في كُدس الجثث الدامية المحيطة به، ويُخرجه من المعركة أرخيدام الذي هو أجرأ الإيباليين وأبرعهم والذي أتى به لإقامة بتيلية، وذلك في وقت كان يسهل على أدرست أن يصرعه عند قدميه، وعاد أدرست لا يجد من يجرؤ على مقاومته، ولا على تأخير نصره، والجميع يُصرع، والجميع يفر، ويشابه الوضع سيلًا بلغ الزبى فصار يجر بأمواجه الصائلة كل ما يُلاقى من غلالٍ وقِطاعٍ ورعاءٍ وقُرًى.
ويسمع تلماك من بعيدٍ وغْيَ الغالبين، ويرى ارتباك رجاله وفرارهم أمام أدرست كما لو كانوا سربًا من الأيائل الوجلة يجوب الحقول الواسعة والغاب والجبال، حتى الأنهار السريعة، عندما يتعقبه الصائدون، ويئن تلماك، ويبدو الغيظ على عينيه، ويترك الأماكن التي كان يقاتل فيها طويلًا قتال مجد ومخاطرة، ويُغذ في السير لإنجاد رجاله، ويتقدم مغمورًا بدم جمعٍ من الأعداء جندله على التراب، ويُخرج من بعيدٍ صيحةً سمعها الجيشان.
وكانت منرفا قد جعلت في صوته ما لا يُعرب عنه من هولٍ تدوي به الجبال المجاورة، ولم يتفق لمارس في تراكية قط أن أسمع بأقوى من ذلك صوته الجافي عند مناداته فُوري النار والحرب والموت، وتحمل صيحة تلماك هذه كل بسالةٍ وإقدامٍ إلى قلوب أتباعه، ويجمد بها الأعداء فَرَقًا، ويعتري حتى أدرست عار الاضطراب شعورًا، ولا أدري مقدار ما في الطوالع من شؤمٍ يوجب ارتجافه، وإنما اليأس، لا البأس الهادئ، هو الذي يهزه، وتخور ركبه ثلاث مرات، ويرتد على عقبه ثلاث مرات من غير تفكير فيما كان يصنع، وينتشر في جميع أعضائه اصفرار خورٍ وعرق بارد، ولا يستطيع صوته الأبح الحائر إتمام أي كلام يصدر عنه، وتلوح عيناه، المملوءتان نارًا قاتمةً متوقدةً، خارجتين من رأسه، ويُرى ارتجاجه بالفوري كأرست، ويظهر انقباض في جميع حركاته، هنالك أخذ يعتقد وجود آلهةٍ، هنالك خُيل إليه أنه أغضبها، هنالك سمع صوتًا أصم يخرج من قعر الهوة داعيًا إياه إلى الترتر الأسود، وكلٌّ كان يُشعره بيدٍ سماويةٍ خفيةٍ مدلاةٍ فوق رأسه كيما تثقل عليه وتضربه، وينطفئ الأمل في صميم فؤاده، ويتبدد بأسه كما يتبدد نور النهار عند غياب الشمس في مياه البحر واشتمال ظلام الليل بالأرض.
وأخيرًا يدنو الملحد أدرست من ساعته الأخيرة، هذا الملحد أدرست الذي كان يكابد طويلًا فوق الأرض لو لم يحتج الناس إلى عقاب عاجل، ويعدو أدرست مسعورًا نحو مصيره الذي لا مفر منه، ويلازمه الغيظ والندم الأليم والوله والغضب والهياج واليأس، ولم يكد يرى تلماك حتى أيقن أنه يُبصر الأفرن يُفتح له، وأن أعاصير اللهب التي خرج من نهر فليجتون الأسود مهيأةٌ لالتهامه، ويصرخ ويظل فاغرًا فاه من غير أن يستطيع النطق بكلمة، شأن الرجل النائم الذي يفتح فمه، وهو يحلم حلمًا مزعجًا، باذلًا جهده ليتكلم، بيد أن الكلام يعوزه دائمًا ويحاول الكلام عبثًا، ويُطلق أدرست سهمه على تلماك بيدٍ مرتعشة سريعة، ويحتمي صديق الآلهة المقدام تلماك بترسه، ويلوح أن النصر يكتنفه بأجنحته مدليًا تاجًا فوق رأسه، ويسطع البأس العذب الهادئ في عينيه، ويُعد منرفا ما ظهر حكيًا متزنًا بين أشد الأهوال، ويرتد السهم الذي ألقاه أدرست بالترس، ويبادر أدرست إلى استلال سيفه حتى يحول دون إلقاء ابن أوليس سهمه عليه بدوره، ولما رأى تلماك أدرست شاهرًا سيفه عدل عن رمي سهمه إلى شهر سيفه أيضًا.
ولما رئي الاثنان يتبارزان عن كثبٍ على هذا الوجه وضع جميع المحاربين الآخرين أسلحتهم صامتين محدقين إليهما معلقين نتيجة الحرب على اصطراعهما، وتلمع سيوفهما كالبرق الذي تنطلق منه الصواعق، ويتداخل السيفان غير مرة ويقومان بضرباتٍ طنانةٍ غير مجديةٍ في السلاح المصقول، ويطول المتبارزان ويتلويان ويوطُؤان وينهضان من فورهما، ثم يتماسكان، وما كان اللبلاب النابت عند أسفل الدردار ليكبس بفروعه المتشابكة على ساق هذه الشجرة العقداء حتى غصونها العليا كبسًا أشد من ذلك، ولم يفقد أدرست قوته بعد، ولم يتذرع تلماك بجميع قوته بعد، ويبذل أدرست جهودًا كثيرة يغافل بها عدوه ويضعضعه، ويحاول إمساك سيف هذا الشاب اليوناني، ولكن على غير طائل، وبينا كان أدرست يحاول هذا رفعه تلماك من الأرض وطرحه على الرمل، ويُبدي هذا الملحد، الذي ما انفك يهين الآلهة، خوفًا من الموت، ويستحي أن يلتمس الحياة، ولم يستطع أن يمنع نفسه من إظهار هذه الرغبة، ويسعى أن يثير رحمة تلماك، قال أدرست: «والآن، يا ابن أوليس، أعترف بالآلهة العادلين، فهم يجازونني بما أستحق، ولا يوجد غير البلاء ما يفتح عيون الناس حتى يروا الحقيقة، وأرى الحقيقة، وهي تدينني، وأنت ترى ملكًا يُذكرك بأبيك البعيد من إيتاك فيؤثر في فؤادك.»
ولسرعان ما قال تلماك، الممسك أدرست تحت ركبتيه والرافع سيفه لينحره، ما يأتي: «لم أرد غير نصر الأمم التي أتيت لمساعدتها وغير تمتعها بالسلام؛ ولذا فإنني لا أحب سفك الدماء مطلقًا؛ ولذا فعش يا أدرست، ولكن عش لإصلاح خطيئاتك، وأعد كل ما اغتصبت، وأقم العدل والدعة في ساحل هسبرية الكبرى التي دنستها بالقتل والخيانة، وعش، وكن رجلًا آخر، واعلم بسقوطك أن الآلهة عادلون، وأن الأشرار أشقياء، وأنهم يُخدعون حين يحاولون نيل السعادة بالعنف والقسوة والكذب، ثم اعلم أنه لا شيء أنعم للإنسان وألطف من الفضيلة البسيطة الثابتة، وليكن ابنك مترودور واثنا عشر من وجوه قومك رهائن لدينا.»
نطق تلماك بهذه الكلمات، وترك أدرست ينهض، ومد إليه يده غير حاذرٍ من سوء نيته، بيد أن أدرست لم يلبث أن رماه بسهمٍ آخر قصيرٍ كان يخفيه، وكان هذا السهم من الشحذ ومن براعة الرشق بحيث يخرق درع تلماك لو لم تكن ربانيةً، ويرمى أدرست بنفسه خلف شجرةٍ في الوقت عينه اجتنابًا لتعقيب الشاب اليوناني: تلماك.
هنالك قال تلماك: «ترون، أيها الدونيون، أن النصر لنا، وأن الملحد لا ينجو بنفسه إلا بالخيانة، وأن من لا يخاف الآلهة يخاف الموت، وأن من يخاف الآلهة لا يخاف غيرهم.»
قال هذا الكلام وهو يتقدم نحو الدونيين، ويشير على رجاله، الذين كانوا في الناحية الأخرى من الشجرة، أن يسدوا المنافذ على الغادر أدرست، ويخشى أدرست أن يفاجأ، فيتظاهر بأنه يعود إلى الوراء، ويريد هزم الأقريطشيين الذين يعترضون له، بيد أن تلماك يبدو نشيطًا كالصاعقة التي يُرسلها أبو الآلهة من فوق جبل الألنب على رءوس المجرمين فينقض على عدوه ويقبض عليه بيدٍ منصورة، ويطرحه كما تطرح الشمأل الشديدة غض الحصائد التي تُزين الحقول، وقد عاد تلماك لا يستمع إلى الملحد، وإن حاول الملحد إساءة استعمال كرم تلماك، ويغمد تلماك سيفه في أدرست ويدهوره في لهب الترتر الأسود جزاءً وفاقًا.
ولم يكد أدرست يموت حتى سُرَّ الدونيون بخلاصهم بدلًا من الرثاء لهزيمتهم وهلاك زعيمهم، ويمدون أيديهم إلى الحلفاء دليلًا على السلام والوفاق.
ويفر، عن جبنٍ ونذالةٍ، مترودور الذي كان أبوه أدرست قد غذاه بمبادئ النفاق والظلم والقسوة، بيد أنه كان له عبد شريك في رذائله وطغيانه، وكان قد أعتق عبده هذا وغمره بإحسانه، فعلى هذا العبد اعتمد في فراره، ولم يُفكر هذا العبد في غير خيانته ناظرًا إلى مصلحته الخاصة، ويقتله العبد من الخلف في أثناء فراره، ويقطع رأسه، ويأتي به إلى معسكر الحلفاء طامعًا أن ينال جائزةً كبيرة على هذه الجناية التي تُختم بها الحرب، ولكنه يُنفر من هذا المجرم، ويؤمر بقتله.
ولم يستطع تلماك أن يُمسك عن الدمع حينما رأى رأس مترودور الذي كان شابًّا بارع الجمال رائع الخلقة فأفسدته الشهوات وسوء القدوات، وقد قال بصوت عالٍ: «آه! هذا ما يفعل سم اليسر في أميرٍ شاب، فكلما ارتفع هذا الأمير وبطر ضل وابتعد عن حس الفضيلة، والآن كنت ألقى مثل هذا المصير، على ما يحتمل، لو لم أتعلم الاعتدال من المصائب التي نُشئت فيها بفضل الآلهة وتعاليم منتور.»
ويطلب الدونيون، كشرطٍ وحيدٍ للصلح، أن يُسمح لهم بنصب ملك من قومهم يستطيع أن يمحو بفضائله ما غمر أدرست به المملكة من عار، ويحمدون الآلهة على إهلاكهم هذا الطاغية، ويأتون، أفواجًا أفواجًا؛ لتقبيل يد تلماك الذي قتل هذا الغول عادين انكسارهم نصرًا لهم.
وهكذا انهار في دقيقةٍ واحدةٍ، وبلا حيلةٍ، هذا السلطان الذي كان يُهدد جميع السلطات الأخرى في هسبرية ويوجب ارتعاد أممٍ كثيرة مشابهًا تلك البقاع التي تظهر ثابتةً لا تتغير، ولكن مع قرضها من تحتها مقدارًا فمقدارًا، ويُهزأ طويلًا من العمل الهزيل الذي تُقضم به أسسها، ما توارت عوامل الضعف وظهر كل شيءٍ متماسكًا غير مهتز، ومع ذلك فإن جميع أركانها الواقعة تحت الأرض تُقوَّض بالتدريج حتى الزمن الذي تنخسف فيه الأرض وتظهر الهوة، وهكذا فإن السلطة الظالمة الخادعة تحفر لنفسها هوةً تحتها مهما كان أمر اليسر الذي تنال بالعنف والجور، والواقع أن المكر والجور يُقوِّضان أمتن أركان السلطان القائم شيئًا فشيئًا، والواقع أنه يُعجب بهذا السلطان ويُفزع منه ويُرتجف أمامه إلى أن يغدو أمرًا غير ذي بال، أي إلى أن ينهار بفعل ثقله فلا يقدر شيءٌ على رفعه، وذلك لما صنع بيده من هدم دعائم حُسن النية والعدل التي تقوم عليها المحبة والطمأنينة.