الجزء السادس

بُهرت كلبسو بقصة تلماك فشغفها تلماك حبًّا، وبذلت كل ما تستطيع لتثير فيه عين الإحساس، وجدت عونًا كبيرًا في فينوس التي أتت بكوبيدون إلى الجزيرة آمرةً إياه أن يُصيب قلب تلماك بسهامه، يُصاب تلماك من غير أن يعرف فيرغب متذرعًا بشتى الذرائع أن يقيم بالجزيرة على الرغم من نصائح منتور الحكيمة، لم يلبث تلماك أن شعر بولعٍ شديد نحو الحورية أكاريس فأثار هذا غيرة كلبسو وغضبها، تحلف بستكس أن يخرج تلماك من جزيرتها وتلح على منتور أن ينشئ مركبًا يوصله إلى إيتاك، بينا كان منتور يسير بتلماك نحو الساحل للسفر بحرًا أحرق الحوريات السفينة، ساور تلماك سرور خفي عند رؤية اللهب، وأبصر الحكيم منتور ذلك فألقى تلماك في البحر كما ألقى نفسه، وذلك ليبلغا سبْحًا مركبًا آخر كان راسيًا بالقرب من جزيرة كلبسو.

أتم تلماك حديثه فأخذ جميع الحوريات يتبادلن النظرات بعد أن كنَّ ساكناتٍ محدِّقاتٍ إليه، ويقول بعضهن لبعضٍ مع العجب: «مَن هذان الرجلان العزيزان على الآلهة كثيرًا إذن؟ وهل سُمع وقوع مغامراتٍ عجيبة بهذا المقدار؟ إن ابن أوليس يفوق أباه بلاغةً وحكمة وقيمة، ويا له من وجهٍ! ويا له من جمال! ويا له من لطف! ويا له من تواضع! ويا له من نبل وعظمة! لو لم نعرف أنه ابن إنسان لسهل علينا أن نظن أنه باخوس أو مركور أو أبولون العظيم، ولكن مَن هو منتور هذا الذي يظهر رجلًا بسيطًا غامضًا متوسط الحال؟ إذا ما نُظر إليه عن كثب أُبصِر فيه ما لا يُعبَّر عنه من سموٍّ يعلو به الإنسان.»

وكانت كلبسو تسمع هذا الكلام مضطربةً اضطرابًا لم تقدر على إخفائه، وكانت عيناها التائهتان تترددان بلا انقطاع بين منتور وتلماك، وبين تلماك ومنتور، وكانت تريد أحيانًا أن يبدأ تلماك مجدَّدًا حديثه الطويل عن مغامراته، ثم تسكت عما تريد بغتةً، ثم تنهض فجأةً وتأخذ معها تلماك وحده إلى غابة آسٍ حيث لم يغِب عنها أن تعرف منه هل منتور إله في صورة إنسان، ولم يستطع تلماك أن يقول شيئًا عن ذلك؛ وذلك لأن منرفا لم تطلعه قط على حقيقة أمرها بسبب شبابه البالغ، وذلك حينما أخذت ترافقه في صورة منتور، ولم تأتمنه على سرها بما فيه الكفاية بعدُ حتى تُودِعَه مقاصدَها، ثم إنها كانت تريد امتحانه بأعظم الأخطار، فلو عرف أن منرفا معه لركن إلى عونها كثيرًا ولم يجد أي عناء في ازدراء أفظع المكاره؛ ولذا فقد كان يحسب أن منرفا هذه هي منتور، فذهبت جميع حيل كلبسو لمعرفة ما كانت ترغب في الاطلاع عليه أدراج الرياح.

وفي تلك الأثناء كان جميع الحوريات المجتمعات حول منتور يجدن لذةً في طرح أسئلة عليه، فسألته إحداهن عن ظروف سفره إلى إثيوبية، وأرادت حورية أخرى أن تعرف ماذا شاهد في دمشق، وسألته ثالثة هل كان يعرف أوليس قبل حصار تروادة، ويجيب عن جميع ذلك بدماثةٍ، وتبدو أجوبته مملوءةً لطفًا، وإن كانت بسيطة.

ولم تدعْ كلبسو هؤلاء في الحديث طويلًا، فقد عادت، وبينما كانت حورياتها يقتطفن زهورًا شادياتٍ لتسلية تلماك أخذت كلبسو منتور على حدةٍ حملًا له على الكلام، وما كان بخار النوم العذب ليسري في رجل موعوك مثقل العينين تَعِبِ الأعضاء سريانًا أرق من كلام الإلهة المدالي بانسيابه في فؤاد منتور لسحره، ولكنها كانت تشعر دائمًا بما لا يُعبر عنه من رفض لجميع جهودها وهزء بفتونها، فقد كان منتور، الساكن في مقاصده الحكيمة، يدعُ كلبسو تلح عليه في السؤال مع ظهوره كالصخرة الوعرة التي تحجب جبهتها في السحب ساخرةً بصولة الرياح؛ أي كان يدعها ترجو إرهاقه بأسئلتها واستخراج الحقيقة من صميم فؤاده، ولكنها، وهي تعتقد إرواء فضولها، كانت آمالها تزول، وذلك أن ما يخيَّل إليها أنها بلَغَتْه كان يفلت منها بغتةً، وذلك أن ما كان يصدر عن منتور من جوابٍ موجز يلقيها في الشكوك ثانيةً.

وهكذا قضت أيامًا تصانع فيها تلماك تارةً، وتبحث، تارةً أخرى، عن الوسائل التي تفصله بها عن منتور بعد أن عادت لا تأمل حمل منتور على الكلام، فقد استعملت حورياتها الحسان لإيقاد نار الغرام في قلب تلماك الشاب وصولًا إلى هذا الغرض، وقد أتت إلهة أقوى منها لمساعدتها على الفوز بهذا.

وكانت فينوس تغلي حقدًا على منتور وتلماك لما أظهرا من ازدراء عبادتها في جزيرة قبرس، ولم تُطِقْ أن ترى ما اتفق لهذين الرجلين المغامرين من نجاةٍ من الرياح والبحر في العاصفة التي أثارها نبتون، فقدمت إلى جوبيتر شكاوى مرةً حول ذلك، غير أن أبا الآلهة هذا لم يُرد أن يطلعها، وهو يتبسم، على أن منرفا، وهي في صورة منتور، هي التي أنقذت ابن أوليس، وإنما أذن لفينوس في البحث عن وسائل أخرى للانتقام من هذين الرجلين، وتُغادر فينوس جبل الألنب، وتغفل عن العطور الذكية التي تُحرَق في محاريبها ببافوس وسيتر وإدالية، وتطير في عربتها المقرونة بالحمائم، وتنادي ابنها، ويُنعِم الألم على وجهها بألطافٍ جديدة، وتقول: «أترى، يا بني، هذين الرجلين اللذين يزدريان سلطانك وسلطاني؟ ومن يرغب في عبادتنا بعد الآن؟ اذهب وأصب بسهامك هذين القلبين القاسيين؛ ولذا فانزل معي إلى هذه الجزيرة، فسأكلم كلبسو.»

نطقت بهذا، وشقت طبقات الهواء ضمن سحاب ذهبي، وحضرت أمام كلبسو التي كانت، في تلك الدقيقة، وحدها على حافَة عين بعيدة من غارها، وقالت لها: «أيتها الإلهة الشقية! لقد ازدراك أوليس، ويُعِدُّ ابنُه، الذي هو أقسى منه، ازدراءً مماثلًا لك، غير أن رب الغرام «كوبيدون» يأتي بنفسه للانتقام لك، فسأتركه لك، وهو سيقيم بين حورياتك كما كان الصبي باخوس قد أُرضِع من قِبَل حوريات جزيرة نكسوس، وسينظر إليه تلماك مثل ولد عادي، فلا يُمكن أن يحذره، وهو لا يلبث أن يشعر بقوته»، قالت هذا، وصعدت في السحاب الذي خرجت منه، وتركت خلفها رائحةً ذكية سطعت في جميع غاب كلبسو.

وحل رب الغرام بين ذراعي كلبسو، ومع أن كلبسو إلهة فإنها شعرت بلهب سرى في صدرها، وأرادت أن تُسرِّي عن نفسها فلم تُعَتِّم أن دفعته إلى الحورية أكاريس التي كانت بجانبها، ولكن، وا حسرتاه، ما أكثر ما اعتراها بعدئذٍ من ندمٍ على فعلها هذا!

وما كان ليبدو في البداءة شيءٌ أكثر سذاجةً ولطفًا وأنسًا وسلامةً وملاحة من هذا الصبي، ومن يره داعبًا مداليًا باسمًا دائمًا يقطع بأنه لا يصدر عنه غير السرور، ولكن الإنسان لا يكاد يركن إليه حتى يشعر بما يمازجه من سمٍّ لا يعبَّر عنه، فما كان هذا الصبي الماكر المخادع ليلاطف إلا ليخون، وما كان ليضحك إلا عن خبائث قاسيةٍ أتى بها أو يريد أن يصنعها، وما كان ليدنو من منتور الذي يُرهِبُه وقارُه فيشعر بأن هذا المجهول لا يُكْلَمُ فلا يمكن أن يطعنه أيٌّ من سهامه، ولم تلبث الحوريات أن شعرن بما يوقد هذا الصبي الماكر من نار، ولكن مع شدة إخفائهن ما أصاب به قلوبهن من لهيب.

ويرى تلماك هذا الصبي الذي يداعب الحوريات ويدهش من دعته وروعته، ويعانقه، ويضعه على ركبتيه تارةً وبين ذراعيه تارةً أخرى، فيشعر بهمٍّ في نفسه لا يستطيع أن يجد له سببًا، وهو كلما حاول المزاح البريء اضطرب وارتخى، قال تلماك لمنتور: «ترى كثرة اختلاف هذه الحوريات عن نساء جزيرة قبرس اللائي يصدم جمالهن الشعور لعدم احتشامهن، فعلى هؤلاء الحسان الخالدات تبدو البراءة والحياء وفتون السذاجة.»

قال هذا واحمرَّ وجهه من غير أن يعرف السبب، أجل، إنه كان لا يستطيع الإمساك عن الكلام، ولكنه إذا ما أخذ يتكلم لم يقدر على الاستمرار، فقد كان كلامه متقطعًا غامضًا، خاليًا من كل معنى أحيانًا، ويقول منتور له: «أي تلماك، لم تكن أخطار قبرس شيئًا يُذكر إذا ما قابلْتَ بينها وبين التي لا تحذرها الآن، فالمنكر الفاحش يثير النفور وخلع العذار يثير السخط، وأما الجمال المحتشم فأشد خطرًا، وذلك أن الإنسان إذا ما أحب ظن أنه لا يحب غير الفضيلة، وهو لا يدري أنه يقع من حيث لا يشعر فريسة مغرياتٍ خادعةٍ لهوًى لا يُدرك أمره إلا بعد فوات الوقت الذي يُطفأ فيه تقريبًا، فاجتنب، يا تلماك العزيز، هؤلاء الحوريات، اجتنبهن، فهن لا يظهرن رزيناتٍ إلا لخداعك، اجتنب أخطار شبابك، ولكنَّ أخص ما يجب عليك أن تجتنبه هو هذا الصبي الذي لا تعرفه، فهو رب الغرام الذي أتت به أمه إلى هذه الجزيرة لتعاقبك على ما أبديت من ازدراءٍ لعبادتها في سيتر، وقد أصاب فؤاد الإلهة كلبسو التي شغفتَها حبًّا، وقد أشعل لواعج الحب في الحوريات اللائي يحطن بك، وقد ألهبك، أيها الشاب المسكين، من غير أن تعرف ذلك تقريبًا.»

وكان تلماك يقاطع منتور كثيرًا قائلًا له: «لِمَ لا نقيم بهذه الجزيرة؟ فقد هلك أوليس، ولا بُدَّ من أن يكون اليَمُّ قد ابتلعه منذ زمن طويل، وما كانت بنلوب لتقاوم طالبي يدها الكثر بعد أن رأت عدم رجوع أبي، ولا بُدَّ من أن يكون أبوها إيكار قد أكرهها على قبول زوج جديد، وهل أعود إلى إيتاك لأراها ملزمةً بروابط جديدةٍ ناقضةً للعهد الذي قطعته لأبي؟ لقد نسي الإيتاكيون أوليس، ولا نعود إلى إيتاك إلا للبحث عن موتٍ ثابت ما دام جميع عاشقي بنلوب قد شغلوا جميع منافذ الميناء وصولًا إلى هلاكنا عند رجوعنا.»

واسمع جواب منتور: «هذه هي نتيجة الهوى الأعمى، وذلك أنه يُبحَث بدقةٍ عن جميع البراهين التي تسوِّغه، وأنه يُلجَأ إلى اللف والدوران خشية الوقوف على كل دليل ينقضه، ولا يبلغ الإنسان ما يبلغ إلا خَدعًا لنفسه وخنقًا لندمه، وهل نسيت ما صنع الآلهة جلبًا لك إلى وطنك؟ وكيف خرجت من صقلية؟ ألم تتحول جميع المصائب التي لاقيت في مصر إلى يسرٍ بغتةً؟ وأية يدٍ خفية أنقذتك من الأخطار التي كانت تهدد رأسك في مدينة صور؟ وهل تجهل، بعد هذه العجائب، ما تعد لك الأقدار بعد؟ ولكن ما أقول؟ أنت غير أهل لذلك، وأما أنا فإنني ذاهب، وأعرف كيف أخرج من هذه الجزيرة، يا لك من ولد نذل لوالد بالغ الحكمة بالغ الكرم! اقضِ هنا حياة تخنثٍ بين النساء خاليًا من الشرف، اصنع، على الرغم من الآلهة، كل ما اعتقد أبوك أنه غير خليقٍ به.»

أصاب هذا الكلام الساخر تلماك في صميم فؤاده، ولان قلبه حيال منتور، ومازج ألمه حياء، وخاف غضب هذا الرجل البالغ الحكمة، الذي هو مدين له كثيرًا، كما خاف انصرافه، ولكن ما ساوره من هوًى ناشئ، لا يدري ما هو، حوَّله إلى رجلٍ آخر، قال لمنتور دامع العينين: «ماذا إذن؟! أنت لا تبالي بالخلود الذي عرضته عليَّ الآلهة!»

وإليك جواب منتور: «لا أبالي بشيء يباين الفضيلة ويخالف أوامر الآلهة، فالفضيلة تدعوك إلى وطنك حتى ترى أوليس وبنلوب، والفضيلة تمنعك من الإذعان لهوًى أرعن، والآلهة، الذين أنقذوك من مخاطر كثيرة كيما يعدونك لمجد يعدل مجد أبيك، يأمرونك بمغادرة هذه الجزيرة، ورب الغرام وحده، هذا الباغي المخزي وحده، هو القادر على إبقائك هنا! وَيْ! ما تصنع بحياةٍ خالدة خالية من الحرية والفضيلة والمجد؟ هذه الحياة أكثر شقاءً لعدم نهايتها.»

لم يجب تلماك عن هذا القول بغير تأوهاته، وإنما كان يود، تارةً، لو ينزعه منتور من هذه الجزيرة على الرغم منه، وكان يود، تارةً أخرى، لو يتأخر هو وينصرف منتور فلا يرى أمام عينيه هذا الصديق الشديد الذي كان يلومه على ضعفه، وكانت جميع هذه الأفكار المتناقضة تقلق قلبه تناوبًا فلا يستقر أي منها على حال؛ أي كان قلبه كالبحر الذي تعبث به جميع الرياح المتخالفة، وكان يبقى، في الغالب، مستلقيًا ساكنًا على ساحل البحر، وكان يبقى، في الغالب، قائمًا في أقاصي غابةٍ كئيبةٍ ساكبًا دموعًا سخينة مُعْوِلًا كزئير الأسد، ويضنى، وتغور عيناه مملوءتين لهيبًا، ومن كان يراه شاحبًا كامدًا مشوهًا لم يظن أنه تلماك مطلقًا، ويزول عنه جماله ومزاحه وزهوه النبيل، وكان ينهار، فيشابه الزهرة التي تتفتح صباحًا وتنشر في الحقل روائح ذكيةً حتى إذا اقترب المساء أخذت تذوِي مقدارًا فمقدارًا، وتَمَّحِي ألوانُها اللامعة، وتذبل، وتجف، وينحني رأسها الجميل، ويعود هذا الرأس عاجزًا عن الوقوف، وهكذا كان ابن أوليس على أبواب الموت.

ويُبصر منتور عجز تلماك عن مقاومة هواه العنيف فتلوح له خطة بالغة اللباقة ينقذه بها من خطر عظيم جدًّا، وذلك أنه لاحظ هيام كلبسو بتلماك، وهيام تلماك بالحورية الفتاة أكاريس، عن أذًى من الطاغية رب الغرام الذي يسعى ألا يُحَبَّ الشخصُ من قِبَل من يحب، فعزم منتور على إثارة غيرة كلبسو.

وكان على أكاريس أن تأتي بتلماك للصيد، فقال منتور لكلبسو: «ألاحظ في تلماك ولعًا بالصيد لم أره فيه سابقًا، وقد أخذ هذا اللهو يُلقي فيه نفورًا من أي لهو آخر، فعاد لا يحب غير الغاب والجبال المهجورة، فهل أنتِ، أيتها الإلهة، هي التي أوحت إليه بهذا الكَلَف الشديد؟»

سمعت كلبسو هذا الكلام فاعتراها حزن شديد ممزوج بألم، ولم تستطع أن تتمالك عن الجواب بقولها: «كيف يعجِز تلماك، الذي ازدرى جميع ملاذِّ جزيرة قبرس، عن مقاومة جمال إحدى حورياتي المتوسط؟ وكيف يباهي بإتيانه أعمالًا عجيبة كثيرة وهو الذي تُلين الشهوة فؤاده بدناءة فيلوح أنه لم يُولد إلا لقضاء حياةٍ خاملة بين النساء؟»

ويلاحظ منتور مقدار الغيرة التي تأكل قلب كلبسو، فلا يزيد شيئًا على ما قال، وذلك خشية إثارة حذرها منه، وإنما أظهر لها وجهًا مكروبًا كامدًا، فأطلعته الإلهة على همومها حول جميع الأمور التي ترى مبديةً تذمرًا بلا انقطاع، وتشتاط غيظًا من نبأ الصيد الذي أخبرها به منتور عالمةً أن تلماك لا يسعى إلا ليتوارى عن الحوريات الأُخر فيكلم أكاريس، حتى إنه عُرض عليه أن يقوم بصيد ثانٍ حيث يصنع ما صنع في الأول كما أبصرت، وتريد أن تفسد تدابير تلماك فتعزم على اتباعهما، ثم لم تستطع تخفيف غضبها فخاطبته بقولها: «ألهذا أتيت، أيها الشاب الجريء هذه الجزيرة، إذن، فارًّا من الغرق العادل الذي كان يعده نبتون لك ومن انتقام الآلهة؟ أَدَخَلت هذه الجزيرة، الموصدة دون كل إنسان؛ لتستخف بسلطاني وتزدري الحب الذي أظهرت لك؟ فيا آلهة الألنب وستكس استمعوا إلى إلهةٍ تعسة! وبادروا إلى خزي هذا الغادر، هذا الكنود، هذا الملحد! وهل تستطيع أن تحتمل مكاره أطول مما احتمل أبوك وأقسى ما دمت أشد قسوةً منه وأكثر جَوْرًا؟ كلا، كلا، أدعو ألا تعود إلى وطنك، إلى إيتاك البائسة الهزيلة التي لم تستحِ من تفضيلها على الخلود! أو أن تهلك في سواء البحر حين ترى وطنك من بعيدٍ فتعبث الأمواج بجسمك وتقذفه فوق رمل هذا الساحل من غير دفن فترى عيناي العِقْبَانَ وهي تأكله وتراه التي تحبها أيضًا، أي تراه، فيمزق منظره فؤادها، وتكون لي سعادة بيأسها!»

وتظهر كلبسو، وهي تقول هذا، محمرة الناظرتين ملتهبة الباصرتين، فلا تستقر عيناها في أية جهةٍ كانت، وتبدوان بما لا يُعرب عنه من كآبة ودجون، وكانت تستر خديها المرتجفتين نقاط سود أو زرق فتغير لونها في كل دقيقة، وما أكثر ما كان يعلو وجهها شحوب قاتل فلا تذرف عيناها كثيرًا كما في الماضي، وكان يلوح أن الغضب واليأس قد استنزفا مآقيهما فلا تكادان تريقان دمعًا على خديها، وكان منتور يلاحظ جميع حركاتها، وعاد لا يكلم تلماك فيعامله مثل مريضٍ مرضًا عُضالًا يُعرض عنه، وكان يُلقي عليه نظرات حنانٍ في الحين بعد الحين.

وكان تلماك يحس عظم ذنبه وأنه غير جديرٍ بصداقة منتور، وكان لا يجرؤ أن يرفع عينيه خشية وقوعهما على عيني صديقه الذي ينطوي صمته على تجريمٍ له أيضًا، ومما كان يحدث أحيانًا أن يبتغي الارتماء على عنقه، وأن يُشهده على مقدار ألمه من ذنبه، ولكنه كان يُمسك عن هذا حياءً تارةً وخشية الذهاب إلى أبعد مما يود اتقاءً للخطر تارةً أخرى؛ وذلك لأن الخطر كان يبدو له عذابًا مستعذبًا؛ ولأنه لم يزل عاجزًا عن العزم على قهر هواه الأرعن.

وكان آلهة الألنب وإلاهاته مجتمعين صامتين صمتًا عميقًا محدقين إلى جزيرة كلبسو ليروا هل يكون الفوز لمنرفا أو لرب الغرام، ورب الغرام هو الذي ألهب الجميع في الجزيرة ضاحكًا على الحوريات، وأما منرفا، الظاهرة في صورة منتور، فقد كانت تستعين بالغيرة، الملازمة للغرام، على رب الغرام نفسه، وكان جوبيتر قد عزم على البقاء محايدًا ناظرًا إلى هذا الصراع.

وفي تلك الأثناء كانت أكاريس تخشى إفلات تلماك منها فتتخذ مئات الحيل تثبيتًا له على صِلاته، وكانت على موعد معه للذهاب إلى الصيد مرةً ثانية فبدت مثل ديانا لباسًا، وقد أسبغت فينوس وكوبيدون عليها فتونًا جديدًا حجب جمالها به جمال الإلهة كلبسو نفسها، وتنظر كلبسو إليها عن بعدٍ وتنظر إلى خيالها في أصفى ينابيعها فيعتريها خجل من الحال التي وجدت نفسها عليها، هنالك توارت في أقصى غارها، وخاطبت نفسها قائلة: «لا يفيدني العزم على تكدير صفو هذين العاشقين، إذن، بأن أعرب عن عزمي على الاشتراك في هذا الصيد، وما أَرَبِي فيه؟ وهل أذهب لنصرها ويكون لجمالي نفع برفع جمالها؟ وهل علي أن أصنع ما يزيد به تلماك ولعًا بأكاريس حين يراني؟ يا لِيَ من شقية! ماذا صنعت؟ كلا، لن أذهب إلى هناك، ولن يذهبا إلى هناك أيضًا، الأفضل أن أمنعهما من ذلك، إني ذاهبة للقاء منتور، وسأرجو منه أن ينقل تلماك، وسيأتي به إلى إيتاك، ولكن ما أقول؟ وما أكون إذا ما انصرف تلماك؟ أين أنا؟ ما يبقى عليَّ أن أفعل؟ أي فينوس القاسية! لقد خدعتِني! يا للعطاء الغادر الذي قدمتِ لي! أيها الصبي المفسد، أي رب الغرام الوبئ! لم أفتح لك فؤادي إلا رجاء عيشي سعيدةً مع تلماك، وأنت لم تحمل لهذا القلب غير الكدر واليأس! لقد تمرد عليَّ حورياتي، وعادت ألوهيتي لا تنفع لغير جعل شقائي أبديًّا، آه! لو كنت مختارةً في قتل نفسي حتى أضع حدًّا لآلامي، أي تلماك، يجب أن تموت ما دمتُ لا أستطيع الموت، سأنتقم لنفسي من جحودك، وسترى الحورية ذلك، وسأطعنك على مشهدٍ منها، ولكنني أضل، أي كلبسو التعسة! ما تريدين؟ أتودين هلاك بريء ألقيتِه بنفسك في هوة المصائب هذه؟ إنني أنا التي ألهبت أحشاء تلماك الطاهر، يا للبراءة! يا للفضيلة! يا لمقت المنكر! يا للشجاعة حيال الملاذ الشائنة! أوَ كان يجب إلقاء السم في فؤاده؟ وليتركني! حسنًا! ألا يجب أن يتركني أو أن أراه مملوءًا ازدراءً لي، فلا يعيش إلا من أجل منافستي؟ كلا، كلا، لا أقاسي غير ما استوجبته، اذهب يا تلماك! اذهب إلى ما وراء البحار، دع كلبسو بلا عزاء، فلا تحتمل الحياة ولا تجد الموت، دعها بلا عزاء لابسةً ثوب الخزي قانطةً مع أكاريس المختالة.»

هذا ما خاطبت به كلبسو نفسها وهي في غارها وحدها، ولكنها تخرج من فورها صائلةً وهي تقول لمنتور: «أين أنت يا منتور؟ أهكذا تنصر تلماك حيال المنكر الذي يسقط فيه؟ أنت تنام حين يسهر رب الغرام ضدك، لا أستطيع أن أصبر طويلًا على ما تُبدي من عدم اكتراثٍ خسيس، أو تنظر غير مبالٍ إلى ابن أوليس وهو يشين أباه ويهمل مصيره الرفيع؟ وهل وَلَّوْك، أو أنا التي ولَّوْها، أمر العناية به؟ إني أنا التي تبحث عن الوسائل التي يشفى بها فؤاده، وأما أنت فلا تصنع شيئًا، يوجد في أقاصي هذه الغابة أشجار حَوَرٍ كبيرة صالحة لبناء سفينة، وهناك أنشأ أوليس ذاك المركب الذي خرج به من هذه الجزيرة، وفي ذاك المكان تجد غارًا عميقًا حاويًا جميع الأدوات اللازمة للتشذيب ولوصل ما بين جميع قطع المركب.»

ولم تكد كلبسو تنطق بهذه الكلمات حتى ندمت، ولم يُضِع منتور دقيقةً واحدة، فقد ذهب إلى ذلك الغار ووجد الأدوات وشذب أشجار الحور، وبني في يومٍ واحدٍ سفينةً صالحة للسير، ولا غرو، فما عليه منرفا من قدرة ومهارة لا يحتاج إلى وقت طويل لإنجاز عظيم الأعمال.

ويعتري كلبسو ألم نفسي هائل، فتارةً تريد أن ترى تقدُّم عمل منتور، وتارةً تريد عدم ترك مكان الصيد حيث تكون أكاريس تامة الحرية مع تلماك، فما كانت الغيرة التي تساورها لتسمح لها أن تغفل عن العاشقين مطلقًا؛ ولذا فقد سعت أن تحول الصيد إلى الناحية التي تعلم أن منتور يصنع السفينة فيها، فكانت تسمع ضربات الفأس والمدق لما تلقي من السمع، فترتعش عند كل ضربة، ولكن مع خوفها، في الوقت نفسه، أن يؤدي إعمالُ فكرها إلى غفلتها عن حركةٍ أو نظرةٍ يلقيها تلماك نحو الحورية الفتاة.

وكانت أكاريس، حينئذٍ، تقول لتلماك ساخرة: «ألا تخاف أن يلومك منتور على مجيئك للصيد وهو غائب؟ آه! يا لك من إنسانٍ يرثَى له إذ يعيش تحت إشراف سيدٍ جبار! لا شيء يستطيع تخفيف صرامته، وهو يتظاهر بالعداء لكل لذة، فلا يطيق تمتعك بأيٍّ منها، وهو يجعل لك جنايةً من أكثر الأمور براءةً، أجل، يمكن أن تكون تابعًا له أيام كنت قاصرًا عن إدارة نفسك بنفسك، وأما الآن فقد بلغت من الرشد ما لا ينبغي معه أن تعامَل مثل صبي.»

وينفذ هذا الكلام الماكر فؤاد تلماك، ويملَؤُه غيظًا من منتور راغبًا في إلقاء نِيرِه عنه، ويخشى أن يراه ثانية، ولم يُجِب عن قول أكاريس بكلمة ما دام مضطربًا، ثم يحل وقت المساء وينتهي دور الصيد من الناحيتين على مضضٍ دائم، ويؤتى إلى زاوية في الغابة قريبة من المكان الذي كان منتور يعمل فيه نهاره كله، وترى كلبسو من بعيدٍ أن إنشاء السفينة قد تم فيغشى عينيها في الحال دخان كثيف كالذي يغشى الإنسان عند الموت، وتصطكُّ ركبتاها وتخور، ويستولى على جميع أعضائها عرق بارد، فتضطر إلى الاتكاء على الحوريات اللائي كن بجانبها، وتمد أكاريس يدها إليها دعمًا لها، وتدفعها ملقيةً نظرةً هائلةً عليها.

ويرى تلماك هذا المركب من غير أن يرى منتور الذي انصرف بعد أن أتمَّ عمله، ويسأل الإلهة عن صاحب هذا المركب وعن سبب إعداده فلم تقدر على الجواب في بدء الأمر، ثم قالت: «أمرتُ بصنعه طردًا لمنتور، فلن يزعجك بعد اليوم هذا الصديق الصارم الذي يقاوم سعادتك ويغدو حاسدًا لك إذا ما صرت خالدًا.»

تلماك (هاتفًا) : «أو يتركني منتور؟! لا ضير! أي أكاريس! إذا ما فارقني منتور عاد لا يكون لي أحدٌ غيرك.»

نطق تلماك بهذه الكلمة عن وجْد غرامي، ثم رأى أنه أخطأ في قولها، ولكنه لم يكن مختارًا في إعمال فكره حول معنى كلامه، ويظل الجمع صامتًا عن دَهَش، ويحمر وجه أكاريس، وتطرق، وتبقى في الخلف حائرةً غير جَسُورٍ على الظهور، ولكن بينا كان الحياء باديًا على وجهها كان السرور يساور قلبها، وعاد تلماك لا يُدرك حالته النفسية ولا يقدر أن يحسب أنه تكلم بلا رصانة، وما صدر عنه كان يظهر له مثل حلمٍ، ولكنه حلم كان يبدو به مرتبكًا مضطربًا خجلًا.

وتلوح كلبسو أشد صولةً من لبوةٍ خُطفت أشبالها، وتعدو في الغابة هائمةً لا تدري أين تذهب، ثم ترى نفسها في مدخل غارها حيث كان منتور ينتظرها، قالت كلبسو: «اخرجا من جزيرتي أيها الغريبان، فقد جئتما إليها لإقلاق راحتي، ليبتعد عني هذا الشاب الأرعن، وسوف تشعر، أيها الشيخ الوقح، بما يمكن أن يؤدي إليه غضب إلهةٍ مثلي إذا لم تُبعده من هنا حالًا، عدت لا أريد أن أراه، عدت لا أطيق أن تكلمه أية واحدةٍ من حورياتي، ولا أن تنظر إليه، أقسم على ذلك بمياه ستكس، وإنه لقسم يرتجف منه الآلهة أنفسهم، ولكن اعلم، يا تلماك، أن مصائبك لمَّا تنتهِ، وأنك لن تخرج من جزيرتي، أيها الكنود، إلا لتكون فريسة مصائب جديدةٍ، وسأنتقم، وستأسف على كلبسو، ولكن على غير جدوى، فلا يزال نبتون غاضبًا على أبيك الذي جدَّف عليه في جزيرة صقلية، ملتَمَسًا من قِبَل فينوس التي ازدريتَها في جزيرة قبرس فيعد لك زوبعةً، وسترى أباك الذي لم يمت، ولكن ستراه من غير أن تعرفه، ولن تجتمع به في إيتاك إلا بعد أن يعبث بك أقسى قدر، اذهب، أتوسل إلى الملائكة أن تنتقم لي، وهل تستطيع، وأنت متعلق برءوس صخرةٍ في وسط البحار مصاب بصاعقة، أن تضرع إلى كلبسو التي ستُسَرُّ بعذابك أيَّما سرور!»

قالت كلبسو ذلك، ولكن مع استعدادها لاتخاذ قرارٍ ينقض ذلك؛ وذلك لأن الحب أيقظ في فؤادها ميلًا إلى إبقائه، قالت كلبسو في نفسها: «ليعش هنا، ليقم هنا، فلعله يشعر أخيرًا بما صنعت في سبيله، ولا تستطيع أكاريس أن تمنحه الخلود كما أستطيع، أي كلبسو البالغة العمى! لقد خنت نفسك بيمينك؛ ولذا فأنت ملزمة بعهدك، وما كانت مياه ستكس لتترك لك أملًا بعد القسم الذي صدر عنك»، أجل، لم يسمع أحد بهذا الكلام، ولكن غضب زبانية العذاب كان باديًا على وجهها، كما كان سم كوسيت الوبيء ينسم من فؤادها كما يلوح.

ويشتاط تلماك غيظًا، وتُدرك كلبسو ذلك، وأي شيء لا يُوحي به الغرام الغيور؟ ويضاعف نفور تلماك هيجان الإلهة، فتكون ككاهنة باخوس التي تملأ الهواء هديرًا فتدوِّي به جبال تراكية العالية، وتعدو في الغاب حاملةً سهمًا بيدها مناديةً جميع الحوريات مهددة بطعن كل مَنْ يتخلف منهن، ويركضن جمْعًا مذعوراتٍ بهذا الوعيد، حتى إن أكاريس تتقدم دامعة العينين ناظرةً إلى تلماك من بعيد غير قادرة على الكلام إليه، وترتجف الإلهة إذ تراها بجانبها، وتشعر بغضبٍ جديد يساورها إذ ترى الكرب يزيد أكاريس جمالًا، وذلك بدلًا من أن تهدأ إذ ترى خضوع هذه الحورية لها.

ويبقى تلماك مع منتور وحده في تلك الأثناء، ويقبِّل ركبتيه (لأنه لا يستطيع تقبيله على شكلٍ آخر أو النظر إليه)، ويسكب سيلًا من الدموع، ويريد الكلام، ويخونه صوته، ويُرْتَجُ عليه، ولا يدري ما يجب أن يصنع، ولا ما صنع، ولا ما يريد، وأخيرًا يقول صارخًا: «أي والدي الصادق! أي منتور! أنقذني من مصائب كثيرةٍ، لا أطيق فراقك، ولا أستطيع اتِّباعك، أنقذني من مصائب كثيرةٍ، أنقذني من نفسي، أنعِم عليَّ بالموت.»

ويعانقه منتور، ويواسيه، ويشجعه، ويوصيه بالصبر على نفسه، من غير أن يداري هواه، ويقول له: «يا ابن أوليس الحكيم الذي أحبه الآلهة كثيرًا ولا يزالون يحبونه، إن ما تعاني من مصائب شديدةٍ هو من عمل حبِّهم، وإنَّ مَن لم يشعر بضعفه وصولة هواه لا يكون حكيمًا مطلقًا؛ وذلك لأنه لا يكون عارفًا بنفسه ولا يحذر نفسه أبدًا، لقد ساقك الآلهة حتى طرف الهوَّة كما لو كان هذا بأيديهم كيما يُرُونك عمقها من غير أن يدعوك تسقط فيها، الآن أدرك ما لم تكن لتدركه لو لم تَبْتَلِهِ، كنت قد حدثت عن مكايد رب الغرام الذي يدالي ليُهلِك، والذي يخفي تحت ظاهر من اللطف أفظع ما يكون من كرب، فلم تسمع، وقد جاء هذا الصبي المملوء فتونًا مع الضحك واللعب والظرف، وقد رأيته، فسلب فؤادك، وطاب لك أن يسلبه، وبحثت عن ذرائع تجهل بها إصابة قلبك، وحاولت أن تخادعني وأن تصانع نفسك، ولم تخشَ أحدًا، وانظر إلى ثمرة تهورك، والآن تطلب الموت، والموت هو الأمل الوحيد الذي بَقِيَ لك، والآن تشابه الإلهة المضطربة نهرًا في جهنم، والآن تلتهب أكاريس بنارٍ أشد من جميع سكرات الموت، والآن يود جميع هؤلاء الحوريات المتحاسدات لو يفترس بعضهن بعضًا، وهذا ما يفعله رب الغرام الغادر الذي يظهر بالغ اللطف! استردَّ بأسك، ويا لشدة محبة الآلهة لك ما فتحوا لك سبيلًا حسنًا لتنجو من رب الغرام وتعود إلى وطنك العزيز! وأنت ترى كلبسو مكرهةً على طردك، وأنت ترى السفينة حاضرةً، ولِمَ نتوانى في مغادرة هذه الجزيرة التي لا مكان للفضيلة فيها؟»

قال منتور هذا وتناول يد تلماك وقاده إلى الشاطئ، ويتبعه تلماك بمشقةٍ ملتفتًا إلى الخلف دائمًا، وينظر متأملًا إلى أكاريس وهي تبتعد عنه، وهو، إذ لم يستطع أن يرى وجهها، كان يلحظ شعرها الجميل المضفور وثيابها المتموجة، وحسن مَيْسِها، وكان يود لو يستطيع أن يقبِّل أَثَر خطاها، وكان يلقي السمع حتى بعد أن غابت عن بصره ظانًّا أنه يسمع صوتها، ويتنورها وإن غابت عنه، فهي مرسومةٌ أمام عينيه كما لو كانت ماثلة بين يديه، ويخيَّل إليه أنه يكلمها لِمَا عاد لا يعرف أين هو، ولِمَا عاد لا يستطيع أن يستمع إلى منتور.

ثم عاد إليه وعيه بعد سُبَات، وقال لمنتور: «لقد عزمت على اتِّباعك، ولكنني لم أودِّع أكاريس بعد، فالموت أحب إليَّ من تركها كنودًا على هذا الوجه، فانتظر كيما أراها لآخر مرةٍ وأودعها وداعًا أبديًّا، واحتمل قولي لها على الأقل: «أيتها الحورية! يكرهني الآلهة الباغون الحاسدون لسعادتي على الرحيل، ولكن لن يحولوا دون تذكرك ما دمت حيًّا»، ويا أبتِ دعني أتمتع بهذا العزاء الأخير العادل جدًّا أو انزِع حياتي الآن، كلا، لا أريد الإقامة في هذه الجزيرة ولا الاستسلام إلى الغرام، فلا مكان للحب في فؤادي، ولا أشعر بغير صداقة وشكرٍ لأكاريس، ويكفيني أن أقول لها: وداعًا مرةً أخرى، ثم أسافر معك من فوري!»

واسمع جواب منتور: «يا لرثائي لك! لقد بلغت من صولة الهوى ما لا تشعر به، أنت تظن أنك هادئ القلب، ثم تطلب الموت! أنت تدَّعي أنك لم تُقهر بالغرام، ثم لم تستطع أن تتخلص من الحورية التي تحب! أنت لا ترى غيرها، ولا تسمع سواها، أنت أعمى، أنت أصم حيال البقية، يقول من يبلغ درجة الهذيان بالحمى: لست مريضًا، أي تلماك الأعمى! أنت كنت مستعدًّا للعدول عن بنلوب التي تنتظرك، وعن أوليس الذي ستراه في إيتاك، وعن إيتاك التي ستملكها ذات يوم، وعما وعدك به الآلهة من مجد ومصير رفيع بشتى الآيات التي أتوها في سبيلك! أنت تعدل عن جميع هذه المنافع لتقضي حياةً فاضحةً بجانب أكاريس! ثم تقول: إن الغرام لا يربطك بها مطلقًا! وما الذي يقلقك إذن؟ ولمَ تريد الموت؟ ولمَ تكلمت أمام الإلهة بتلك الصبابة؟ إنني لا أتهمك بسوء النية مطلقًا، وإنما أُرثِي لعماك، فرَّ يا تلماك! فرَّ! لا يُغلَب رب الغرام إلا بالفرار، تقوم الشجاعة الحقيقية حيال مثل هذا العدو على الوجل والفرار، ولكن على الفرار من غير تفكير ونظر إلى الوراء، أنت لم تنسَ ما حبوتك به من رعايةٍ منذ صباك وما نجوت بنصائحي من أخطارٍ، فإما أن تؤمن بي، وإما أن أتركك، ليتك تعلم مقدار ما اعتراني من ألمٍ حينما كنت أراك تسعى وراء هلاكك! ليتك تعلم مقدار ما عانيت من ألمٍ حينما أحجمت عن مخاطبتك! لم تعانِ أمك حين الطَّلق من الآلام كما عانيتُ، لقد سكتُّ وكبتُّ ألمي وخنقت أنَّاتي لأرى هل تعود إليَّ، فيا بنيَّ! يا بني العزيز! أزل عني العناء، أعد إلي مَن هو أغلى من مهجتي، أعد إليَّ تلماك الذي أضعتُ، أعد نفسك إلى نفسك، إذا ما قهرَتْ حكمتُك غرامَك عشتُ، عشتُ سعيدًا، ولكن إذا ما سرتَ مع الهوى على الرغم من الحكمة عاد منتور غير قادرٍ على الحياة.»

وبينا كان منتور يقول ذلك كان يسير نحو البحر، وبما أن تلماك عاد لا يكون من القوة بحيث يتبع منتور طوعًا كان من القوة بحيث يقوده منتور كرهًا، ولكن بلا مقاومة، وتُوارِي منرفا، وهي في صورة منتور دائمًا، تلماك بمِجَنَّتِها من حيث لا يرى، وتنشر حوله شعاعًا ربانيًّا، فتشعره ببسالةٍ لم تتفق له منذ وجوده في هذه الجزيرة، وأخيرًا يصلان إلى مكانٍ من الجزيرة يظهر الشاطئ فيه وعرًا، فهذه صخرةٌ يلطمها الموج المزبد دائمًا، وينظران من فوقها: ألا تزال السفينة التي أعدها منتور في المكان عينه، غير أنهما يبصران منظرًا محزنًا.

وبيان ذلك أن رب الغرام اشتاط غيظًا إذ أبصر انتزاع ذاك الشيخ الغريب لتلماك فضلًا عن عدم تأثر ذاك الشيخ بأسارير وجهه، ويبكي حزنًا ممزوجًا بغضب، وينطلق ليجد كلبسو الهائمة في الغابات القاتمة، ولم تستطع كلبسو أن تمنع نفسها من الأنين حينما رأته شاعرةً أنه ينكأ جروح قلبها، قال رب الغرام لها: «أنتِ إلهة، ثم يغلبك أسير في جزيرتك! ولمَ تتركينه يخرج منها؟»

فأجابته بقولها: «لا أريد، يا رب الغرام الشقي، أن أستمع لنصائحك الضارة بعد الآن، فأنت الذي سلب مني سلامًا حلوًا عميقًا كيما تدهورني في هوَّةٍ من المصائب، ومما وقع أن أقسمت بمياه ستكس أن أترك تلماك يسافر، حتى إن أبا الآلهة جوبيتر نفسه، مع كل ما أوتي من قوة، لا يجرؤ على مخالفة هذا القسم العظيم، وليخرج تلماك من جزيرتي، واخرج منها أيضًا أيها الولد المفسد، فأنت جلبت إليَّ من النوائب أكثر مما جلب!»

ويكفكف رب الغرام دمعه، وتظهر عليه ابتسامة ساخرة ماكرة، ويقول: «حقًّا أن تلك ورطة كبيرة! دعيني أفعل ما أرى، حافظي على يمينك، فلا تعارضي سفر تلماك مطلقًا، وأما أنا وحورياتك فلم نقسم بمياه ستكس أن ندعه يسافر، فسأوحي إليهن بفكرة إحراق تلك السفينة التي صنعها منتور على عجل بالغ، ولن ينفع جِدُّه الذي دهشنا له، وسيدهش منتور بدوره، ولن تبقى له وسيلة ينزع بها تلماك منك.»

فبهذه الكلمات المدالية سرى الأمل والجذل حتى الصميم من فؤاد كلبسو، وكان لهذا الكلام من الفعل في تسكين يأس الإلهة مثل ما تفعل طراوة النسيم على حافة الجدول من إراحة القطاع الذابلة التي تُضنيها حرارة الصيف، ويبدو وجهها طليقًا، وتهدأ عيناها، وتزول، لوقتٍ، همومها القاتمة التي تقضم فؤادها، وتبتسم، وتلاطف رب الغرام اللعوب، ولم تعلم أنها تعد بهذه الملاطفة آلامًا جديدةً لنفسها.

ويَقَرُّ رب الغرام عينًا بإقناعها، ويذهب لإقناع الحوريات أيضًا، لإقناع هؤلاء الحوريات اللاتي كن هائماتٍ متفرقاتٍ في كل جبل، شأن قطيع الضأن الذي أدت صولة الذئب الجائع إلى فراره مبتعدًا عن الراعي، ويجمعهن رب الغرام، ويقول لهن: «لا يزال تلماك قبضتَكن، فبادرن إلى إحراق هذا المركب الذي صنعه منتور المغامر للفرار.»

ويوقدن المشاعل من فورهن، ويُهرَعن إلى الشاطئ، ويرتجفن، ويولولن وينفضن شعورهن الشاعثة كالكاهنات الباخوسيات، ويتصاعد اللهب، ويلتهم المركب المصنوع من خشب جاف والمطلي بقطران، وترتفع زوابع من الدخان واللهب في السحاب.

ويرى تلماك ومنتور النار من فوق الصخرة، ويسمعان صيحات الحوريات، وتبدو على وجه تلماك علامات الفرح، ففؤاده لَمَّا يُشْفَ، ويلاحظ منتور أن هواه كالنار التي لم تنطفئ جيدًا، فتظهر من تحت الرماد في الحين بعد الحين، وترمي بشررٍ شديد.

ويقول تلماك: «إذن، هذا أنا ذا ملزمٌ بصِلاتي ثانية! وليس لدينا أمل بأن نغادر هذه الجزيرة.»

ويُبصر منتور أن تلماك سيعود إلى سابق ضعفه، وأنه لا يجوز إضاعة دقيقة من الوقت، ويشاهد على بُعْدٍ مركبًا بين الأمواج، فلا يجرؤ على الاقتراب من الجزيرة؛ وذلك لأن جميع الملاحين كانوا يعلمون أن جزيرة كلبسو محظورة على الآدميين، ويدفع منتور الحكيم تلماك، الجالس على طرف الصخرة، إلى البحر، ويقذف بنفسه في البحر معه أيضًا، ويُبهَت تلماك من هذا السقوط العنيف، ويشرب من الماء المِلحِ، وتعبث به الأمواج، ولكنه، إذ عاد إليه وعيه وشاهد منتور مادًّا إليه يده ليساعده على السباحة، عاد لا يفكر في غير الابتعاد عن الجزيرة المشئومة.

وتخرج من الحوريات، اللائي كن يرين إمساكهما أسيرين، صرخات مملوءة غيظًا لعدم إمكان منعهما من الفرار، وتعود كلبسو الحزينة إلى غارها وتملؤه عويلًا، ويرى رب الغرام تحول نصره إلى هزيمة مخزية، ويرتفع في الهواء هازًّا جناحيه طائرًا إلى غابة إدالية حيث تنتظره أمه، ويبدو الولد أشد مجونًا فلا يتسلى إلا ضاحكًا معها حول جميع المصائب التي أوجبها.

وكلما كان تلماك يبتعد عن الجزيرة كان يشعر مسرورًا ببعث شجاعته وحبه للفضيلة، ويقول لمنتور بصوت عالٍ: «أختبر ما كنت تقول لي وما كنت لا أصدق عن عدم تجربةٍ، وهو أن المنكر لا يُقهر إلى بالفرار منه، فيا أبتِ ما أشد حب الآلهة لي بما حبوني من مساعدتك! كنت أستحق حرماني ذلك وأن أوكل إلى نفسي! وقد عدت لا أخاف البحار ولا الهواء ولا الزوابع، وقد عدت لا أخاف غير أهوائي، فالأجدر أن يُخشى الغرام وحده أكثر من أن يُخشى الغرق.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤