رؤًى للمستقبل
لطالما كانت إحدى وظائف أدب الأطفال تتمثل في إعداد قُرَّائه ليكونوا الجيل التالي من الكبار من خلال تعريفهم على أفكار حول كيفية تنظيم المجتمع من حولهم، وكيف يتلاءم هذا المجتمع مع المنظورات القومية والعالمية، وكيف قد يؤدي دوره في المستقبل. ولهذا السبب، غالبًا ما يشير نقاد أدب الأطفال إليه على أنه أدب التثاقف؛ إذ إنه يُعرِّف القراء على عادات وقيم وأنظمة المجتمعات التي ينشَئُون فيها. ولكن يمكن أن يكون أدب الأطفال كذلك أدب الجدال؛ حيث إنه يقدم رؤًى بديلة، ويوفر نوعية المعلومات والمناهج التي من شأنها أن تثير طرق تفكير جديدة فيما يتعلق بالعالم وكيف يمكن تشكيله بطرق مختلفة، ربما تكون أفضل.
تركز خطط تغيير العالم بشكل عام على المستقبل، ويفترض أن تكون الكتابة عن المستقبل مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأدب الأطفال؛ نظرًا لأن الأطفال لا علاقة لهم بالماضي، وإنما بالنسبة لمعظمهم، فإن الأحداث المهمة والرئيسية في حيواتهم لا تزال تنتظرهم في المستقبل. في الواقع، هناك ميل إلى معاملة فكرة المستقبل في أدب الأطفال بتناقض ملحوظ؛ فبعض أشهر أعمال أدب الأطفال — بما في ذلك «أليس في بلاد العجائب»، و«بيتر بان»، و«ويني الدبدوب» — كثيرًا ما تبدو وكأنها ترثي حاجة الأطفال إلى النمو والانتقال إلى المستقبل. والنتيجة هي رسالة رثائية تكشف أن هذه الأعمال تتمحور حول حنين الكبار إلى الطفولة أكثر مما تركز على تجربة الأطفال مع العالم من حولهم.
وتعتبر مقاومة الدخول في مرحلة النضج واحدة من ضمن الطرق المتعددة التي يتجسد بها التناقض في التعامل مع فكرة المستقبل في أدب الأطفال. وتكشف مقارنة الطرق التي مثَّل بها أدب الأطفال المستقبل على مدار الوقت الكثير تغير المواقف تجاه الصغار وتطلعاتهم للمجتمع. والأمر المثير للاهتمام — وربما للقلق — بصورة خاصة هو طريقة تقديم المستقبل في كتابات الأطفال والشباب على مدار الخمسين سنة الأخيرة. فخلال هذه الفترة، اكتسب الأطفال حقوقًا قانونية أكثر وسلطة إنفاق أكبر من أي وقت مضى، وصارت خطوط الأزياء والتسلية ووسائل الإعلام موجهة إلى الصغار بصورة متزايدة. ومع ذلك، حين يتعلق الأمر بالكتابة عن المستقبل، فإن الأدب الموجه للصغار حاليًّا — خاصةً المراهقين — كثيرًا ما يعمل بطرق من المحتمل أن تُثبِّط من عزائمهم، وكذا يعمل من طرف خفي على إضعافهم. ولكن لم يكن الحال على هذا المنوال دائمًا.
الإشارات إلى الفناء
يمكن رؤية شيوع هذا التقليد وصموده في ثلاثة أمثلة نموذجية، ولْنبدأْ بجزء مقتطف من كتاب جيمس جانواي، «دليل للأطفال» (١٦٧١-١٦٧٢)؛ فأول موت نموذجي يصفه جانواي في الرواية هو موت سارة هولي التي — بعد أن اكتشفت وجود الإله وهي في حوالي الثامنة من عمرها — قضت معظم حياتها القصيرة تتعبد، وفي اللحظات الأخيرة من حياتها، ترى يسوع وتردد قائلة: «إنه رائع الجمال، إنه رائع الجمال، إنه رائع الجمال!» وتلفظ الفتاة أنفاسها الأخيرة ما إن تقر مباهج الجنة قائلة: «يا إلهي! كم أنا سعيدة بأنني ذاهبة إلى النعيم الأبدي! إنني لن أعود مرة أخرى لهذا الكون» (الفقرة ٧). وبالمثل، يشار إلى موت الصغيرة إيفا في رواية «كوخ العم توم» (١٨٥٢) حين «ترتسم على وجهها ابتسامة مشرقة ومتألقة، وتقول في صوت متقطع: «أوه! الحب، السعادة، السكينة!»
وفي حين أن موت إيفا السعيد كان متوقعًا، فإن موت همفري دنكومب الصغير في قصة فلورنس مونتجمري بعنوان «سوء الفهم» (١٨٦٩) يأتي بشكل مفاجئ؛ وذلك لأنه — على عكس الأطفال الآخرين الذين يموتون بالشكل اللائق في روايات الأطفال حتى ذلك الحين — لم يكن واهنًا أو متدينًا، ولم تكن هناك أي إشارات واضحة على أنه سيموت صغيرًا. فيظن والد همفري الذي فقد زوجته مؤخرًا أن ابنه غير مبالٍ بوفاة والدته، في حين أن القارئ يعرف أن عمق مشاعر الطفل يفوق قدرته على التعبير، وهذا هو سوء الفهم الذي يشير إليه العنوان. وحين يصاب همفري إصابة قاتلة وهو ينقذ أخاه الأصغر من الغرق، تتبدى طبيعته النبيلة لوالده. وللتأكيد على طبيعة همفري الخيِّرة، يستخدم مونتجمري كافة تقاليد الميتات الصالحة، وهكذا يحظى همفري أثناء احتضاره برؤية والدته وهي في انتظاره لاصطحابه إلى الجنة.
بالنسبة للأطفال الثلاثة، فإن حقيقة أنهم صغار وأبرياء تعني أن المستقبل قد قُدِّم تقديمًا إيجابيًّا تمامًا. فالجنة هي المكان الذي نلقى فيه الله ويجتمع شملنا بمن نحبهم، حيث تتوقف المشكلات والمعاناة، ونستعيد عافيتنا. أما المستقبل المتوقع للأطفال سيئي الطباع، فبالطبع مختلف تمامًا، وكما هو موضح في الفصل الأول، هناك العديد من الأعمال التي تُحذِّر مثل هؤلاء الأطفال من العذاب المقيم الذي ينتظرهم.
ومع اتجاه المجتمع إلى العلمانية بدرجة أكبر، وانحصار ظاهرة الموت بين الأطفال، بات تصوير ميتات الأطفال الجميلة والسيئة أقل شيوعًا. وفي ذلك الوقت، أدى تكرار تصوير لحظات موت الأطفال بنبرتها المفرطة في العاطفية إلى جعْلها موضوعًا للسخرية في أعمال مشهورة مثل كتاب «بيتر الأشعث» (١٨٤٥، وتُرجمت للإنجليزية في عام ١٨٤٨) للكاتب الألماني هينريش هوفمان، وفي بعض الشعر التحذيري للكاتب هيلاري بيلوك (١٩٠٧). ويدل هذا التحول في النبرة إلى حقيقة أن المستقبل يزداد ارتباطًا بأحداث تقع في عالمنا هذا، وأن مسئولية تحقيق النجاح المستقبلي تقع على عاتق الأفراد والعائلات والأمم وليس الإله. وعلى الرغم من استمرار جزء من النبرة المسيحية في الكتابات الموجهة للأطفال في القرن العشرين، فإنه مع توجه المجتمع إلى العلمانية بصورة أكبر، تراجعت تلك النبرة حتى اختفت بالكامل تقريبًا في وقتنا هذا. ويمكن رؤية تأثير هذا التحول في العلاقة بين الموت والمستقبل بوضوح في عملين حديثين.
تعتبر رواية «المُطارَد» ردًّا حادًّا لوهم الطفولة الدائمة في «بيتر بان». تروي القصة — التي تدور أحداثها في وقتٍ ما من المستقبل، حين تكون الأدوية الطبية فعالة جدًّا لدرجة أن البشر يعيشون إلى سن ٢٠٠ عام أو تزيد، ولكنهم يصابون بالعقم نتيجة ذلك — حكايةَ تارين، وهو أحد الأطفال النادرين لوالدين رفضا تناول أدوية مكافحة الشيخوخة. ويتم تأجير تارين من قِبل الكبار الذين يرغبون في تجربة الشعور بالأمومة والأبوة لساعة أو ساعتين، ولكن عندما يدنو من سن البلوغ، ويوشك أن يفقد جاذبيته، يجد أن عليه اتخاذ القرار بشأن ما إذا كان سيخضع للعملية الجراحية التي يطلقون عليها (بيتر بان)، والتي ستجعله يبدو طفلًا إلى الأبد. ويتجلى الوجه المخيف لهذا المستقبل حين يدخل تارين إلى حانة يتجمع بها كل الذين خضعوا لعملية (بيتر بان)، ويرى كائنات تبدو في الثانية عشرة من العمر على الأكثر يحتسون الخمر، ويسبون، ويشتهون بعضهم بعضًا. لقد حُكِم عليهم أن يكونوا أشخاصًا بالغين في أجساد أطفال مدى الحياة.
لا تتضمن رواية «المُطارَد» أي إشارة إلى الحياة الآخرة، وليس هناك بين شخوص الرواية من يشعر بالأسف على عدم وجودها؛ فهؤلاء الذين يلوح لهم الموت في الأفق أخيرًا يكونون مستعدين لختام حياتهم. في حين يجعل العلم من حلم كبار السن بالشباب الدائم أمرًا ممكنًا، تحث رواية «المطارَد» القراء على التفكر بشأن العلاقات بين الموت والسن والأبدية بطرق مثيرة للاهتمام، وتوضح كذلك إلى أي مدًى حادَ أدب الأطفال المعاصر عن الرؤى المسيحية للمستقبل، والتي شكَّلت ملامحه لأكثر من ثلاثة قرون.
هل نتخلى عن المستقبل؟
إن التحول عن الاعتقاد في المستقبل الذي يتحكم إلهٌ في مقدراته إلى المستقبل الذي يصنعه البشر ويتحكمون فيه قد أشير إليه في إحدى أشهَر رؤى المستقبل في السنوات الأولى من القرن العشرين في أدب الأطفال: رواية «قصة التميمة» (١٩٠٦) للكاتبة إي نيسبيت، وهي قصة حول أربعة إخوة يكتشفون نصف تميمة قديمة في محل خردة. وهكذا ينقلهم هذا الجزء من التميمة إلى مراحل زمنية مختلفة؛ بحثًا عن النصف الآخر منها. وتدور معظم الرواية حول رحلاتهم إلى الماضي، ولكن في المغامرة الأخيرة يذهبون إلى المستقبل، حيث يجدون كل شيء أفضل إلى حدٍّ كبير. ففي المستقبل، الهواء نظيف، وليس هناك فقر، وتم علاج الكثير من الأمراض، وأصبح الأطفال يحبون المدرسة (حيث أصبحت المناهج منطقية ومناسبة)، وأصبحت هناك مساواة بين الجنسين، وصارت الأزياء صحية ومريحة، وأصبحت وسائل النقل نظيفة وسهلة، والأفضل من ذلك أن الناس أصبحوا لا تساورهم أي مخاوف أو قلق، ويستمتعون بالعمل النافع الذي يعود بالفائدة على الجميع. وبعد جولتهم في لندن المستقبل هذه، تتحدث الطفلة الصغرى جين باسم الجميع حين تقول متعجبة: «أتمنى لو أننا نعيش في المستقبل!» ولكن، رأي جين هذا لا يوجد حاليًّا في الكتابات الموجهة للأطفال؛ فجميع الأعمال القصصية تقريبًا تفترض أن الحياة ستصبح أكثر صعوبة وتقييدًا مما هي عليه اليوم. ونظرًا لأن القراء الصغار الذين تُوجَّه إليهم هذه الأعمال القصصية سوف يصبحون بدورهم مسئولين عن إدارة المستقبل القريب؛ فإن الإشارات الضمنية لهذا التحول من التفاؤل والإثارة إلى التشاؤم واليأس جديرة بالتأمل.
كانت نيسبيت تضيف إلى تقليدٍ راسخٍ في الكتابة للأطفال يقدر الأمل والتفاؤل لقدرتيهما على تحفيز القراء، وافترضت أنه إذا ما تم إعداد هؤلاء القراء جيدًا في صغرهم، فإنهم سيتمكنون في كبرهم من تحقيق تغيير اجتماعي إيجابي. وقد سعى العديد من كتب ودوريات الأطفال التي نُشرَت في العقود الأولى من القرن الماضي إلى إثارة اهتمام قرائها بالابتكارات العلمية والتكنولوجية؛ فكان القراء الصغار يشعرون بالإثارة لفكرة السفر فائق السرعة برًّ وجوًّا، وتطلعوا لاختراعات ميكانيكية من شأنها أن تقلل من الكدح وتجعل الحياة أكثر متعةً، وتأملوا احتمال أن تتاح فرصة تجربة خوض المغامرات في الفضاء الخارجي للصغار. وبدءًا من روايات الفانتازيا كأعمال نيسبيت وحتى رواية «أقواس ضد البارونات» (١٩٣٤) للكاتب جيفري تريس — وهي إعادة سرد يسارية لقصة «روبن هود»، والتي تتطلع إلى وقت ما في المستقبل حين «يملك العوام ضِعف ما يملكون الآن، ولن يكون هناك مزيد من الجوع أو الفقر في الأرض — وَعَدَ أدب الأطفال قراءه بأن المستقبل سيكون أفضل بكثير وأكثر إثارة إلى حدٍّ كبير من الحاضر.
بالإضافة إلى الوعد بمستقبل أفضل، عمل أدب الأطفال على خلق جيل قادر على صنع هذا المستقبل. فقد شهدت ثلاثينيات القرن العشرين صدور العديد من المطبوعات للأطفال التي تخبرهم صراحة بأنهم مطالبون بإصلاح العالم الذي سيرثونه، وأنهم لكي يفعلوا هذا عليهم أن يكونوا خبراء اقتصاديين، وعلماء، ومهندسين، وفنانين، ومعماريين، وفلاسفة من الطراز الأول. ويُعد كتاب «مخطط تمهيدي للصبية والفتيات وآبائهم» (١٩٣٢) الذي حررته الكاتبة ناعومي ميتشيسون مثالًا نموذجيًّا على هذه المحاولة. وفي حين أن هذا الكتاب ليس عملًا قصصيًّا بالمعنى الحرفي، فإن هذا الكتاب يتضمن العديد من القطع التأملية التي تدخل في مجال الخيال العلمي والفانتازيا في رؤيتهما للمستقبل. كما أنه يُعد تذكِرةً لحقيقة أن الفن القصصي لم يكن يهيمن على النشر الموجَّه للأطفال إلى الحد الذي عليه الأمر اليوم.
وقد ظهر العديد من الكتب التثقيفية المثيرة للتفكير المماثلة في سنوات ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن بينها رواية «إيدي والغجر» (١٩٣٥، مترجَمة عن النسخة الألمانية التي ظهرت عام ١٩٣٢) للكاتب أليكس ويدينج (الاسم المستعار لجريت وايسكوف). وتدور أحداث هذه القصة التي تتناول صداقات الطفولة بين المجموعات العرقية في حي للطبقة العاملة في برلين، وتتضمن صورًا فوتوغرافية بعدسة جون هارتفيلد (اسمه الحقيقي هيلموت هيرزفيلد، ويُعرَف بصوره المركبة المعادية للفاشية). وعلى غرار رواية «إيدي والغجر»، وتماشيًا مع سياسة التعاون الدولي التي ميزت السياسات والفنون التقدمية في ذلك الوقت، غالبًا ما كانت هذه الكتب تظهر خارج المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
إن اختفاء الكتب التي تهدف إلى صقل مهارات القراء وتحفزهم على الحراك السياسي، إنما يدل على التغيرات التي طرأت على الكيفية التي يطالب بها أدب الأطفال القراء الصغار بالتفكير في أدوارهم ومسئولياتهم في العالم الذي سيمسكون بزمام أمره حين يكبرون. وفي كتاب «ملعب ما بين المجرات» (٢٠٠٩)، تتبع فرح ميندلسون الانتقال من نصوص ما قبل ستينيات القرن العشرين — التي تسعى إلى خلق كفاءة عملية وفكرية لدى قرائها، وتتضمن مناقشات ثرية وتفصيلية لكيفية عمل الأدوات والأفكار — إلى نصوص ما بعد ستينيات القرن العشرين — التي تركز على الذكاء العاطفي، وتتعامل مع الأنواع الأخرى من المعلومات على أنها إما دون المستوى أو مبهمة. ورغم أن ميندلسون تكتب عن الخيال العلمي، فإن النمط الذي تحدده ينطبق كذلك على الأعمال القصصية الشبابية بصورة أعم (فالأعمال الموجهة للصغار أقل تأثرًا بهذا النمط).
مستقبل يملؤه الذعر
لا يعد التغيير الذي طرأ في النصف الثاني من القرن العشرين، من الثقة والإثارة بشأن المستقبل إلى التشاؤم منه، بالأمر المثير للدهشة بعد أن شهد العالم حربين عالميتين، والهولوكوست، وتصنيع الأسلحة الذرية واستخدامها، والقلق العام من التلوث والمبيدات بعد نشر كتاب «الربيع الصامت» (١٩٦٢) لراشيل كارسون. وعلى الرغم من حقيقة أنه وفقًا لمقياس نيسبيت، فإن عقود ما بعد الحرب شهدت تحسنًا هائلًا في الطريقة التي يعيش بها الغرب، بدءًا من منتصف القرن العشرين فصاعدًا، كانت هناك مخاوف شديدة بشأن الكوارث المحتملة المرتبطة بالتحديد بنوعيات الاختراعات التكنولوجية التي نُسب لها من قبلُ الفضل في تحسين أسلوب الحياة. ومن ستينيات إلى ثمانينيات القرن العشرين، كان أدب الأطفال يصوِّر بانتظام سيناريوهات معركة هرمجدون التي خلقتها كوارث الحرب النووية وسيطرة الماكينات على حياة البشر، وتتمثل أبرز الأمثلة على ذلك في رواية «زكريا» (١٩٧٣) للكاتب روبرت سي أوبراين، ورواية «أخي في الأرض» (١٩٨٤)، للكاتب روبرت سويندلز، ورواية «أطفال الغبار» (١٩٨٥) للويس لورانس. ومن حين إلى آخر، تتعرض هذه الرؤية للمعارضة كما هو الحال في ثلاثية بيتر ديكنسون «التغيرات» (١٩٦٨–١٩٧٠).
تدور أحداث رواية ديكنسون في وقت غير محدد من المستقبل، على الرغم من أنه يمكن معذرة القراء لظنهم أن الأحداث تدور في ماضٍ بديل، حيث إن المستقبل الذي تُصوره هذه الثلاثية هو مستقبل رفض التكنولوجيا وعاد إلى أسلوب حياة العصور الوسطى القائم على الزراعة. إن ثلاثية «التغيرات» تنتمي إلى جنس أدبي فرعي يفترض أن عالم المستقبل سوف يرتد بالضرورة إلى طريقة العيش هذه. ومع ذلك، فإن هذا الجنس الأدبي غريب من حيث إن أي جاذبية سطحية قد تنطوي عليها إعادة صياغة المستقبل في صورة الماضي ستتلاشى بإظهار هذا المستقبل في صورة عالم كئيب يسوده القمع والجهل والمحاباة والخوف. ومن خلال إحياء أساليب العيش القديمة في المستقبل، تطالب ثلاثية «التغيرات» بأن يدرك القارئ أن الماضي ليس زمانًا أفضل للعيش فيه، وأن الحياة العصرية بوجه عام في أكثر البلدان تقدمًا أكثر راحة وليبرالية على المستوى السياسي من أي وقت مضى.
لكن ما ينقص ثلاثية ديكنسون هو الإحساس بكيف يمكن تحقيق مستقبل أفضل، وإشارة لما قد يبدو عليه هذا المستقبل. إن هذا الصمت إنما يدل على فقدان ذلك التفاؤل — والذي بدأ مبكرًا في النصف الثاني من القرن المنصرم — والرؤية اللذين كانا فيما سبق يمثلان أساس قصص الأطفال التي تتحدث عن المستقبل. فبدلًا من النهايات السعيدة التي تأتي في شكل تصورات إيجابية محتملة للمستقبل، أصبح القراء الصغار منذ ستينيات القرن العشرين يُمنحون جرعات من التكهنات الكئيبة التي تحمل بين طياتها الكوارث والدمار؛ مما يجعل من الروايات المستقبلية الخاصة بالصغار جزءًا جوهريًّا ومؤثرًا من الجنس الأدبي المسمى ﺑ «المآسي البيئية» الذي أنشأه كلٌّ من الخبيرين الاستراتيجيين البيئيين تيد نوردهاوس ومايكل شيلينبرجر.
في الدراسة التي أجراها نوردهاوس وشيلينبرجر عن الحالة الراهنة للسياسات البيئية، والتي تحمل عنوان «طفرة: من نهاية حماية البيئة إلى سياسات الاحتمال» (٢٠٠٧)، يوضح الكاتبان أن النماذج العلمية والسياسية الحالية «غير ملائمة إطلاقًا لفهم الاحترار العالمي والأزمات البيئية الأخرى والتعامل معها». ومع ذلك، فإنها لا تزال تتحكم في التفكير والسياسات والسلوكيات. ويتعقب الكاتبان التأثير المستمر للنماذج الفكرية والسياسية والاجتماعية عتيقة الطراز على نوعيات القصص التي نرويها عن أنفسنا، والكيفية التي نعيش بها وننظم بها المجتمع من حولنا، وكذلك — بوجه خاص — علاقتنا بالطبيعة. ومن خلال التركيز حصريًّا على الطرق السلبية التي أثر بها الناس على الكوكب، فإن المآسي البيئية — كما يزعمان — «تثير النزعات الجبرية والمحافِظة والبقائية». مثل هذه النصوص لا تتجاهل التقدم فحسب، بل ابتكرت كذلك قصصًا مأساوية بيئية تصر على أن البشر لن يكون لديهم مستقبل إلا إذا رفضوا التطورات الجديدة في العلوم والتكنولوجيا وعادوا إلى أساليب العيش في الماضي. وقد حددت ثلاثية «التغيرات» مشكلات هذا السيناريو، ولكن يبدو أن النسيان قد طوى ما حملته من دروس في الأعمال القصصية الحديثة عن المستقبل الموجهة للصغار.
المستقبل المأسوي للبيئة
هناك مجموعتان من القصص المستقبلية المحبوبة، والتي تتمتع بقاعدة عريضة من القراء من إنتاج العقد الماضي، تجسد الاتجاهات المأسوية البيئية في الكتابة للصغار. تدور أحداث سلسلة «حكايات المدينة الجائعة» (٢٠٠١–٢٠٠٦)، للكاتب فيليب ريف، في المستقبل البعيد، بعد ألف عام من حرب الستين دقيقة التي نُسف فيها العالم الذي نعرفه بأسلحة فتاكة لدرجة أن كوكب الأرض يُدمَّر تمامًا وإلى الأبد. يعيش معظم الناس في مجتمعات حضرية هرمية بالمعنى الحرفي للكلمة؛ حيث يعيش الأغنياء والأقوياء في أعلى المستويات ويتمتعون بهواء نظيف وإمكانية تناول الطعام الطازج ورؤية الخضرة، في حين تعيش الطبقات الأدنى تحتهم في مستويات تزداد ظلمة وبؤسًا. هذه المدن الجديدة تعمل وفقًا لآليات نسخة متطرفة من النظام الرأسمالي تُعرف باسم الداروينية المحلية؛ أي مدن «تأكل» مدنًا أخرى من أجل البقاء، والمهارات التقنية التي نعتبرها اليوم من المسلمات هي محض أساطير. وبالرغم من موروث الكوارث التكنولوجية، فإن البشرية في الديستوبيا التي يصورها فيليب ريف لم تصبح أكثر حكمة — فقد أعيد اكتشاف ونشر عناصر ابتكار الأسلحة نفسها التي دمرت العالم من البداية بنهاية الكتاب الأول. ولكن بنهاية السلسلة، تُفعَّل طريقة بديلة للعيش بعد أن يُقتل عُشر السكان عمدًا ويعاد البقية إلى الطبيعة مرة أخرى.
تُصوِّر رباعية «القبحاء» (٢٠٠٥–٢٠٠٧) للكاتب سكوت ويسترفيلد مستقبلًا يلي ثبوت أنَّ اعتماد البشر على الوقود الحفري غير مستدام، وفيه تقوم مجموعة قوية — ولكنها سرية إلى حدٍّ كبير — بتجريد العامة من حقوقهم. فقد ابتكرت هذه المجموعة طريقة للتحكم في الناس تتضمن جراحة شاملة في سن السادسة عشرة، وذلك — ظاهريًّا — لجعل كل شخص نموذجًا بشريًّا مثاليًّا على المستوى الجسدي، والفائدة المقترنة بصفة «الجمال» هي نمط حياة خالٍ من العمل والحاجة والقلق. ولكن، ما لا يعرفه هؤلاء «الحسان» هو أن الجراحين الذين أجروا لهم الجراحة قد أجروا كذلك تغييرات في أدمغتهم بهدف السيطرة على عقولهم، والتي من شأنها أن تحبسهم في مرحلة النرجسية والاهتمام بالأقران من سن المراهقة، والتي يمثل فيها الخوف من عدم الانتماء والتمتع بالمظهر الجيد في حد ذاته قوةً مؤثرةً للسيطرة على المجتمع وتحقيق الامتثال بتقاليد المجتمع. إن تحديد مرحلة الشباب كأكثر الأوقات فاعلية للتدخل بغرض السيطرة طويلة المدى على المجتمع، وإظهار الشباب في تلك المرحلة كأشخاص يتصفون بالصبيانية، يضع قصة «الحسان» ضمن مجموعة متنامية من روايات المستقبل التي تقدم مجتمعات تستخدم طرقًا متطرفةً للسيطرة على المراهقين وتقلل من أعدادهم. وبغض النظر عن الطريقة التي تُقرأ بها مثل هذه الروايات، فإنها تتوقع أن المستقبل سيكون فترة عصيبة لصغار السن.
قد تكون الصعوبة حافزًا على التغيير والعمل، وفي كلٍّ من «القبحاء» و«حكايات المدينة الجائعة»، تبدأ بعض الشخصيات الشابة في مقاومة السلطات من خلال عدد من أنشطة العصابات، ولكن لم تعرض أيٌّ من السلسلتين رؤية جديدة، سواء أولية أو تأملية، لتحل محل النماذج الفاشلة التي تنتقدها. وبعيدًا عن التفكير الموسع الذي ميز الكتابات عن المستقبل للأطفال في القرن العشرين، تؤكد قصص المآسي البيئية المعاصرة على المشكلات والأخطاء والعواقب في حين تقدم القليل فيما يتعلق بالأفكار والمحفزات للتعامل مع هذه المشكلات. إن المسار السردي لقصص المآسي البيئية الحديثة ينتهي دائمًا بدرس إدراك أخطاء الحياة العصرية والتحول إلى طرق العيش القديمة على الأرض، ويُعاقَب الغالبية العظمى من الناس — حيث يُجبرون على العيش في مستويات مماثلة لأدنى مستويات عالم المستقبل لدى ريف — أو يبادون.
يكرس كلٌّ من نوردهاوس وشيلينبرجر الكثير من الوقت لإظهار أن القصص التي تعيد تخيل شكل المجتمعات تعتبر محورية في جلب التغيير لهذه المجتمعات. فإذا كانا مُحقَّين في هذا الشأن، فإن القصص التي أُلِّفت للصغار الذين سيكون عليهم العيش في المستقبل القريب سوف تلعب دورًا مهمًّا في تحديد الشكل الذي سيكون عليه هذا المستقبل. إن هناك وفرة في القصص التحذيرية من الوضع الذي نعيشه الآن، وبالمثل هناك مخزون وفير من القصص المستقبلية التأديبية التي تعاني فيها البشرية بسبب أخطاء الماضي، ولكن نادرة هي القصص التي ترسم للصغار مستقبلًا يطمحون في الوصول إليه، وتدفعهم إلى التفكير بشأن سبل جعل هذا المستقبل حقيقة.
حكايات جديدة للغد
تبدأ بعض روايات المستقبل الإيجابية الحالمة في الظهور. على سبيل المثال، تُجرِي رواية «اليوميات الكربونية ٢٠١٧» (٢٠١٠) للروائية ساسي لويد بعضَ التعديلات الأولية الهامة على تقاليد قصص المآسي البيئية. هناك حاليًّا نسختان من رواية «اليوميات الكربونية» «كتبتهما» لورا براون، التي تخطُّ ما حدث لحياتها كطالبة جامعية في عام ٢٠١٥، حين غمر الفيضان لندن نتيجة للاحترار العالمي، ونشبت حروب على المياه بين دول الشرق الأوسط، وبدأت الحكومة في التطبيق الصارم لتشريعات قمعية. يعتبر السيناريو مألوفًا في قصص المآسي التقليدية، كما يحتفظ الكتاب بتقاليد أخرى من قصص المآسي البيئية. على سبيل المثال، مع انهيار الاقتصاد ومعه دولة الرفاهية، يهجر الناس المدن زاحفين إلى الريف حيث يمكنهم أن يزرعوا غذاءهم بأنفسهم. ولكن عند هذه النقطة تبدأ رواية «اليوميات الكربونية ٢٠١٧» في مراجعة القصة التحذيرية المألوفة. فبدلًا من أن يعمل كل فرد على النجاة بنفسه والرضوخ للقوى القمعية للدولة، يتجمع الناس في وحدات مبدعة وفعالة وينظمون احتجاجات ناجحة. فهذه القصة لا تتمحور حول البشرية المهزومة الأنانية المنهارة، وإنما حول قدرة البشر على التكيف، والعمل معًا، والاهتمام بشأن مَن هم أكثر بؤسًا. إن تاريخ البشر الطويل في حل المشكلات هو بالضبط ما تم إقصاؤه من الروايات المأساوية البيئية.
إن المجموعات ذاتية التنظيم تعرف أنها لا تستطيع أن تفكر على المستوى المحلي فحسب؛ فهناك مستوًى مسلَّمٌ به من الوعي والدعم العالميَّين يتدفق طوال رواية «اليوميات الكربونية ٢٠١٧». وجزء كبير من هذا الدعم ينظمه الشباب الذين يشكلون دائرة أصدقاء لورا براون؛ مما يعني أنه بدلًا من تصوير المراهقين كمجموعة من الحمقى المهووسين بأنفسهم، تتيح رواية «اليوميات الكربونية ٢٠١٧» للمراهقين أن ينموا في ظل وعي سياسي مع القدرة على التصرف والعمل مع أشخاص من أعمار مختلفة. وكجزء من هذه العملية، يستخدم كلٌّ من نسختي هذه الرواية أشكالًا وصيغًا سردية جديدة تلائم الثقافة الشبابية، حيث تدمج ما بين الرسائل النصية والمحتويات الرقمية الأخرى، وهو ما يعد أمرًا ذا أهمية في حد ذاته. إن القدرة على التواصل عبر مسافات شاسعة تعزز من الإحساس بالتواصل مع ما هو خارج المجموعة المباشرة، ويؤكد على الحاجة إلى العمل الجماعي. تظهر رواية «اليوميات الكربونية ٢٠١٧» ثقافة الالتقاء في العمل، كما يقدم تقديرها للتكنولوجيا عنصرًا آخر يحررها من قالب القصة المأساوية البيئية.
تشير رواية «اليوميات الكربونية» إلى ظهور اهتمام بإعادة وصف ورواية المستقبل بطرق منشطة وتحفيزية بدلًا من تلك الطرق العدمية الاستهجانية. وفي حين أن الكتابين يمثلان نقطة انطلاق قيِّمة، فإن أيًّا منهما لا يفعل الكثير لتطوير الكفاءات الفعلية أو حتى يقترح المهارات التي ستكون لازمة في المستقبل. وعلى هذا الصعيد، بوسع أدب الأطفال القيام بالكثير والكثير.