الجزء الثاني
تتمة حديث تلماك، بما أن أسطول سيزُستريس قد قبض على السفينة الصورية، فقد وقع تلماك ومنتور في الأسر وسِيقَا إلى مصر، ثراء هذا البلد وعجائبه، رَفْعُ أمر تلماك ومنتور إلى سيزستريس وإحالة سيزستريس قضيتهما إلى أحد ضباطه المسمى ميتوفيس، أمْرُ هذا الضابط ببيع منتور من الإثيوبيين وإلزامُ تلماك بسَوْقِ قطيعٍ إلى صحراء الواحة، هنالك خفف كاهن أبولون، ترموزيريس، ألم نفيه بأن علَّمه أن يقتدي بالإله الذي أُكره على حراسة مواشي ملك تسالية، أدميت، فسلا بليته بتهذيب طبائع الرعاة الجافية، لم يلبث سيزستريس أن أُخبر بكل ما صنع تلماك من غرائب في صحاري الواحة فدعاه إليه وحكم ببراءته ووعده بإعادته إلى إيتاك، غير أن موت هذا الأمير ألقى تلماك في مصائب جديدةٍ، وذلك أنه اعتُقل في برجٍ قائم على ساحل البحر حيث شاهد ملك مصر الجديد، بوكوريس، يهلك في معركةٍ اشتعلت بينه وبين رعاياه الثائرين الذين ساعدهم الفنيقيون.
كان الصوريون قد أثاروا بعُجبهم غضب الملك العظيم سيزستريس عليهم، غضب هذا العاهل الذي كان يملك مصر والذي فتح ممالك كثيرة، وكان من نتائج الثروات التي نالوها بالتجارة وما اتفق من قوةٍ لصُورَ الحصينةِ الواقعة على ساحل البحر أن شمخ هؤلاء القوم بأنوفهم، فأبوا أن يُعطوا سيزستريس الجزية التي فرضها عليهم حين رجوعه من فتوحه، وإنما أمدوا بالكتائب أخاه، الذي أراد، بدوره، أن يقتله بين مسرَّات وليمةٍ عظيمة، ويعزم سيزستريس على ربْكِ تجارتهم في جميع البحار هدمًا لكبريائهم، وتسير مراكبه من كل جهة بحثًا عن الفنيقيين، ويلاقينا أسطولٌ مصري عندما كانت جبال صقلية تغيب عن أبصارنا وكان يلوح لنا أن الميناء والأرض يفران خلفنا ويتواريان في السحب، وكنا نُبصر في الوقت نفسه اقتراب مراكب المصريين منا كأنها مدينة عائمة، ويعرفها الفنيقيون ويريدون الابتعاد عنها، ولات حين مناص، فقد كانت شُرُعُهم خيرًا من شُرُعِنا وكانت الريح مساعدةً لهم، وكان جدافهم كثيرين جدًّا، ويدنون منا، ويقبضون علينا، ويأتون بنا أُسارى إلى مصر
ويذهب قولي لهم إننا لسنا فنيقيين أدراج الرياح، ولا يكادون يتفضلون بالإصغاء إليَّ، ويعدوننا عبيدًا يتاجر الفنيقيون بهم، ولم يفكروا في غير فائدة غنيمةٍ كهذه، ونلاحظ أن مياه البحر تبيض باختلاطها بمياه النيل، ونبصر أن ساحل مصر منخفض كالبحر تقريبًا، ثم نصل إلى جزيرة فاروس المجاورة لمدينة نُو، ومن هناك نسير والنيلَ سيرًا معاكسًا حتى منفيس.
ولو لم يجعلنا ألم أسرنا غير متأثرين بجميع الملاذ لسُحِرَت أعيننا بمنظر هذه الأرض المصرية الخصيبة المماثلة لحديقة رائعة تُروَى بما لا يُحصَى من القنوات، وما كنا لنستطيع إلقاء أبصارنا على الضفتين من غير أن نشاهد مدنًا رخيةً وبيوتًا ريفيةً حسنة الموقع وأَرَضِين مستورةً في العام كله بحصادٍ ذهبي بلا فترات على الإطلاق، وبمروج زاخرة بمواشٍ، وبزراعٍ مثقلين بثمراتٍ يفيض بها باطن الأرض وبِرِعَاءٍ يرددون أصداء الجِوار بما يصدر عن ناياتهم ومزاميرهم من أصوات عذبة.
ويقول منتور: «طُوبَى لشعبٍ يسوسه ملك عاقل! فهو يعيش راتعًا سعيدًا محبًّا لذاك الذي يكون مدينًا له بسعادته، فعلى هذا النمط يجب عليك، يا تلماك، أن تقوم بأمور الحكم وأن تُوجب سرور رعاياك إذا ما قضى الآلهة بأن تقبص على زمام مملكة أبيك، فأحِبَّ رعاياك كما تُحب أولادك، وذُق لذة كونك محبوبًا لديهم، واصنع ما لا يُمكنهم أن يشعروا بالأمن والمسرَّة معه من غير أن يذكروا أن ملكًا صالحًا حباهم بهاتين المنحتين الثمينتين، وليس الملوك الذين لا يُفكرون في غير إرهاب رعاياهم وإذلالهم حملًا لهم على الخضوع سوى آفات النوع البشري، أجل إنهم يُخشون كما يودون، ولكنهم ممقوتون مُبغضَون، وذلك فضلًا عن كونهم يخافون رعاياهم أكثر من أن يخافهم رعاياهم.»
وأجيبُ منتور بقولي: «آه! لا يقوم موضوعنا على المبادئ التي يجب اتباعها للحكم، فقد عادت إيتاك لا تكون موجودة لدينا، ولن نرى وطننا ولا بنلوب، حتى إنه إذا ما قُدِّر لأوليس أن يعود إلى مملكته تام المجد فإنه لن يقر عينًا برؤيتي فيها، ولن أحظى بإطاعته فأتعلم القيادة، فلنمُتْ، يا منتور العزيز، وليس لنا أن نُفكر في غير هذا، لنمت ما عَطِل الآلهة من كل حنانٍ حيالنا.»
وبينما كنت أقول هذا كان كلامي يُقطع بزفراتٍ عميقة، غير أن منتور، الذي يخشى الشر قبل وقوعه، لا يخافه بعد حدوثه.
ويقول منتور صارخًا: «أي ابنَ الحكيم أوليس العار على أبيه! ماذا إذن! تَدَعُ بلاءك يقهرك! اعلم أنك سترى جزيرة إيتاك وبنلوب ثانيةً، وأنك سترى، فيما لم تعرف من مجدها الأول، أُوليسَ المنيعَ الذي لم يستطع الطالع أن يُذله والذي يعلمك في مصائبه التي هي أعظم من مصائبك ألا تفتر همتك مطلقًا، وي! لو استطاع أن يعلم، في الأرضين البعيدة التي قذفته العاصفة إليها، أن ابنه لا يعرف أن يقتدي بصبره ولا ببسالته، لأرهقه هذا الخبر خجلًا ولكان أشد وقعًا عليه من كل ما يقاسي من بؤسٍ منذ زمن طويل.»
ثم حملني منتور على ملاحظة ما يسود جميع ريف مصر من بهجةٍ ورخاءٍ فيُعَدُّ فيه نحو اثنين وعشرين ألف مدينة، وأُعجب منتور بحُسن إدارة هذه المدن، وبممارسة العدل نفعًا للفقير تجاه الغني، وبصلاح تربية الأولاد الذين يُدرَّبون على الطاعة والعمل والقناعة وحب الفنون والآداب والتدقيق في جميع الشعائر الدينية والتجرد من الأغراض والميل إلى الشرف والإخلاص للناس والخوف من الآلهة؛ أي بهذه الأمور التي كان يُوحي بها كل أب إلى أولاده، وهو لم يسأم قط من الإعجاب بهذا النظام الجميل.
وهو لم ينقطع عن القول لي: «طوبى لشعب يسوسه ملك عاقل على هذا الوجه! وأسعد من هذا الشعب ذاك الملك الذي يصنع سعادة رعايا كثيرين بهذا المقدار فيجد سعادته في فضيلته! وهو أرفع من أن يُخشى لأنه يُحَبُّ، وهو لا يُطاع فقط، بل هو مليك جميع الأفئدة أيضًا ولا يتمنى أحد أن يتخلص منه، وكلٌّ يُشفق من افتقاده ويُقدِّم حياته في سبيله.»
وأَمِيزُ ما يقول لي منتور، وأشعر ببعث شجاعتي في صميم فؤادي ما خاطبني هذا الصديق العاقل، ولمَّا بلغنا منفيس، هذا المصر الرخي البهي، أمر الحاكم من فوره بذهابنا إلى طيبة كيما نُعرَض على الملك سيزستريس الذي كان يرغب في النظر إلى الأمور بنفسه، والذي كان شديد الحقد على الصوريين، ونداوم، إذن، على السير مع النيل سيرًا معاكسًا، وذلك حتى مدينة طيبة الشهيرة وذات مائة الباب حيث يقيم ذلك الملك العظيم، وتبدو لنا هذه المدينة بالغة الاتساع، وتظهر لنا أكثر عمرانًا من أكثر مدن اليونان ازدهارًا، ونراها كاملة الإدارة من حيث نظافة الشوارع ومجاري المياه ورفاهة الحمامات ومزاولة الحِرَف والأمن العام، ونرى الميادين مزينةً بالعيون والمِسَلات، والمعابد من الرخام مع بساطة الهندسة، ولكن مع الجلال، ويشابه قصر الملك وحده مدينة عظيمة، ولا يُرى فيه غير عمدٍ رُخامية وأهرامٍ ومسلات وتماثيل ضخمةٍ ورياشٍ من الذهب والفضة.
وللملك يقول من قبضوا علينا إننا وُجدنا في سفينةٍ فنيقية، وكان الملك يُصغي في ساعات معينة من كل يوم إلى من لديه شكوى أو رأيٌ من رعاياه، وكان لا يزدري أحدًا أو يرفض إنسانًا، وكان يعتقد أنه لم يُنْصَب ملكًا إلا لصنع الخير لجميع رعاياه الذين يحبهم كما يحب أولاده، وكان يستقبل الأجانب بلطف ويرغب أن يراهم معتقدًا أنه يتعلم شيئًا مفيدًا دائمًا إذا ما بحث في طبائع الأمم البعيدة وأوضاعها، ومن نتائج هذا الفضول في الملك أن قُدِّمنا إليه، وكان جالسًا على عرشٍ من عاج ممسكًا صولجانًا من ذهب بيده، وكان متقدمًا في السن، ولكن مع لطف وحلم وجلال، وكان كل يوم يَقْضِي في أمور رعيته بصبر وعقل يثيران العجب بلا مَلَق، وكان، بعد أن يقضي يومه في تنظيم الأمور وإقامة العدل بدقة، يرتاح مساءً إلى الاستماع لذوي العلم ومحادثة ذوي الصلاح ممن يعرف أن يختارهم كيما يقبلهم مع الدالة، ولا يُمكن أن يلام في حياته على شيء غير استقباله بزهوٍ بالغٍ مَنْ قَهَر من الملوك، وغيْرِ ثقته برجلٍ من رعيته سأصفه لك بعد هُنَيْهَة.
فلما رآني رق لشبابي وألمي، وقد سألني عن وطني واسمي، وندهش من الحكمة التي ينطق بها، وأجيب بقولي: «إنك، أيها الملك العظيم، لا تجهل حصار تروادة الذي دام عشر سنين وخرابها الذي كلف بلاد اليونان دمًا كثيرًا، وكان والدي أوليس من أهم الملوك الذين دمروا هذه المدينة، وهو الآن يهيم على وجهه في جميع البحار من غير أن يجد جزيرة إيتاك التي هي مملكته، وأبحث عنه، ويؤدي مثل بلائه إلى القبض عليَّ، فأَعِدْني إلى أبي ووطني، حفظك الآلهة لأولادك، وأشعروا أولادك بهجة العيش تحت رعاية أب صالح مثلك!»
ولم ينفك سيزستريس ينظر إليَّ بعين الرحمة، ولكنه، إذ أراد أن يعرف هل أنا صادق فيما قلت، أحالني إلى أحد ضباطه ليعلم ممن أخذوا سفينتنا هل نحن من الأغارقة أو من الفنيقيين في الحقيقة.
ومن قول الملك: «إنهما إذا كانا من الفنيقيين وجب أن يضاعف عقابهما لكونهما من الأعداء ولأنهما حاولا خداعنا بكذب خسيس، وإنهما إذا كانا، على العكس، من الأغارقة فإنني أرغب أن يعاملا معاملةً حسنة، وأن يُرَدَّا إلى بلدهما على إحدى سفني، فأنا أحب بلاد اليونان التي حباها كثير من المصريين بقوانين، وأعرف قوة هركول، وقد انتهى إلينا خبر مجد أشيل، وأُعْجَبُ بما رويَ لي من حكمة أوليس التعس، ويطيب لي أن أُعِينَ الفضيلة المنكودة الحظ.»
وكان الضابط الذي فُوِّض إليه أن يُحقق في قضيتنا فاسد الشعور محتالًا، وذلك بمقدار ما كان سيزستريس سليم الطوِيَّة كريمًا، وكان هذا الضابط يُدعى ميتوفيس، ويستنطقنا، ويسعى أن يَجْبَهَنَا، وبما أنه أبصر منتور يُجيب بحكمةٍ أبلغ مما أصنع فإنه نظر إليه ببغضٍ وحذر، شأن الخبيثين حين يغضبون على الطيبين، ويفصل أحدنا عن الآخر، ولم أعرف ما أصاب منتور.
ويقع هذا الفصل عليَّ كالصاعقة، وكان متوفيس يتوقَّع دائمًا أنه إذا ما استنطق كل واحد منا على حدته أمكنه أن يحملنا على بيان أمور متناقضة، ومما كان يعتقد، على الخصوص، أنه يبهرني بوعوده الخادعة فيجعلني أعترف بما يكون منتور قد أخفى عنه، والخلاصة أنه كان لا يبحث عن الحقيقة حَسَنَ النيةِ، وإنما كان يودُّ لو يجد ذريعةً ليقول للملك: إننا من الفنيقيين كيما نكون من عبيده، والواقع أنه وجد وسيلةً يخدع بها الملك على الرغم من براءتنا ومن دراية الملك.
آه! ما أكثر ما يكون الملوك عرضةً له! ما أكثر ما يُستغفل أعقل الملوك! ولا عجب، فالمحتالون الطامعون يحيطون بهم، والصالحون يبتعدون عنهم، يبتعدون عنهم لأنهم ليسوا مجاملين ولا مصانعين، وينتظر الصالحون أن يُبحث عنهم، ولا يعرف الأمراء أن يبحثوا عنهم مطلقًا، وعلى العكس يكون الخبيثون خالعي العِذَار مخادعين حريصين على الانسياب ونيل الحُظوة ماهرين في النفاق مستعدين لصنع كلِّ ما يأباه الشرف والضمير إرضاءً لأهواء ولي الأمر، وَيْ! ما أشقى الملك الذي يكون عُرضةً لدسائس الخبثاء! يهلِك هذا الملك إذا لم يدرأ الدِّهان ولم يُحب الذين يقولون الحق بإقدام، فهذه هي التأملات التي بدت لي في أثناء مصيبتي.
ومع ذلك فقد أرسلني متوفيس مع عبيده إلى صحراء الواحة حيث أقوم معهم بسوق قطعانه العظيمة.
ولم يكد تلماك يبلغ هذا الموضع من القول حتى قطعت كلبسو عليه الكلام بقولها: «حسنًا! ماذا صنعت هنالك أنت الذي فضَّل القتل على الرق في صقلية؟»
فاسمع جواب تلماك: «كان شقائي يزيد باستمرار، وعُدتُ لا أتمتع بذاك السلوان الهزيل في الاختيار بين الرق والقتل، فكان لا بُدَّ من العبودية لاستنفاد جميع نوائب الطالع حتى الثمالة، والواقع أنه عاد لا يكون لي أي أمل مطلقًا، حتى إنني لم أستطع أن أقول كلمةً واحدة للعمل في سبيل خلاصي، وقد قال لي منتور بعد حينٍ: إنه كان قد بيع من الإثيوبيين فتبعهم إلى إثيوبية.
وأَبْلُغُ صحاري كريهةً حيث تُرى رمال محرقة بين السهول، وتوجب الثلوج، التي لا تذوب مطلقًا، شتاءً دائمًا على ذُرى الجبال، وكل ما يوجد لإطعام المواشي هو مَراعٍ بين الصخور في وسط سفوح هذه الجبال الوعرة، وتبلغ الأودية من العمق هناك ما لا تكاد الشمس تُلقِي أشعتها عليها.
ولم أجد في هذا البلد من الناس غير رعاةٍ متوحشين توحُّشَ البلد نفسه، وكنت أقضي هناك ليالي أرثِي فيها لشقائي وللأيام التي أسوق فيها قطيعًا لأجتنب غضب العبد الأول الذي يرجو إعتاقه فلا ينفك يتهم الآخرين استغلالًا لغيرته لدى سيده وحرصِه على مصالح هذا السيد، وكان هذا العبد يُدعَى بوتيس.
وأكاد أُسْلِم نفسي إلى اليأس في هذا الحين، وأبلُغُ من الألم ما غفلت معه عن قطيعي ذاتَ يوم، فأستلقِي على الكلأ بالقرب من غارٍ حيث أنتظر الموتَ لِمَا عُدت لا أطيق كروبي.
وألاحظ في تلك الساعة أن جميع الجبل يهتز، وأن أشجار البلوط والصنوبر تهبط من ذروة الجبل كما يظهر، وأن الرياح تحبس أنفاسها، وأن صوتًا راعدًا يخرج من الغار فأسمع ما يأتي: «يجب أن تكون، يا ابن أوليس الحكيم، عظيمًا صابرًا مثل أبيك، وليس الأمراء الذين هم سعداء دائمًا أهلًا للسعادة مطلقًا، فالتخنث يفسدهم والزهو يُسكرهم، وما أكثر ما تكون سعيدًا إذا قهرت مصائبك ولم تنْسَها قط! سترى إيتاكَ مرةً أخرى، وسيبلغ مجدك أعلى الشهب، ومتى صِرتَ سيد الآخرين فاذكر أنك كنت ضعيفًا فقيرًا متألِّمًا مثلهم، ولتكُن لك لذةٌ في كشف الكرب عنهم، وأحِبَّ رعيتك وامقت النفاق، واعلم أنك لن تكون عظيمًا إلا بنسبة ما تكون معتدلًا قادرًا على قهر آلامك.»
ويبلغ هذا الكلام الإلهي صميم فؤادي، ويبعث فيه بهجةً وشجاعة، ولم أشعر قط بتلك الرعشة التي تقف شعر الرأس ويجمد بها الدم في العروق عند اتصال الآلهة بالناس، وأنهض هادئًا وأركع جاثيًا رافعًا يدي إلى السماء، نحو منرفا، التي أعتقد أنني مدينٌ لها بهذا الهُتاف الرباني، وفي الوقت نفسه أجدني رجلًا جديدًا، وتنير الحكمة نفسي، وأشعر بقدرة لطيفة تخفف جميع آلامي وتقف صولة شبابي، وأُحَبِّبُ نفسي إلى جميع رعاة الصحراء، وما تذرعت به من حلمٍ وصبر وسداد سكَّنَ، في آخر الأمر، بوتيس القاسي الذي كان ذا سلطانٍ على العبيد الآخرين والذي كان يريد تعذيبي في البُداءة.
وأبحث عن كُتُبٍ إمعانًا في احتمال سأم الأسر، فقد كنت مثقلًا بالغمِّ لعدم وجود ثقافةٍ تُغذِّي نفسي وتقوِّم عقلي، فأقول: «طُوبَى لمن يشمئزون من الملاذِّ الصائلة ويعرفون أن يقنعوا بألطاف الحياة البريئة! طوبى لمن يتلهون بالتعلم ويُسَرُّون بتثقيف أذهانهم بالعلوم! مهما يكن المكان الذي يقذفهم فيه الطالع العدو فإنهم يحملون معهم ما يستقيمون به، لا يعرف السأم، الذي يلتهم الآخرين حتى بين الملاذ، سبيلًا إلى من يعرفون أن يتفرغوا للمطالعة، طوبى لمن يحبون القراءة ولا يُحرَمُونها كما أُحْرَم!»
وبينا كانت هذه الأفكار تدور في ذهني أوغلت في غابة ظليلة حيث أبصرت من فوري شيخًا يحمل كتابًا بيده، وكان هذا الشيخ أصلع الناصية مغضَّن الجبين أبيض اللحية مُرْسَلَها حتى الزُّنَّار، وكان طويلًا مهيب القامة، وكان غض البشرة قرمزي الإهاب، وكان حاد البصر ثاقب النظر عذب الصوت بسيط القول حلو الكلام، ولم يحدث قط أن رأيت شائبًا جليلًا مثله، وكان يسمى ترموزيريس، وكان كاهن أبولون فيقوم بخدمته في معبد من رخام وَقَفَهُ ملوك مصر على هذا الإله في هذه الغابة، وكان الكتاب الذي يمسك مجموعةً من الأناشيد التي يسبَّح فيها للآلهة، ويدنو مني متوددًا، ونتحادث، ويبلغ من حسن الكلام عن أمور الماضي ما يُعتقَد معه أنها تُرى، ولكنه يحدث عنها بإيجاز، وما كان حديثه ليورثني سأمًا مطلقًا، وكان يبصر المستقبل بما هو عليه من حكمةٍ بالغةٍ يعرف بها الرجال وما يساورهم من مقاصد، وكان كثير الحذر طليق الوجه ملاطفًا للناس، وما كان أكثرُ الشبابِ بشاشةً لِيَبْلُغَ مقدار لطف هذا الشائب الطاعن في السن، ومن صفاته أنه كان يحب الفتيان إذا ما كانوا ذُلُلًا محبين للفضيلة.
ولم يلبث أن أحبني حب حنان فأعطاني من الكتب ما لي به سلوان، وكان يدعوني «ابني»، وكنت أقول له غالبًا: «إن الآلهة الذين حرموني منتور، يا والدي، رحموني إذ أنعموا عليَّ فيك بسندٍ آخر.»
وكان الرجل المشابه لأورفه أو للينوس ملهمًا من الآلهة لا ريب، وكان ينشدني شعرًا وضعه، وكان يلقِي عليَّ شعرَ كثيرٍ من الشعراء الممتازين الأعزة على إلهات الشعر، وكان إذا ما لبس حُلته الطويلة الناصعة البياض وأمسك ربابته العاجية بيده أتت النمور والأسود والدِّبَبة لتداليه وتلحس رجليه، وخرجت أنصاف الآلهة من الغاب لترقص حوله، وبدت الأشجار مهتزة، وظُنَّ أن الصخر الملانة تنزل من فوق الجبال مفتونةً بأنغامه الناعمة، وكان لا يترنم بغير عظمة الآلهة وشجاعة الأبطال وحكمة الرجال الذين يفضِّلون المجد على الملاذِّ.
ولسرعان ما أطلع أبولون جميع هؤلاء الرعاة على كل ما تكون به حياتهم مستحبة، فقد كان يتغنى بالزهور التي يُتَوَّج بها الربيع وما ينشر الربيع من عطور وما ينبت في أثَره من بُقُول، ثم كان يتغنى بليالي الصيف اللذيذة حين يطرِّي النسيم الناس وحين يُروي الندى الأرض، وكان يضم إلى أغانيه، أيضًا، تلك الثمرات الذهبية التي يكافئ الخريف بها أعمال الزراع، كما يضم إليها راحة الشتاء حين يرقص الشباب اللعوب حول النار، ثم يصف الغاب الظليلة التي تستر الجبال، كما يصف الأودية المجوفة حيث تلوح الأنهار أنها تلهو بألف عطفة في وسط المروج الجميلة، وهكذا فإنه علم الرعاة سحر الحياة الريفية إذا ما عرفوا كيف يتذوقون ما في الطبيعة البسيطة من عجائب، ولم يلبث الرعيان أن أبصروا بمزاميرهم أنهم أسعد من الملوك، فغدت أكواخهم تشتمل على كثير من الملاذ التي تفر من القصور المُذْهَبة، وكانت الألعاب والأضاحيك والألطاف تلازم الرعاء الأبرياء في كل مكان، وكانت جميع الأيام أيام عيد، وعاد لا يُسمَع غير تغريد الطيور أو نفح النسيم الذي يداعب فروع الشجر، أو هدير موجةٍ نيِّرةٍ تسقط من صخرة، أو الأغاني التي كانت إلهات الشعر توحي بها إلى الرعاة التابعين لأبولون، وكان هذا الإله يعلمهم الفوز بجائزة العدْو وإصماء الأيائل والوعول، ويغار الآلهة من الرعيان لظهور هذه الحياة لهم أحلى من مجدهم كله فأعادوا أبولون إلى الألنب.
فيا بُنَيَّ! يجب أن يكون لك بهذه القصة سبب تثقيف، فبما أنك في حالٍ كالتي كان عليها أبولون فأحْيِي هذا الموات، واجعله زاهرًا كما جعل، وعلم جميع هؤلاء الرعاة ما فُتُونُ الانسجام، ولطف الأفئدة القاسية، وأطلع الرعاة على الفضيلة المحبوبة، وأشعرهم بحلاوة التمتع في أثناء العزلة بالملاذ البريئة التي لا يستطيع شيءٌ أن ينزعها من الرعاة، وسيأتي يومٌ، يا بني، يحملك ما يحيق بالملوك من كروب وهموم جافية تأسف فيه، وأنت جالسٌ على العرش، على الحياة الرِّعائية.
قال ترموزيريس هذا وناولني نايًا بالغ العذوبة، فكان صدى الجبال الذي تسمعه في كل ناحية يجتذب حولنا بعد قليلٍ جميع الرعاة المجاورين، وكان لصوتي انسجامٌ رباني، وأشعر باهتزازي وطيران لُبِّي حين أتغنى بالألطاف التي زينت الطبيعة بها الأرياف، ونقضي الأيام بأسرها وهزيعًا من الليالي في الترنيم معًا، وكان جميع الرعيان ينسون أكواخهم وقطعانهم حائرين دَهِشِين حولي حينما ألقي عليهم دروسًا، وكان يلوح أن هذه الصحاري صارت لا تشتمل على شيءٍ جافٍ، فكل شيءٍ قد أصبح فيها حلوًا جميلًا، وكان لِينُ طباع الأهلين يُلِينُ الأرض كما يظهر.
وكنا نجتمع، في الغالب؛ لتقديم قرابين في معبد أبولون الذي كان ترموزيريس كاهنًا له، وكان الرعاة يجيئون إلى المعبد مُتَوَّجين بأكاليل من الغار تمجيدًا للإله، وكان الرعاة يقصدونه أيضًا، راقصين مع أكاليل من الزهور حاملين على رءوسهم سلالًا حاويةً نذورًا، وكنا نقيم بعد التضحية مأدبة ريفية، وكان أزكى طعام عندنا هو لبن معزنا وضأننا الذي نُعْنَى بحلبه بأنفسنا وما نقتطف بأيدينا النظيفة من فواكه طازجةٍ كالرطب والتين والعنب، وكانت مقاعدنا من الكلأ، وكانت الأشجار الوارقَة تُنْعِم علينا بظلٍّ ألطفَ من الصفائح المذهبة في قصور الملوك.
ولكن الذي رفع ذكري بين رعاتنا هو ما كان من انقضاض أسدٍ جائع على قطيعي، وتبدأ مجزرةٌ كريهة، ولم أكن حاملًا بيدي غير عصاي، وأتقدم بجرأة وتَزْبَئِرُّ لُبدَة الأسد، ويُكَشِّر عن أنيابه وبراثنه، ويفغَر فاه الجاف الملتهب، وتبدو عيناه مملوءتين دمًا ونارًا، ويقرع خاصرتيه بذَنَبِه الطويل، وأطرحه، ويحول دون افتراسي زَرَدِي الذي كنت ألبس وفق عادة رُعاة مصر، وينهض ثلاث مرات، ويزأر فيُدوِّي زئيره في جميع الغاب، وأصرعه ثلاث مرات، ثم أخنقه بين ذراعيَّ، ويرغب شهود نصري من الرعيان أن ألبس جلد هذا الأسد الهائل.
ويذيع في جميع مصر صيت هذا العمل وما وقع من تحوُّلٍ في رعاتنا، ويطرُق حتى أُذُنَيْ سيزستريس، ويعرف سيزستريس أن أحد الأسيرين اللذين عُدَّا من الفنيقيين، جاء بالعصر الذهبي إلى هذه الغاب التي لا تصلُح للسكن، ويريد أن يراني؛ وذلك لأنه كان يُحبُّ عرائس الشعر، وكان في فؤاده مكانٌ لكلِّ من يستطيع تثقيف الناس، ويراني، ويستمع إليَّ طيب الخاطر، ويعلم أن ميتوفيس كان مخادعًا له عن طمع، ويحكم عليه بالسجن المؤبد، وينزع منه جميع الثروات التي حازها ظلمًا وعدوانًا.
ويقول: «وَيْ! ما أشقى من يعلو بقية الناس! لا يرى الإنسان الحقيقة بغير عينيه غالبًا! هو يكون محاطًا بأناسٍ يحُولون دون وصوله إلى من يَقود، وكلٌّ يرى مصلحته في مخادعته، وكلٌّ يتظاهر بالغَيرة مخفيًا طمعه تحتها، وكلٌّ يُظهرُ أنه يحب الملك مع أنه لا يحب سوى الثراء الذي يُنعِم به الملك، والملكُ لا يُحَبُّ إلا لنيل الحُظوة لديه فيُصانَع ويُخان.»
ثم عاملني سيزستريس بودٍّ وحنان، وعقد نيته على إعادتي إلى إيتاك مع سفنٍ وجنودٍ لإنقاذ بنلوب من جميع عشاقها، ويُعَد الأسطول، ولم نفكر في غير الإبحار، وأُعجَب بتصاريف القدر الذي يرفع بغتةً من كان قد خَفَض، وتجعلني هذه التجربة أرجو رجوع أوليس إلى مملكته في آخر الأمر بعد عذاب طويل، وكان يلوح لي أيضًا إمكان لقاء منتور ثانيةً وإن جُلب إلى مجاهل إثيوبية، وبينا كنت أؤخِّر سفري بعض التأخير ساعيًا أن تبلغني أخباره مات سيزستريس الطاعن في السن بغتةً فغُمرت بموته في مصائب جديدة.
وتظهر مصر كلها في مأتم عميق بسبب موته، فقد اعتقدت كل أسرة أنها فقدت صديقها وحاميها وأباها، ويرفع الشِّيب أيديهم إلى السماء، ويقولون صارخين: «لم يظهر في مصر قط ملك صالح مثله! لن يظهر في مصر ملك مشابهٌ له! فيا أيها الآلهة! كان يجب ألا يُبدَى للناس مطلقًا، أو ألَّا يُنزَع منهم مطلقًا! لِمَ نبقَى أحياء بعد سيزستريس؟» ويقول الشبَّان: «لقد قُضي على أمل مصر، وقد كان آباؤنا سعداء بقضائهم حياتهم تحت ظل ملك بالغ الصلاح كهذا، وأما نحن فلم نره إلا لنشعر بفقده»، ويبكيه خدمه ليل نهار، ولما جنِّزَ أُهرِعَ الرعايا إلى جنازته من الأقاصي أفواجًا أفواجًا مدة أربعين يومًا، وكلٌّ كان راغبًا في مشاهدة جثمان سيزستريس مرةً أخرى، وكلٌّ كان راغبًا في الاحتفاظ بصورته في ذاكرته، وما أكثر مَن ودُّوا لو يدفنون معه في ضريحه!
ومما زاد الناس حزنًا على موته كون ابنه بوكوريس خاليًا من كلِّ رفقٍ بالأجانب، ومن كل فضول نحو العلوم، ومن كلِّ تقدير لذوي الفضل، ومن كل حبٍّ للمجد، وما كان من عظمة أبيه ساعد على عدِّه غير أهلٍ للحكم إلى أبعد حد، وبيان ذلك أنه نشِّئ تنشئة ترفٍ وزهوٍ جافٍ، فكان لا يعبأ بالناس معتقدًا أنهم لم يُخلقُوا إلا من أجله وأنه من جِبِلَّةٍ غير جبلَّتهم، وكان لا يبالي بغير قضاء شهواته وتبديد الأموال العظيمة التي ادَّخرها أبوه بعناية كبيرة، وبغير ظلم رعيته وامتصاصٍ دم البائسين، وبغير اتباع نصائح الفتيان الطائشين المنافقين المحيطين به مع إقصائه، مستخفًّا، جميع عقلاء الشيوخ الذين كانوا موضع ثقة أبيه، والواقع أنه كان غُولًا، لا ملكًا، وكانت مصر بأسرها تئِنُّ، وعلى ما كان من صبر المصريين على سلوكه الخسيس الجائر احترامًا لاسم أبيه سيزستريس العزيز عليهم فإنه كان كالباحث عن حتفه بظِلْفِه، فما كان حكم مثل هذا الأمير القبيح ليدوم زمنًا طويلًا.
وعاد لا ينبغي لي أن أرجو رجوعي إلى إيتاك، وذلك أنني أقمت ببرجٍ قائم على شاطئ البحر بالقرب من بيلوزة حيث كان يتم إبحارنا لو لم يَمُت سيزستريس، وأن ميتوفيس كان من الشَّطَارة بحيث يخرج من السجن، ويسترد سابق مقامه لدى الملك الجديد، فيأمر باعتقالي في هذا البرج انتقامًا لنفسه من زوال حُظوته الذي كنت قد أوجبته له، وأقضي ليالي وأيامًا حزينًا أشد الحزن، وعاد جميع ما كان ترموزيريس قد تنبأ به إليَّ وجميع ما سمعته في الغار لا يبدوان غير حلم، ولا غَرْوَ، فقد سقطت في أشد الآلام، وكنت أرى الأمواج التي تلطم أسفل البرج الذي اعتُقِلْت فيه، وكنت أبصر، في الغالب، مراكب ترجُّها الزوبعة فتعاني خطر الانكسار على الصخر التي بُنيَ عليها البرج، وأراني حاسدًا أولئك الناس الذين يهددهم خطر الغرق بدلًا من أن أتوجع لهم، ولم ألبث أن أقول في نفسي: «إن شقاءهم سينتهي بانتهاء حياتهم أو بوصولهم إلى بلدهم، وأما أنا فإن من دواعي الأسى ألا أستطيع أن أرجو هذا أو ذاك.»
وبينما كنت أَضْنَى هكذا بين ما لا ينفع من الحسرات أبصرت صواري سفنٍ مثل الغابة، وكان البحر مكسوًّا شُرُعًا تنفخها الرياح، وكان الموج مُزْبدًا تحت ضربات ما لا يُحصى من المقاذيف، وكنت أسمع من كل ناحية صراخًا مختلطًا، وأشاهد على الشاطئ فريقًا مذعورًا من المصريين يُهرع إلى السلاح، وأشاهد مصريين آخرين يلوح أنهم ذاهبون لملاقاة هذا الأسطول الذي كان يُرى وصوله، ولم ألبث أن عرفت أن بعض هذه السفن الأجنبية من فنيقية وأن بعضها الآخر من جزيرة قبرس؛ وذلك لأن المصائب أخذت تجعلني خبيرًا في كلِّ ما هو خاصٌّ بالملاحة، وظهر لي أن المصريين مقسومون، ولم أجد عناءً في اعتقادي أن الملك الأرعن بوكاريس أوجب، بما اتخذ من عنفٍ، عصيان رعاياه وأوقد نار الفتنة، وأنظر من فوق البرج معركةً دامية، ويهجم المصريون، الذين دعوا الأجانب إلى نصرتهم بعد أن أعانوا على نزولهم، على المصريين الآخرين الذين كان يقودهم الملك، وأرى هذا الملك يشجِّع أنصاره بكونه قدوةً لهم، ويظهر كالإله مارس، وتجري جداول من الدم حوله، وتلطَّخ عِجَال عربته بدمٍ كثيفٍ مزبدٍ أسود، ولا تكاد هذه العجال تكون قادرةً على السير فوق أكداسٍ من جثث القتلى المسحوقة، وكانت تلوح على عينَيِ هذا الملك الشاب الشديد المختال الحسن الخلقة والجميل المنظر آثار الغضب والغم الشديد، وكان يبدو كالحصان المليح الجامح فيقحمه بأسه بلا روية ولا يكون من الحكمة بحيث يعدل إقدامه، وكان لا يعرف إصلاح خطئه، ولا إصدار أوامر محكمة، ولا إدراك ما يهدده من سوء، ولا مداراة من هو في أشد الاحتياج إليهم، ولا يعني هذا أن العبقرية كانت تُعْوِزُه، فقد كان لديه من البصائر ما يعدل بسالته، وإنما لم يعتبر قط بسوء الطالع لما كان من إفساد مَلَق أساتذته لحسن سجيته، وقد كان نشوان بسلطانه وسعادته، فيعتقد أن على الناس أن يذعنوا لنزواته الثائرة، فكانت أقل مقاومة تُلهب غضبه، وهنالك عاد لا يتعقل، وغدا كمن طار طائره، وجعل زهوه الهائج منه وحشًا ضاريًا، وتخلَّى عنه لطفه الطبيعي وعقله السليم في دقيقةٍ، فاضطر أعوانه المخلصون إلى الابتعاد عنه، وعاد غير محبٍّ لغير من يتملقون أهواءه، وهكذا فإنه كان يلتزم أقصى ما يناقض مصالحه الحقيقية فيحمل جميع رجال الخير على مقْت سلوكه.
أجل، إن بأسه قد دعمه حيال جمع أعدائه، ولكنه أرهق في نهاية الأمر، فقد رأيته يهلك، وذلك أن حربة فنيقي اخترقت صدره، فسقط من عربته التي كانت تجرها أحصنة دائمًا، وصار تحت سنابك الخيل لما عاد لا يستطيع أن يمسك الأعنة، ويقطع جنديٌّ من جزيرة قبرس رأسه، ويتناول هذا الرأس من شعره، ويظهره لجميع الجيش الغالب نتيجةً للنصر.
وسأذكر، ما بقيت حيًّا، أنني رأيت هذا الرأس الغارق في الدم، وهاتين العينين المغمضتين الخامدتين، وهذا الوجه الشاحب المشوَّه، وهذا الفم المفتوح قليلًا كأنه يريد إتمام ما بدأ من كلام، وهذه الملامح المختالة المتوعدة التي لم يقدر الموت على محوها، وسيبقى خيال هذا الرأس ماثلًا أمام عيني ما بقيتُ حيًّا، فإذا ما قضى الآلهة بأن أقبِضَ على زمام الملك فإنني لن أنسى، بعد هذا المثال المشئوم، أن الملك لا يكون أهلًا للقيادة، وأنه لا يكون سعيدًا في إبَّان سلطانه، إلَّا إذا أخضع هذا السلطان للعقل، آه! ما أتعس الرجل الذي أُعِدَّ لإسعاد الناس فلا يكون سيدهم إلا لجعلهم تعساء!