الجزء الثامن عشر
بينا كانت السفينة تجري كان تلماك يكلم منتور حول مبادئ الحكم الحكيم ووسائل معرفة الرجال كيما يبحث عنهم ويستخدمهم وفق مواهبهم، بينا كان هذا الحديث يدور حملهما سكون البحر على الرسو موقًا في جزيرةٍ نزل إليها أوليس، اجتماع تلماك به وحديثه إليه من غير أن يعرفه، ولكنه لم يلبث، بعد أن رآه يبحر، أن شعر باضطراب خفي لم يستطع تمثل سببه، إيضاحه من قِبَل منتور وتوكيده له بأنه سيلقى أباه عاجلًا، ثم يختبر صبره مؤخرًا سفره بتقريب قربانٍ إلى منرفا، تتخذ الإلهة المستترة تحت صورة منتور شكلها وتعرف ذاتها، إنعامها على تلماك بآخر تعاليمها وتواريها، هنالك أسرع تلماك إلى السفر ووصل إلى إيتاك حيث لقي أباه عند المُخلص أومه.
تنتفخ القلوع في تلك الأثناء، وترفع المراسي، ويلوح البر فارًّا، ويبصر الربان المدرب جبل لوكات من بعيد، يبصر هذا الجبل الذي يتوارى رأسه ضمن عاصفةٍ من الضباب الجامدة، كما يُبصر جبال أكسرونية التي لا تزال تظهر ذرًى تنطح السماء بعد سحق بالصاعقة أحيانًا.
وقد قال تلماك لمنتور في أثناء هذه الرحلة البحرية: «أجدني الآن قادرًا على تمثل مبادئ الحكم التي فصلتها لي، وقد كانت تبدو لي مثل حلم في البداءة، ثم أخذت تتضح في ذهني وتظهر جلية مقدارًا فمقدارًا، شأن جميع الأشياء التي تظهر قاتمةً غامضةً عند بياض الفجر فيلوح خروجها من خواء فيما بعد، وذلك عندما يُعيد النور إليها أشكالها وألوانها رويدًا رويدًا، وأراني قانعًا إلى الغاية بأن نقطة الحكم الجوهرية هي حسن التمييز بين مختلف الأذهان وصولًا إلى اختيار كل واحد وفق مواهبه، ولكن بقي علي أن أعرف كيف تمكن معرفة الرجال.»
أجل، إنه يحدَّث عن الفضيلة والمزية بلا انقطاع، وذلك من غير أن يعرف بالضبط ما المزية ولا الفضيلة؛ وذلك لأنهما من الألفاظ البراقة والتعابير المبهمة لدى معظم الناس الذين يباهون بالكلام حولهما في كل ساعة، ويقضي الواجب بحيازة مبادئ ثابتة عن العدل والعقل والفضل كيما يعرف أصحاب العقل والفضيلة، ويقضي الواجب بمعرفة مبادئ الحكومة الصالحة الرشيدة كيما يعرف أصحاب هذه المبادئ والرجال الذين يبتعدون عنها بزائف الحيل، أي أنه لا بُدَّ من حيازة مقياس ثابت لقياس عدة أجرام، وأنه لا بُدَّ للحكم من حيازة مبادئ ثابتة تُرد إليها جميع أحكامنا، ويقضي الواجب بأن تعرف غاية الحياة الإنسانية معرفةً دقيقة وما الغرض الذي يقترح في الحكم بين الناس، ويتجلى هذا الغرض الجوهري الوحيد في عدم انتحال السلطان والعظمة لشخص ولي الأمر ما دام هذا الانتحال القائم على الطموح لا يشبع غير الزهو الطاغي، وإنما يجب على ولي الأمر أن يضحي، فيما لا حد له من مشاق الحكومة، بميوله حتى يجعل الناس سعداء صالحين، فإذا لم يقع هذا تحسس ولي الأمر في الظلام وسار في جميع حياته على غير هدى، شأن المركب الذي يسير بلا ربان في عرض البحر ومن غير نظر إلى النجوم ومع جهل لجميع الشواطئ المجاورة، شأن هذا المركب الذي لا بُدَّ من غرقه.
ومما يحدث، غالبًا، ألا يعرف الأمراء ما يجب أن يُبحث عنه في الرجال عن جهل في الأمراء لأمر الفضيلة الحقيقية، فتلوح الفضيلة الحقيقية لهؤلاء الأمراء صارمةً قائمةً بذاتها فتخيفهم وتغضبهم، وتحولهم إلى حيث يلاقون مَلَقًا، فإذا ما وقع هذا عادوا لا يجدون إخلاصًا ولا فضلًا، وهنالك يسعون وراء طيف المجد الباطل الذي يجعلهم غير أهل للمجد الصحيح، ولسرعان ما يعتقدون، عن عادة، عدم وجود فضيلة حقيقية في الدنيا؛ وذلك لأن الأبرار يعرفون الأشرار جيدًا، ولأن الأشرار لا يعرفون الأبرار مطلقًا، ولا يستطيعون أن يروا وجود أبرارٍ أبدًا، وأمراء مثل هؤلاء لا يعرفون غير الحذر من جميع الناس على السواء، ويتوارون، وينعزلون، وتأكلهم الغيرة حول أتفه الأمور، ويخافون الناس، ويحملون الناس على الخوف منهم، ويفرون من النور، ولا يجرءون أن يظهروا على سجيتهم، ومع أنهم لا يريدون أن يعرفوا مطلقًا فإنهم لا يوفقون لهذا، ووجه الأمر أن فضول رعاياهم الماكر ينفذ كل شيء، ويحزر كل شيء، ولا يعرف هؤلاء الأمراء أحدًا، أي أن ذوي المآرب من الرجال الذين يلازمونهم يفتنون بأن يروهم بعيدي المنال، ومن يمتنع من الملوك على الناس يمتنع على الحقيقة أيضًا، ويسود بتقارير شائنة، ويبعد منه كل ما يمكن أن يفتح عينيه ويقضي هذا الفريق من الملوك حياته ضمن عظمة جافية نافرة، أو إنه لا ينفك يخشى أن يخدع فيخدع دائمًا لا محالة ويستحق أن يخدع، وإذا ما اقتصر على الحديث إلى عدد قليل من الناس اقتبست جميع أهوائهم وجميع مبتسراتهم؛ ولذا فللصالحين، أيضًا، نقائصهم وميولهم إلى أناسٍ دون آخرين، وهذا فضلًا عن أن الناس يكونون تحت رحمة الواشين الذين هم قوم أدنياء نذلاء يغتذون بالسم ويسمِّمون أطهر الأمور ويجعلون من الحبة قبة ويفضلون اختلاق الشر على الكف عن الضرر، ويعبثون بحذر الأمير الضعيف المتريب وفضوله الكريه سعيًا وراء مآربهم.
ولذا فاعرف الرجال، يا تلماك العزيز، اعرفهم، وأنعم النظر فيهم، واجعل بعضهم يتكلم عن بعض، واختبرهم رويدًا رويدًا، ولا تستسلم إلى أحد منهم، وانتفع بتجار بك حينما تخدع في أحكامك؛ وذلك لأنك تخدع في بعض الأحيان، ولأن الأشرار من بعد الغور بحيث لا يباغتهم الأبرار عند تنكرهم، واعلم بهذا ألا تبادر إلى الحكم في أحد، خيرًا كان هذا الحكم أو شرًّا ما انطوى هذا وذاك على خطر كبير، وهكذا فإن لك في سابق زلاتك فائدةً كثيرة، وإذا ما وجدت في الرجل مواهب وفضيلةً فاستخدمه مطمئنًّا عارفًا أن الصالحين من الناس يودون لو يُشعر بإنصافهم، وأنهم يفضلون التقدير والثقة على الكنوز، ولكن لا تفسدهم بمنحهم سلطانًا لا حد له، فالفاضل يبقى فاضلًا ما قيد سلطانه، ولا يظل هكذا إذا ما جعله مولاه مسيطرًا غنيًّا إلى الغاية، ومن أحبه الآلهة فوجد في جميع المملكة من الأصدقاء الصادقين اثنين أو ثلاثة، وكان هؤلاء الأصدقاء حكماء طيبين ثابتين، لم يعتم أن يجد بفضلهم رجالًا آخرين يشابهونهم في ملء المناصب الدنيا، ومن يثق بأهل الصلاح ويعتمد عليهم يتعلم ما لا يستطيع أن يميز بنفسه في الموضوعات الأخرى.»
وبينا كان منتور يبرهن هكذا أبصرا مركبًا فياسيًّا كان قد رسا مؤقتًا في جزيرة صغيرة مهجورة بائرة محاطة بصخور هائلة، وتهدأ الرياح في الوقت نفسه، ويلوح النسيم العليل ممسكًا أنفاسه، ويصير جميع البحر أملس كالمرآة، وتعود الشُّرُع الخافقة غير قادرة على تحريك المركب، ولا تجدي جهود الجداف التعبين نفعًا، وتقضي الضرورة بالنزول إلى هذه الجزيرة التي هي صخرة أكثر من كونها أرضًا صالحة لسكنى الناس، وما كان النزول إلى هذه الجزيرة ليمكن في وقت آخر من غير خطر كبير.
ولم يكن الفياسيون الذين ينتظرون الريح أقل حرصًا من السلنتيين على مواصلة السير بحرًا، ويتقدم تلماك نحوهم على هذه الشواطئ الوعرة، ولم يلبث أن سأل أول من لقي عن مصادفته ملك إيتاك، أوليس، في منزل الملك ألسينوس.
ومن غريب الاتفاق أن كان الذي خاطب غير فياسيٍّ، أي كان غريبًا مجهول الأمر مع جلال هيئة، ولكن مع كآبةٍ وضنًى، وقد كان يظهر تائه الفكر، فلم يكد يسمع سؤال تلماك في البداءة، ثم أجابه بقوله: «إنك لم تخطئ، فقد قُبِل أوليس في منزل الملك ألسينوس حيث يخشى جوبيتر وحيث يُلقى قِرًى، بيد أنه عاد لا يكون هناك، ولا يجدي البحث عنه هناك نفعًا، وقد سافر راجعًا إلى إيتاك حيث يستطيع تحية آلهة المنزل إذا ما سمح الآلهة، الذين سكن ثائرهم، بذلك.»
ولم يكد هذا الغريب ينطق بهذه الكلمة مكتئبًا حتى أوغل في غابة صغيرة كثيفة قائمة فوق صخرة وصار ينظر إلى البحر حزينًا هاربًا من الناس الذين رأى، أسفًا على عدم إمكان سفره، وكان تلماك يحدق إليه، وكان كلما حدق إليه اضطرب وحار، قال تلماك لمنتور: «أجابني هذا الغريب جواب رجل لا يكاد يسمع ما يقال له، جواب رجل بلغ غاية الغم، إنني أتوجع للبائسين منذ غدوت بائسًا، ويهفو فؤادي نحو هذا الرجل من غير أن أعرف السبب، وقد أساء قبولي، ولم يكد يتفضل بالسماع لي والجواب عن سؤالي، ومع ذلك فإنني لا أنقطع عن رجائي أن تنتهي مصائبه.»
وبينما كان منتور يتكلم هكذا كان تلماك غارقًا في الهم والغم، ثم خاطبه بقوله الممزوج وَجْدًا: «إذا كانت جميع هذه الأمور صحيحة كانت حال الملك حال بؤس، فالملك عبدُ جميع من يظهر قائدًا لهم، والملك قد وجد من أجلهم، وهو مدين لهم بكليته، وهو ملزم بجميع حاجاتهم، وهو تابع لجميع الرعية، ولكل واحد منها على انفراد، وهو مطالب بمراعاة ضعفهم وتقويمه عن كثب، ويجعلهم حكماء سعداء، وليس السلطان، الذي يلوح أنه حائز له، ملكًا له، ولا يستطيع أن يصنع شيئًا في سبيل مجد نفسه، ولا من أجل لذته، ولا يعدو سلطانه سلطان القوانين، ويجب عليه أن يخضع لهذه القوانين، وإن شئت فقل: إنه ليس سوى حامٍ للقوانين وصولًا إلى سيطرتها، ويجب عليه أن يسهر على حفظها وأن يعمل على وقايتها، ويعد أقل من في مملكته حريةً وراحةً، ويحسب عبدًا يضحي براحته وحريته في سبيل الحرية العامة وسعادة الجميع.»
ويمازج تلماك ألم باطني فيلوح أنه غير مدرك لهذه المبادئ، وإن أشبع منها مبشرًا الآخرين بها، وذلك أن مزاجًا قاتمًا منحه، خلافًا لمشاعره الحقيقية، روح تباينٍ وتدقيقٍ يرفض به الحقائق التي فصلها منتور، وذلك أن تلماك عارض هذه البراهين بكنود الناس، قال تلماك: «ماذا؟! أعاني كثيرًا من المتاعب كيما يحبني الناس الذين قد لا يحبونني مطلقًا، وكيما أصنع الخير نحو الأشرار الذين يتخذون إحساني وسيلةً لإيذائي!»
ولكن أتريد أن تحول دون الكنود في الناس؟ لا تحصر همك في جعل الناس أقوياء أغنياء مرهوبين بالسلاح سعداء باللذات، فهم يفسدون بهذا المجد وهذا اليسر وهذه النعم، وهم يصبحون بهذا أشد شرًّا وأعظم كنودًا، وهذا يعني تقديم هدية مشئومة إليهم، أي تقديم سم في الدسم، وإنما ابذل جهدك في تقويم أخلاقهم وتلقينهم مبادئ العدل والإخلاص ومخافة الآلهة والرأفة والوفاء والاعتدال والخلو من الغرض، وذلك أنك إذا ما جعلتهم صالحين حُلْت دون كنودهم، ومنحتهم الفضيلة التي هي خير حقيقي، وإذا كانت الفضيلة متينةً ارتبطوا فيمن أنعم عليهم بها، وهكذا فإنك، حين تنعم عليهم بالخير الحقيقي، تكون قد أحسنت لنفسك وعدت لا تخشى كنودهم، وهل يعجب من كنود الناس نحو الأمراء الذين لم يمرنوهم على غير الجور والطمع الجامح حيال جيرانهم والقسوة والخيلاء وسوء النية؟ لا ينبغي للأمير أن ينتظر منهم غير ما علمهم أن يعملوه، وهو إذا ما فعل العكس، فجد بمثاله وسلطانه ليجعلهم صالحين، اقتطف ثمرة عمله في فضيلتهم أو وجد في فضيلته وفي صداقة الآلهة، على الأقل، ما يعزيه عن خيبة آماله.»
ولم يكد منتور يتم هذه الكلمة حتى أهرع تلماك إلى فياسي المركب الذي وقف عند الشاطئ، وتوجه إلى شائب بينهم ليسأله عن مأتاه ومرده وعن مصادفته أوليس، فقال له هذا الشيخ: «إننا أتينا من جزيرتنا التي يملكها الفياسيون، ونحن ذاهبون للبحث عن سلع من إيبرية، وقد مر أوليس من وطننا كما قيل لك، بيد أنه غادره.»
ومزيته سبب بؤسه، فهي التي جعلته مرهوبًا، وأوجبت خروجه من البلدان التي يريد أن يسكنها، ويقوم نصيبه على تقديره وحبه والإعجاب به في كل مكان، ولكن مع إخراجه من كل أرض معروفة، وعاد لا يكون شابًّا، ومع ذلك فإنه لم يستطع أن يجد ساحلًا في آسية أو بلاد اليونان أريد تركه يعيش فيه مستريحًا بعض الاستراحة، ويلوح بلا طموح، ولا يبحث عن ثراء، وكان يتمتع بسعادة عظيمة لولا أن هاتف الغيب وعده بالملك، ولم يبقَ له أمل في الرجوع إلى وطنه، وذلك لعلمه أنه لا يستطيع أن يحمل غير المآتم والدموع إلى جميع الأسر، حتى إن المملكة التي يؤذَى من أجلها تظهر له غير مبتغاة، وهو يسعى وراءها على الرغم منه، مارًّا من مملكة إلى مملكة، وذلك عن قدر قاتم، ويبدو أنها تفر أمامه عابثةً بهذا التعس حتى مشيبه، ويا لهذه الهدية المشئومة التي يلوح بها الآلهة فتنغص عليه أجمل أيامه ولا تورثه غير آلام في عمر لا ينشد الإنسان العاجز فيه سوى الراحة! ويقول: إنه ذاهب للبحث حول تراكية عن شعب متوحش خالٍ من القوانين، فيجمعه ويهذبه ويحكم فيه بضع سنين، وبهذا تكون النبوءة قد تحققت، ولا يرى فيه ما يخشى في أكثر الممالك ازدهارًا، وهنالك يرجو أن ينزوي في قرية بكارية حيث يزاول الزراعة التي يولع بها كثيرًا، وهو رجل حكيم معتدل يخاف الآلهة، ويعرف الناس، ويعرف كيف يعيش بينهم، من غير اعتبار لهم، وهذا ما يقوله ذاك الغريب الذي سألتني عن أنبائه.»
وكان تلماك، في أثناء هذا الحديث، يكثر من النظر إلى البحر الذي أخذ يموج.
وكانت الريح تثير الأمواج التي تلطم الصخر مزبدةً، وهنالك يقول الشائب لتلماك: «يجب أن أذهب، فلا يستطيع رفقائي أن ينتظروني.»
قال هذه الكلمة، وركض إلى الشاطئ، وتركب السفينة، ولا يسمع غير صرخات مختلطة على الشاطئ ناشئة عن حماسة الملاحين الذين عِيلَ صبرهم انتظارًا.
وكان ذاك الغريب، المسمى كليومن، قد هام على وجهه في وسط الجزيرة حينًا من الزمن صاعدًا في ذرى الصخر، ناظرًا من هناك إلى مساوف البحر الواسعة مكتئبًا إلى الغاية، ولم يقصر تلماك طرفه عنه قط، ولم ينفك يلاحظ خطواته، وقد رق قلبه لهذا الرجل الفاضل التائه التعس الذي أعد لجليل الأعمال وغدا ألعوبة مصير قاس بعيدًا من وطنه، وقد قال في نفسه: «قد أعود إلى إيتاك على الأقل، ولكن كليومن لا يستطيع أن يرجع إلى أفروجية مطلقًا»، وما كان من مثال هذا الرجل الذي هو أشقى من تلماك خفف ألم تلماك.
ولما أبصر هذا الرجل تأهب مركبه نزل من تلك الصخور الوعرة بسرعة ورشاقة كالتي يبديها أبولون في غاب ليكية عاقدًا شعره الأشقر جائلًا في المهاوي ليصمي الأيائل والرتتة بسهامه، ويبلغ هذا الغريب ذلك المركب الذي يشق عباب البحر الأجاج، ويبتعد عن البر، وهنالك يعتري قلب تلماك ألم خفي، ويغتم من غير أن يعرف السبب، وتفيض عيناه دموعًا، ولا شيء عنده أحلى من البكاء.
ويشاهد على الشاطئ، في الوقت نفسه، جميع ملَّاحي سلنتة ضاجعين على العشب نائمين نومًا عميقًا، وقد كانوا تعبين موعوكين، وكان النوم العذب قد تسرب في أعضائهم، وكان جميع أفيون النوم قد انساب إليهم في رائعة النهار بقدرة منرفا، وحار تلماك حينما رأى هذا السبات الشامل للسلنتيين على حين ظهر الفياسيون يقظين نشيطين في الاستفادة من الريح الملائمة، بيد أنه كان أكثر انهماكًا في النظر إلى المركب الفياسي الذي أوشك أن يتوارى بين الأمواج مما في السير نحو السلنتيين لإيقاظهم، ومما أوجبه دهشه واضطرابه الخفي تعلق عينيه بذاك المركب الذي ذهب وعاد لا يرى منه غير أشرعته التي تبدو بيضًا بين الماء اللازوردي، ولا يستمع حتى لمنتور الذي يكلمه ذاهلًا عن نفسه تمامًا، سابحًا في وجد مشابه لوجد المنادس عندما يقبضن على السهم في عيد باخوس فتدوي ضفاف الإيبر وجبال رودوب وإسمار بصيحاتهن الرُّعْن.
ثم يشفى بعض الشيء من هذا الوجد، وتسكب عيناه دموعًا، ويقول له منتور: «لا يدهشني أن أراك تبكي يا تلماك العزيز، وذلك بسبب ألمك الذي لا تعرفه ولا يجهله منتور؛ وذلك لأن الطبيعة تتكلم وتشعر بنفسها، والطبيعة تلين قلبك، فالغريب الذي أوجب اضطرابك هو أوليس العظيم، وما قص الشائب الفياسي عليك من نبأٍ عنه باسم كليومن ليس سوى تلفيقٍ لكتم رجوع أبيك إلى مملكته لا ريب، وأبوك ماضٍ إلى إيتاك قدمًا، وقد دنا من الميناء، وأخيرًا يعود إلى تلك الأماكن التي حن إليها منذ زمن طويل، أجل، إنك رأيته بعينيك كما نبئت به فيما مضى، ولكن من غير أن تعرفه، وستراه عما قريب وستعرفه ويعرفك، وأما الآن فلا يسمح الآلهة بأن يعرف كل منكما الآخر خارج إيتاك، ولم يكن قلبه أقل اهتزازًا من قلبك، وقد بلغ من الحكمة ما لا يكشف معه عن حقيقة أمره في مكان يمكن أن يكون فيه عرضةً لضروب الخيانة والإهانة من قبل عشاق بنلوب الطاغين، ألا إن أباك أوليس أحكم الناس كلهم، ويشابه قلبه بئرًا عميقةً فلا يمكن استبار سره فيها، ألا إنه يحب الحق، ولا يقول شيئًا ناقضًا للحق، وهو إذا ما فعل فعن ضرورة، ألا إن الحكيم يغلق شفتيه كالخاتم ولا ينطق بما لا يجدي نفعًا، ما أكثر اضطرابه حينما كلمك! ما أكثر ما كابد لكيلا يكشف عن نفسه! ما أكثر توجعه عندما رآك! وهذا ما جعله كئيبًا كامدًا.»
ويرق تلماك ويخفق قلبه في أثناء هذا الكلام، ولا يستطيع منع عينيه من سكب سيل من الدموع، وتحول زفراته دون جوابه وقتًا طويلًا، ثم قال صارخًا: «آه! يا منتور العزيز، لقد كنت أشعر في هذا الغريب بما يجذبني إليه وما يهز جميع أحشائي، ولكن لِمَ لم تقل لي، قبل انصرافه، إنه أوليس ما دمت قد عرفته؟ ولم تركته يذهب من غير أن تتحدث إليه وتظهر معرفتك له؟ أأبقى شقيًّا دائمًا؟ أو يريد الآلهة الساخطون أن يمسكوني كما يمسكون تنتال الظمآن الذي يعبث به سراب فار من شفتيه؟ أي أوليس! أي أوليس! هل أفلتَّ مني إلى الأبد؟ ربما لا أراه مطلقًا! قد يوقعه عشاق بنلوب في الأشراك التي كانوا يعدونها لي! ليتني أتبعه فأموت معه على الأقل! أي أوليس! أي أوليس! ليت العاصفة لا تلقيك على صخرة مرةً أخرى! أخشى تصاريف الدهر الخئون! أرتجف خوفًا من وصولك إلى إيتاك ملاقيًا مثل مصير أغا ممنون في ميسين، ولكن لم منعتني من سعادتي يا منتور العزيز؟ لو أردت لكنت قد عانقته، ولكنت معه في ميناء إيتاك، ولقاتلنا لنقهر جميع أعدائنا.»
ثم أراد منتور أن يبتلي صبر تلماك لآخر مرة بما هو أشد من ذلك، وذلك أنه بينا كان هذا الشاب ذاهبًا ليلحف على الملاحين بحرارة أن يبادروا إلى الرحيل وقفه منتور من فوره وأوجب عليه أن يقرب لمنرفا قربانًا عظيمًا على الشاطئ، ففعل تلماك ما أراد منتور مع الانقياد، ويُنصب مذبحان من كلأٍ، ويدخن اللُّبَان، ويسيل دم الضحايا، ويخرج تلماك زفرات لطيفةً نحو السماء، ويعرف ما حبته به الآلهة من حماية كبيرة.
ولم يكد تقريب القربان يتم حتى تبع منتور سالكين دروبًا قاتمةً في الغاب الصغيرة المجاورة، فهناك أبصر من فوره أن وجه صديقه اتخذ شكلًا جديدًا، وذلك أن غضون جبينه زالت كما يزول الظلام حينما يفتح الفجر بأصابعه الوردية أبواب الشرق ويشعل جميع الأفق، وتتحول عيناه المجوفتان العابستان إلى عينين زرقاوين لطيفتين سماويتين مملوءتين لهيبًا ربانيًّا، وتمَّحِي لحيته الرمادية المرسلة، وتبدو لعيني تلماك المبهور ملامح كريمة زاهية ممزوجة بعذوبة وألطاف، ويتنور تلماك بهذا وجهَ امرأةٍ أملس من الزهرة الناعمة التي تفتحت حديثًا على ضوء الشمس، كما يتنور بياض الزنبق بين الورد الناشئ، ويتجلى على هذا الوجه شباب خالد مع جلال طبيعيٍّ بسيط، وتنتشر من ثياب هذه المرأة المتموجة رائحة عنبرية، وتسطع ثيابها بألوان زاهية كالتي ترسمها الشمس عند طلوعها على قباب السماء الدكن وعلى السحب، وتلوح هذه المرأة إلهةً لا تمس الأرض برجليهان بل تجري في الهواء جريًا خفيفًا كما لو كانت طائرًا يشقه بجناحيه، وهي تمسك بيدها القوية سهمًا لامعًا يستطيع أن يزلزل المدن ويهز أشد الأمم بأسًا ويخيف حتى مارس، ويظهر صوتها عذبًا معتدلًا، ولكن مع القوة والفتون، وتكون أقوالها كالسهام النارية التي تنفذ قلب تلماك، وتجعله يشعر بما لا يعبر عنه من عذاب مستعذب، ويبدو على خوذتها طائر أثينة الحزين، ويتلألأ على صدرها مِجَن هائل، فبهذه العلامات يعرف تلماك منرفا.
قال تلماك: «إذن، أنتِ التي تفضلتِ بتسيير ابن أوليس حبًّا لأبيه!»
وقد أراد أن يقول أكثر من هذا، غير أن الصوت أعوزه، ومن العبث أن بذل جهده ليعبر عن أفكاره التي تتدفق بصولة من صميم فؤاده، ولا عجب، فالإلهة الحاضرة تثقله، وكان في ذلك كالرجل الذي يُضغط في منامه فلا يستطيع أن يتنفس، والذي تختلج شفتاه فلا يستطيع أن يخرج صوتًا من بينهما.
ثم نطقت منرفا بالكلمة الآتية: «أنصت لي، يا ابن أوليس، لآخر مرة، واعلم أنني لم أعنَ بتربية إنسانٍ كما عنيت بك، فقد قدتك باليد من خلال غرق كثير ومن خلال بلدان غريبة وحروب دامية وما يمكن أن يصاب به قلب إنسان من كروب، وقد أثبت لك بتجارب عملية ما يمكن أن يسيطر به من مبادئ صادقة وكاذبة، ولم تكن زلاتك أقل فائدةً لك من مصائبك؛ ولذا فمن ذا الذي يستطيع أن يحكم بحكمة إذا لم يكن قد ألِمَ فاستفاد من آلامه التي أوقعته فيها زلاته؟
ولقد ملأت البر والبحر بمغامراتك القاتمة كما ملأ أبوك، فاذهب، فأنت الآن أهل للسير على غراره، ولم يبقَ لك غير مسافة قصيرة للوصول إلى إيتاك التي بلغها أبوك في هذه الساعة، وقاتل مع أبيك، وأطعه كأقل واحد من رعيته، وكن في هذا قدوةً للآخرين، وسيزوجك أبوك بأنتيوب، وستكون سعيدًا معها عن طلبٍ للحكمة والفضيلة أكثر مما عن طلب للجمال.
ومتى ملكت فاجعل جميع مجدك وقفًا على تجديد العصر الذهبي، واستمع لجميع الناس، وثق بقليل من الناس، واحترز من الاعتماد على نفسك كثيرًا، واخشَ أن تُخدع، ولكن لا تخش أن تدع الآخرين يعلمون أنك خدعت.
وأحب الرعية، ولا تنسَ أن تكون محبوبًا لديها، ولا بد من الرهبة عند عدم المحبة، ولا ينبغي أن يلجا إليها إلا كرهًا، وذلك كعلاج بالغ الشدة بالغ الخطر.
ولا تنفك تحسب سلفًا نتائج ما تقدِم عليه، وتمثل هول سوء العواقب، واعلم أن الشجاعة الحقيقية تقوم على مواجهة جميع الأخطار، وعلى الاستخفاف بها إذا ما غدت أمرًا لا بد منه، ومن لم يرد أن يراها لم يكن لديه من الشجاعة ما يكفي لاحتمال منظرها، أي أن من يبصرها كلها ويجتنب ما يمكن اجتنابه منها، ومَن يبتلي ما بقي منها غير وجل، يكون الحكيم الهمام الأوحد.
وإياك والتخنث والتبذير، وليكن سر مجدك في البساطة، ولتكن فضائلك وجليل أعمالك زينة شخصك وقصرك، ولتكن حرسًا يحف من حولك، وليتعلم جميع الناس منك مبدأ السعادة الحقيقية، ولا تنسَ أن الملوك لا يملكون من أجل مجدهم الخاص، بل يملكون نفعًا للرعية، وما يفعلوا من خير يَنْمُ جيلًا بعد جيل إلى أبعد الأعقاب، وما يفعلوا من شر يَدُمْ دوام الخير، وما يقع من عهد سيئ يسفر عن كوارث تستمر قرونًا كثيرة.
وليكن هواك أخص ما تحذر، والهوى هو العدو الذي تحمل معك حتى الممات، وهو يتسرب في مجالسك ويخونك إذا ما أصغيت إليه، وبالهوى يضيع أهم الفرص، وهو يؤدي إلى ميولٍ وكراهيَاتٍ صبيانية إجحافًا بأعظم المصالح، وهو يحفز إلى الإقدام على أكبر الأفعال لأتفه الأسباب، وهو يلقِي ظلامًا على جميع المواهب، ويضع من قدر الشجاعة، ويجعل الرجل متلونًا ضعيفًا وغْدًا ثقيلًا، فاحذر هذا العدو.
وخفِ الآلهة يا تلماك، ولتكن هذه المخافة أثمن ما في قلب الإنسان، وبهذه المخافة تأتيك الحكمة والعدل والسلام والسرور والملاذ الخالصة والحرية الحقيقية واليسر اللطيف والمجد بلا شائبة.
أجل، إنني أفارقك يا ابن أوليس ولكن حكمتي لا تفارقك أبدًا، وذلك على أن تشعر، دائمًا، بأنك لا تقدر على شيء بغيرها، وقد حل الوقت الذي تستطيع أن تسير فيه وحدك، ولم أنفصل عنك في فنيقية وسلنتة إلا لتتعود حرمان هذه الحلاوة، شأن الأطفال الذين يُفطمون حينما يأتي الوقت الذي يحرمون فيه اللبن كيما تقدم إليهم الأطعمة الجامدة.»
ولم تكد الإلهة منرفا تتم هذا القول حتى ارتفعت في الهواء محاطةً بسحابة من الذهب واللازورد حيث توارت، ويتأوه تلماك، ويحار، ويذهل، ويركع رافعًا يديه إلى السماء، ثم ذهب لإيقاظ رفقائه، ويسافر مسرعًا، ويصل إلى إيتاك ويلقى أباه عند المخلص أومه.