الجزء السابع عشر
رجوع تلماك إلى سلنتة، وإعجابه بازدهار الأرياف، ولكن مع أسفه على خلو هذه المدينة من سنائها الذي كانت عليه قبل مغادرته إياها، منتور يبين له أسباب هذا التحول، فيذكر له الأسس المتينة التي يقوم عليها غِنَى الدولة، ويشرح له مبادئ فن الحكم الأساسية، تلماك يفتح فؤاده لمنتور حول ميله إلى أنتيوب بنت إيدومنه، ثناء منتور على خصال هذه الأميرة، وتوكيده له أن الآلهة يعدونها زوجًا له، وإنما لا ينبغي له أن يفكر الآن في غير السفر إلى إيتاك، خوف إيدومنه من سفر ضيفيه، ومحادثته في كثير من الأمور المهمة التي يجب عليه أن ينجزها والتي لا بد من مساعدته في شأنها، منتور يرسم له ما يجب عليه أن يتبعه من منهاج، ويصر على رغبته في الإبحار مع تلماك إلى إيتاك على جناح السرعة، محاولة إيدومنه إبقاءهما بإثارته هوى تلماك نحو أنتيوب، دعوته إياهما إلى حفلة صيد أراد إقامتها من أجل ابنته، كاد يمزقها خنزير بري لولا طعنه بسهمٍ من تلماك، وقوع إيدومنه في كرب قاتل لعجزه عن إبقاء ضيفيه، منتور يكشف غمه وينال موافقته على الرحيل في آخر الأمر، افتراقهم مع الصداقة البالغة والحنان العظيم.
وكان أول ما حدث تقبيل إيدومنه لتلماك كما لو كان ابنًا حقيقيًّا له، ثم طرح تلماك نفسه على عنق منتور ورواه بدموعه، فقال له منتور: «إنني راضٍ عنك، وذلك أنك أتيت خِطئًا كثيرًا، ولكن مع إفادته إياك في معرفتك نفسك وحذرك منها، ولا عجب، فالإنسان ينتفع بخطئه في الغالب أكثر مما بأعماله الجميلة؛ وذلك لأن الأعمال الجليلة تثير الزهو وتوحي بعجب خطر، وأن الخطأ يرد الإنسان إلى نفسه ويعيد إليه ما فقد من حكمة فيما لاقى من إقبال حسن، وكل ما بقي عليك أن تصنع هو أن تحمد الآلهة وألا تريد ثناء الناس عليك، أجل، لقد قمت بأمور عظيمة، ولكن اعترف بأنك لست الذي فعلها، أوليس من الحق أنها أتتك بما صُب فيك من شيء غريب عنك؟ أو لم تكن عاملًا على إفسادها باستعجالك وتهورك؟ ألا تشعر بأن منرفا حولتك إلى رجل آخر يعلوك ليفعل عن يدك ما فعلت؟ إنها حالت دون زللك كما يحول نبتون دون الأمواج الهائجة عندما يسكن الزوابع.»
وبينما كان إيدومنه يسأل الأقريطشيين الذين عادوا من ميدان الحرب سؤال محبٍّ للاطلاع كان تلماك يستمع إلى نصائح منتور الحكيمة، ثم جال ببصره في جميع الجهات وقال لمنتور: «هذا تحول لم أدرك سببه جيدًا، فهل حلت بسلنتة مصيبة في أثناء غيابي؟ ما علة زوال ذلك البهاء الذي كان يسطع في كل مكان منها قبل سفري؟ عدت لا أرى ذهبًا ولا فضةً ولا حجارةً ثمينة، وغدت الثياب بسيطة والمباني التي تشاد أقل اتساعًا وزخرفًا، وتذوي الفنون، وصارت مدينة سلنتة مكان اعتزال.»
ومتى تعود الملوك ألا يعرفوا من القوانين غير إرادتهم المطلقة وعادوا لا يزجرون أهواءهم أمكنهم صنع كل شيء، ولكن من غير أن يعرفوا أنهم يقوضون دعائم سلطانهم بقدرتهم على كل شيء، وذلك لما لا يكون لديهم نظام ثابت ولا مبادئ للحكم، ولما عادوا غير ذوي رعية عن رغبة كل ذي بُغية أن يتملقهم، أي أنه لا يبقى لهم غير عبيد ينقص عددهم يومًا فيومًا، ومن يقول الحق لهم؟ ومن يضع حدودًا لهذا السيل؟ الجميع يخضع، والحكماء يفرون ويتوارون ويئنون، ولا يوجد غير الثورة المباغتة العنيفة ما يستطيع أن يرد هذا السلطان الطافح إلى مجراه الطبيعي، ومما يقع غالبًا أن تحطمه الضربة التي تستطيع تعديله تحطيمًا لا يُجبر، ولا شيء ينذر السلطان المطلق بالسقوط أكثر من هذا، ويشابه السلطان المطلق قوسًا موتَّرةً تُكسر بغتةً إذا لم تُرْخَ، ولكن مَن يجرؤ على إرخائها؟ أجل، إن إيدومنه كان قد أفسد، حتى الصميم من فؤاده، بهذا السلطان الفاتن، وإنه كُبكب من فوق عرشه، بيد أن ضلاله لم يزُلْ، وكان لا بد من إرسال الآلهة إيانا إليه هنا كيما تزول الغشاوة عن هذا السلطان الأعمى المفرط الذي لا يلائم الناس مطلقًا، ومن ظهور كثير من المعجزات لفتح عينيه.
والترف هو الداء الآخر الذي لا دواء له تقريبًا، ويسمُّ الترف جميع الأمة كما يسم الملوك بالسلطان المطلق، ويقال: إنَّ الترف يُغذِّي الفقراء على حساب الأغنياء، كما لو كان الفقراء عاجزين عن كسب عيشهم كسبًا أكثر نفعًا بتكثيرهم ثمرات الأرض مما بتخنيثهم الأغنياء عن إفراط بدقائق الشهوة، وتتعود كل أمة أن تعد من حاجيات الحياة أشد الأشياء عدم نفع، أي أنه يبتكر كل يوم حاجات جديدة، أي يعود الناس غير مستغنين عن أشياء كانت غير معروفة منذ ثلاثين عامًا، ويُطلق على هذا الترف اسم حسن الذوق أو كمال الحرف أو أدب القوم، ويثنى على هذه الرذيلة، التي تُنادِي ما لا يحصيه عد من الرذائل الأخرى، كما لو كانت فضيلةً، وتنتشر بالعدوى من الملك حتى سِفْلة الناس، ويريد أقرباء الملك أن يقلدوا أبهته، ويريد الأكابر أن يقلدوا أقرباء الملك، ويريد متوسطو الحال أن يساووا الأكابر، ومن ذا الذي ينصف بنفسه ما ود الأصاغر أن يتحولوا إلى متوسطي الحال وود كل واحد أن يصنع أكثر مما يستطيع، وذلك عن زهو وافتخار بالغنى عند بعضهم، وعن خجل وستر للفقر عند الآخرين؟ وأما مَن بلغوا من الحكمة ما يدينون به منكرًا كبيرًا كهذا فليسوا من الجرأة ما يكونون معه أول من يرفع رأسه احتجاجًا على ذلك، ويسير جميع الأمة إلى الخراب وتضطرب الأمور، ومن نتائج الميل إلى نيل المال الضروري لدفع النفقات الباطلة إفساد أصفى النفوس، وبذلك يصرف الناس همهم إلى الاغتناء عادِّين الفقر عارًا، وكن عالمًا أو ماهرًا أو فاضلًا، وهذب الناس، واكسب الحروب، وأنقذ الوطن، أي كن من شئت، تُزْدَرَ إذا لم ترفع مواهبك بالأبهة، حتى إن من ليس عندهم مال يريدون الظهور بمظهر الغنى، فينفقون إنفاق الأغنياء، ويستدينون، ويخادعون، ويتخذون ألف حيلةٍ شائنة للوصول إلى ذلك، ولكن من ذا الذي يتلافى هذه المنكرات؟ لا بد لبلوغ هذا من تغيير ذوق جميع الأمة وعاداتها، ولا بد من منحها قوانين جديدةً، ومن ذا الذي يستطيع صنع هذا غير ملك فيلسوف عارف، بمثال اعتداله الخاص، أن يخزي جميع من يميلون إلى التبذير، وأن يشجع الحكماء الذين يقنعون بالكفاف الشريف.»
سمع تلماك هذا الكلام فكان مثل رجل أفاق من نوم عميق، وشعر بصدق هذا الكلام، وينقش على فؤاده كالخطوط التي يطبعها النحات الماهر على الرخام معطيًا إياه رقةً وحياةً وحركة، ولا يجيب تلماك بشيء، ولكنه، وهو يعيد في ذهنه جميع ما سمع، أجال عينيه في الأشياء التي بُدلت في المدينة، ثم قال لمنتور: «لقد جعلت إيدومنه أحكم جميع الملوك، حتى صرت لا أعرفه ولا أعرف رعيته، وأعترف بأن ما فعلت هنا أعظم بمراحل من جميع الانتصارات التي نلناها، ويوجد نصيب كبير للمصادفة والقوة في كل فوزٍ يتم في الحرب، ويجب أن يقاسمنا جنودنا مجد المعارك، غير أن جميع ما صنعت صدر عن رأس واحد، ولا بد من أنك جاهدت وحدك حيال الملك وحيال رعيته كيما تصلحهما، ويكون كل نجاح في الحرب مشئومًا ممقوتًا، وأما هنا فكل شيء من عمل الحكمة السماوية، وكل شيء طيب خالص لطيف، وكل شيء يدل على سلطان يفوق الإنسان، وإذا ما طلب الرجال مجدًا فلمَ لا يلتمسونه في صنع الخير؟ وَيْ! ما أسوأ إدراكهم للمجد! ما أسوأ ذهابهم إلى أن المجد المتين يقوم على تخريب الأرض وسفك دم الإنسان!»
وأظهر منتور سرورًا على وجهه حينما أبصر أن تلماك غير مختالٍ بالانتصارات ولا بالفتوح مطلقًا، وذلك في سن يعد من الطبيعي أن يكون فيها ثملًا بما نال من مجد.
ثم أضاف منتور إلى ما تقدم قوله: «أجل، إن كل ما ترى هنا حسن جدير بالثناء، ولكن اعلم أن من الممكن صنع ما هو أحسن، أجل، إن إيدومنه يسكِّن أهواءه ويسعى أن يحكم بين رعيته بالعدل، ولكن مع إتيانه كثيرًا من الزلل نتيجةً مؤسفةً لسابق زلاته، ولا غرو، فالناس إذا ما أرادوا ترك الشر لاح الشر معقبًا لهم زمنًا طويلًا، وذلك لما رسب فيهم من العادات السيئة، وما أصابهم من وهن السجية، وما تأصل فيهم من وهمٍ ومبتَسَرٍ لا يشفى منهما، فطوبى لمن لم يضل قط ما دام يستطيع صنع الخير على الوجه الأكمل بهذا! وستكون، يا تلماك، مسئولًا أمام الآلهة أكثر من إيدومنه لاطلاعك على الحقيقة منذ صباك، ولأنك لم تسلم إلى مغريات اليسر البالغ.
أجل، إن إيدومنه حكيم منوَّر، ولكنه يُعنى بالجزئيات كثيرًا، ولا يفكر في كليات أموره بما يكفي لوضع الخطط، ولا تقوم براعة الملك، الذي هو فوق الآخرين، على صنع كل شيء بنفسه، ومن الزهو أن يؤمل بلوغ ذلك، أو أن يراد إقناع الناس بالقدرة على ذلك، وإنما يجب على الملك أن يحكم باختياره من يقومون بالحكم تحت رعايته وتوجيهه إياهم، لا أن يعالج جزئيات الأمور، لما ينطوي هذا على قيامه بوظيفة من يعملون تحت إمرته، وإنما يُطلب من الملك أن يُلزم بتقديم حسابٍ له عنها، وأن يكون من الوقوف الكافي بحيث يميز هذا الحساب، وإن من عجائب الحكم حسن الاختيار وأن يستخدم كل وفق مواهبه، وتقوم أرفع الحكومات وأكملها على الحكم فيمن يحكمون، وذلك بأن يرقبوا، ويختبروا، ويقوَّموا، ويشجعوا، ويُرفعوا، ويُخفضوا، ويُنقلوا، ويَبقوا في اليد دائمًا.
وتعد رغبة الملك في درس كل شيء بنفسه ارتيابًا وصغارةً وغيرةً تجاه الجزئيات التافهة التي تضيع الوقت وتزيل ما تقتضيه عظائم الأمور من حرية الذهن، ولا بد لمن يريد وضع مشروعات كبيرة أن يكون طليق الذهن هادئ النفس، وأن يفكر مستريحًا محرَّرًا من نزوات الأمور الشائكة، وما النفس التي نهكتها الجزئيات إلا كثمالة الخمر الخالية من كل فعل ولطافة، ويعمل بوحي الساعة الحاضرة من يقومون بالحكم في الجزئيات من غير أن تمتد أبصارهم إلى المستقبل البعيد، أي أنهم يساقون، دائمًا، بأمر اليوم الذي يكونون فيه، وبما أن هذا الأمر وحده هو الذي يشغل بالهم فإنه يقف نظرهم كثيرًا ويضيق به نطاق ذهنهم؛ وذلك لأنه لا يحكم في الأمور حكمًا سليمًا، إلا بالمقابلة بينها معًا ووضع كل منها ضمن نظام حتى تكون لها نتيجة ونسبة، ومثل من يقصر عن اتباع هذه القاعدة في الحكم كمثل الموسيقي الذي يكتفي بإيجاد الأنغام من غير أن يكلف نفسه عناء توحيدها وتوفيق ما بينها حتى تتألف منها موسيقا لطيفة مؤثرة، وكمثل المعماري الذي يحسب أنه صنع كل شيء إذا ما جمع عمدًا كبيرةً وكثيرًا من الحجارة المنحوتة من غير أن يفكر في نظام بنائه ونسبة زخارفه، فإذا ما أقام ردهةً لم يبصر وجوب صنع سلَّم ملائم، وإذا ما تناول البناء في مجموعه لم يفكر في ساحته ولا في رتاجه، ولا يعد عمله غير جمع مشوش بين أجزاء رائعة لم يصنع بعضها من أجل بعض، وبذلك يكون هذا العمل أثرًا يخلد خزيه بدلًا من أن يشرفه؛ وذلك لأن هذا الأثر يدل على أن الصانع لم يكن من اتساع الأفق بحيث يتمثل تصميم أثره العام، شأن ذوي الأذهان الضيقة التابعة، ومن ينشَّأ ضمن هذا الأفق الضيق القاصر على الجزئيات لم يكن صالحًا للتنفيذ إلا تحت إشراف غيره؛ ولذا فلا تشك، يا تلماك العزيز، في أن الحكم في المملكة يستلزم انسجامًا كما في الموسيقا ونسبًا صحيحة كما في فن البناء.
ولو أردت قيامي بقياسات أخرى حول هذه الفنون لسمعت مني مقدار ما يكون عليه رجال الحكم في الجزئيات من ضعف القريحة، وليس الذي يغنِّي في الجوقة ببعض القطع غير مغنٍّ وإن أجاد في الغناء، ويكون معلم الموسيقا ذاك الذي يدير الجوقة وينظم جميع أقسامها معًا، وليس الذي يشذب العمد أو الذي يرفع قسمًا من البناء غير بنَّاء ويكون المهندس المعماري ذاك الذي تمثل جميع البناء وحاز في رأسه جميع نسب هذا البناء، وهكذا فإن أقل الناس حكمًا هم الذين يصنعون وينجزون ويكونون أكثر من يقوم بالأعمال، فلا يعدون غير مرءوسين، واللوذعي الحقيقي الذي يسوس الدولة هو الذي يصنع كل شيء وإن لم يصنع شيئًا، والذي يبتكر، وينفذ المستقبل، ويعود إلى الماضي، ويرتب، ويقَدر، ويعد عن بعد، والذي لا ينفك يصبر مكافحًا تصاريف الدهر كما يصنع السباح حيال السيل، والذي ينتبه ليل نهار لكيلا يدع للمصادفة شيئًا، أو تظن، يا تلماك، أن المصور العظيم يشتغل جادًّا من الصباح إلى المساء كيما ينجز أعماله على عجل؟ كلا، فمن شأن هذه الشدة وهذا العمل المعبِّد أن يطفئ كل نار في خياله فلا يأتي بعمل عبقري، أي يجب أن ينجز كل شيء بلا ترتيب وعلى البداهة، وذلك وفق ما يسوقه إليه ذوقه ويحفزه إليه ذهنه، وهل تظن أنه يقضي وقته في سحق الألوان وإعداد الأرياش؟ كلا، فهذا من عمل تلاميذه، وإنما يقتصر على إعمال ذهنه، ولا يفكر في غير رسم خطوط بارزة تنعم على صوره بالنبل والحياة والهوى، ويشتمل رأسه على أفكار مَن يريد أن يعرض من الأبطال ومشاعرهم، وينتقل إلى عصورهم وإلى جميع الأحوال التي كانوا عليها، ولا بد له، عند هذا النوع من الولع، من أن يتذرع بالصحة والدقة والتناسب، وهل تظن، يا تلماك، أن تكوين الملك العظيم يتطلب تهذيبًا للقريحة وجهدًا في التفكير أقل مما يتطلب تكوين مصور ماهر؟ فاعلم من هذا أن عمل الملك يجب أن يقوم على التفكير ووضع المشروعات العظيمة واختيار رجال صالحين لتنفيذها تحت إشرافه.»
وحاصل القول أن منتور قال لتلماك: «إن الآلهة يحبونك، ويعدونك لعهد مملوء حكمة، وكل ما ترى هنا صنع لتثقيفك أكثر مما لمجد إيدومنه، وجميع ما تعجب به من نظم رشيدة في سلنتة ليس سوى ظل لما ستصنع في إيتاك إذا ما أجبت بفضائلك داعيَ ما يُسِّرْت له، وقد أنَى لنا أن نفكر بالرحيل من هنا وقد أعد إيدومنه لنا مركبًا نعود به.»
ولم يعتم تلماك أن فتح قلبه لصديقه، ولكن بعناء، حول ولع يجعله أسفًا على سلنتة، قال تلماك: «ربما تلومني على سهولة ميولي في الأماكن التي أمر منها، ولكن اعلم أن فؤادي لا ينفك يؤنبني إذا ما كتمت عنك حبي لأنتيوب بنت إيدومنه، كلا، يا منتور العزيز، ليس هذا هوًى أعمى كالذي شفيتني منه في جزيرة كلبسو، وقد عرفت عمق الجرح الذي أصابني به حب أكاريس، ولا أقدر حتى الآن أن أنطق باسمها من غير أن أضطرب، وما كان الزمن، ولا الغياب ليستطيعا محوه، ومن هذه التجربة المشئومة علمت الحذر من نفسي، بيد أن ما أشعر به نحو أنتيوب لا يشابه ذلك، أي أنه ليس غرامًا جامحًا مطلقًا، بل ميل، بل حظوة، بل اقتناع بأنني أكون سعيدًا إذا ما قضيت حياتي بجانبها، وإذا ما أعاد الآلهة أبي إلي، وأذنوا لي في اختيار امرأةٍ غدت أنتيوب زوجًا لي، والذي يؤثر فيَّ منها هو صمتها، وتواضعها، وعزلتها، واتصال عملها، وحذقها في أشغال الصوف والتطريز، وقدرتها على إدارة منزل أبيها كله منذ وفاة أمها، وازدراؤها للحُلي الباطلة، وإنكارها لذاتها، وجهلها حتى لجمالها، وكانت، عندما أمرها إيدومنه بإدارة رقصات الفتيات الأقريطشيات على أنغام النايات، تعد فينوس الضاحكة ذات الألطاف، ولما أتى أبوها بها إلى حفلة صيد في الغابات ظهرت وقورًا بارعةً في إطلاق النشاب كما لو كانت ديانا بين الحوريات، ولا يجهل هذا غيرها، وجميع الناس يعجبون بها، ومتى دخلت معابد الآلهة حاملةً على رأسها أشياء مقدسةً في سلالٍ ظن أنها إلهة تسكن المعابد، ويا للتقوى والوجل اللذين نشاهدها بهما وهي تقدم إلى الآلهة قرابين دفعًا لغضب الآلهة عندما يقضي الحال بالتكفير عن بعض الذنوب، أو درءًا لبعض الطوالع المشئومة! ثم إنها إذا ما رئيت مع فوج من النساء حاملةً إبرةً ذهبية بيدها ظن أنها منرفا التي انتحلت شكل إنسان في الدنيا فتوحي إلى الناس بالفنون الجميلة، وهي تحفز الآخرين على العمل، وهي تلطف لهم العمل والسأم بسحر صوتها عندما تتغنى بأقاصيص الآلهة العجيبة، وهي تفوق بدقة وشائها أروع تصوير، فطوبى للرجل الذي يجمعه بها عرس لذيذ، ورجل مثل هذا لا يخشى غير فقدها وبقائه حيًّا بعدها.»
وهنا أشهد الآلهة، يا منتور العزيز، على استعدادي للرحيل، وأحب أنتيوب ما رأيتها، ولكنها لن تؤخرني دقيقة عن العود إلى إيتاك، وإذا ما نالها آخر قضيت بقية حياتي حزينًا أسيفًا، ولكنني سأتركها، ومع أنني أعرف أن الغياب يفقدني إياها، على ما يحتمل، فإنني لا أريد أن أحدثها، ولا أن أحدث أباها عن حبي؛ وذلك لأنك الوحيد الذي يجب أن أخاطب في ذلك، وذلك حتى يصرح لي أوليس بموافقته على ذلك بعد رجوعه إلى العرش، ويمكنك، يا منتور العزيز، أن تُدرك بذلك مقدار اختلاف هذا الكلف عن ذاك الهوى الذي رأيت أنه أعماني حيال أكاريس.
أو تذكر، يا تلماك، ذاك اليوم الذي أمر فيه أبوها بأن تحضر؟ لقد ظهرت كاسرةً من طرفها مدَّثرةً بإزار كبير، ولم تتكلم إلا لتسكين غضب أبيها الذي كان يأمر بمعاقبة أحد عبيده عقابًا شديدًا، وذلك أنها سبرت ألمه في بدء الأمر، ثم سكنت ثائره، ثم سمع منها ما يمكن أن يعذر به هذا التعس، وقد أوحت إلى الملك بمشاعر العدل والشفقة من غير أن تشعره بأنه كان نَزِقًا جدًّا، وما كانت تتيس لتداريَ الشائب نيره فتسكن الأمواج الهائجة بلطف أكثر من ذاك، وهكذا فإن أنتيوب ستلامس قلب زوجها ذات يوم كما تلمس الآن كنارتها عندما تريد استخراج ألطف توافق في الألحان، وذلك من غير إكراهٍ ولا استغلال لفتون، ثم إن حبك لها عادل يا تلماك، والآلهة يقدرونها لك، وأنت تحبها حبًّا معقولًا، ولا بد من انتظار إعطائك إياها من قِبل أوليس، وأمدح عزمك على عدم مكاشفتها بمشاعرك، ولكن اعلم أن كل مواربةٍ تتخذها لتطلعها على مقاصدك ستؤدي إلى رفض ما تبتغي وإلى عدولها عن تقديرك، وهي لن تعد أحدًا بنفسها، وهي تترك أمر إعطائها لأبيها، وهي لن تتخذ زوجًا لها غير الرجل الذي يخاف الآلهة ويقوم بموجبات اللياقة، وهل لاحظت، كما لاحظت، أنها غدت أقل ظهورًا وأكثر غضًّا للبصر عند رجوعك؟ وهي تعرف جميع ما نلت من فوزٍ في الحرب، وهي لا تجهل نسبك، ولا مغامراتك، ولا كل ما وضع الآلهة فيك، وهذا ما جعلها كثيرة الحياء كثيرة التحفظ، ولنسافر يا تلماك، ولنسافر إلى إيتاك، لم يبقَ لي غير جعلك تجد أباك، وجعلك تنال امرأةً جديرةً بالعصر الذهبي، وستكون سعيدًا بحيازتها ولو كانت راعيةً في حبل ألجيد البارد بدلًا من أن تكون ابنةً لملك سلنتة.»
وكان إيدومنه يخشى سفر تلماك ومنتور، ولا يفكر في غير تأخيره، وقد ذكر لمنتور أنه لا يستطيع بغيره تسوية النزاع الذي وقع بين كاهن جوبيتر الحافظ: ديوفان، وكاهن أبولون: هليودور، وذلك حول الطوالع التي تُستنبط من طيران الطيور وأمعاء الضحايا، قال له منتور: «لِمَ تتدخل في الأمور الدينية؟ دعِ الحكم فيها للإتروريين الذين عندهم عرف أقدم الهواتف، والذين هم ملهمون بأن يكونوا تراجمة الآلهة، وإنما اقْصِر سلطانك على إطفاء هذه المنازعات عند ظهورها، ولا تبدُ محابيًا ولا عن الحق عادلًا، واكتفِ بتأييد الحكم الذي يصدر، واذكر أن من الواجب خضوع الملك للدين، وأن من غير الجائز إقدامه على الفصل في أموره، واعلم أن الآلهة مصدر الدين، وأن الدين فوق الملوك، وأن الملوك، إذا ما تدخلوا في الدين بدلًا من حمايته، وضعوه ضمن نطاق من العبودية، وأن الملوك من القوة، وأن غيرهم من الضعف، بحيث يقع خطر تحريف كل شيء وفق مشيئة الملوك إذا ما تدخلوا في المسائل الدينية؛ ولذا فاترك أمر الحكم فيها بكل حريةٍ لأحباء الآلهة واقتصر على قهر كل من يعصي حكمهم بعد النطق به.»
ثم تذمر إيدومنه من الإلحاف عليه بأن يحكم في قضايا كثيرة قائمة بين كثير من الأفراد، فقال له منتور: «اقضِ في جميع المسائل الجديدة التي تسفر عن مبادئ عامة في الفقه وعن تفسير للقوانين، ولكن لا تحمل نفسك أمر الحكم في القضايا الخاصة؛ وذلك لأنها تأتي لتلقيَ جِرَانها عليك جملةً، ولأنك تصبح بذلك قاضي رعيتك الوحيد، ويغدو جميع القضاة الآخرين مهملين، ولأنك ترهق بذلك، ولأن صغار الأمور تطغى على كبارها بذلك، فلا تكفي وحدك للبت في القضايا الصغيرة مع التدقيق؛ ولذا فاحترز من إلقاء نفسك في هذه الورطة، ورد قضايا الأفراد إلى قضاةٍ عاديين، ولا تصنع غير ما لا يستطيع أحد غيرك أن يخفف عبأه عنك، وهنالك تقوم بوظائف الملك الحقيقية.»
ولم يلبث إيدومنه أن انتقل إلى مسألة أخرى، فقال: «يتظلم السباريون من اغتصابنا أرضين يملكونها، ومن إنعامنا بها، مثل حقول للإحياء، على أجانب جلبناهم إلى هنا منذ زمن قليل، فهل أسلم إلى هؤلاء القوم؟ إنني إذا ما فعلت هذا لم يرَ كل واحد إلا أن يغزل مثل هذه المزاعم حيالنا.»
ويؤثر هذا الكلام في إيدومنه فيوافق على أن يكون السبنتيون وسطاء بينه وبين السباريين.
وقد رأى الملك أن الحيل أعيته في إمساك الغريبين فحاول صرفهما عن قصدهما برابطة أشد قوةً، وذلك أنه لاحظ أن تلماك يحب أنتيوب، فأمل أن يجتذبه بهذا الهوى؛ ولذا فإنه حملها على الغناء في الولائم عدة مرات، وقد صنعت هذا لكيلا تعصي أباها، وإنما فعلته بكثير من التواضع والغم ما بدا عياؤها الذي عانت بإطاعة أبيها، وقد بلغ إيدومنه من الإغراب ما رغب معه أن تتغنى بالنصر الذي تم على الدونيين وأدرست، ولكنها لم تذهب إلى إنشاد مدائح تلماك، وقد امتنعت عن هذا احترامًا، ولم يجرؤ أبوها على إلزامها بهذا، وقد نفذ صوتها اللطيف المؤثر فؤاد الشاب ابن أوليس، ويهتز بأسره، ويُسَر إيدومنه، الذي ما انفك ينظر إليه، إذ يلاحظ اضطرابه، بيد أن تلماك لم يتظاهر بأنه مدرك لمقاصد الملك، وإن لم يستطع في هذه الأحوال أن يمنع نفسه من التأثر كثيرًا، ولكن ما يساوره من سبب يعلو الحس، ولا غرو، فقد عاد لا يكون تلماك الذي كان قد استحوذ عليه هوًى جامح في جزيرة كلبسو، وبينا كانت أنتيوب تغني كان تلماك يلتزم جانب الصمت العميق، فلما فرغت من غنائها بادر إلى تحويل الحديث إلى موضوع آخر.
ولما عجز الملك عن النجاح في مقصده بهذه السبيل عزم على القيام بحفلة صيد كبيرة ترويحًا لابنته خلافًا للعادة، وتبكي أنتيوب، ولا ترغب في الذهاب، ولكن لا بد لها من تنفيذ أمر أبيها المطلق، وتركب حصانًا مزبدًا وثَّابًا مشابهًا للخيل التي كان يروضها كستور للسباق، وتقوده بلا عناء، ويتبعها فوج من الفتيات بهمة، وتظهر بينهن كديانا في الغابات، ويشاهدها الملك، ولا يمل من مشاهدتها، وهو ينسى جميع مصائبه الماضية إذ يشاهدها، ويراها تلماك أيضًا، وهو إذ يراها يبدو متأثرًا بتواضعها أكثر من تأثره برشاقتها وجميع ألطافها.
ويقطع تلماك رأس الرت من فوره، يقطع هذا الرأس الذي يلقي الرعب في القلب عند النظر إليه عن كثب، والذي يذهل جميع الصائدين، ويقدم تلماك هذا الرأس إلى أنتيوب، وتحمر حياءً، وتنظر إلى أبيها، الذي كاد فؤاده يطير فرحًا، بعد فزع، لما أبصر من زوال الخطر عنها، ويومئ إليها بقبول الهدية، وقد قالت لتلماك، وهي تتناول رأس الرت: «أتناول منك مع الشكر هديةً أعظم من هذه، وهي حياتي التي أراني مدينةً لك بها.»
ولم تكد تنطق بهذه الكلمة حتى خشيت أن تكون قد أطالت القول، فكسرت من طرفها، وقد أبصر تلماك ارتباكها، فلم يجرؤ أن يخاطبها بغير قوله: «طوبى لابن أوليس الذي حفظ حياتك الغالية إلى الغاية، ولكنه يكون أكثر سعادة إذا ما استطاع أن يقضي حياته بجانبك!»
وتندمج أنتيوب في فوج رفيقاتها الفتيات حالًا، ومن غير أن تجيبه، وتمتطي صهوة الجواد.
وكان يمكن إيدومنه أن يعد تلماك بابنته منذ هذه الدقيقة، ولكنه طمع أن يلهب هواه أكثر مما وقع، وذلك بتركه يترجح بين الشك واليقين معتقدًا أن رغبته في ضمان زواجه تبقيه في سلنتة، وهذا ما كان يبرهن به إيدومنه في نفسه، بيد أن الآلهة يسخرون من حكمة الناس، أي أن ما كان يحفز تلماك إلى البقاء في سلنتة هو الذي كان يدفعه إلى السفر منها تمامًا، وأن ما أخذ يشعر به جعله يحذر من نفسه حقًّا، ويضاعف منتور جهوده ليوحي إليه برغبةٍ ملحة في الرجوع إلى إيتاك، ويلح، في الوقت نفسه، على إيدومنه بأن يدعه يسافر، فالمركب حاضر، ولا عجب، فمنتور، الذي كان ينظم حياة تلماك في جميع الأوقات ليرفعه إلى أعلى درجات المجد، لم يقفه في كل مكان إلا للوقت الذي تقتضيه ممارسة فضيلته ونيله بعض التجارب، أجل، إن منتور عُنِي بإعداد المركب منذ وصول تلماك، غير أن إيدومنه، الذي كره كثيرًا أن يرى إعداده، بلغ من شدة الحزن والكرب ما يستحق معه الرحمة عندما أبصر قرب تركه من قِبَل ضيفيه اللذين لقي منهما عونًا كثيرًا، وقد انزوى في أكثر محال منزله خفاءً، حيث كان يروِّح نفسه بما يخرج من أنات ويسكب من عبرات، وقد غفل عن احتياجه إلى الغذاء، وقد عاد الرقاد لا يخفف آلامه الحادة، وقد صار يهزل وينحل بهمومه، فبدا كالدوحة التي تستر الأرض بظل غصونها الكثيفة فأخذت دودة تأكل الساق من القنوات الرقيقة حيث يجري النسغ لتغذيتها، ولا تنفك هذه الشجرة، التي لم تزعزعها الرياح والتي يروق الأرض أن تغذيها في باطنها والتي احترمتها فأس الحراث دائمًا، تذبل من غير أن يعرف سبب مرضها، وتذوي، وتتعرى من أوراقها التي يقوم عليها عزها، ولا تظهر غير ساقٍ قشرُها متشقق وفروعها جافة، وهذه هي الحال التي كان عليها إيدومنه في آلامه.
ولم يجرؤ تلماك، الذي رق قلبه، على الكلام إليه، وكان يخاف يوم الرحيل، وكان يبحث عن ذرائع لتأخيره، وكان يظل زمنًا طويلًا حائرًا على هذه الحال لو لم يقل له منتور: «يسرني ما أرى من تحولك، وقد ولدت قاسيًا غطريسًا، وقد كان فؤادك لا يتأثر إلا برفاهيتك ومصالحك، غير أنك غدوت رجلًا في آخر الأمر، وأخذت بفضل ابتلائك بمصائبك ترق لمصائب الآخرين، واعلم أنه لا جود، ولا فضل، ولا قدرة على الحكم في الناس، بغير هذه الرحمة، ولكن لا ينبغي الإغراب في هذا المضمار، ولا الوقوع في ضعف من الصداقة، وكان يطيب لي أن أخاطب إيدومنه حتى يوافق على سفرنا، وكنت أكفيك عناء الحديث إليه في أمر مكدر كهذا، لولا أنني أود ألا يستحوذ على قلبك عامل الحياء والوجل، ويجب أن توطن نفسك على مزج الشجاعة والحزم بالصداقة الناعمة الرقيقة، ويجب أن تخشى إصابة الناس بغم من غير ضرورة، ويجب أن تنفذ آلامهم إذا ما عجزت عن منع وقوعها، وأن تخفف بما أوتيت من قوة وقع الضربة التي يتعذر عليك ردها عنهم تمامًا.»
ولم يجرؤ تلماك على مقاومة منتور، ولا على ذهابه لمقابلة إيدومنه، وقد كان خجِلًا من وجله، ولم يكن له من الشجاعة ما ينزع معه فزعه، ويتردد، ويتقدم خطوتين، ويعود إلى منتور في الحال ليذكر له سببًا جديدًا للتأجيل، بيد أن نظرة منتور وحدها نزعت منه الكلام وبددت جميع ذرائعه الجميلة، قال منتور متبسمًا: «أذاك، إذن، قاهر الدونيين ومنقذ هسبرية الكبرى وابن الحكيم أوليس الذي يجب أن يكون حكيم بلاد اليونان بعده؟ هو لا يجرؤ أن يقول لإيدومنه: إنه عاد لا يستطيع تأجيل رجوعه إلى وطنه حتى يلقى أباه! وأنتم، يا أهل إيتاك، ما أشد شقاءكم ذات يوم إذا ما كان لديكم ملك يستحوذ عليه خجل سيئ ويضحي بأعظم المصالح في سبيل أصغرها عن ضعف فيه! وانظر، يا تلماك، أي فرق يوجد بين الشجاعة في المعارك والبسالة في الشئون، وأنت الذي لم يخف بأس أدرست قط، ويخاف بؤس إيدومنه، وهذا هو الذي يشين الأمراء الذين قاموا بأعظم الأعمال، أي أن هؤلاء الأمراء يظهرون، بعد أن بدوا أبطالًا في الحرب، آخر الناس في المناسبات العامة حيث تتجلى قوة الآخرين.»
ويشعر تلماك بالحق في هذا الكلام، ويُهَز بهذا اللوم، ويذهب حالًا من غير أن ينطق بكلمة، ولكنه لم يكد يظهر في المكان الذي كان إيدومنه جالسًا فيه كاسرًا من طرفه ذاويًا كامدًا غمًّا حتى خشي كل منهما الآخر، ولم يقدم أي منهما على النظر إلى الآخر، ويتفاهمان من غير أن ينطقا بكلمة، ويخاف كل منهما أن يقطع صاحبه الصمت، ويأخذان في البكاء، ثم حفز فرط الألم إيدومنه إلى القول صارخًا: «ما فائدة طلب الفضيلة إذا كانت تقابِل بالسوء من يحبونها؟ إنني أترَك بعد أن أظهرت ضعفي! حسنًا! سأعود إلى جميع مصائبي! ليُكَفَّ عن مخاطبتي في صلاح الحكم، كلا، إنني لا أستطيع صنع هذا! لقد سئمت الناس! أين تريد أن تذهب يا تلماك؟ عاد أبوك لا يكون، أنت تبحث عنه على غير جدوى، إيتاك فريسة أعدائك، سيهلكك هؤلاء الأعداء إذا ما عدت إليها، يتزوج بعضهم أمك، ابقَ هنا، ستكون صهري ووارثي، ستملك بعدي، سيكون لك سلطان مطلق هنا ما دمتُ حيًّا، لا حد لثقتي بك، إذا كنت لا تبالي بجميع هذه المنافع فدع لي منتور على الأقل ما دام منتور كل ما لدي من وسيلة، قل، أجب، لا تقسِّ قلبك، ارحم أشقى الناس، ماذا! أنت لا تقول شيئًا! آه! أدرك مقدار قسوة الآلهة علي، أحس هذا بأشد مما لقيت في أقريطش عندما طعنتُ ابني.»
وبعد لأْيٍ يقول له تلماك بصوت مضطرب مع الوجل: «لست مالكًا لنفسي مطلقًا، فالأقدار تدعوني إلى وطني، ويأمرني منتور، الذي له مثل حكمة الآلهة، بالانصراف باسم هؤلاء الآلهة، وما تريد أن أفعل؟ أأتخلى عن أبي وأمي ووطني الذي يجب أن يكون أعز علي من والديَّ؟ بما أنني ولدت لأكون ملكًا فإنني لم أعدَّ لحياة ناعمة هادئة ولا لاتباع ميولي، أجل، إن مملكتك أغنى من مملكة أبي وأقوى، بيد أنه يجب أن أفضل ما يعد الآلهة لي على الذي جُدتَ بتقديمه إليَّ، أعتقد أنني أكون سعيدًا إذا ما غدت أنتيوب زوجًا لي بلا أمل في مملكتك، ولكن لا بُدَّ لي، حتى أكون أهلًا لذلك، من الذهاب إلى حيث يدعوني الواجب ومن خطبتها لي من قبل والدي، ألم تعدني بإعادتي إلى إيتاك؟ ألم أعتمد على هذا الوعد فحاربت مع الحلفاء أدرست من أجلك؟ لقد أنى وقت تفكيري في مصائبي الأهلية، إن الآلهة الذين أعطوني منتور هم الذين أعطوا منتور ابن أوليس كيما يقوم بما قُدر له، وهل تريد أن أخسر منتور بعد أن خسرت البقية؟ عدت لا أملك مالًا ولا ملجأ ولا أبًا ولا أمًّا ولا وطنًا مضمونًا، ولم يبقَ لي غير رجل حكيم فاضل يعد أثمن هبةٍ من جوبيتر، فاحكم فيما أصير إليه إذا ما استطعت أن أتخلى عنه ووافقت على تركه إياي، كلا، الموت أحب إلي من ذلك، انزع حياتي، وليست الحياة أمرًا ذا بال، ولكن لا تنزع مني منتور.»
وكلما تكلم تلماك اشتد صوته وزال وجله، ولم يدرِ إيدومنه ما يجيب وبم يوافق عليه من قول ابن أوليس، ولما عاد لا يستطيع الكلام حاول بنظراته وحركاته، على الأقل، أن يستدرَّ الرحمة، وبينا كان الوضع هكذا ظهر منتور ووجه إليه القول الرزين الآتي: «لا تغتم مطلقًا، فنحن تاركوك، وستظل الحكمة الملازمة لنصائح الآلهة حليفةً لك، وإنما اعتقد أنك بالغ السعادة بإرسال جوبيتر إيانا إلى هنا كيما تنقذ مملكتك ويزول ضلالك، وسيقوم فلكتت الذي رددناه إليك بأخلص الخِدَم لك، فقلبه عامر، دائمًا، بمخافة الآلهة وحب الفضيلة والعطف على الرعية والرأفة بالبائسين، فاستمع له وانتفع به مطمئنًّا خاليًا من الغيرة، وأعظم نفع يمكنك أن تنال منه هو أن تحمله على بيانه لك جميع عيوبك بلا تلطيف، ولا غرو، فأعظم شجاعة يمكن أن يتذرع بها الملك الصالح هو أن يبحث عن أصدقاء صادقين يدلونه على زلاته، فإذا كنت حائزًا لهذه الشجاعة لم يضرك غيابنا قط وعشت سعيدًا، ولكنك تهلك إذا ما وجد الرئاء، الذي ينساب كالحية، سبيلًا إلى فؤادك فأثار حذرك حيال النصائح الخالية من الغرض، ولا تهدم نفسك بالألم من حيث لا تدري، والزم جانب الفضيلة، وقد بلغت فلكتت كل ما يجب أن يصنع كيما يكشف الهم عنك ولكيلا يسيء استعمال ثقتك به مطلقًا، ويمكنني أن أقول حاكيًا عنه: إن الآلهة حبوك به، كما حَبَوا تلماك بي، ويجب على كل واحد أن يتبع مصيره بشجاعة، ولا فائدة من الكرب، وإذا حدث أن احتجت إلى مساعدتي بعد إعادتي تلماك إلى أبيه وبلده رجعت لزيارتك، وما حيلتي نحو من يمنحني أعظم لذة؟ لا أبتغي مالًا ولا سلطانًا في الدنيا، ولا أريد غير مساعدة الباحثين عن العدل والفضيلة، وهل أنسى الثقة والصداقة اللتين أبديتهما لي؟»
فلما سمع إيدومنه هذا الكلام تغير بغتةً، فقد شعر بتسكين فؤاده كما يسكن نبتون، بخطافه الثلاثي الشوكات، هائج الأمواج وقاتم العواصف، وكل ما بقي فيه عذاب هادئ مستعذب، ويجدر تسمية هذا شجونًا رقيقًا وشعورًا ناعمًا أكثر من أن يسمى ألمًا شديدًا، وقد أخذت تساور قلبه عوامل البأس والاطمئنان والفضل وأمل العون من الآلهة، قال إيدومنه: «إذن، أنت ترى، يا منتور العزيز، وجوب فقد كل شيء مع عدم فتور الهمة! فاذكر إيدومنه على الأقل، ومتى وصلت إلى إيتاك حيث تجد كل يسر بفضل حكمتك فلا تنسَ أن سلنتة من صنعك وأنك تركت فيها ملكًا شقيًّا لا أمل له في غيرك، واذهب يا ابن أوليس الكريم ما عدت لا أمسكك، ولا راد لحكم الآلهة الذين كانوا قد أقرضوني فيك كنزًا عظيمًا جدًّا، واذهب يا منتور الذي هو أعظم الناس وأكثرهم حكمةً (إذا ما استطاع البشر أن يصنعوا مثل ما شاهدت فيك، وإذا لم تكن إلهًا في صورة إنسان كيما تعلم الناس الضعفاء الجاهلين)، اذهب لتسير ابن أوليس الذي هو أكثر سعادةً بك مما بقهره أدرست، اذهبا معًا، عدت لا أستطيع الكلام، اغفرا لي زفراتي، اذهبا، وتمتعا بالحياة، وكونا سعيدين معًا، ولم يبقَ لي في العالم غير تذكري سابق حيازتكما هنا، يا لتلك الأيام الرائعة! يا لتلك الأيام السعيدة! يا لتلك الأيام التي لم أعرف قيمتها بما فيه الكفاية! يا لتلك الأيام التي مرت كلمح البصر! لن تعودي! لن ترى عيناي مَن أرى الآن.»
ويتهيأ منتور للسفر، ويعانق فلكتت الذي بلله بدموعه من غير أن يقدر على الكلام، وقد أراد تلماك أن يتناول منتور من يده جرًّا له من يد إيدومنه، بيد أن إيدومنه سار على درب المرفأ واضعًا نفسه بين منتور وتلماك، وكان ينظر إليهما، وكان يئن، وكان ينطق بكلمات متهدج الصوت، فلا يستطيع إتمام واحدةٍ منها.