الجزء الثامن

يدوم غضب فينوس على تلماك فتطلب من جوبيتر أن يهلكه، ولكن الأقدار لا تسمح بهلاكه فتلتمس هذه الإلهة وسائل من نبتون يكون بها بعيدًا من إيتاك التي يسير به أدوام إليها، لم يلبث نبتون أن ساق إلى الربان أقماس إلهًا ماكرًا سحر حواسه فجعله يدخل سفينته إلى ميناء سلنتة معتقدًا وصوله إلى إيتاك، أحسن إيدومنه قبول تلماك ومنتور وزار معهما معبد جوبيتر حيث أمر بتقديم قرابين نيلًا للنصر في حربٍ وقعت بينه وبين المندوريين، تأملَ الكاهن المقرِّب في أحشاء القرابين فملأ إيدومنه أملًا وأخبره بأنه مدين بحظه الحسن لضيفيه الجديدين.

بينا كان تلماك وأدوام ماضيين في حديثهما على ذاك الوجه غافلين عن النوم، ولم يبصرا أن الليل في منتصف مجراه، كان يبعدهما إله عدو مخادع من إيتاك التي يبحث ربانهما أقماس عنها على غير جدوى، وذلك أن نبتون، وإن كان عاطفًا على الفنيقيين، لم يُطِقْ طويلًا نجاة تلماك من الزوبعة التي كان قد قذفه بها نحو صخر جزيرة كلبسو، وأكثر من ذلك غضب فينوس إذ رأت قهر ذلك الشاب لرب الغرام وضروب فتونها، وتهجر فينوس، عن ألم بالغ، سيتر وبافوس وإدالية وكل تمجيدٍ لها في جزيرة قبرس؛ أي تغادر تلك الأمكنة التي عادت لا تستطيع الإقامة بها بعد أن استخف تلماك بسلطانها فيها، وتصعد في جبل الألنب الزاهر حيث كان الآلهة ملتفين حول عرش جوبيتر، وكانوا ينظرون إلى النجوم التي تتدحرج تحت أقدامهم، وكانوا يرون الكرة الأرضية مثل كتلةٍ من الطين، وكانت البحار العظيمة لا تبدو لهم غير قطراتٍ من الماء تبلل تلك الكتلة قليلًا، وكانت أعظم الممالك لا تظهر لهم غير قليل من الرمل يستر وجه ذلك الطين، وكانت الأمم التي لا يحصيها عدد والجيوش البالغة القوة لا تلوح لهم غير نمالٍ تتنازع تبنةً على تلك الكتلة الطينية، ويضحك الخالدون من الأمور البالغة الجدية التي تهز الآدميين الضعفاء عادِّين إياها ألعاب أولاد، ولا يتراءى لهؤلاء الآلهة الأعلين ما يسميه الناس عظمةً ومجدًا وسلطانًا وسياسةً بعيدة الغور غير بؤسٍ وضعف.

ففي هذا المكان البالغ الارتفاع فوق الأرض نصب جوبيتر عرشه الثابت، وتنفذ عيناه حتى المهاوي، وتنيران حتى آخر خبايا الأفئدة، وتنشر نظراته العذبة المشرقة سكونًا وسرورًا، ويقع عكس هذا إذا ما هزَّ شعره، فهو بهذا يزعزع السماء والأرض، حتى إن الآلهة، الذين يبهرون بشعاع المجد الذي يحيط به، يرتجفون إذا ما دنوا منه.

وكان جميع آلهة السماء بجانبه في تلك الأثناء، وتحضر فينوس بكل ما يطفح به صدرها من فتون، ويظهر رداؤها المتموج أسطع من جميع الألوان التي تزين بها إيريس بين السحب الداجنة حينما تأتي لتنبئ الناس المذعورين بنهاية الزوابع وتخبرهم برجوع الجو إلى صفائه، وكان رداؤها مشدودًا بذاك النطاق المشهور الذي تبدو به محاسنها، وكان شعر هذه الإلهة المرسل معقودًا من الخلف بخصلةٍ من الذهب، ويدهش جميع الآلهة بجمالها كأنهم لم يشاهدوها قبل ذلك قط، وتبهر عيونهم كما تبهَر عيون الناس عندما يأتي فيبوس بعد الليل الطويل لإنارتها بأشعته، وينظر بعضهم إلى بعض عن إعجاب، وذلك مع إلقاء بصرهم إلى فينوس دائمًا، غير أنهم أبصروا ما كان من ذريف عيني هذه الإلهة وما هو مرسوم على وجهها من ألمٍ شديد.

وتتقدم فينوس نحو عرش جوبيتر، وهي تميس بخطوٍ حلوٍ خفيف كطيران الطائر الذي يشق طبقات الهواء الواسعة بسرعة، وينظر جوبيتر إليها ملاطفًا، ويبتسم لها ابتسامًا عذبًا، وينهض، ويقبِّلها، ويقول لها: «أي ابنتي العزيزة! ما كربك؟ لا أستطيع أن أمنع نفسي من التأثر عندما أنظر إلى عبراتك، فلا تخافي أن تُطلعيني على ما يدور في فؤادك، وأنت تعرفين رأفتي ومعروفي.»

وتجيب فينوس قائلةً بصوتٍ عذب، ولكن مع تقطعه بتنهد عميق: «أي أبا الآلهة والناس، أيها البصير بكل شيء، أيمكن أن تجهل سبب كربي؟ لم تكتفِ منرفا بتدمير مدينة تروادة الرائعة التي كنت أدافع عنها وبالانتقام من باريس الذي فضَّل جمالي على جمالها، بل سارت في جميع الأرضين وجميع البحار بابن أوليس القاسي المدمر لتروادة؛ أي إن منرفا رافقت تلماك، فحال هذا دون اتخاذها لمكانها هنا بين الآلهة الآخرين، وهي قد ساقت هذا الشاب الجريء إلى جزيرة قبرس لإهانتي، فاستخف بسلطاني، ولم يكتفِ بعدم إحراق بخورٍ في محاريبي، بل أظهر نفورًا من الأعياد التي تقام تمجيدًا لي، وقد أوصد فؤاده دون جميع لذَّاتي، ومن العبث، إذن، استجابة نبتون لدعائي وإثارته الرياح والأمواج حياله معاقبةً له، فقد قذف حادث غرقٍ بتلماك في جزيرة كلبسو وانتصر حتى على رب الغرام الذي أرسلتُه إلى هذه الجزيرة ليُلِين قلب هذا الفتى اليوناني، وما كان شبابه، ولا فتون كلبسو وسحر حورياتها، ولا ملامح رب الغرام الملتهبة؛ لتستطيع أن تتغلب على حيل منرفا التي اختطفته من هذه الجزيرة، وها أنا ذا مضطربة إذ أرى ولدًا يفوز عليَّ!»

واسمع قول جوبيتر لفينوس كيما يُلقي سلوانًا فيها: «أجل، يا بنيتي، إن منرفا تدرأ عن فؤاد هذا الشاب اليوناني جميع سهام ابنك مُعدَّةً إياه إلى مجدٍ لم يستحقه شاب قبله، وقد ساءني استخفافه بمحاريبك، ولكن لا يمكنني أن أجعله خاضعًا لسلطانك، وأجدني موافقًا، عن حبٍّ لك، أن يستمر تسكعه برًّا وبحرًا وأن يعيش بعيدًا من وطنه معرَّضًا لضروب الرزايا والأهوال، غير أن الآلهة لا يسمحون بهلاكه ولا بسقوطه في الملاذ التي تدالين بها الرجال، فاهدئي، يا بنيتي، واقنعي، إذن، بأن تمسكي في دولتك كثيرًا من الأبطال والخالدين الآخرين.»

وكان جوبيتر يقول ذلك لفينوس مبديًا لها ابتسامًا طافحًا لطفًا وجلالًا، وكان يسطع من عينيه نور ثاقب كنور البرق، وقد قبَّل فينوس قبلة حنان فانتشرت رائحة ذكية عمت جبل الألنب، ولم تتمالك هذه الإلهة أن تأثرت بهذا اللطف الصادر عن أعظم الآلهة، فَعَلا وجهَها سرورٌ على الرغم من دموعها وألمها، وتسدل برقعها سترًا لاحمرار خديها وما اعتراها من ارتباك، ويدوِّي مجلس الآلهة بالهتاف استحسانًا لكلام جوبيتر، ولا ترى فينوس إضاعة دقيقةٍ واحدة، للاجتماع بنبتون؛ أي تذهب من فورها كيما تتفق معه على الوسائل التي يُنتقم بها من تلماك.

وتقص على نبتون ما قاله جوبيتر، ويقول نبتون: «كنت أعرف حكم الأقدار الذي لا تبديل له، ولكن إذا كنا لا نستطيع إغراق تلماك في البحر فلا ننسى شيئًا نجعله به تعسًا ونعوق رجوعه إلى إيتاك على الأقل، ولا يمكنني أن أوافق على إتلاف السفينة الفنيقية التي ركبها، فأحب الفنيقيين، وهم شعبي، ولا يوجد في العالم قوم آخرون يتعهدون مملكتي كما يتعهدها الفنيقيون، وبفضل هؤلاء صار البحر أداة اتصال بين جميع أمم الأرض، وهم يكرمونني بما يقدمون من القرابين في مذابحي، وهم منصفون حكماء مجدون في التجارة، وهم ينشرون البركة والرفاهية في كل مكان، كلا، أيتها الإلهة، لا أحتمل أن يغرق أي واحد من مراكبهم، وإنما أصنع ما يضل به الربان طريقه، وما يبتعد معه عن إيتاك التي يريد الذهاب إليها.»

رضيت فينوس بهذا الوعد وضحكت عن خبثٍ، وعادت إلى عربتها، وطارت فوق مروج إدالية الزاهرة حيث تبدي إلهات الألطاف والألعاب والدعابات سرورهن برؤيتها ثانيةً راقصاتٍ حولها فوق الزهور التي تعطر ذاك المكان الفتان.

ولم يعتم نبتون أن أرسل إلهًا ماكرًا مشابهًا للأحلام، وذلك مع الفارق القائل: إن الأحلام لا تخادع إلا في المنام، وإن هذا الإله يسحر حواس الناس حين السهاد، ويأتي هذا الإله المؤذي المحاط بجمٍّ غفير من رسل الكذب المرفرفين حوله ويسكب سائلًا لطيفًا مسحورًا في عيني الربان أقماس وهو يلاحظ بدقةٍ، وعلى نور القمر، سير النجوم وساحل إيتاك الذي كان قد أبصر صخوره الوعرة قريبةً منه، وتعود عينا الربان في تلك الساعة لا تدُلَّانه على شيء حقيقي، وتبدو له سماءٌ وهمية وأرض مختلقة، وتظهر الكواكب كما لو كانت قد غيَّرت سيرها وأنها ترجع إلى الوراء، ويلوح جبل الألنب أنه يتحرك وفق سُنن جديدة، حتى البر قد تغير، وما انفكت إيتاك خيالية تسنح للربان إلهاءً له على حين تبتعد إيتاك الحقيقية عنه، وكان كلما تقدم نحو خيال هذا الساحل الخادع كان هذا الخيال يرجع إلى الوراء فارًّا أمامه غير عارف سر هذا الفرار، وكان، في الحين بعد الحين، يخيل إليه أنه يسمع لغطًا صادرًا عن الميناء، ومما استعد له، وفق أمر كان قد تلقاه، أن يذهب للرسو سرًّا في جزيرةٍ قريبة من الجزيرة الكبرى إخفاءً لعودة تلماك حيال عشاق بنلوب المؤتمرين به، ومما كان يحدث أحيانًا أن يخشى الصخور القائمة على هذا الساحل فيخيل إليه أنه يسمع هدير الأمواج التي تتكسر عليها، ثم يلاحظ من فوره أن البر لا يزال بعيدًا كما يظهر، ولم تكن الجبال لتبدو له، بهذا البعد، غير سحب صغيرة يظلم بها الأفق حين غياب الشمس، وهكذا حار أقماس، وهكذا أسفر أثر الإله الماكر الذي سحر عينيه عن شعوره بحالٍ وجديةٍ غير معروفة لديه قبل ذلك الحين، حتى إنه كان يخيل إليه أنه غير ساهرٍ وأنه سابح في أوهام حلم، وبينا كان الوضع كذلك أمر نبتون ريح الشرق بأن تهب فتلقي المركب في شواطئ هسبرية، وتطيع الريح بصولةٍ، ولم تلبث السفينة أن وصلت إلى الساحل الذي عيَّنه نبتون.

وينمُّ الفجر على النهار، وتذهب الكواكب التي تخاف أشعة الشمس عن غيرةٍ لتواري في البحر المحيط نيرانها الكابية، ويهتف الربان قائلًا: «نكاد نلمس جزيرة إيتاك، فابتهج يا تلماك! فقد لا تمضي ساعة حتى ترى بنلوب، وربما تجد أوليس جالسًا على عرشه!»

ويفيق تلماك، الذي كان ساكنًا بين ذراعي النوم، عند سماع هذا الصوت، وينهض، ويصعد فوق سكان السفينة، ويعانق الربان، ويحدق بعينيه، اللتين لم يكد يفتحهما، إلى الشاطئ المجاور، ويئنُّ لما لم يجد شواطئ وطنه مطلقًا، ويقول: «آه! أين نحن؟ ليست إيتاك العزيزة هناك! لقد خدعت يا أقماس، أنت سيئ المعرفة بهذا الشاطئ البعيد من بلدك كثيرًا.»

أقماس : «كلا، كلا، لا يمكن أن أُخدَع عند النظر إلى شواطئ هذه الجزيرة، وما أكثر ما دخلت مرفأكم! أنا أعرف حتى أدق صخوره، ولست أحسن تمثلًا لشاطئ صور من تمثلي لشاطئكم، اعرف هذا الجبل الذي يتقدم، وانظر إلى هذه الصخرة القائمة كالبرج، ألا تسمع الموج الذي يتكسَّر على الصخور الأخرى حينما يلوح أنها تهدد البحر بسقوطها؟ ألا تلاحظ معبد منرفا الذي يناطح السحاب؟ هذا هو ذا حصن أبيك أوليس ومنزله.»
تلماك : «أنت مخطئٌ يا أقماس، إني أرى شاطئًا مرتفعًا بعض الارتفاع مع الاستواء، وأرى مدينةً ليست إيتاك، وا آلهتاه! أهكذا تعبث بالناس يا أقماس؟»

وبينا كان ينطق بهذه الكلمات تغيرت عينا أقماس بغتةً، فقد انقطع السحر، ورأى الشاطئ كما هو حقيقةً، وأدرك خطأه، وقال صارخًا: «أعترف لك، يا تلماك، بأن إلهًا عدوًّا سحر عينيَّ، فاعتقدتُ أنني أبصرت إيتاك، وتمثلت لي صورتها تمامًا، ولكنها غابت الآن مثل حلم، وصرت أرى مدينة أخرى، ولا ريب في أن هذه هي مدينة سلنتة التي أنشأها في هسبرية المطرود من أقريطش: إيدومنه، وتراني أشاهد الأسوار التي تقام ولما يتمَّ بناؤها، والميناء الذي لما يحصَّن تمامًا.»

وبينما كان أقماس يلاحظ مختلف الأشغال التي تمت في هذه المدينة الناشئة جديدًا، وكان تلماك يرثي لبلائه، أدت الريح، التي جعلها نبتون تهب، إلى دخول المركب، منشور القلوع، في مرفأٍ طبيعي أمين قريبٍ من الميناء.

ولم يبدِ منتور، الذي كان لا يجهل انتقام نبتون، ولا مكر فينوس القاسي، غير ابتسامٍ تجاه خطأ أقماس، ولما صاروا داخل ذاك المرفأ الطبيخعي قال منتور لتلماك: «إن جوبيتر يبتليك يا تلماك، ولكنه لا يريد هلاكك، وإنما يبتليك ليفتح لك طريق المجد، واذكر أعمال هركول، ولا تغِبْ عنك أعمال أبيك، ومن لم يصبر على الألم لم يكن ذا قلب كبير على الإطلاق، وليكن لك بصبرك وبأسك ما تتعب به الطالع الجافي الذي يسره إزعاجك، وخوفي عليك أن تكون عرضةً لأفظع فقدٍ للحظوة عند نبتون أقل من خوفي عليك أن تكون عرضةً لملاطفات الإلهة التي أمسكتك في جزيرتها، ولمَ التريث؟ لندخل هذا الميناء، هذا شعب صديق، الأغارقة هم الذين نصل إليهم، سيكون إيدومنه الذي أذلَّه الطالع رءوفًا بالتعساء.»

ويدخلون مدخل ميناء سلنتة من فورهم ويقبل المركب الفنيقي بلا مشقة لما كان من سلامٍ وتجارةٍ بين الفنيقيين وجميع أمم العالم.

ويعجب تلماك بهذه المدينة الناشئة المشابهة لنباتٍ حديث يزَّيَّن في الصباح بأشعة الشمس بعد أن يتغذى بندى الليل العذب، وينمو هذا النبات، ويفتح براعمه الناعمة، وينشر أوراقه الخضر، ويخرج أزهاره العطرية على ألف لونٍ جديد، فإذا ما نظر إليه في كل دقيقة وجد له لمعانٌ طريف، وهكذا كانت تزدهر مدينة إيدومنه الجديدة على ساحل البحر، وهكذا كانت سلنتة تنمو بهيةً فتبدي للأجانب من البحر زخارف معماريةً حديثةً تبلغ السماء، وكان جميع الشاطئ يدوي بأصوات العمال وضربات المداقِّ، وكانت الحجارة معلقةً في الهواء بمرافع ذات حبال، وكان الرؤساء يحثون الناس على العمل منذ ظهور الفجر، وكان الملك إيدومنه يصدر الأوامر بنفسه في كل مكان فيوجب تقدم الأعمال بنشاطٍ يفوق الوصف.

ولم يكد المركب الفنيقي يصل إلى الميناء حتى أظهر الأقريطشيون لتلماك ومنتور جميع آيات المودة الخالصة، ويُهرَع إلى إيدومنه من يخبره بوصول ابن أوليس، ويهتف إيدومنه قائلًا: «ابن أوليس! ابن الصديق الغالي أوليس! ابن هذا البطل الحكيم الذي دمَّرنا مدينة تروادة بفضله! إيتوا به إلى هنا! إيتوا به لأظهر له مقدار حبي لأبيه!»

ويقدم تلماك إليه حالًا، ويطلب تلماك منه أن يضيفه، ويذكر تلماك له اسمه، ويجيبه إيدومنه بوجهٍ طليقٍ بَاسمٍ قائلًا: «ما كان ليفوتني أن أعرفك ولو لم تذكر لي من أنت، فأنا أرى أوليس نفسه: أرى عينيه الناريتين الدالتين على الحزم، كما أرى ملامحه الفاترة المتحفظة التي تخفي تحتها كثير نشاطٍ ولطف، وقد عرفت فيك ابتسامته الدقيقة، وعمله البعيد من التكلف، وكلامه العذب البسيط الفتان المقنع بلا احتراز، أجل، إنك ابن أوليس، ولكنك ستكون ابنًا لي أيضًا، أَي بني! أَي بني! أية مغامرةٍ أتت بك إلى هذا الشاطئ؟ أللبحث عن أبيك؟ آه! ليس عندي خبر عنه، وقد جار الطالع علي وعليه، وكان من بؤسه أن عجز عن العود إلى وطنه، وكان من بؤسي أن وجدت وطني طافحًا بغضب الآلهة علي.»

وبينما كان إيدومنه ينطق بهذا الكلام كان يحدق إلى منتور فيراه رجلًا لا يجهل وجهه وإن لم يعرف اسمه.

ويجيبه تلماك دامع العينين قائلًا: «اغفر لي، أيها الملك، ألمي الذي لا أستطيع كتمه في وقتٍ يجب علي ألا أظهر لك فيه غير السرور والثناء على إحسانك، وذلك أنك أشعرتني، بالأسف الذي أظهرته لي على فقد أوليس، بعدم إمكان لقاء والدي، وأنه مضى وقت طويل علي وأنا أبحث عنه في جميع البحار، وأن الآلهة الغاضبين لا يأذنون لي في رؤيته ثانيةً ولا في معرفتي هل غرق أو أن من الممكن أن يعود إلى إيتاك حيث تضنى بنلوب رغبةً في إنقاذها من عشاقها، وأنني اعتقدت، فيما مضى، أن أجدك في جزيرة أقريطش حيث علمت قسوة مصيرك، وأنني ما كنت أظن اقترابي من هسبرية التي أقمت فيها مملكةً جديدة، غير أن الطالع، الذي يسخر من الناس فجعلني أهيم على وجهي في جميع البلدان بعيدًا من إيتاك، قذفني في سواحلك، فهذه المصيبة وحدها هي التي أحتمل مختارًا، فهي، وإن كانت تبعدني من وطني، عرفتني بأكثر الملوك كرمًا.»

هنالك عانق إيدومنه تلماك عناق حنان، وأتى به إلى قصره، وقال له: «مَن ذاك الشيخ المتحرز الذي يرافقك؟ يخيل إليَّ أنني شاهدته كثيرًا فيما مضى.»

تلماك : «هذا منتور، هذا صديق أوليس منتور، هذا منتور الذي وكلني إليه أبي طفلًا، ومن يستطيع أن يصف لك مقدار ما أنا مدين له به؟»

هنالك تقدم إيدومنه نحو منتور، ومدَّ يده إليه، وقال له: «لقد اجتمعنا سابقًا، أو تذكر سابق رحلتك إلى أقريطش وما قدمت إليَّ من نصائح صالحةٍ؟ بيد أنني كنت أتبع حرارة الشباب وأندفع وراء باطل اللذات، وكان لا بُدَّ لي من التعلم بالمصائب حتى أطَّلِعَ على ما كنت راغبًا عن اعتقاده، يا ليتني صدقتك ووثقت بك! ومما يثير عجبي أنك لم تتغير تقريبًا مع مرور سنين كثيرةٍ على ذلك الحين، فأراك محافظًا على نضارة وجهك واستقامة قامتك وقوة نشاطك، وشعرُك وحده هو الذي وَخَطه الشيب.»

منتور : «لو كنت مصانعًا، أيها الملك العظيم، لقابلتك بقولي: إنك لا تزال محافظًا على زهرة الشباب التي كانت تسطع على وجهك قبل حصار تروادة، ولكنني أفضل ألا أروقك على الإضرار بالحق، وهذا إلى أنني أبصر من خلال كلامك الحكيم أنك تكره النفاق وأنه لا ضير إذا ما خوطبت بإخلاص، والواقع أنك تغيرت كثيرًا وأنني أجد مشقةً في معرفتي إياك، ويتجلى السبب لي واضحًا، فأنت قاسيت في مصائبك كثيرًا، ولكن مع كسبك كثيرًا مما قاسيت ما دمت قد فزت بالحكمة، ومما يجب أن يتعزَّى عنه بسهولةٍ ما يظهر على الوجه من غضونٍ ما مرن القلب على الفضيلة وصار عامرًا بها، ثم اعلم أن الملوك يَضْنَوْن أكثر من ضنى الآخرين دائمًا، وذلك أنهم يشيبون قبل الأوان بالشدائد وآلام النفس وأعمال البدن، وأكثر مما بأعمال الحرب ضناهم بملاذ الترف، فلا شيء أوخم من الملاذ التي لا يمكن الاعتدال فيها، ومن ثم يرى أن الملوك في السلم والحرب يجدون من المشاق والملاذ ما يجيء بالمشيب قبل العمر الذي يُهرَم فيه عادةً، وما يُقضى من حياة منظمة جدية قائمة على القناعة والاعتدال والبساطة والعطل من الهموم والأهوال يحفظ في أعضاء الإنسان الحكيم شبابًا فيَّاضًا يطير على أجنحة الزمان، دائمًا، بغير احتياط.»

وكان إيدومنه، المفتون بكلام منتور، يستمع إليه زمنًا طويلًا لو لم يخبر بأمر قربان يجب أن يقدمه إلى جوبيتر، ويتبعه تلماك ومنتور محاطين بجمعٍ كبير من الشعب ناظرٍ إلى هذين الغريبين نظر فضول واهتمام، ويقول بعض أهل سلنتة لبعض: «يا لاختلاف هذين الرجلين! فأما الشاب فيتصف بما لا يعبر عنه من نشاط وأنس، ويطفح وجهه وجميع بدنه بجميع محاسن الجمال والفَتَاء، ولكن مع خلو هذا الجمال من الترهل والتخنث، وهو يظهر، مع نضارة الشباب الناعمة، قويًّا عصلبيًّا أهلًا للعمل، وأما الآخر، وإن كان أكثر تقدمًا في السن، لم يفقد شيئًا من قوته بعد، ويبدو، أول وهلةٍ، أنه ذو هيئةٍ أقل طولًا وذو وجهٍ أقل لطافةً، ولكنه إذا ما نظر إليه عن كثب وجدت علامات الحكمة والفضيلة في بساطته مع نبل يثير العجب، ولو هبط الآلهة إلى الأرض ليعاشروا الناس لاتخذوا مثل صورة هذين الغريبين المسافرين.»

ويبلغ معبد جوبيتر الذي جمَّله إيدومنه، وهو من سلالة هذا الإله، بكثير من الزخارف البهية، فقد كان يحيط به صفا عمد من رخام اليصب وكانت تيجان العمد مصنوعةً من الفضة، وكان المعبد مُلبَسًا بمرمرٍ ذي نقوشٍ بارزة تمثل جوبيتر متحولًا إلى ثور ومغتصبًا لِأُرُبَّةَ وذاهبًا بها إلى أقريطش بين الأمواج، وتلوح الأمواج مُجِلَّةً لجوبيتر وإن ظهر على شكلٍ غريب، ثم ترى ولادة مينوس وشبابه، ثم يشاهد هذا الملك الحكيم في سن متقدمة وهو ينعم بشرائع على جميع جزيرته جعلًا لها مزدهرةً إلى الأبد، ويلاحظ تلماك في المعبد، أيضًا، صور أهم المغامرات حين حصار تروادة حيث نال إيدومنه شهرة قائدٍ عظيم، ويبحث تلماك عن أبيه بين صور المعارك فيعرفه وهو قابض على خيل ريزوس الذي قتله ديوميد، ثم يراه وهو ينازع أجكس أسلحة أشيل أمام جميع قواد الجيش اليوناني المجتمعين، ثم يراه وهو خارج من الحصان الخشبي المنحوس كيما يسفك دماء كثير من الترواديين.

ويعرف تلماك أباه، أول وهلة، من مآثره المشهورة التي سمع عنها الشيء الكثير والتي قص نسطور نفسه خبرها عليه، ويسيل الدمع من عينيه، ويتغير لونه، وتظهر علامات الاضطراب على وجهه، ويبصر إيدومنه ذلك وإن أدار تلماك ظهره كتمًا لاضطرابه.

قال له إيدومنه: «لا تخجل من إطلاعنا على مقدار انفعالك حيال ما نال أبوك من مجد وما لقي من مصائب.»

ويتجمع الناس في تلك الأثناء تحت الأروقة التي تكونت من صفي العمد المحيطة بالمعبد، وتشاهَد كتيبتان من الفتيان والفتيات تنشدان أشعارًا حمدًا للإله الذي يرسل الصواعق، وتظهر لهؤلاء الأولاد الحسان شعور طويلة متموجة على الأكتاف، ويبدون مطيبين متوجين بأكاليل من ورد لابسين ثيابًا بيضًا، ويقدم إيدومنه مائة ثور قربانًا إلى جوبيتر استنصارًا له في حرب نشبت بينه وبين جيرانه، ويتصاعد دخان دم الضحايا من كل ناحية، ويُرى الدم وهو يسيل في أكوابٍ عميقة من ذهب وفضة.

وكان صديق الآلهة وكاهن المعبد، الشيخ تيوفان، يستر رأسه في أثناء تقديم القرابين بطرف ردائه الأرجواني، ثم تأمل هذا الكاهن المقرب في أحشاء الضحايا التي كانت تختلج، ثم اعتلى الكرسي المقدس الثلاثي الأرجل وقال بصوتٍ جهير: «أيها الآلهة! مَن هذان الرجلان اللذان نزلا من السماء إلى هذه الأمكنة؟ فلولاهما لغدت الحرب القائمة شؤمًا علينا، ولدُمرت سلنتة قبل أن يتم قيامها على أسسها، وأُبِصرُ بطلًا شابًّا تقوده إلهة الحكمة بيدها، ولا يؤذن لذي فمٍ فانٍ أن يقول أكثر من هذا.»

نطق الكاهن المقرِّب بهذا الكلام، وظهر عَبوسًا متوقد النظر كأن الشرر يتطاير من عينيه، ولاح أنه يرى أمورًا غير التي تبدو أمامه، ويضطرب، ويفقد وعيه، ويزبئر شعره ويزبد فمه، وتجمد ذراعاه المرفوعتان، ويكون صوته المهتز أقوى من أي صوت بشري كان، ويضيق نفَسه، ولا يستطيع أن يحبس في صدره ما يحركه من روح إلهي، ويقول بصوت جهْوري أيضًا: «أَيْ إيدومنه السعيد! ما أرى! يا للمصائب التي اجتُنبت! يا للسلام الهادئ في الداخل! ولكن يا للمعارك في الخارج! يا للانتصارات التي تُنال! أَيْ تلماك! إن مآثرك تفوق مآثر أبيك، فالعدو المتجبر يئن في العجاج تحت حسامك، والأبواب النحاسية والأسوار المنيعة تسقط تحت قدميك، أيتها الإلهة العظيمة، إن أباه جرى منه وله ما جرى: وأنت أيها الشاب لا بُدَّ أن ترى ما ترى.»

ولم تكد هذه الكلمات تخرج منه حتى تلجلج، وساده، على الرغم منه، صمت مع الدهش.

ويجمد جميع الشعب فزعًا، ويرتجف إيدومنه هلعًا، ولا يجرؤ على مطالبته بإتمام ما بدأ، ويدهش تلماك أيضًا، ولا يكاد يدرك ما سمع، ولا يكاد يصدق أنه سمع هذه البشارة العالية، ومنتور وحده هو الذي لم تَحَرْ نفسه الربانية قط، قال منتور لإيدومنه: «أنت تسمع عزم الآلهة، فمهما يكن من القوم الذين تحارب فإن النصر يكون حليفك، وستكون مدينًا في حسن حظ سلاحك للشاب ابن حبيبك، ولا تأخذك منه غيرة، واقتصر على الانتفاع بما يعطيك الآلهة إياه على يده.»

وبما أن إيدومنه لم يُفِقْ من دهشه بعد فإنه كان يحاول التكلم على غير جدوى، فقد ظل لسانه معقودًا، ويكون تلماك أكثر نشاطًا، فيقول لمنتور: «لا أتأثر بمجدٍ موعود، ولكن ما معنى قوله: لا بُدَّ أن ترى …؟ فهل أرى أبي، أو أرى إيتاك فقط؟ آه! ليته أتم كلامه! لقد تركني أشد ارتيابًا مما كنت! أَيْ أوليس، أَيْ والدي! أتكون أنت الذي لا بُدَّ أن أرى؟ أيتحقق هذا؟ ولكنني أعلل نفسي بالأمل! أَيْ هاتفَ الغيب الجافي! أنت تتلذذ بالهزء من بائس! كلمة أخرى تملؤني سعادة!»

واسمع جواب منتور: «احترم ما يكشف عنه الآلهة، ولا تحاول كشف ما يريد الآلهة كتمه، إن كل ذي فضولٍ متهورٍ يستحق أن يُخزى، إن من حكمة الآلهة البالغة اللطف أن يخفوا عن الناس مصايرهم في ليل مدلهمٍّ، إن من المفيد أن نبصر ما يدخل ضمن خيارنا كيما نحسن صنعه، ولكن ليس أقل من هذا فائدةً أن نجهل ما لا خيار لنا فيه وتريد الآلهة أن يصنعوه بنا.»

ويتأثر تلماك بهذا الكلام، ويضبط نفسه على مضض.

ويأخذ إيدومنه، الذي ذهب عنه دهشه، يثني، من ناحيته، على جوبيتر العظيم الذي أرسل إليه الشاب تلماك والحكيم منتور نصرًا له على أعدائه، وتقام وليمة فاخرة بعد تقريب القربان، ويخاطب الغريبين على انفراد بما يأتي: «أعترف بأنني كنت غير عارف بفن الحكم عندما عدت إلى أقريطش بعد حصار تروادة، وأنتما تعرفان، أيها الصديقان، أمر المصائب التي حرمتني الحكم في هذه الجزيرة الكبيرة ما دمتما توكِّدان لي أنكما كنتما فيها بعد خروجي منها، ولكن من حسن حظي أن انتفعت بأقسى ضربات الطالع في تثقيفي وجعلي أكثر اعتدالًا، وأجوب البحار فارًّا من انتقام الآلهة والناس، ولم تنفع عظمتي السابقة إلا لجعل سقوطي أشد خِزيًا وأكثر وِقْرًا، وألجأ مع آلهتي المنزلية إلى هذا الشاطئ المهجور الذي لم أجد فيه من الأرض غير البور المستور بالعوسج والزعرور، وغير الغاب القديمة قِدَمَ العالم، وغير الصخر الوعرة حيث تأوي الوحوش، وأجدني ملزمًا بالاغتباط بحيازة هذه الأرض المقفرة أنا وقليل من الجنود والأصحاب الذين أرادوا اتباعي في مصائبي وبجعلي منها وطني ما دام رجائي قد انقطع من الرجوع إلى تلك الجزيرة السعيدة التي قضى الآلهة بولادتي فيها حتى أملكها، وأقول في نفسي: «آه! يا للتحول! يا لي من مَثَلٍ هائل للملوك! يجب إظهاري عبرةً لجميع ملوك العالم يعتبرون بها! يخيَّل إلى هؤلاء الملوك أنه لا يوجد ما يخشون بسبب ارتقائهم فوق بقية الناس! ماذا؟! إن ارتقاءهم هو الذي يجب أن يحملهم على الخوف! لقد خافني أعدائي، وأحبتني رعيتي، وقدت شعبًا قويًّا محرابًا، وقد ذاع صيتي في أقصى البلدان، وقد حكمت في جزيرة خصيبة جميلة، وقد جعلت لي مائة مدينة خرجًا سنويًّا يؤخذ من ثرواتها، وكان أولئك القوم يعدُّونني ملكًا من ذرية جوبيتر ولد في بلدهم، وكانوا يحبونني مثل حفيدٍ للحكيم مينوس الذي جعلتهم شرائعه بالغي القوة بالغي السعادة، وهل كان يعوزني، لكمال سعادتي، غير معرفتي أن أتمتع مع الاعتدال؟ بيد أن خيلائي وما كنت أسمع من الرثاء دك عرشي، وهكذا سيسقط جميع الملوك الذين يسيرون وأهواءهم ويعملون بآراء ذوي النفاق».»

وكنت في النهار أبذل جهدي لأظهر طليق الوجه كثير الأمل دعمًا لإقدام من اتبعوني، وكنت أقول لهم: «هيا بنا نبنِ مدينةً جديدة نتعزى بها عن كل ما فقدنا، وتحيط بنا شعوب لنا بها قدوة حسنة في هذا السبيل، وها هي ذي ترانت التي تقوم بالقرب منا، وفلنت، مع رجاله من أهل لكدمونية، هو الذي أقام هذه المملكة الجديدة، وفلكتيت هو الذي أطلق اسم بتلية على مدينة عظيمة شادها على الشاطئ نفسه، وأقول مثل هذا عن مستعمرة متابنت، وهل نصنع أقل مما صنع هؤلاء الغرباء الهائمون على وجوههم مثلنا؟ ليس الطالع أقسى علينا.»

وبينا كنت أسعى في تخفيف آلام رفقائي بهذا الكلام كنت أخفى ألمًا قاتلًا في صميم فؤادي، وكان من سلواني أن يتركني نور النهار وأن يكتنفني الليل بظلامه فأكون حرًّا في الرثاء لمصيري البائس، وكان يجري من عيني سيلان من الدموع المرة فلا يعرف النوم سبيلًا إليهما، وكنت أعود إلى أعمالي في الصباح بهمةٍ جديدة، وهذا، يا منتور، هو سبب ما ترى من مشيبي.

ولما فرغ إيدومنه من حديثه عن مشاقه طلب من تلماك ومنتور العون في الحرب التي وقعت، وقد قال لهما: «سأعيدكما إلى إيتاك بعد أن تضع الحرب أوزارها، وسأرسل، في أثناء ذلك، مراكب إلى أقصى السواحل لنيل أخبار عن أوليس، وسأنشله من أية أرض معروفة قذفته زوبعة فيها، فأرجو الآلهة أن يكون باقيًا في قيد الحياة، وأما أنتما فسأرجعكما في أصلح ما صنعته جزيرة أقريطش من المراكب، فهي قد أنشئت من خشب قطِّع فوق جبل إيدا الحقيقي حيث ولد جوبيتر، وليس هذا الخشب مما تهلكه الأمواج، وهو خشب تخشاه الرياح والصخور وتحترمه، حتى إن نبتون، في أتم غضبه، لا يجرؤ أن يثير الأمواج تجاهه؛ ولذا فاطمئنا إلى أنكما ستعودان عودًا سعيدًا، وبلا مشقة، إلى إيتاك، وذلك من غير أن يستطيع أي إله عدو أن يجعلكما تهيمان على وجوهكما في بحار كثيرة، والمسافة قصيرة، والرحلة مريحة؛ ولذا فاصرفا السفينة الفنيقية التي أتت بكما إلى هنا، ولا تفكرا في غير نَيلكما فخر إقامة مملكة إيدومنه الجديدة تلافيًا لمصائبه، وهذا، يا ابن أوليس، ما يقضَى به أنك سر أبيك، وإذا كانت الأقدار القاسية قد قضت بنزول أبيك إلى مملكة بلوتون المظلمة فإن جميع بلاد اليونان المفتتنة ستعتقد أنها تراه فيك.»

وهنا قطع تلماك كلام إيدومنه بقوله: «لنسرِّح السفينة الفنيقية، ولم نتأخر في الهجوم على أعدائك؟ لقد أصبح هؤلاء الأعداء عدوًّا لنا، وإذا كنا قد نصرنا في قتالنا بصقلية من أجل عدو اليونان التروادي، أسست، أفلا نكون أشد حماسةً وأعظم نيلًا لعطف الآلهة إذا ما حاربنا في سبيل أحد الأبطال الذين دمروا مدينة بريام؟ ما كان هاتف الغيب الذي سمعناه ليدع مجالًا للشك في هذا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤