الجزء السابع
يتقدم منتور وتلماك نحو السفينة الفنيقية الواقفة بالقرب من جزيرة كلبسو، فيحسن قبولهما من قبل أدوام الذي هو أخ لنربال وربان لهذه السفينة، يعرف أدوام تلماك فيعده من فوره بأن يوصله إلى إيتاك، يخبره بموت ملك صور «بغمليون»، وبموت أسترابه ثم بارتقاء بليازار الذي فقد حظوته لدى أبيه الطاغية بتأثير هذه المرأة، يقصُّ تلماك عليه بدوره نبأ مغامراته منذ مغادرته صور، أقام أدوام وليمةً لتلماك ومنتور فجمع أشتواس، بصوته العذب وكنارته وربابه، جميع آلهة البحر وغيلانه حول السفينة تناول منتور كنارةً وعزف عليها بحذق، فطرح أشتواس كنارته كمدًا، ثم حدث أدوام عن عجائب البيتيك، ووصف حسن جو هذا البلد وثراءه وما يقضي أهلوه من حياة طيبة مع بساطةٍ في الطباع.
كانت السفينة الواقفة التي تقدَّما إليها مركبًا فنيقيًّا ذاهبًا إلى إبيريه، وكان هؤلاء الفنيقيون قد رأوا تلماك في أثناء الرحلة المصرية، ولكن لم يخطر ببالهم أن يكون تلماك بين الأمواج فيعرفوه، فلما بلغ منتور درجةً يسمعه مَن في المركب منها رفع رأسه من الماء وقال بصوت جهير: «أيها الفنيقيون النصراء لجميع الأمم، لا تضنوا بالحياة على رجلين ينتظرانها من كرمكم، وإذا كان للآلهة حرمة لديكم فاقبلونا في مركبكم، فسنذهب حيث تذهبون.»
فأجاب الربان بقوله: «سنقبلكما مسرورين، ونحن لا نجهل ما يجب أن يصنع نحو الغرباء الذين يلوح أنهم بالغو البؤس.»
وهكذا قُبلا في السفينة حالًا.
ولم يكد الاثنان يدخلان المركب حتى بدوا جامدين لعجزهما عن التنفس، ولا عجب، فقد سبحا وقتًا طويلًا وبذلا جهدًا كبيرًا لمقاومة الأمواج، وتعود قواهما إليهما مقدارًا فمقدارًا، ويُعطَيَان ثيابًا أخرى؛ وذلك لأن ثيابهما ثقلت بالماء الذي نفذ منها فيسيل من جميع نواحيها.
ولمَّا صارا في حالٍ يقدران على الكلام معها أراد أولئك الفنيقيون، الملتفُّون حولهما بلهفةٍ، أن يعرفوا مغامراتهما، فقال لهما الربان: «كيف دخلتما هذه الجزيرة التي خرجتما منها؟ فقد روي أن إلهةً باغيةً تسكنها ولا تطيق النزول إليها مطلقًا، كما أنه يحيط بها صخر هائلة يلطمها البحر برعونة فلا يقترب منها مركب من غير أن يغرق.»
ويقول منتور: «لقد قُذفنا هنا: ونحن من الأغارقة، وجزيرة إيتاك، القريبة من إبيرية التي تذهبون إليها، هي وطننا، وإذا لم ترغبوا في الرسو في إيتاك الواقعة على طريقكم، كفانا أن تأتوا بنا إلى إبيرية حيث نجد من الأصدقاء مَن يساعدوننا على قطع المسافة القصيرة الباقية، فنكون مدينين لكم إلى الأبد بما يتفق لنا من بهجةٍ حين نرى أعز ما لدينا في الدنيا.»
وهكذا فإن منتور هو الذي تناول الكلام، وإن تلماك التزم جانب الصمت تاركًا الحديث لمنتور؛ وذلك لأن الخطأ الذي اقترف في جزيرة كلبسو زاده حكمةً، وكان يحذر نفسه شاعرًا بوجوب اتباع نصائح منتور الحكيمة دائمًا، وكان، عند عدم الكلام إليه ليسأله عن رأيه، يشاور عينيه ويسعى أن يطَّلع منهما على جميع أفكاره.
ويحدق الربان الفنيقي إلى تلماك معتقدًا سابق رؤيته له كما يذكر، ولكن هذه ذكرى غامضةٌ لا يستطيع أن يتنورها، قال الربان لتلماك: «اسمح لي أن أسألك: هل تذكر أنك شاهدتني فيما مضى كما يخيل إلي أنني أذكر سابق رؤيتي لك، فليس وجهك مجهولًا لديَّ مطلقًا، وقد وقف نظري أول وهلة، ولكنني لا أعرف أين رأيتك، ومن المحتمل أن تستعين ذاكرتي بذاكرتك على ذلك.»
هنالك أجابه تلماك حائرًا مسرورًا: «أجل، إن ما عَنَّ لك حيالي عَنَّ لي حيالك، أجل، إنني رأيتك، وإنني أعرفك، ولكنني لا أقدر أن أذكر هل كان هذا في مصر أو في صور.»
فقال تلماك: «إنك لَأنت أدوام، وأنا، أيضًا، لم أرَكَ في ذلك الحين إلا قليلًا، وإنما عرفت حالك من أحاديث نربال، وَيْ! أي سرورٍ أجد بإطلاعي على أخبار أخيك الذي أحبه كثيرًا! هل هو في صور دائمًا؟ وهل يعاني معاملةً قاسية من قِبَل الظنان الغليظ: بغمليون؟»
وبينا كان أدوام يقول هذا أبصر أن الريح التي ينتظر أخذت تهب، فأمر برفع المراسي ونصب الشُّرُع وشق البحر بالمقاذيف، ثم انفرد بمنتور وتلماك كيما يحادثهما، قال أدوام وهو ينظر إلى تلماك: أريد أن أُرضِيَ فضولك فأخبرك بأن بغمليون قد هلك، وأنقذ الآلهة العادلون منه الأرض، وذلك أنه كان لا يثق بأحدٍ فلم يستطع أحد أن يثق به، وأن الصالحين كانوا يكتفون بالأنين واجتناب مظالمه من غير أن ينووا مسه بسوء، وأن الأشرار لم يروا ضمان حياتهم إلا بالقضاء على حياته، وأنه لم يكن في صور أحد ناجيًا من خطر حذره، وأن رجال حرسه كانوا عرضةً لحذره أكثر من غيرهم، أي بما أن حياته كانت قبضتهم فإنه كان يخافهم أكثر من خوفه بقية الناس، فكان يضحي بهم كيما يضمن نفسه، وهكذا فإنه كان عاجزًا عن ضمان نفسه حيث يبحث عن هذا الضمان، وهكذا فإنه كان يحيق بحياة أمنائه خطر حذره الدائم وكانوا لا يستطيعون الخلاص من هذه الحال الهائلة إلا بهلاك هذا الطاغية مانعين بذلك ظنونه الجائرة.
وكانت المستهترة أسترابه التي سمعتَ الشيء الكثير عنها أول من عزم على إهلاك الملك، وذلك أنها كانت شديدة الولع بالشاب الصوري الثري المدعو جوازار، فكانت تأمل نصبه على العرش، وهي لكي تفوز في هذا المقصد أقنعت الملك بأن أكبر ولديه، فدايل، قد استعجل جلوسه على العرش فائتمر به ليقتله، فوجدت شهودًا كاذبين لإثبات المؤامرة، ويأمر الملك الشقي بقتل ابنه البريء، ويرسل ابنه الثاني، بليازار، إلى ساموس كيما يتعلم طبائع اليونان وعلومهم ظاهرًا، ولكي يبعده باطنًا؛ وذلك لأن أستارابه أوعزت إلى الملك بوجوب إقصائه منعًا له من الاتصال بالساخطين، ولم يكد يذهب حتى اتخذ ربابنة السفينة، الذين رشتهم هذه المرأة الباغية، من التدابير ما تغرق به هذه السفينة ليلًا، وينجون سبحًا حتى الزوارق الأجنبية التي كانت تنتظرهم قاذفين بالأمير الشاب في قعر البحر.
ومع ذلك لم تكن معاشق أسترابه خافيةً على أحد غير بغمليون الذي كان يخيَّل إليه أنها لا تحب سواه، وهكذا كان هذا الأمير البالغ الحذر مملوءًا ثقةً عمياء بهذه المرأة الخبيثة، ولا غرو، فالغرام هو الذي كان يعميه إلى هذا الحد المتناهي، وكذلك كان الطمع يحفزه إلى البحث عن ذرائع لإهلاك الشاب جوازار الذي شغف أسترابه حبًّا، فلم يكن ليفكر في غير سلب أمواله.
ولكن بينا كان يتسلط على بغمليون حذره وغرامه وطمعه بادرت أسترابه إلى نزع حياته، فربما كانت تظن أنه اطلع على معاشقها الشائنة مع هذا الشاب، وهذا فضلًا عن أنها كانت تعلم كفاية الطمع لحمل الملك على اتخاذ تدبير جائر حيال جوازار، وهذا ما جعلها ترى أنه لا ينبغي فوات دقيقة واحدة منعًا لشره، وتعاشر أهم رجال البلاط المستعدين لغمس أيديهم في دم الملك، وتسمع في كل يوم حديثًا عن مؤامرة جديدة، ولكنها كانت تخشى الاعتماد على مَن يمكن أن يخونها، ثم لاح لها أن سم بغمليون أضمن لبلوغ الغرض.
وكان بغمليون يأكل معها وحدها في الغالب، وكان يعد بنفسه جميع طعامه معتمدًا على يديه فقط، وكان ينفرد في أبعد مكان من قصره إمعانًا في حذره ولكيلا يلاحظ حين إعداد طعامه، وكان لا يطلب شيئًا من أطايب المائدة؛ أي كان لا يركن إلى أكل شيءٍ لا يستطيع طهيه بنفسه، وهكذا حرم على نفسه جميع اللحوم التي يعللها الطهاة بالتوابل كما حرم الخمر والخبز والملح واللبن وكل طعام معتاد، فلا يأكل غير الفواكه التي اقتطفها بيده في حديقته والخضَر التي زرعها بيده وطبخها بنفسه، ثم إنه كان لا يشرب من الماء غير ما يتناول من حوضٍ مقفل في قصره مع احتفاظه بمفتاحه، وكان، على ما يُظهر من ثقة مطلقة بأسترابه، لا يخلو من حذر حيالها أيضًا، فقد كان يحملها في كل وقتٍ على الأكل والشرب قبله من كل ما يصلح أن يكون وجبةً له، وذلك لكيلا يُسَمَّ من دونها، ولكيلا يكون لها أملٌ في التعمير أطول منه، بيد أنها ظفرت بترياقٍ من عجوزٍ أخبث منها، من هذه العجوز التي كانت موضع سر معاشقها فأمدتها به، فلما نالت هذا الترياق عادت لا تخاف سَمَّ الملك.
وإليك كيف بلغت مرادها: أقامت هذه العجوز ضجةً عند الباب حينما أوشكا أن يأكلا، ويرتبك الملك، الذي كان دائم الاعتقاد بأنه يراد قتله، ويُهرع إلى الباب ليرى هل هو مغلق جيدًا أو لا، وتنزوي العجوز، ويظل الملك حائرًا لا يدري ما يرى حيال ما سمع، ومع ذلك فإنه لم يجرؤ على فتح الباب ليقف على الحقيقة، وتسكن أسترابه رُوعَه، وتلاطفه، وتلحف عليه أن يأكل، وكانت قد ألقت السم في كوبٍ من ذهبٍ حين ذهابه نحو الباب، ويحملها بغمليون على الشرب قبله وفق عادته، وتشرب غير خائفةٍ معتمدةً على الترياق، ويشرب بغمليون أيضًا، ولم يمضِ غير قليل وقتٍ حتى وقع مغشيًّا عليه.
وطفقت أسترابه، التي كانت تعرف قدرته على قتلها عند أقل شبهة، تمزق ثيابها وتنتف شعرها وتنوح، وأخذت تقبل الملك المحتضر وتضمه بين ذراعيها وترويه بوابلٍ من الدموع، والدموع مما كان لا يكلِّف هذه المرأة المحتالة شيئًا، ثم لما رأت هذه المرأة انهيار قوى الملك، وأنه كمن يلفظ أنفاسه الأخيرة، خشيت أن يعود إليه وعيه فيأمر بموتها معه فانتقلت من طور اللطف وأنعم ما يكون من علامات المودة إلى أفظع صولةٍ وانقضت عليه وخنقته، ثم نزعت الخاتم الملكي من إصبعه كما نزعت منه التاج وأدخلت جوازار وأنعمت عليه بهما.
وقد ظنت أنه لا يعوز جميع مريديها أن يتبعوا هواها فينادَى بعاشقها ملكًا، غير أن مَن كانوا يتهافتون على إرضائها مرتزقة أنذال عاجزون عن خالص الود، ثم إنهم كانوا خالين من الشجاعة فيخشون أعداء أسترابه، ثم إنهم كانوا يخشون كبرياء هذه المرأة المستهترة ومكرها وقسوتها، فيود كل واحد هلاكها ضمانًا لنفسه.
ويسود القصر ضجيج هائل في تلك الأثناء، ويسمَع في كل مكان صيحات من يقولون: «مات الملك!» ويذعر بعضهم ويحمل السلاح آخرون منهم ويخشى الجميع سوء العواقب، ولكن مع ارتياح لما وقع، ويذيع الخبر في مدينة صور العظيمة كلها، ولا يُرَى فيها مَن أَسِفَ على الملك، ولا عَجَبَ؛ فموته ينطوي على إنقاذ للرعية وتعزية لها.
ويُدهش نربال من هذه الضربة الهائلة جدًّا، ويرثي نربال الصالح لمصيبة بغمليون الذي خان نفسه باعتماده على المستهترة أسترابه، والذي فضل أن يكون طاغية فظيعًا شنيعًا على ظهوره أبًا لرعيته كما يقتضيه واجب الملك، ويفكر نربال في مصلحة الدولة ويُهرع إلى جمع رجال الخير لمقاومة أسترابه التي سيكون عهدها أكثر طغيانًا من العهد الذي انتهى.
وكان نربال يعلم أن بليازار لم يغرق حينما قذف في البحر، وكان الذين أخبروا أسترابه بهلاكه مع التوكيد قد أنبأوها ذلك معتقدين هلاكه، والواقع أنه نجا سبحًا في الظلام، وأن بعض صيادي السمك من أقريطش قبلوه في قاربهم عن شفقةٍ، وأنه لم يجرؤ على الرجوع إلى مملكة أبيه لما رأى من عزم سابق على إهلاكه ولخوفه غيرة بغمليون الجائرة وحِيَل أسترابه، وأنه ظل طائفًا متنكرًا زمنًا طويلًا في شواطئ البحر بسورية حيث تركه صيادو السمك الأقريطشيون، وأنه اضطر إلى رعي قطيعٍ من الغنم كسبًا لعيشه، وأنه وجد وسيلةً لإنباء نربال بالحال التي كان عليها، وأنه رأى إمكان إيداع سرِّه وحياته لدى رجلٍ فاضلٍ محنَّك مثل نربال، وأن نربال لم ينفك يحب ابن الملك الذي آذاه أبوه ويسهر على مصالحه، ولكنه لم يُعْنَ به إلا ليحول دون تقصيره فيما هو واجب عليه نحو أبيه ولحمله على احتمال سوء طالعه صابرًا.
وكان بليازار قد أوصل إلى نربال قوله: «إذا رأيت إمكان اجتماعي بك، فأرسل إلي خاتمًا من ذهب فحينئذٍ أدرك أن وقت لقائك قد حل»، ولم يرَ نربال من المناسب إحضار بليازار ما دام بغمليون حيًّا؛ وذلك خشية المخاطرة بحياته وحياة الأمير، وذلك لصعوبة اتقاء تحريات بغمليون الوثيقة، فلما نال هذا الملك الشقي جزاء جرائمه بادر نربال إلى إرسال الخاتم الذهبي إلى بليازار، ويسافر بليازار من فوره، ويصل إلى أبواب صور في وقت كان يسود هذه المدينة شغب حول معرفة مَن يخلف بغمليون، وتعرف هوية بليازار من قِبَل وجوه صور وأهلها كافة، ويُحَبُّ بليازار لحلمه واعتداله، لا عن حبٍّ لأبيه الملك المرحوم، ومن نتائج مصائبه الطويلة أن نالت صفاته الطيبة كلها رونقًا لا يُعبَّر عنه فَلَانَتْ بذلك قلوبُ جميع الصوريين نحوه.
ويجمع نربال زعماء الشعب وأعضاء مجلس الشيوخ وكهنة إلهة فنيقية العظيمة، ويحيي جميع هؤلاء بليازار مثل ملكٍ لهم، ويأمرون المنادين بإعلان ذلك، ويقابل الجمهور ذلك بألف هتاف سرور.
وتسمع أسترابه تلك الهتافات من أقصى القصر حيث كانت منزويةً هي والنذل القبيح جوازار ويتخلى عنها جميع الأشرار الذين كانت تستعين بهم في أثناء حياة بغمليون؛ وذلك لأن الأشرار يخافون الأشرار ويحذرونهم ولا يرون الاعتماد عليهم؛ وذلك لأن الفاسدين يعرفون مقدار إفساد أمثالهم للسلطة وما يصدر عنهم من عنفٍ، وأما الأبرار فيرتضيهم الأشرار؛ وذلك لما يرجون أن يجدوا فيهم كثيرًا من الاعتدال والتساهل، وهكذا لم يبقَ حول أسترابه غير شركائها في أفظع الجرائم، غير هؤلاء الشركاء الذين لا ينتظرون سوى النَّكال.
ويُقتحَم القصر، ولم يستطع هؤلاء المجرمون أن يقاوموا طويلًا، ولم يُفكروا في غير الفرار، وتتنكر أسترابه في زي أمة قاصدةً إنقاذ نفسها بين الجمهور، ويعرفها جندي، ويقبض عليها، وتلاقي مشقة في منع تمزيقها من قِبَل الشعب الهائج، وكان قد بدئ بجرها في الوحل، فانتشلها نربال من الرعاع.
هنالك طلبت أسترابه أن تخاطب بليازار راجيةً بهره بسحرها، وجعله يأمل أن تبوح له بأسرار مهمة، وما كان بليازار ليستطيع رفض السماع إليها، وكان أول ما صنعت أن أبدت، مع جمالها، دماثةً وحشمةً يؤثر بهما حتى في أكثر القلوب غضبًا، وتلاطف بليازار بأكثر المدائح رقةً وفتنةً، وتُظهر له مقدار حب بغمليون لها، وتناشده برفاته أن يرحمها، وتبتهل إلى الآلهة كما لو كانت تعبدهم مخلصةً، وتسكب سيولًا من الدموع، وتقع على ركبتي الملك الجديد، ثم لم يغِبْ عن بالها شيء يحمله على الارتياب بأوفى خَدَمه ويجعله كارهًا لهم إلا ذكرته، ومن ذلك أن اتهمت نربال بأنه اشترك في مؤامرةٍ ضد بغمليون، وأنه حاول إغواء الشعب لينادَى به ملكًا ضرًّا ببليازار، وأن أضافت إلى ذلك قولها: إنه كان يريد سم هذا الأمير، وقد اختلقت مثل هذه الافتراءات ضد جميع ذوي الفضل من أهل صور، وقد كانت ترجو بهذا أن تجد في قلب بليازار مثلما كانت تجد في قلب أبيه الملك من الحذر والارتياب، بيد أن بليازار ضاق ذرعًا بمكر هذه المرأة السيئ فقاطعها ونادى أناسًا من الحرس، وتُعتقَل، ويعهَد إلى أعقل الشيوخ أن يستقصوا جميع أعمالها.
ويُكتشف، مع الاشمئزاز، أنها سمت بغمليون وخنقته، وأن جميع حياتها سلسلة من الجرائم الفظيعة، فيُحكم عليها بالعذاب الذي يعاقب به في فنيقية على الجنايات الكبرى؛ أي أن تُحرق في نار خفيفة، وتُدرِك أنه لم يبقَ لها أمل في الحياة فتغدو مثل زبانية جهنم، وتبلع السم الذي تحمله معها كيما تنتحر به عندما يُقضى بأن تذوق أشد العذاب، ويشاهد مَن يقومون بحراستها أنها تتلوَّى ألمًا، ويريدون إغاثتها، ولا تجيبهم، وإنما تومئ بأنها لا ترغب أن يسكَّن وجعها مطلقًا.
وتُحدِّث عن عدل الآلهة الذين أغضبتهم، فتنظر إلى السماء نظر ازدراء وكبرياء، وذلك كما لو كانت تجدف عليهم، وذلك بدلًا من إبداء ما تستحقه ذنوبها من همٍّ، ندم، وتَظْهَر سَوْرَةُ الإلحاد مرسومةً على وجهها الفاني، وعاد لا يُرى شيءٌ من ذلك الجمال الذي كان سبب مصائب رجال كثيرين، وقد زالت جميع ألطافها، وقد أخذت عيناها الخامدتان تدوران في رأسها وتلقيان نظراتٍ نافرة، وتتشنج شفتاها، وينفغر فوها، ويعلو وجهها الشاحب المتقلص كدرةٌ كريهة، وتستولي على بدنها كله زرقة ضاربة إلى سواد وبرودة قاتلة، ويلوح انتعاشها أحيانًا، ولكن للعويل فقط ثم يفيض روحها فتملأ جميع من رأوها نفورًا وذعرًا، وتهوي نفسها الكافرة، لا ريب، في تلك الأماكن الكئيبة حيث الدنائيد الباغيات يغترفن الماء في آنيةٍ مثقوبة دائمًا، وحيث إكسيون يدير دولابه إلى الأبد، وحيث تنتال يحترق عطشًا فلا يستطيع جرع الماء لإفلاته من بين شفتيه، وحيث سيزيف يدحرج صخرةً على غير جدوى لوقوعها بلا انقطاع، وحيث تيتي يشعر، أبد الدهر، بعقابٍ يقضم أحشاءه فتتجدد هذه الأحشاء على الدوام.
تخلَّص بليازار من هذا الغول، فأعرب عن شكره للآلهة بتقديمه ما لا يُحصَى من القرابين، ويبدأ عهده بسيرة تباين سيرة بغمليون مباينةً تامة، ويعكف على إنعاش التجارة التي كانت تذبل كل يوم، ويعمل بنصائح نربال في الأمور المهمة من غير أن يدار به مطلقًا، وذلك لرغبته في مشاهدة كل شيء بنفسه، ويُلقي السمع إلى جميع الآراء التي يُراد تقديمها إليه، ثم يستقر رأيه على كل ما يلوح له أنه أصلح من غيره، وتحبه الرعية، وهو إذ يملك القلوب يملك من الكنوز ما يزيد على ما جمع أبوه بطمعه الجائر؛ وذلك لأنك لا تجد أسرةً لا تعطيه جميع ما عندها من مال إذا ما ألحت عليه الضرورة، وهكذا فإن ما يتركه لها يعد ذخيرةً له أنمَى مما يأخذه غصبًا، وهو لا يُضطر إلى الحذر ضمانًا لحياته، فحب الرعية له أضمن حرسٍ له، ولا يوجد أحد من رعيته لا يخاف افتقاده، فيَضَن بحياته الخاصة حفظًا لحياة ملك بالغ هذه الدرجة من الصلاح، وهو يعيش سعيدًا، ويُحسَب جميع شعبه سعيدًا مثله، وهو يخشى إرهاق رعاياه كثيرًا، ويخشى رعاياه ألا يقدموا إليه قسمًا كبيرًا كافيًا من أموالهم، وهو يدع رعاياه راتعين يسرًا، ولا يكون هؤلاء الرعايا وُقُحًا جامحين بهذا اليسر؛ وذلك لأنهم رجال جِدٍّ عاكفون على التجارة ثابتون في المحافظة على صفاء القوانين القديمة، فالحق أن فنيقية ارتقت إلى أعلى درجات عظمتها ومجدها وأنها مدينة لملكها الشاب بهذا الازدهار الوافر.
ويقوم نربال بأمور الحكم تابعًا له، ولو رآك الآن، يا تلماك، لغمرك بالهدايا مسرورًا، وأية لذةٍ يجد في إعادتك بأبهةٍ إلى وطنك! ألستُ سعيدًا بأن أصنع ما كان يود أن يصنع نربال بنفسه فأذهب إلى جزيرة إيتاك وأرفع ابن أوليس على العرش كيما يحكم فيها بحكمةٍ كما يحكم بليازار في صور؟
فُتن تلماك بما قص أدوام الفنيقي، وأكثر من ذلك فتونه بما لقي من مودته في مصيبته، فعانقه عناق حنان، ثم سأله أدوام عن مغامرته في دخول جزيرة كلبسو، فقصَّ تلماك عليه، بدوره، قصة سفره إلى صور ومروره من جزيرة قبرس وكيف لقي منتور ونبأ رحلتهما إلى أقريطش وما أقيم فيها من ألعاب عامة وصولًا إلى انتخاب ملك لها بعد فرار إيدومنه، وما كان من غضب فينوس، وما كان من حسن قبول كلبسو إياهما، وما كان من حسد هذه الآلهة لإحدى حورياتها ومن عمل منتور الذي قذف بصديقه في البحر عندما رأى السفينة الفنيقية.
ويقيم أدوام، بعد هذه الأحاديث، وليمةً فاخرة إظهارًا لأعظم سرور، ويجمع في هذه الوليمة كل ما يمكن أن يتمتع به من الأطايب والملاذ، وبينما كانت الوليمة قائمةً، ويقدم الطعام فتيان من الفنيقيين لابسون ثيابًا بيضًا ومتوَّجون بأكاليل من زهور، كانت تحرق أطياب شرقية ممتازة، وكانت جميع مقاعد الجداف زاخرةً بالعازفين على الناي، وكان أشتواس يقاطعهم في الحين بعد الحين بمطابقاتٍ عذبةٍ بين صوته وكنَّارته جديرةٍ بأن تسمع على مائدة الآلهة وتفتن أُذُنَي أبولون نفسه، وكان التريتون والنرئيد وجميع الآلهة الخاضعين لنبتون، حتى غيلان البحر، يخرجون من مغاورهم الرطيبة العميقة ويأتون جماعاتٍ جماعاتٍ حول السفينة مفتونين بهذ الألحان، وقد قام فوج من الفتيان الفنيقيين، بارع الجمال ولابسٌ ثيابًا من الكتان أشد بياضًا من الثلج برقصاتٍ فنيقية دامت طويلًا، ثم قام برقصاتٍ مصرية ورقصاتٍ يونانية، وقد كان الموج يردد في الشواطئ البعيدة صدى الأبواق حينًا بعد حين، وقد كان هذا المنظر يزيد روعةً بسكون الليل وهدوء البحر، وبنور القمر المترجرج على وجه الموج، وبزرقة السماء المرصعة بكواكب ساطعة.
وكان تلماك، الحاد الطبع والدقيق الإحساس، يذوق جميع هذه الملاذ، ولكن من غير أن تستحوذ على فؤاده، وذلك أن جميع الملاذ، حتى البريء منها، كان يُخيفه ويثير ريبه، وذلك منذ اختباره في جزيرة كلبسو، مع كثير خجلٍ، مقدار استعداد الشباب للالتهاب، وكان تلماك ينظر إلى منتور ويبحث في وجهه وعينيه عما يجب أن يفكر فيه حيال جميع هذه المتَع.
وكان منتور يرتاح عند ملاحظة هذا الارتباك في تلماك، وكان يتظاهر بأنه لا يرى ذلك، وأخيرًا يقول له متأثرًا بهذا الاعتدال: «أُدرك ما تخشى، وهذا ما تُحمد عليه، ولكن لا ينبغي الإفراط في الخوف، فلا أحد مثلي يتمنى لك تذوق اللذات، وذلك على ألا تستهويك ولا أن تخنثك على الإطلاق، والمتع التي تحتاج إليها هي التي تريحك، لا التي تجتذبك، والملاذ العذبة المعتدلة هي التي أرجو لك، لا التي تنزع عقلك وتجعلك كالسباع الصائلة، والآن حل الوقت المناسب الذي تستريح فيه من جميع متاعبك، فلاطف أدوام وذُق ما يقدِّم إليك من متع، وتمتع يا تلماك، تمتع، وليس التقشف والاكتئاب من الحكمة، والحكمة هي التي تُنعم بالملاذ الحقيقية، والحكمة وحدها هي التي تعرف أن تُتَبِّل الملاذ لتجعلها صافيةً دائمة، والحكمة هي التي تعرف أن تمزج بين اللعب والمرح والأشاغيل الجدية الرصينة، والحكمة هي التي تُعِدُّ اللذة بالعمل، وتريح من العمل باللذة، ولا تستحي الحكمة من المزاح عند ما يجب.»
نطق منتور بهذا وتناول كنارةً، وبلغ من الإجادة في العزف ما أسقط معه أشتواس، الذي أكلته الغيرة، كنارته غمًّا، وتلمع عيناه، ويكفهِرُّ وجهه، وكان الجميع يُبصر ألمه وحياءه لو لم يسلب منتور بكنارته قلوب الحضور، ولم يكد أحد يجرؤ على التنفس خشية الإخلال بالسكون وفوات شيء من هذا الغناء الرباني، وكان أخوف ما يخاف الحاضرون هو أن يفرغ منتور من غنائه سريعًا، وكان صوت منتور خاليًا من حلاوة التخنث، ولكنه كان لينًا جَهْوَريًّا يأخذ بمجامع القلوب.
ولم يستطع جميع من سمعوه أن يمسكوا دموعهم، وكان كل منهم يجد بالبكاء لذةً لا يعبَّر عنها، ولما أتم غناءه أخذ الفنيقيون، وقد قضوا منه كل العجب، يتبادلون النظرات، فقال أحدهم: «هذا أُرْفِه، إذ استطاع بكنارةٍ أن يؤنِّس الوحوش ويسحر الغاب والصخر، ويفتن سربر، ويقف عذاب إكسيون والدنائيد ويؤثر في بلوتون العادم الرحمة إخراجًا لأريسيد الحسناء من الجحيم»، ويقول آخر هاتفًا: «كلا، إن هذا لينوس بن أبولون»، ويقول ثالث: «أنت مخطئ، فهذا أبولون نفسه»، ولم يكن تلماك أقل دهشًا من الآخرين، ولا غرو، فهو لم يخطر بباله قط أن منتور يتقن الغناء والعزف على الكنارة بهذا المقدار.
وأخذ أشتواس، الذي اتفق له من الوقت ما يكتم فيه غيرته، يثني على منتور، ولكن وجهه احمر حين كان يمدحه، ولم يستطع أن يتم كلامه، ويرى منتور ارتباكه فيتناول الكلام كما لو كان يريد أن يقاطعه ويبذل جهده في تفريج غمِّه مثنيًا عليه بما يستحق، وما كان السلوان ليدخل قلبه، فقد شعر، أيضًا، بأن منتور يفوقه بتواضعه أكثر مما بسحر صوته.
وفي تلك الأثناء يقول تلماك لأدوام: «أذكر أنك ذكرت لي أمر رحلةٍ قمت بها في البتيك بعد سفرنا من مصر، والبتيك بلد يُروَى الكثير عن عجائبه التي لا يكاد الإنسان يصدق خبرها.»
ويغزل النساء ذلك الصوف الرائع ويحكن منه نسائج ناعمةً بالغة البياض، ويصنعن الخبز ويهيئن الطعام، ويسهل عليهن هذا العمل لاعتماد الناس في معاشهم هناك على الفواكه واللبن مع عدم تناولهم لحمًا إلا نادرًا، وهنَّ يتخذن جلد الغنم لصنع نعالٍ خفيفةٍ لأنفسهن ولأزواجهن وأولادهن، وهن يصنعن خيامًا من الجلد المشمع أو قشر الشجر، وهن يحبكن جميع ثياب الأسرة ويغسلنها، وهن يرتبن البيوت ويجعلنها نظيفةً إلى الغاية، وتكون ملابسهم سهلة الصنع؛ وذلك لأنه لا يُلبَس في هذا الإقليم المعتدل غير قطعة من النسيج الناعم الخفيف الذي لا يفصل مطلقًا فيلفه كل واحد حول بدنه طولًا سترًا للعورة ويعطيه الشكل الذي يريد.»
وإذا عدوت زراعة الأرضين ورعي القطعان لم تجد للرجال حرفةً يمارسونها غير استعمال الخشب والحديد، وهم لا ينتفعون بالحديد إلا في الآلات التي تقتضيها الفلاحة، وهم لا يجدون نفعًا في جميع الحرف ذات الصلة بفن البناء؛ وذلك لأنهم لا يُنشئون بيوتًا، ومن قولهم: إن من شدة الارتباط في الأرض أن يقام منزل يدوم أكثر مما ندوم، وإن مما يكفينا أن ندرأ عن أنفسنا تقلبات الهواء، وأما جميع المهن الأخرى ذات الحظوة لدى الأغارقة والمصريين وغيرهما من الأمم الحسنة الإدارة فيمقتونها لعدهم إياها من اختراعات الزهو والترف.
وهم إذا ما حدثوا عن الأمم التي عندها فن إقامة المباني الرائعة، وصنع أثاثٍ من الذهب والفضة، وصنع نسج مزخرفة بضروب التطريز والحجارة الثمينة، وصنع أطيب العطور وألذ الأطعمة، وصنع آلات الطرب التي تفتن النفوس بأنغامها، قالوا: «إن من شقاء هذه الأمم أن تنفق هذا المقدار الكثير من العمل والمهارة لإفساد نفسها بنفسها! فهذا الزائد يخنث الحائزين له ويغرهم ويضرهم، وهو يغري المحرومين إياه بنيله ظلمًا وعدوانًا، وهل يمكن أن يُذكر زائدٌ لا يجعل الناس أردياء؟ وهل أهل هذه البلاد أصح منا بدنًا وأقوى عضلًا؟ وهل هم أطول منا عمرًا؟ وهل هم أكثر منا اتحادًا؟ وهل يقضون حياةً أكثر حريةً وهدوءًا وسرورًا؟ إنهم متغايرون، فيأكلهم الحسد النذل الأسود ويهزهم الحرص والخوف والطمع، ولا تعرف الملاذ الصافية البسيطة إلى نفوسهم سبيلًا ما داموا عبيدًا لضروراتٍ باطلةٍ كثيرة يقيمون سعادتهم عليها.»
ويقول أدوام مداومًا: «هذا ما يقوله هؤلاء الحكماء الذين لم يتعلموا الحكمة إلا من دراسة الطبيعة الصرفة، ويمقت هؤلاء ليننا، ومن الإنصاف أن يعترف بأنهم ذوو لينٍ بالغٍ في بساطتهم اللطيفة، فكلهم يعيشون معًا من غير اقتسامٍ للأرضين، ويدير كل أسرةٍ رئيسها الذي هو ملك حقيقي لها، ويحق لرب الأسرة أن يعاقب أولاده وحفدته على أي ذنبٍ يقترفونه، ولكنه لا يجازي قبل أن يأخذ رأي بقية الأسرة، ولا سبيل لهذه العقوبات تقريبًا ما ساد طهر الطباع وحسن النية والطاعة ومقت المنكر هذه الديار المباركة، ويظهر أن أستره التي يروى خبر انزوائها في السماء لا تزال مستترة بين هؤلاء الناس في هذه الدنيا، فلا يحتاج هؤلاء الناس إلى قاضٍ يحكم بينهم ما دام ضميرهم يقضي بينهم، وتعد جميع أموالهم مشاعةً بينهم، فثمار الشجر وبقول الأرض ولبن القطاع ثروات بلغت من الوفرة ما لا ضرورة إلى قسمتها معه عند هؤلاء القوم البالغي القناعة والاعتدال، وتنقل كل أسرة، جائلةٍ في هذا البلد الجميل، خيامها من مكانٍ إلى آخر بعد استهلاكها ثمرات المكان الضاربة فيه واستنفادها لمراعيه، وهكذا لا يجدون لأنفسهم نفعًا في نصر بعضهم على بعض، وهكذا يتحابون حبًّا أخويًّا لا يكدر صفوه شيء، وهكذا تجد سر هذا السلام والاتحاد والحرية في تحصنهم حيال الثروات الباطلة واللذات الخادعة، وهم أحرار متساوون، ولا يمتاز بعضهم من بعض إلا بما يصدر عن تجربة الشيوخ الحكماء أو عن حكمةٍ خارقةٍ للعادة في بعض الشبان المساوين لذوي الفضل من الشيوخ، وما كان للخداع والغصب وشهادة الزور والقضايا والحروب أن تُسمع صوتها الجافي الوبيء في هذا البلد العزيز على الآلهة، ولم يحدث، قط، أن لُطِّخت هذه الأرض بدم إنسان، ولا يكاد يُرَى فيها إراقة دمِ خرافٍ، وإذا ما حُدِّث هؤلاء الناس عما يُرَى لدى الأمم الأخرى من المعارك الدامية والفتوح السريعة وانهيار الدول اعتراهم دهش وقالوا: ماذا! أليس الموت لاحقًا بالناس حتى يستعجلوه؟ يظهر أن الحياة تبدو لهم طويلةً جدًّا مع أنها قصيرة إلى الغاية! وهل وُلدوا حتى يمزق بعضهم بعضًا ويجعلوا أنفسهم تعساء مقابلةً؟»
ولا يجد أهل البتيك معنًى للإعجاب بالفاتحين الذين يدوخون الممالك العظيمة، ومن قولهم: يا لحماقتهم في إقامة سعادتهم على الحكم في الآخرين الذين تنطوي حكومتهم على كثير من المشاقِّ إذا ما أريد الحكم بينهم وفق العقل والعدل! وما لذة الحكم فيهم على الرغم منهم؟ إن كل ما يمكن الرجل أن يفعل هو أن يبتغي الحكم في شعب طيِّع عَهِدَ الآلهة إليه في القيام بأموره أو في شعبٍ يرجو أن يكون أبًا راعيًا له، وأما الحكم في الأمم خلافًا لإرادتها فأمر يجعل الحاكم بائسًا من حيث يطلب المجد باستعبادها، وما الفاتح إلا رجل حَبَا الآلهة، الساخطون على النوع البشري، به الأرضَ عن غضبٍ كيما يخرب الممالك وينشر الذعر والبؤس واليأس في كل مكان، وكيما يحول الأحرار إلى عبيد، أفلا يجد طالب المجد ما فيه الكفاية من المجد بحسن سياسته من ولَّاه الآلهة أمرهم؟ وهل يظن أنه لا يستحقُّ أكاليل المدح إلا بظهوره عنيفًا ظالمًا متكبرًا غاصبًا جبَّارًا نحو جميع جيرانه؟ ألا لا يجوز أن يُلجَأ إلى الحرب إلا للدفاع عن الحرية، ويا لسعادة من ليس عبدًا لغيره فلا يكون من الطموح الأرعن بحيث يجعل الآخرين عبيدًا له! يشابه هؤلاء الفاتحون العظماء، الذين يصورون لنا مع كثير مجد، أنهارًا طافحةً تظهر جليلةً، ولكن مع تخريبها جميع الحقول الخصيبة التي يجب أن تقتصر على إروائها.
فتن تلماك بهذا الوصف الذي أتاه أدوام عن البتيك فوجَّه إلى أدوام أسئلةً طريفةً كثيرة، ومنها: «أيشرب هؤلاء القوم خمرًا؟»
ويقول تلماك بعد هذا: «أريد أن أعلم أيُّ القوانين ينظم أمر الزواج لدى هؤلاء القوم.»
ويختم أدوام كلامه هذا ببيانه كيف يقوم الفنيقيون بتجارتهم في البتيك، قال أدوام: «لقد اعترى هؤلاء القوم دهش حينما رأوا غرباء يأتون بطريق البحر من بلدٍ بعيدٍ جدًّا، وقد أذنوا لنا في إقامة مدن في جزيرة قادس، حتى إنهم تقبلونا على استحياء وجعلوا لنا حصةً في جميع ما لديهم بلا مقابل، ثم إنهم عرضوا أن يجودوا علينا بما يبقى من أصوافهم بعد أن يأخذوا ما يحتاجون إليه منها، والواقع أنهم أرسلوا إلينا هدية ثمينة وأن مما يطيب لهم أن يعطوا الأجانب ما يفيض عندهم.»
وأما المناجم فلم يجدوا أي عناء بتركها لنا ما دامت غير نافعة لهم، فمما يلوح لهم أن من غير الحكمة أن يبذل الناس جهودًا عظيمة للبحث في بطن الأرض عن شيء لا يجعلهم سعداء ولا يمكن أن يقضي أي احتياج حقيقي لهم، ومن قولهم لنا: «لا توغلوا في حفر الأرض كثيرًا، واكتفوا بحرثها، فهي تنعم عليكم بأموال حقيقية تغذيكم، وأنتم تنالون منها ثمرات أفضل من الذهب والفضة ما دام الناس لا يريدون هذين المعدنين إلا ليشتروا بهما ما يقوِّمون به حياتهم من الأطعمة.»
وما أكثر ما أردنا تعليمهم الملاحة وأن نأتي بفتيان بلدهم إلى فنيقية، ولكنهم لم يريدوا قط أن يقتبس أولادهم طراز حياتنا، وقد قالوا لنا: «يؤدي هذا إلى تعلمهم أن يكون عندهم احتياج إلى جميع الأشياء التي صارت ضروريةً لديكم، فيريدون حيازتها ويتخلون عن الفضيلة نيلًا لها بأسوأ احتيال، ويغدون كمن له ساقان فيفقد عادة المشي ويتعود، عند الضرورة، أن يُحمل مثل مريض دائمًا»، وأما الملاحة فيعجبَون بها لما تقتضيه هذه المهنة من مهارة، ولكن مع اعتقادهم ضرر هذه المهنة، وقد قالوا: «إن لهؤلاء الناس في بلدهم ما تقضى به حاجة العيش بما فيه الكفاية، فما أَرَبهم بالذهاب إلى بلد آخر لكي يطلبوه فيه؟ أو لا يكتفون بما تُقضَى به الحاجات الطبيعية؟ أجل، إنهم يستحقون الغرق ما داموا يبحثون عن الموت بين العواصف إرواءً لطمع التجار ومداراة لأهواء أناسٍ آخرين.»
فُتِن تلماك بسماع كلام أدوام هذا، ومما سُرَّ له وجود قومٍ في العالم يتبعون حقوق الفطرة فيكونون كلهم بالغي الحكمة بالغي السعادة، وقد قال: «وَيْ! ما أعظم الفرق بين طباع هؤلاء القوم والطباع الباطلة الطامحة لدى الأمم الأخرى التي يُعتقد أنها أكثر الشعوب حكمةً! لقد بلغنا درجةً من الفساد لا نكاد نصدق معه إمكان صحة هذه البساطة الفطرية، فنحن نَعُدُّ طباع هؤلاء القوم أسطورة جميلة، وهم يَعُدون طباعنا حلمًا مزعجًا.»