الجزء الخامس

تتمة حديث تلماك، ثراء جزيرة أقريطش وخصبها وطبائع أهلها ويسرهم بفضل شرائع مينوس الحكيمة، علم تلماك حين وصوله إلى الجزيرة أن ملكها إيدومنه ضحَّى بابنه الوحيد إيفاءً بنذرٍ سخيف، فانتقم الأقريطشيون لدم الابن بأن حملوا الأب على مغادرة بلدهم، وأنهم مجتمعون، بعد ترددٍ طويل، لاختيار ملك آخر، قبول تلماك في هذا المجلس، وفوزه بجوائز ألعابٍ مختلفة، وحلُّه بحكمةٍ نادرة كثيرًا من المسائل الخلقية والسياسية التي عرضها قضاة الجزيرة الشيوخ على المتبارين، إعجاب رئيس هؤلاء الشيوخ بحكمة هذا الشاب الأجنبي واقتراحه على المجلس أن يُتوَّج ملكًا وموافقةُ جميع الشعب على هذا الاقتراح مع الهُتاف الشديد، ومع ذلك فإن تلماك رفض أن يملك الأقريطشيين مفضلًا إيتاك الفقيرة على مجد مملكة أقريطش وثرائها، اقتراح تلماك أن يُنتخب منتور ورفض منتور للتاج، إلحاف المجلس على منتور بأن يختار ملكًا لجميع الأمة فذكر ما علم من فضائل أرستوديم وحمل المجلس على المناداة به ملكًا، لم يلبث منتور وتلماك أن أبحرَا بعد ذلك على مركبٍ أقريطشيٍّ للعود إلى إيتاك، هنالك أراد نبتون أن يعزِّي فينوس الساخطة فأثار إعصارًا هائلًا أسفر عن تحطيم مركبهما، نجاتهما من هذا الخطر بإمساكهما حطام الصاري الذي قذفته الأمواج إلى جزيرة كلبسو.

أخذنا، بعد أن قضينا العجب من هذا المنظر، نبصر جبال أقريطش التي لما نزلْ نجدُ صعوبةً في تمييزها من سحب السماء وأمواج البحر، وذلك أننا لم نلبث أن رأينا ذروة جبل إيدا الذي يعلو جميع جبال الجزيرة الأخرى، وذلك كالأيِّل المسنِّ الذي يعلو بقرونه المتشعبة رءوس صغاره التابعة له في الغابة، ونتبين بالتدريج شواطئ هذه الجزيرة التي تبدو لأعيننا مثل مدرَّج، وتظهر لنا جزيرة أقريطش هذه خصيبةً مزينةً بجميع الثمرات نتيجةً لعمل أهليها وعلى نسبة ظهور جزيرة قبرس لنا مهملةً معطلة، ونلاحظ من كل ناحية قرًى حسنة البناء وَضِيَعًا تعدل الأمصار ومدنًا رائعة، ولا نجد حقلًا لم تنله يد الفلاح بالزرع، ويُرى في كل مكانٍ أن المحراث قد ترك أتلامًا١ مجوفة، ولا يعرف هذا البلد كل ما يشغل الأرض من شجر لا خير فيه كالعوسج والعُلَّيْق، ونلاحظ مع المسرة أوديةً صغيرةً يرتع فيها البقر وهو يخور على طول الجداول كما نلاحظ الضأن وهي ترعى على سفح جبلٍ، ونرى الحقول الواسعة زاخرةً بما يعد هبةً من سيرس الخصيبة، ثم نرى الجبال مزخرفةً بغصون الكرم وعناقيد العنب الملوَّن الذي يرجو القاطفون منه هدايا باخوسيةً تفتن أفئدة الناس.

وقد قص علينا منتور أنه كان في أقريطش فيما مضى، ففصَّل لنا ما يعرف عنها، قال منتور: «إن هذه الجزيرة، التي يُعجب بها جميع الأجانب والتي ذاع صيتها بمدنها المائة، تطعم جميع سكانها من غير مشقة وإن كانوا لا يُحصَوْن عددًا، وهذا يعني أنه لا ينضب لأرضها معينٌ في الإفاضة بخيراتها على من يحرثونها، وأنه لا ينفد لباطنها خصبٌ، وكلما وُجد أناسٌ مجدون في بلدٍ نال هؤلاء الناس يُسرًا واستغنوا عن التحاسد، وتُضاعف الأرض، التي هي أمٌّ صالحة، هباتها بنسبة عدد أبنائها المستحقين لثمراتها بعملهم، ويعد حرص الناس وطمعهم وحدهما مصدر مصائبهم، فالناس يريدون حيازة كلِّ شيء، فيغدون تعساء برغبتهم فيما يزيد، ولو أراد الناس أن يعيشوا عيشًا بسيطًا وأن يكتفوا بقضاء حاجاتهم الحقيقية لرُئِيَ الرخاء والسرور والسلام والاتحاد في كل مكان.»

وهذا ما أدركه أحكم جميع الملوك وأصلحهم: مينوس، وكل ما ترون من أمور عجيبة في هذه الجزيرة هو ثمرة شرائعه، وما أمر بمنحه الأولاد من تربية يجعل الأبدان سليمةً قوية، وهو أن أول ما يدربون عليه هو البساطة في الحياة والقناعة في العيش مع الجد، ومما يفترض أن كل شهوةٍ تُخَنِّثُ الروح والبدن، ولا يُعرض عليهم من الملاذ غير المناعة بالفضيلة وغير نيل كثير من المجد، أجل، إنه لا يُقتصر هنا على الاستخفاف بالموت في الحرب وأخطاره عن بسالةٍ، بل يُصار، أيضًا، إلى دوس الثروات الضخمة والملاذ الشائنة تحت الأقدام عن شجاعة، وهنا يعاقَب على ثلاثة عيوب لا تعاقب الأمم الأخرى عليها، وهي: الكنود والرئاء والطمع.

وأما البذخ والتخنث فلا حاجة لإخمادهما مطلقًا ما دامت أقريطش لا تعرفهما، وكل يعمل في أقريطش، ولا أحد فيها يفكر في الاغتناء، وكل في أقريطش يعتقد أنه قد أجزل له الأجر على عمله، وذلك بحياةٍ حلوة منتظمة يُتمتَّع فيها بكل ما هو ضروري للعيش مع السلام واليسر حقًّا، وفي أقريطش لا يطاق الأثاث الثمين، ولا الثياب الفاخرة، ولا الولائم اللذيذة، ولا القصور المذهبة، والثياب، وإن كانت من الصوف الناعم والألوان الجميلة، تكون موحدةً ومن غير تطريز، وتكون الوجبات معتدلة، ولا يُشرب غير قليلٍ من الخمر، ويؤلَّف الطعام الرئيس من الخبز مع الفواكه الطازجة ولبن المواشي، ثم يؤكل قليلٌ من اللحم بلا توابل، ويُعنَى في أقريطش بإبقاء أصلح ما يكون في قطعان البقر إنعاشًا للزراعة، وتبدو بيوتها نظيفةً مريحةً ناضرةً، ولكن بلا زخرف، ولا أقصد بهذا أنه لا عهد لأقريطش بفن البناء الزاهي، وإنما قُصر هذا الفن على معابد الآلهة فيها، فلا يُقدم الناس فيها على حيازة منازل مشابهةٍ لبيوت الخالدين، وأعظم ما يتصف به أهل أقريطش من المحاسن هو الصحة والقوة والشجاعة والسلام والوفاق بين الأسر وحرية جميع المواطنين وفيض الأشياء الضرورية وازدراء الزيادات على الحاجات وتعود العمل والنفور من الكسل والتسابق في الفضائل والخضوع للقوانين ومخافة الآلهة العادلين.

وقد سألته عن سلطة الملك فأجابني بقوله: «أجل، إنه مسيطرٌ على الرعايا، ولكن القوانين مسيطرة عليه، وهو، وإن كان ذا سلطان مطلق في صنع الخير، مقيد اليدين إذا أراد صنع الشر، وتأتمنه القوانين على الرعايا كأثمن الودائع كلها، وذلك على أن يكون أبًا لهم، وتهدف القوانين أن يعمل رجلٌ واحدٌ على سعادة أناس كثيرين، لا أن يعمل أناسٌ كثيرون على مُدالاة زهو رجلٍ واحد وترفه بما يكونون عليه من بؤسٍ وعبوديةٍ منحطة، ولا ينبغي للملك أن يعلو الآخرين بغير ما هو ضروريٌّ لتخفيف عناء قيامه بوظائفه الشاقة أو لتعويدهم احترام من يجب عليه تأييد القوانين، ثم إن على الملك أن يكون أكثر من غيره قناعةً وعداوةً للترف، وأن يكون أكثر من سواه بُعدًا من الأبهة والكبرياء، ولا يجوز للملك أن يكون أغنى من غيره وأبلغ لذةً، بل يجب أن يفوق الناس حكمةً وفضيلةً ومجدًا، ومما يجب عليه أن يذود عن الوطن في الخارج بأن يقود الجيوش وأن يكون في الداخل حكمًا بين رعاياه كيما يكونون حكماء سعداء صالحين، ولم يجعله الآلهة ملكًا من أجل نفسه، بل ليكون رجل الرعية، فهو مدينٌ للرعية بجميع أوقاته ورعاياته وموداته، وهو لا يكون أهلًا للمُلك إلا بنسبة نسيانه لنفسه تضحيةً بها في سبيل المصلحة العامة، ولم يُرد مينوس أن يقوم أبناؤه بالمُلك بعده إلا بشرط اتِّباعهم هذه المبادئ، وهو الذي كان يُحب رعيته أكثر من حبه لآلِهِ، وهو الذي قد جعل أقريطش، بمثل هذه الحكمة، بالغة القوة بالغة السعادة، وهو الذي كسف بهذا الاعتدال مجد جميع الفاتحين الراغبين في تسخير الرعايا لعظمتهم الخاصة، أي لزهو أنفسهم، ثم إنه استحقَّ بعدله أن يكون في مثوى الأرواح قاضيًا بين الأموات.»

وبينما كان منتور ينطق بهذا الكلام نزلنا إلى الجزيرة، فأبصرنا القصر المشهور الذي هو من صُنع البارع ديدال فكان تقليدًا للقصر العظيم الذي رأيناه في مصر، وبينا كنا نشاهد هذا البناء العجيب أبصرنا الشاطئ زاخرًا بالقوم وهم يُهرعون أفواجًا أفواجًا إلى مكان قريب من ساحل البحر، ونسأل عن سبب تسابقهم، فاسمع ما قصَّه المدعو نوزقراط الأقريطشي علينا، قال نوزقراط: «كان إيدومنه بن دقليون وحفيد مينوس قد ذهب لحصار تروادة كما ذهب ملوك اليونان الآخرون، فلما دُمرت هذه المدينة أبحر عائدًا إلى أقريطش، بيد أن عاصفةً ثارت وبلغت من الشدة ما ظن معه ربان مركبه وجميع ربابنة المراكب الأخرى الذين حنكتهم التجارب في أمور الملاحة أن غرق سفنهم صار أمرًا لا مفرَّ منه، ويظهر الموت نُصب عيني كل واحد، وكل يبصر الهوات فاغرةً فاها لابتلاعه، وكل يَرثي لبلائه قانطًا حتى من راحة الأشباح التي تجاوز نهر ستكس بعد الدفن، ويرفع إيدومنه عينيه ويديه إلى السماء ويضرع إلى نبتون قائلًا بصوت عالٍ: أيها الإله القادر! أيها الإله المهيمن على الأمواج! تفضل واستمع إلى تَعِس! إذا ما أعدتني إلى جزيرة أقريطش على الرغم من صولة الرياح ذبحت لك أول رأس يقع عليه نظري.

ويكون ابنه فارغ الصبر في تلك الأثناء فيهرع إلى أبيه كيما يعانقه، ويا لشقاء هذا الآدمي الذي كان يجهل أنه لم يسرع إلا لهلاكه! ويصل الأب إلى الميناء المطلوب ناجيًا من العاصفة، ويشكر لنبتون استجابته لدعوته، ولكنه لم يُعَتِّم أن أدرك ما في سابق نذره من شؤم، وما يساوره من شعور بشقائه يثير فيه ندمًا أليمًا على نذره الطائش، ويخشى أن يبلغ أهله، ويحذر أن يرى أعز الناس عليه، غير أن الإلهة القاسية الفاقدة الرحمة الساهرة على معاقبة الرجال، ولا سيما الملوك المختالون، نميزيس، كانت تدفع إيدومنه بيدٍ خفيةٍ مقدَّرةٍ، ويصل، ولم يكد يرفع عينيه حتى رأى ابنه، ويرتد إلى الوراء مغاضبًا وتبحث عيناه عن رأسٍ آخر أقل قيمةً لديه يُمكن أن يضحِّيَ به، ولكن على غير جدوى.

ومع ذلك فإن الابن يرمي بنفسه على عنق الأب، ويعتريه دهش من سوء ما قابل به حُنُوَّه، وينظر إليه، ويراه يذوب دموعًا، ويقول له: «من أين أتاك هذا الحزن يا أبتِ؟ وهل أنت ساخط، بعد غياب طويل، على رجوعك إلى مملكتك وظهورك مدار بهجةٍ لابنك؟ ماذا صنعت حتى تحول عينيك لكيلا ترياني؟» ولا ينبس الأب بجواب من شدة الألم، ثم يقول بعد تأوهات عميقة: «أي نبتون! بم وعدتك؟! أي ثمن أنقذتني به من غرق السفينة؟! أعدني إلى الأمواج والصخر التي تحطمني فتنتهي بها حياتي الكئيبة! دع ابني يعيش! مهلًا أيها الإله الطاغي! هذا هو دمي، فصن دمه».»

ويوكِّد له المعبر عن رغائب الآلهة، الشيخ سفرنيم، إمكان إرضاء نبتون من غير أن يذبح ابنه، قال سفرنيم: «كان وعدك خاليًا من الفطنة، فما كان الآلهة ليرضوا أن يمجدوا بعمل فظيع، فاحترز من قرن إثم وعدك بإثم إنجازه خلافًا لسنن الطبيعة، وقدم إلى نبتون مائة ثور أشد بياضًا من ثلج نبتون وانحرها حول مذبحه المتوج بالزهور، وأحرق البخور الذَّكِي! إكرامًا لهذا الإله.»

وكان إيدومنه يستمع إلى هذا الكلام مطرِقًا صامتًا، وكانت عيناه تشتعلان غضبًا، وكان وجهه شاحبًا مشوهًا متقلب اللون في كل لحظة، وكانت أعضاؤه ترتجف كما تُرى، ويقول له ابنه في تلك الأثناء: «ترى، يا أبت، أن ابنك مستعد للموت كيما يهدأ الإله، فلا يحل عليك غضبه، وأموت راضيًا ما دام موتي يقيك من الموت، اضرب يا أبت، ولا تخش أن تجد فيَّ ابنًا غير جديرٍ بك فيرهب الردى.»

وبينا كان إيدومنه بالغ الاضطراب، فيبدو ممزق الفؤاد من قِبَل زبانية جهنم، باغت جميع من يرقبونه عن كثب بأن طعن قلب ابنه بسيفه، وينزع هذا السيف داخنًا يقطر دمًا كيما يغمده في أحشائه لو لم يمسكه من يحيطون به، ويسقط الولد مضرَّجًا بدمه، وتغشى عينيه ظلمات الموت، ويلتمس النور من بين أجفانه، ولكنه لم يكد يجده حتى عاد لا يطيقه، شأن زنبق الحقل الذي يقطعه حد المحراث من جذره فيذبل ولا يظل قائمًا، أجل، إنه لا يفقد ذلك البياض الناصع وذلك البهاء الذي يسحر العيون، غير أن الأرض تعود لا تغذيه وتنطفئ حياته، وهكذا يحصد ابن إيدومنه بقسوةٍ في ميعة شبابه، وهكذا يفقد الأب وعيه في حمَّى ألمه، فلا يدري أين هو، ولا ما صنع، ولا ما يجب أن يصنع، وهو يسير خائرًا نحو المدينة سائلًا عن ابنه.

هنالك تحنن القوم على الولد وساورهم مقت شديد لعمل الأب الفظيع فهتفوا قائلين: إن الآلهة العادلين قضوا بتسليمه إلى الفوري، ويتزودون بسلاحٍ عن غضب، ويتناولون عصيًّا وحجارة، ويلقي إله الشقاق سمًّا قاتلًا في جميع القلوب، وينسى الأقريطشيون الحكماء ما أحبوه من حكمة، وعادوا لا يعترفون بحفيد الحكيم مينوس، وعاد أصدقاء إيدومنه لا يرون له سلامةً إلا بأخذه إلى سفنه، ويبحرون معه ويفرون تحت رحمة الأمواج، ويعود إلى إيدومنه وعيه، ويشكر لهم انتزاعه من أرضٍ رواها بدم ابنه، فلا يستطيع أن يسكنها بعد، وتسوقهم الرياح إلى هسبريه، ويذهبون للبحث عن مملكة جديدة في بلد السلانتين.

وبما أنه عاد لا يكون لدى أهل أقريطش ملك يحكم بينهم فقد عزموا على اختيار ملك يحافظ على القوانين القائمة خالصةً، والتدابير التي اتخذوها للوصول إلى هذا الغرض هي اجتماع جميع وجوه المواطنين في المدن المائة هنا، وكان قد بدئ بتقديم الضحايا، وقد حُشد جميع عقلاء البلدان المجاورة لتأمل حكمة مَن يبدون أهلًا للقيادة، وتعد ألعاب عامة حيث يتبارى جميع الطامعين في العرش؛ وذلك لأنه أريد أن تعطى جائزة الملك لمن يحكم بفوزه على الآخرين عقلًا وبدنًا؛ وذلك لأنه أريد نصب ملكٍ يكون قويَّ الجسم صحيح البدن تزدان نفسه بالحكمة والفضيلة، ويدعى جميع الأجانب إلى هنا.

وقد قال لنا نوزقراط بعد أن روى لنا جميع هذه القصة: «إذن، هلم، أيها الغرباء، إلى مجلسنا حيث تتبارون مع الآخرين، فإذا ما قدر الآلهة أن يفوز أحدكم نصب ملكًا لهذا البلد.»

ونتبعه زاهدين في الفوز، ولكن مع حبٍّ للاطلاع على أمرٍ عجيب بهذا المقدار.

ونصل إلى ملعبٍ كثير الاتساع محاطٍ بغابة كثيفة، وكان وسط الملعب ميدانًا رمليًّا معدًّا للمتبارين، وكان يحيط به مدرَّج كبير مؤلف من عشب نضير يجلس عليه جمهور مصفوف لا يحصى له عدد، فلما وصلنا قُبِلنا بإكرام؛ وذلك لأن أهل أقريطش أكثر أمم الأرض قيامًا بالقِرَى الجميل، ونجلس، ونُدعى إلى المباراة، ويعتذر منتور بعمره، ويعتذر حزائيل بسوء صحته، ولا أجد ما أعتذر به لفتائي وقوتي، ومع ذلك فقد ألقيت على منتور نظرةً كيما أعلم رأيه، فأبصرت أنه يتمنَّى لو اشترك في المباراة؛ ولذا فقد قبلت ما عُرض أمُر بين الحد وبينه لما أبصَرَ من حسن مداراة خيلي واستعدادها لسبقه فلم يرَ لنفسه وسيلةً غير إقفال الطريق، ويجازف؛ ليوفق، بأن يتحطم حيال الحد حيث يكسر عجلته فعلًا، ولم أفكر في غير الالتفاف من فوري لكيلا أتورط في ارتباكه، ويراني بعد هنيهة قد بلغت آخر ميدان السباق، ويهتف الجمهور قائلًا مرةً أخرى: «النصر لابن أوليس، فالآلهة قد أعدوه ليملكنا.»

هنالك سار بنا ألمع الأقريطشيين وأعقلهم إلى غابةٍ قديمة مقدسة بعيدة من أبصار المدنسين حيث أدخلنا مجلس الشيوخ الذي كان مينوس قد أقامه للحكم بين الناس والمحافظة على القوانين، ولم يُقبل هناك غير الذين تباروا في الألعاب، ولم يقبل أحد غيرنا، ويفتح الحكماء مجموعة قوانين مينوس، ويساورني احترام وتواضع عند اقترابي من هؤلاء الشيوخ الذين كان لهم بمشيبهم جلال، ولكن من غير أن ينزع المشيب نشاطهم الذهني، وكانوا جالسين على الترتيب هادئين في أماكنهم، وكانت شعورهم بيضًا، وكان الكثير منهم صُلْعًا تقريبًا، وكانت وجوههم المتزنة تسطع حكمةً هادئة عذبة، وكانوا لا يتعجلون في الكلام مطلقًا، وكانوا لا ينطقون بغير ما عقدوا النية على قوله، وكانوا، إذا ما تباينت آراؤهم، يبدون من الاعتدال في تأييد ما يفكرون فيه ما يخيل إلى الناظر معه أنهم على رأي واحد، وكان من نتائج تجاربهم الطويلة في الأمور الماضية وتعودهم العمل أن اتفقت لهم بصائر نفاذة في جميع الشئون، ولكن الذي كان يسير بعقولهم نحو الكمال هو دعة أذهانهم الخالية من الأهواء الطائشة ونزوات الشباب، وكانت الحكمة رائدًا لهم، وكانت فضائلهم العظيمة من قهر غرائزهم بحيث يتذوقون بلا عناء لذة الإنصات للعقل الحلوة الكريمة، وإني، إذ أُعجَب بهم، أتمنى لو تقصر حياتي حتى أنتهي بغتةً إلى مشيب جليل بذاك المقدار، وكنت أجد أن الشباب تعس بشدة صولته وبعده الواسع من هذه الفضيلة الهادئة المستنيرة جدًّا.

فتح رئيس هؤلاء الشيوخ سِفْر شرائع مينوس، وكان هذا كتابًا عظيمًا يحفظ عادةً في صندوق من ذهب مع عطور، وقبله جميع هؤلاء الشيوخ تقبيل إجلال؛ وذلك لأنهم يقولون: إنه لا شيء بعد الآلهة، الذين تصدر عنهم القوانين الصالحة، يجب أن يكون موضع تقديسٍ لدى الناس كالقوانين المعدة لجعلهم صالحين عقلاء سعداء، وإنه يجب على من يمسكون بأيديهم قوانين للحكم بين الناس أن يحتملوا الحكم في أنفسهم بالقوانين، فالقانون، لا الرجل، هو الذي يجب أن يحكم، ثم وضع الشيخ الذي كان رئيسًا ثلاثة أسئلة يجب أن يُبتَّ فيها وفق مبادئ مينوس.

فأما المسألة الأولى فهي أن يُعرف من هو أكثر الناس حريةً، فبعضهم أجاب بأنه الملك الذي يتمتع بسلطانٍ مطلقٍ على رعيته والذي يكون منصورًا على جميع أعدائه، ويقول آخرون: إنه الرجل البالغ الغِنَى فيمكنه أن يقضي جميع رغائبه، ويقول فريق ثالث: إنه الرجل الذي لا يتزوج مطلقًا فيسيح في مختلف البلدان مدى حياته من غير أن يخضع لقوانين أية أمة كانت، ويقول فريق رابع: إنه المتوحش الذي يعيش بما يصطاد في الغاب فيكون مستقلًّا عن كل ضابطة وكل ضرورة، ويعتقد فريق خامس أنه الرجل الذي أُعتِقَ حديثًا فيتمتع؛ إذ يُفلت من قيود الرق، بنعم الحرية أكثر مما يتمتع غيره، ويعِنُّ لفريق سادس أنه الرجل المحتضَر الذي ينقذه الموت من كل شيء فلا يكون لجميع الناس أي سلطان عليه، فلما جاء دوري لم أجد عناءً في الجواب لما لم أنسَ ما كان منتور قد قال لي غير مرةٍ، وإليك جوابي: «إن أكثر الناس حريةً هو من يستطيع أن يكون حرًّا في الرق نفسه، والإنسان، من أي بلدٍ كان، ومهما كان أصله، يكون كثير الحرية إذا ما خاف الآلهة ولم يخف غيرهم، والخلاصة أن الإنسان، الحر حقًّا، هو الذي يكون طليقًا من كل رهبة ورغبة فلا يخضع لغير الآلهة ولغير عقله.»

ويتبسم الشيوخ، ويتبادلون النظرات، ويدهشون إذ يرون أن جوابي هو عين جواب مينوس.

ثم يعرض السؤال الثاني بالنص الآتي، وهو: من هو أشقى الناس؟

فيجيب كلٌّ بما يخطر بباله، فيقول فريق: «إنه ذاك الذي لا يكون ذا مال ولا صحة ولا عزة»، ويقول فريق آخر: «هو الذي لا يكون له صديق»، ويقول فريق ثالث: «هو الذي يكون ذا ولد أعقَّة ليسوا سر أبيهم»، ويأتي حكيم من جزيرة لسبوس ويقول: «إن أشقى الناس هو الذي يعتقد أنه أشقاهم؛ وذلك لأن الشقاء أقل توقفًا على الأمور التي تعانى مما على الجزع الذي يزيد به الإنسان شقاءه.»

هتف جميع المجلس استحسانًا لهذه الكلمة، وظن كل واحد أن هذا الحكيم اللسبوسي هو الذي سينال الجائزة على هذا السؤال، ولكنني سئلت عن رأيي، فأجبت وفق مبادئ منتور قائلًا: «إن أشقى الناس هو الملك الذي يظن نفسه سعيدًا بجعله الآخرين تعساء، وذلك أنه شقيٌّ بعماه شقاءً مضاعفًا؛ أي إنه إذ كان لا يعرف شقاءه لا يُمكن أن يشفي نفسه منه، حتى إنه يخشى أن يعرفه، وليس من الممكن أن تنفذ الحقيقة فريق المنافقين فتنتهي إليه، وإنما تطغى عليه أهواؤه فلا يعرف واجباته مطلقًا، ولا يذوق لذة فعل الخير، ولا يشعر بفتون الفضيلة الخالصة، وهو شقي أهل لأن يكون شقيًّا، ويزيد شقاؤه يومًا بعد يوم، وهو يبحث عن حتفه بظلفه، ويستعد الآلهة لإخزائه بعقابٍ أبدي.»

ويعترف جميع المجلس بأنني فزت على الحكيم اللسبوسي، ويصرِّح الشيوخ بأنني أصبت المعنى الحقيقي الذي قصده مينوس.

ويُسأَل بالسؤال الثالث عن أي الملكين يكون أفضل من الآخر: آلملكُ الفاتحُ الذي لا يُقهر في الحروب أم الملك الذي لا تجربة له في الحروب، وإنما هو صالحٌ لسياسة الرعية في إبَّان السلم.

فذهبت الأكثرية إلى أن الملك الذي لا يُقهر في الحروب أفضل من ذاك، وقد قالت الأكثرية: «ما نفْعُ وجود ملك يعرف حسن الحكم وقت السلم إذا كان لا يعرف أن يدافع عن البلد عند وقوع الحرب؟ ألا يقهره الأعداء ويستعبدون رعاياه؟» وذهب فريق آخر إلى أن الملك المسالم خير من ذاك لخوفه من الحرب واجتنابه إياها بجهوده، وقال فريق ثالث: إن الملك الفاتح يجاهد في سبيل مجد رعيته ومجد نفسه فيجعل هؤلاء الرعية سادة الأمم الأخرى، وهو في هذا على خلاف الملك المسالم الذي يُمسك رعيته ضمن نطاق من الجبن المخزي.

ويراد الوقوف على شعوري فأقول: «لا يكون الملك الذي لا يعرف الحكم في غير زمن السلم أو زمن الحرب، ولا يكون قادرًا على سياسة رعيته في هاتين الحالين، غير نصف ملك، ولكنكم إذا ما قابلتم بين الملك الذي لا يعرف غير الحرب والملك الحكيم الذي يكون، مع عدم خبرته بالحرب، قادرًا على القيام بها عند الضرورة بواسطة قواده فإنني أفضل هذا على ذاك؛ وذلك لأن الملك الذي يتجه إلى الحرب بكليته يود إيقاد نارها دائمًا، أي إنه يُهلك رعاياه توسيعًا لسلطانه وبسطًا لمجده الخاص، وما فائدة الرعية من قهر ملكهم للأمم الأخرى إذا كانوا تعساء في عهده؟ ثم إن الحروب الطويلة تجر وراءها في كل وقت ذيلًا كبيرًا من الارتباك، فتختل أمور الغالبين أنفسهم في أثناء هذا الارتباك، وانظروا ما دفعت بلاد اليونان من ثمنٍ غالٍ للانتصار على تروادة، فهي قد حُرمت ملوكها مدةً تزيد على عشر سنين، ولما اكتوى الجميع بنار الحرب ذَوتِ القوانين والزراعة والحِرَف، حتى إن أصلح الأمراء، عندما يقومون بحرب، يضطرون إلى إتيان أعظم المفاسد؛ أي إباحة الفجور واستخدام الأشرار، وما أكثر المجرمين الذين يجازون أيام السلم فتقضي الضرورة بمكافأتهم على جرأتهم حين اختلاط الأمور في الحرب! ولم يحدث قط أن كان لأمة ملك غازٍ من غير أن تقاسي نتائج طموحه كثيرًا، ومن عمل الفاتح الثمل بمجده أن يُوجب دمار أمته الغالبة كما يوجب دمار الأمم المغلوبة، ومِن عَمَلِ الأمير الذي لا يتصف بما هو ضروري للسلم ألا يذيق رعاياه ثمرات حرب ختمت بالنصر، وإنما يكون كالرجل الذي يدافع عن حقله حيال جاره والذي يغتصب حقل هذا الجار أيضًا، ولكن من غير أن يعرف حرثه وزرعه فينال أية غلة منه، فرجل مثل هذا يكون قد وُلد ليخرب العالم ويدمره ويقلبه رأسًا على عقب، لا ليجعل الأمة سعيدةً بحكومةٍ رشيدة.»

ولنأتِ الآن إلى الملك المسالم، أجل، إن هذا الملك غير صالح للقيام بفتوح عظيمة؛ أي لم يولد لتكدير سعادة شعبه بعزمه على قهر الأمم الأخرى التي لم يخضعها العدل له، ولكنه إذا كان صالحًا للحكم وقت السلم حقًّا فإنه يكون حائزًا لجميع الصفات الضرورية التي يجعل بها شعبه في أمانٍ حيال أعدائه، وذلك لما يظهر من عدله واعتداله ودماثته نحو جيرانه، فلا يُضمر لهم من النيات ما يمكن أن يكدر به سلامه، ويبدو مخلصًا في محالفاته فيحبه حلفاؤه، ولا يخشونه مطلقًا، ويضعون ثقتهم فيه تمامًا، وإذا ما وُجد جارٌ جائرٌ مختال طامع فإن جميع الملوك المجاورين الآخرين الذين يخافون هذا الجار الباغي والذين لا يغلي في نفوسهم حسد تجاه الملك المسالم ينضمون إلى هذا الملك الصالح حتى يحولوا دون الاعتداء عليه، وما يتصف به هذا الملك من نزاهةٍ واعتدالٍ وحسن نية يجعله حكمًا بين جميع الدول المجاورة لدولته، وبينا يكون الملك الجريء ممقوتًا لدى الملوك الآخرين عرضةً لأحلافهم يتمتع هذا الملك بشرف كونه أبًا لجميع الملوك الآخرين وصيًّا عليهم، هذه هي المنافع التي تكون له في الخارج، وأما المنافع التي يتمتع بها في الداخل فأمتن منها، وذلك بما أنه صالح للحكم مسالم فإنني أفترض أنه يقوم بالحكم وفق أقوم القوانين، فيقضي على البذخ والترف وجميع الحرف التي لا تنفع لغير ملاطفة العيوب، وتزدهر في عهده الحرف الأخرى التي تُقضَى بها ضرورات الحياة الحقيقية، وتكون الزراعة أخص ما يحض عليه رعاياه، فبهذا تفيض عليهم الحاجيات، وبهذا ينمو، نموًّا لا حد له، هذا الشعب المُجِدُّ البسيط في طبائعه والمدرَّب على الكفاف من الرزق والكاسب لعيشه بزراعة أرَضِيه كسبًا سهلًا، وهذه مملكة لا يُحصِي الرعيةَ فيها عَددٌ، ولكن مع الصحة والقوة والمتانة، وهذه رعية لا تخنثها الشهوات مطلقًا، وهذه رعية ممرنة على الفضيلة غير وَلُوعٍ بنعم الحياة الرخوة اللذيذة، وهذه رعية تستخف بالموت وتفضل الموت على فقد تلك الحرية التي تذوقها في عهد ملك حكيم مُوَطِّن نفسه على ألا يحكم إلا بجعله العقل حَكَمًا، أجل، قد يغزو فاتح مجاور هذا الشعب، فلا يظهر له هذا الملك دَرِبًا، على ما يُحتَمَل، بجمع الجيش في معسكر وصف الجنود للقتال ونصب الآلات لحصار المدن، بيد أنه يجده منيعًا بجماعته وشجاعته وصبره على المكاره وتعوده احتمال الفقر وببأسه في المعارك وبفضيلته التي لا يحطمها حتى أسوأ النتائج، ثم إن الملك إذا لم يكن محنكًا في قيادة جيوشه بنفسه عهد في قيادتها إلى من يصلحون لها فينتفع بهؤلاء من غير أن يخسر سلطانه، وهو ينال عون حلفائه في هذه الأثناء، ويفضل رعاياه أن يموتوا على انتقالهم إلى حكم ملك آخر عسوف ظالم، حتى إن الآلهة يقاتلون نصرًا له، ومن ثم ترون مقدار ما يكون لديه من وسائل بين أعظم الأخطار؛ ولذا فإنني أنتهى إلى النتيجة القائلة: إن الملك المسالم الجاهل لأمور الحرب ناقص جدًّا، ما دام غير عارف أن يقوم بإحدى وظائفه العظيمة التي تهدف إلى قهر أعدائه، ولكن مع قولي: إنه أرفع بمراحل لا حد لها من الملك الفاتح الذي تعوزه الصفات الضرورية للسلم فلا يصلح لغير الحرب.

وأُبصرُ في المجلس أناسًا كثيرين لا يُمكن أن يقع عندهم هذا الرأي موقع الرضا؛ وذلك لأن معظم الناس يفتنون بالأمور الباهرة كالانتصارات والفتوحات فيفضلونها على كل ما هو بسيط هادئ متين كالسلام وحسن سياسة الرعية، غير أن جميع الشيوخ صرَّحوا بأنني تكلمت مثل مينوس.

ويهتف رئيس الشيوخ قائلًا: «أرى تحقيق هتاف أبولون المعروف في جميع جزيرتنا، وذلك أن مينوس كان قد استشار هذا الإله ليعرف مقدار الزمن الذي ستملك به ذريته وفق القوانين التي وضعها، فأجاب هذا الإله بقوله: «سينتهي حُكم عقبك بدخول أجنبيٍّ هذه الجزيرةَ يؤيد شرائعك»، أجل، كنا نخاف أن يأتي أجنبي فيفتح جزيرة أقريطش، بيد أن رزية إيدومنه وحكمة ابن أوليس الذي يفقه شرائع مينوس خيرًا من غيره تَدُلَّانِنَا على معنى ذلك الهتاف، وما أَرَبُنَا بتأخيرنا تتويج هذا الذي أعدته الأقدار ليكون ملكًا لنا.»

وعندما خرج الشيوخ من نطاق الغابة المقدسة أمسكني الرئيس من يدي وأخبر الناس، الذين كان صبرهم قد فرغ انتظارًا للقرار، بأنني فزت بالجائزة، ولم يكد يتم كلامه حتى دوَّى الجمع صراخًا، فقد هتف كل واحدٍ هتاف الفرح، وقد ردد الساحل وجميع الجبال المجاورة هذا الهتاف القائل: «ليكن شبيه مينوس وابن أوليس ملك أهل أقريطش!»

وأنتظر هنيهةً، وأشير بيدي طالبًا أن يُسمَع لي، فهنالك أسَرَّ منتور إليَّ بقوله: «أَوَ تَعْدِلُ عن وطنك؟ أوَ يحملك طمعك في الملك على نسيان بنلوب التي تنتظرك عادَّةً إياك آخر أملٍ لها، وأوليس العظيم الذي كان الآلهة قد قضوا بإعادته إليك؟»

نفذت هذه الكلمات فؤادي ودفعت عني ميلي الباطل إلى المُلْك.

ومع ذلك فإن ما ساد هذا الجمع الحافل كله من صمت عميق زودني بوسيلة قول ما يأتي: «أيها الأقريطشيون الأماجد! إنني لا أستحق أن أكون قائدًا لكم مطلقًا، أجل، إن هاتف الغيب الذي رُوِيَ أمره يدل دلالةً صريحةً على نزع الملك من آل مينوس عندما يدخل هذه الجزيرة أجنبي ويجعل السلطان لقوانين هذا الملك الحكيم، ولكن لم يُقَل: إن هذا الأجنبي سيملك، وأود أن أعتقد أنني ذلك الأجنبي الذي دل عليه هاتف الغيب فأقول: إنني حققت هذه النبوءة، فقد جئت هذه الجزيرة وكشفت عن المعنى الصحيح للقوانين، وأرجو أن يكون إيضاحي نافعًا لسيطرة هذه القوانين بواسطة الرجل الذي تختارون، وأما أنا فأفضِّل وطني، أي جزيرة إيتاك الفقيرة الصغيرة، على مدن أقريطش المائة ومجد هذه المملكة ويسرها، واسمحوا باتباعي ما دلت عليه الأقدار، وإذا كنت قد اشتركت في ألعابكم فليس هذا عن أملٍ في نصْبِي ملكًا لهذا البلد، وإنما كان هذا لأفوز بتقديركم وحنانكم، وإنما كان هذا لتعطوني وسائل العود إلى مسقط رأسي بسرعة، وَلَأَنْ أطيعَ أبي أوليس وأكون قرة عينٍ لأمي بنلوب أحبُّ إليَّ من أن أكون ملكًا لأمم الأرض طُرًّا، ترون، يا أهل أقريطش، أن ما يدور في صميم فؤادي هو أن أغادركم، ولكن الموت وحده هو الذي يُنهي شكراني لكم، أجل، سيظل تلماك محبًّا لأهل أقريطش حتى النفَس الأخير، فيلتفت إلى مجدهم التفاتَهُ إلى مجده الخاص.»

ولم أكد أقول هذا حتى ارتفع ضجيج كصوت أمواج البحر التي تتلاطم في أثناء الزوبعة، فيقول فريق: «أهذا إله في صورة إنسان؟» ويقول فريق ثانٍ: «إنه كان قد رآني في بلاد أخرى وإنه يعرفني»، ويقول فريق ثالث: «يجب إلزامه بالقبض على زمام الملك في هذا البلد»، ثم عدت إلى الكلام، فالتزم كل واحد جانب الصمت من فوره غير عارف أنني لا أقبل ما كنت قد رفضت في بدء الأمر، وإليكِ ما خاطبتهم به: «اسمحوا لي، يا أهل أقريطش، بأن أقول لكم: إنكم أحكم من جميع الأمم كما أرى، ولكن الحكمة تقضي بوجود احتراز يفوتكم كما يلوح لي، وذلك أنه لا ينبغي لكم اختيار الرجل الذي هو خير من يتعقل حول القوانين، بل الرجل الذي يزاولها بأثبت ما يكون من فضيلة، وأما أنا فشاب غير مجرِّب، فأكون عرضةً لصولة الأهواء، ويكون خيرًا لي أن أدرب على الطاعة حتى أقود ذات يومٍ من أن أقوم الآن بأمور القيادة، ولذا فلا تبحثوا عن رجل فاز على الآخرين في هذه الألعاب الذهنية والبدنية، ولكنه مغلوب في نفسه، وإنما ابحثوا عن رجل نفذت قوانينكم صميم فؤاده وطبق هذه القوانين في جميع حياته فتكون أعماله، لا أقواله، حافزًا إلى اختياره.»

ويفتن الشيوخ بهذا الكلام، ويقولون لي حين يرون زيادة تصفيق الجمع: «بما أن الآلهة ينزعون منا أمل رؤيتنا إياك ملكًا بيننا فإننا نطلب منك، على الأقل، أن تكون عونًا لنا في البحث عن ملكٍ يجعل السلطان لقوانيننا، فهل تعرف من هو قادر على القيادة بهذا الاعتدال؟»

– أدلكم، من فوري، على رجل اقتبست منه جميع ما كنت به مَدَارَ تقديرٍ لديكم، فحكمته، لا حكمتي، هي التي خاطبْتُكم بها، وهو الذي أوحى إليَّ بجميع الأجوبة التي سمعتموها مني.

هنالك ألقى الجمع أبصاره على منتور الذي أشرت إليه ممسكًا بيده معترفًا برعايته التي حباني بها منذ طفولتي وبالمخاطر التي أنجاني منها وبالمصائب التي صُبَّت عليَّ منذ عدلت عن اتباع نصائحه.

ولم يُنظر إليه في البداءة قط بسبب ثيابه البسيطة المهملة وتواضع هيئته ودوام صمته وفتور ملامحه وتحفظه، ولكنه عندما أُنعِمُ النظر فيه كُشِفَ في محياه ما لا يُعرب عنه من حزم وسمو، ففي عينيه قرئ النشاط كما رُئِيَ بأسه في أدق الأمور، ويُسأل، ويُعجب به، ويُقرَّر نصبه ملكًا.

ويرفض ذلك من غير أن يحرك ساكنًا، ويقول: إنه يفضل نعم الحياة الخاصة على بهاء الملك، وإن أصلح الملوك كانوا تعساء لما لم يصنعوا من خير كانوا يريدون فعله ولِمَا أتوا، بتأثير المرائين، من شر كانوا لا يريدون صنعه، وإلى هذا أضاف قوله: «ليس الملك أقل بؤسًا من الرق ما دام الملك رقًّا مقنَّعًا، فالرجل، إذا ما كان ملكًا، اتبع جميع من يحتاج إليهم ليطاع، فطوبى لمن لا يضطر إلى القيادة مطلقًا، ولسنا مدينين لغير وطننا بأن نضحي بحريتنا في سبيل المصلحة العامة إذا ما عهد هذا الوطن إلينا في السلطان.»

وهنالك بُهِتَ أهل أقريطش وسألوه عمن يختارون، فإليكِ جوابه: «اختاروا رجلًا يعرفكم جيدًا ويخشى الحكم فيكم ما وجب أن يحكم بينكم، ومن يبتغِ الملك لا يعرفه، وكيف يقوم بواجبات الملك وهو لا يعرفها مطلقًا؟ أجل، إنه يبتغيه لنفسه، وعليكم أن تبتغوا من لا يقبل الملك إلا عن حب لكم.»

ويَذْهَل أهل أقريطش إذ يرون أجنبيينِ يرفضان ملكًا ينشده آخرون كثيرون، فيودون لو يعرفون الرجل الذي جاءوا معه، ويدلهم نوزقراط، الذي كان قد سار بهم من الميناء إلى الميدان حيث تقام الألعاب، على حزائيل الذي أتيت، أنا ومنتور، معه من جزيرة قبرس، ولكنهم زادوا ذهولًا عندما علموا أن منتور كان عبدًا لَحَزائيل، وأن حكمة هذا العبد وفضيلته، إذ أثَّرتا في حزائيل جعل حزائيل هذا منه مستشارًا له وصديقًا مفضلًا لديه، وأن هذا العبد العتيق هو الذي رفض الملك، وأن حزائيل أتى من دمشق السورية ليدرس قوانين مينوس ما ملأ حب الحكمة فؤاده، وقال الشيوخ لحزائيل: «إننا لا نجرؤ أن نرجو منك الحكم فينا، وذلك لما نرى أنك على رأي منتور، ويظهر أنك من كثرة الازدراء للناس بحيث لا تريد أن تحمل نفسك عبء قيادتهم، وذلك فضلًا عن كونك بلغت من الزهد في الثراء وأبهة الملك ما لا تريد معه شراء هذه الأبهة يما يلازم سياسة الرعية من متاعب.»

ويجيب حزائيل عن هذا بقوله: «لا تظنوا، يا أهل أقريطش، أنني أستخف بالناس، كلا، كلا، إنني أعرف مقدار ما في جعلهم سعداء صالحين من عظمة، ولكنني أعرف مقدار ما يشتمل عليه هذا العمل من مشاقَّ وأخطار، وإن ما يلازم هذا العمل من أبهةٍ باطلٌ، ولا يمكن أن يبهر غير النفوس المختالة، ألا إن الحياة قصيرة، ومن شأن العظمة أن تثير الأهواء أكثر من أن تستطيع إرواءها، أي إنني أتيت من بلدٍ بعيد لأتعلم الاستغناء عن النعم الزائفة، لا لبلوغها، وداعًا، إنني لا أفكر في غير الرجوع إلى حياة هادئة بعيدة من الناس حيث تغذي الحكمة فؤادي وحيث أتعزى في هموم مشيبي بآمالٍ تستنبط من الفضيلة في سبيل حياةٍ بعد الموت أطيب من الحياة الدنيا، وإذا كان لي ما أتمناه فليس أن أكون ملكًا، بل ألَّا أُفصَل عن هذين الرجلين اللذين ترون.»

وأخيرًا هتف الأقريطشيون مخاطبين منتور بقولهم: «قل لنا، يا أعظم الناس وأرجحهم عقلًا، مَن نستطيع أن نختاره، إذن، كيما يكون ملكًا لنا، فلن تبرح مكانك حتى تعلمنا ما نصنع لاختيار من يقبض على زمام الملك فينا.»

فأجابهم منتور عن ذلك بقوله: «بينا كنت بين جمع الحضور أبصرت رجلًا لا ينم على التسرع مطلقًا، وهو شيخ على شيء من الحزم، وقد سألت عنه فقيل لي: إنه يسمى أرستوديم، ثم سمعت من قال له: إن ولديه بين المتبارين، فلم تبد عليه علامة فرح، ومما قال: إنه لا يتمنى لأحدهما مخاطر الملك، وإنه يبلغ من حب الوطن ما لا يوافق معه على فوز الآخر بالملك أبدًا، وأدرك بهذا أن هذا الأب يحب أحد ولديه حبًّا صائبًا، يحب هذا الولد لفضله، وأنه لا يرائي الآخر على دعاراته، وأزيد فضولًا، فأسأل عن حياة هذا الشائب فيجيب أحد مواطنيكم بقوله: «إنه ممن حمل السلاح زمنًا طويلًا، وإنه ممن سُتر بدنه بجروح، ولكن نقاء فضيلته ومقته للنفاق جعلاه لا يطاق لدى إيدومنه، وهذا ما حال دون انتفاع هذا الملك به في أثناء حصار تروادة، وهذا لأن الملك خاف رجلًا مثله يسدي إليه بنصائح رشيدة لا يستطيع العزم على اتباعها، حتى إن هذا الملك كان حاسدًا على المجد الذي لا يعوز هذا الرجل أن يناله من فوره، وينسى الملك جميع خِدَمِه، ويَدَعه في هذا البلد فقيرًا محتقَرًا لدى غلاظ القوم وأنذالهم الذين لا يكرمون غير الثراء، ويظل الرجل راضيًا عن فقره، ويعيش مسرورًا في مكان بعيد من الجزيرة حيث يزرع حقله بيديه، ويعمل أحد أبنائه معه، ويتحابُّون حب حنان، ويعدون من السعداء، ويتفق لهم فيض من الأشياء الضرورية لحياة بسيطة بفضل قناعتهم وعملهم، ويُحسن الشيخ الحكيم إلى المرضى المساكين من جيرانه بجميع ما يزيد على حاجاته وحاجات أبنائه، وهو يحمل جميع الشبان على العمل، وهو يستنهضهم ويثقفهم، وهو يحكم في جميع ما يقع بين الجيران من اختلافات، وهو يُحسب أبًا لجميع الأسر، وتظهر مصيبة أسرته في اشتمالها على ابنٍ ثانٍ له راغبٍ عن اتباع أية نصيحة يقدمها أبوه إليه، وأخيرًا يطرده الأب بعد أن قاسى من الجهود ما قاسى لإصلاح عيوبه، ويرخِي الولد لنفسه عِنان طموح طائش وزمام جميع الملاذ»، فهذا، يا أهل أقريطش، هو ما قُصَّ عليَّ، فيجب عليكم أن تعرفوا هل هذه القصة صحيحة أو لا، فإذا كان هذا الرجل كما وُصِفَ فلمَ القيام بألعاب، ولمَ جَمْعُ خلق كثير غير معروفين؟ يرى بينكم رجل يعرفكم وتعرفونه، رجل يعرف الحرب، رجل أثبت بسالته حيال الفقر الفظيع فضلًا عن السهام والنبال، رجل ازدرى الثراء المكتسب بالرئاء، رجل يحب العمل، رجل يعرف مقدار نفع الزراعة للشعب، رجل يحتقر الزهو، رجل لا يلين بحب أعمى لأولاده، رجل يحب فضيلة ولد له ويَديِنُ رذيلة ولده الآخر، رجل يُحسب أبًا للشعب، فهذا هو ملككم إذا كنتم ترغبون أن يكون السلطان لشرائع الحكيم مينوس عندكم.»

ويهتف الشعب قائلًا: «حقًّا أن أرستوديم كما قلت، فهو جدير بالملك.»

ويناديه الشيوخ، ويبحث عنه بين الجمع حيث اختلط مع عامة الشعب، ويبدو هادئًا، ويصرَّح له بأنه يراد نصبه ملكًا، فيقول: «إنني لا أقبل الملك إلا بثلاثة شروط: فأما الشرط الأول، فهو أنني أترك الملك عند انقضاء عامين إذا لم أجعلكم أفضل مما أنتم عليه وعارضتم القوانين، وأما الشرط الثاني فهو أن أكون حرًّا في الاستمرار على حياة بسيطة زاهدة، وأما الشرط الثالث فهو ألا يكون لأولادي مقام، فإذا مت عوملوا وفق مزيتهم كبقية المواطنين.»

نطق بهذه الكلمات فارتفع في الهواء ألف صوت فرح، ويضع رئيس الشيوخ وحارس القوانين تاج الملك على رأس أرستوديم، وتقدَّم القرابين إلى جوبيتر وغيره من كبار الآلهة، ويقدم أرستوديم إلينا هدايا ببساطةٍ نبيلة بعيدة من أبهة الملوك المعتادة، ويُعطي حزائيل قوانين مينوس المكتوبة بخط مينوس نفسه كما يعطيه مجموعةً عن جميع تاريخ أقريطش منذ ساتورن والعصر الذهبي، ويضع في مركبه ثمراتٍ من جميع الأنواع الصالحة في أقريطش والمجهولة في سورية، ويعرض عليه كل ما يمكن أن يحتاج إليه من مساعدة.

وبما أننا عقدنا النية على الرحيل سريعًا فقد أعد لنا مركبًا مع عدد كبير من الجداف والمسلحين، وقد زود المركب بثياب وميرة لنا، وتهب في الوقت نفسه ريح ملائمة للسفر إلى إيتاك، وتكون هذه الريح معاكسة لحزائيل فتحمله على الانتظار، ويرانا حزائيل ذاهبين فيعانقنا عناق أصدقاء لن يتلاقوا مطلقًا، ويقول: «إن الآلهة عادلون، فهم يرون أن صداقتنا لم تقم على غير الفضيلة، فسيجمعوننا ذات يوم، وذلك أن هذه الحقول السعيدة، حيث يقال: إن العادلين يتمتعون بعد الموت بسلام دائم، ستشاهد التقاء أرواحنا تلاقيًا لا فراق بعده أبدًا، آه! لو كان يمكن ضم رفاتي إلى رفاتكما أيضًا! …»

قال هذا وعيناه تسكب سيولًا من الدموع وزفراته تخنق صوته، ولم نكن أقل بكاءً منه، وقد سار معنا إلى المركب.

وأما أرستوديم فقد قال لنا: «كنتما سبب نصبي ملكًا، فاذكرا الأخطار التي ألقيتماني فيها، فادعوا الآلهة أن يمنوا عليَّ بالحكمة وارجوا أن أفوق من وُلِّيت أمرهم اعتدالًا كما أفوقهم سلطانًا، وأما أنا فأدعو الآلهة أن يوصلوكما سالمين إلى وطنكما، وأن يردوا كيد أعدائكما إلى نحورهم، وأن يُرُوكما أوليس سالمًا قائمًا هو وبنلوب العزيزة بأمور الملك، وإني أعطيك، يا تلماك، مركبًا جيدًا زاخرًا بجدافٍ ومسلحين يمكن أن يكونوا نافعين لك حيال أولئك الرجال الباغين الذين يؤذون أمك، وإن لك بحكمتك، يا منتور، ما لا تحتاج معه إلى طلبي لك شيئًا، سِيرَا، واقضيا حياة سعادة معًا، واذكرا أرستوديم، واعلما أنه يمكن الاعتماد عليَّ حتى النفَس الأخير من حياتي إذا ما احتاج أهل إيتاك إلى الأقريطشيين.»

وقد عانقنا، ولم نستطع، حينما شكرنا له ذلك، أن نمنع أنفسنا من سكب الدموع.

وكانت الريح التي نفخت أشرعتنا في تلك الأثناء تبشرنا برحلة بحرية مريحة، وعاد جبل إيدا لا يبدو لأعيننا غير تل، وقد توارت جميع الشواطئ، وأخذت سواحل البلوبونيز تلوح في البحر آتيةً إلينا، وبينا كانت الأمور تسير هكذا فوجئنا بعاصفة دجناء حجبت عنا وجه السماء وأثارت أمواج البحر، فتحول النهار إلى ليل، فلاح الموت لأبصارنا، فيا نبتون أنت الذي حرك، بخطافه الجميل الثلاثي الشوكات، جميع مياه مملكته.

أتت فينوس لملاقاة هذا الإله كيما تنتقم لنفسها على ما كان من ازدرائنا لها في معبدها الستري، فخاطبته متألمةً، وكانت عيناها الجميلتان مغرورقتين، وهذا ما وكده لي منتور المطلع على الأمور الإلهية.

قالت هذه الإلهة: «أتطيق، يا نبتون أن يهزأ هذان الملحدان بسلطاني من غير أن يعاقَبا؟ يشعر الآلهة أنفسهم بهذا السلطان، ثم يجرؤ هذان الآدميان المغامران على تسفيه كل ما يقع في جزيرتي، وهما يدعيان الحكمة عند كل دليل، وهما يَعُدَّان الغرام رعونةً، وهل نسيت أنني ولدت في مملكتك؟ ولمَ تُبَطِّئُ في دفن هذين الرجلين، اللذين لا أستطيع احتمالهما، في هُوِيِّك العميقة؟»

لم تكد فينوس تقول هذا حتى أثار نبتون أمواجًا بلغت السماء، وتضحك فينوس معتقدةً أن غَرَقَنَا أمر لا مفر منه، ويرتبك رباننا فيصرخ قائلًا: إنه عاد لا يستطيع مقاومة الرياح التي كانت تدفعنا نحو الصخر بعنف، وتكسر هبة ريحٍ صارينا، وتمضي دقيقة فتُحْدِث رءوس الصخر ثغرًا في قعر المركب، ويدخل الماء من كل ناحية، ويغوص المركب، وتصَّعَّد صرخات جدافنا المحزنة في السماء، وأعانق منتور، وأقول له: «هذا هو الموت، فيجب أن نتلقاه ببسالة، ولم ينجِّنا الآلهة من أخطار كثيرة إلا ليهلكونا اليوم، لنمُتْ يا منتور، لنمت، فعزائي أن أموت معك، ومن العبث أن نناضل عن حياتنا حيال العاصفة.»

وإليكِ جواب منتور: «حقًّا أن الشجاعة تجد بعض الوسائل دائمًا، ولا يكفي الاستعداد لتلقي الموت بجنانٍ ثابت، بل يجب على الإنسان، من غير أن يخشى الموت، أن يبذل جميع جهوده درءًا للموت، فلنمسك أنا وأنت، مقعدًا كبيرًا من مقاعد هؤلاء الجدافين، ولا نُضِعْ دقيقةً لا ننقذ فيها حياتنا على حين يأسف هذا الجمع الوجل المرتبك على حياته من غير أن يتخذ وسيلةً لنجاتها.»

ويتناول فأسًا من فوره، ويتم بها قطع ذاك الصاري المحطم الذي كان مائلًا إلى البحر فيميل السفينة إلى جنبها، ويقذف الصاري خارج المركب ويثب فوقه بين الأمواج الهائجة، ويناديني باسمي ويشجعني على اتباعه، ويكون الوضع كحال الدَّوْحَة٢ التي تُجْمِع الرياح على مهاجمتها فتظل ثابتة الأصول، ولا تصنع الزوبعة غير هز فروعها، ومن الحق أن يقال: إن منتور كان طليق الوجه هادئًا فضلًا عن ثباته وبسالته فيلوح أنه كان يسيِّر الرياح والبحر، وأتَّبِعُه، ومن ذا الذي يستطيع ألا يتَّبعه وقد تلقى الشجاعة عنه؟

ونقود أنفسنا بأنفسنا على هذا الصاري العائم، وكان هذا غوثًا لنا لإمكان جلوسنا عليه ولو وجب علينا أن نسبح بلا انقطاع لم تلبث قوانا أن تُنهك من فورها، وكانت الزوبعة تدير هذه الخشبة الكبيرة غالبًا، فنجد أنفسنا غائصين في البحر، وهنالك كنا نشرب ماء الموج المالح الذي يجري في أفواهنا وأنوفنا وآذاننا، وكنا نضطر إلى مكافحة الموج كيما نكون فوق الصاري، ومما كان يحدث أحيانًا أن تمر من فوقنا موجة عالية كالجبل فنظل ثابتين لكيلا يفلت منا، بهذه الرجة، ذاك الصاري الذي كان مدار أملنا الوحيد.

وبينا كنا على تلك الحالة الكريهة قال لي منتور الذي كان هادئًا هدوءه الآن على هذا المقعد من العشب: «أتظن، يا تلماك، أن تُترك حياتك فريسةً للرياح والأمواج؟ أوَ تظن أنها قادرة على إهلاكك بلا أمر من الآلهة؟ كلا، كلا، إن الآلهة يقضون في كل أمر، فالآلهة، لا البحر، هم الذين يجب أن يُخشوا إذن، ولو كنت في الهُوَى لاستطاعت يد جوبيتر أن تنشلك منها، ولو كنت ترى في جبل الألنب أن النجوم تحت قدميك لاستطاع جوبيتر أن يُلقيك في قعر الهوة، أو أن يدهورك في الدرك الأسفل من النار.»

وكنت أنصت لهذا الكلام وأعجب به، فأجد فيه شيئًا من السلوان، ولكنني لم أكن من حرية الفكر بحيث أجيب عنه، وكان لا يراني مطلقًا، وكنت لا أستطيع أن أراه، ونقضي الليلة كلها مرتجفين بردًا فنبدو من شباه الأموات، وذلك من غير أن نعرف أين تلقينا الزوبعة، ثم أخذت الرياح تسكن، وكان البحر، وهو يهدر، يشابه الرجل الذي دام غضبه طويلًا فلم يبقَ فيه غير قليل كدرٍ وهيجان ما أعياه دوام الصولة، أي إنه يزمجر خفيةً فتكاد أمواجه تماثل الأتلام في الحقل المحروث.

وبينا كنا هكذا فتح الفجر أبواب السماء للشمس مبشرًا بنهارٍ جميل، ويظهر الشرق مشتعلًا نارًا، وتفر الكواكب عند وصول فيبوس، وتتوارى، ونبصر البر من بعيد، وتدنينا الريح منه، هنالك شعرت بالأمل يدب في قلبي، ولكننا لم نرَ أحدًا من رفقائنا، وقد دلت الظواهر على أنهم فقدوا الشجاعة فأغرقتهم الزوبعة جميعًا مع المركب، ولما صرنا بجانب البر دَفَعَنَا البحر نحو رءوس الصخر التي كانت تحطمنا، ولكننا بذلنا جهدًا في مقابلتها بطرف صارينا الذي جعل منتور منه ما يجعل الربان الماهر من أصلح السكانات، وهكذا تجنبنا هذه الصخور الكريهة ملاقين في نهاية الأمر ساحلًا رائعًا سهلًا حيث سبحنا بلا عناء ونزلنا إلى الرمل، فعلى هذا الرمل أبصرْتِنا أيتها الإلهة العظيمة التي تسكن هذه الجزيرة، وهناك تفضلتِ بقبولنا.

١  الأتلام: جمع التلم، وهو ما تشقه سكة الفلاح من الأرض.
٢  الدوحة: الشجرة العظيمة المتسعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤