الفصل الأول
في إثبات أن جوهر النفس مُغاير لجوهر البدن
فنقول: المراد بالنفس ما يُشير إليه كل أحد بقوله «أنا». وقد اختلف أهل العلم في
أن
المشار إليه بهذا اللفظ هو هذا البدن المُشاهد المحسوس أو غيره. أما الأول فقد ظن أكثر
الناس وكثير من المتكلمين أن الإنسان هو هذا البدن. وكل أحد فإنما يُشير إليه بقوله «أنا»،
فهذا ظن فاسد لما سنُبيِّنه. والقائلون بأنه غير هذا البدن المحسوس اختلفوا، فمنهم من
قال
إنه غير جسم، ولا جسماني، بل هو جوهر رُوحاني فاضَ على هذا القالب وأحياه واتخذه آلة
في
اكتساب المعارف والعلوم حتى يستكمل جوهره بها ويَصير عارفًا بربه عالمًا بحقائق معلوماته،
فيستعد بذلك للرجوع إلى حضرته ويصير ملكًا من ملائكته في سعادة لا نهاية لها، وهذا هو
مذهب
الحكماء الإلهيين والعلماء الربانيين. ووافقهم في ذلك جماعة من أرباب الرياضة وأصحاب
المكاشفة؛ فإنهم شاهدوا جواهر أنفسهم عند انسلاخهم عن أبدانهم واتصالهم بالأنوار الإلهية،
ولنا في صحة هذا المذهب من حيث البحث والنظر براهين:
- البرهان الأول: تأمل أيها العاقل في أنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجودًا جميع عمرك، حتى إنك تتذكَّر كثيرًا مما جرى من أحوالك، فأنت إذن ثابت مُستمر لا شك في ذلك، وبدنك وأجزاؤه ليس ثابتًا مستمرًّا بل هو أبدًا في التحلل والانتقاص؛ ولهذا يحتاج الإنسان إلى الغذاء بدلَ ما تحلَّل من بدنه؛ فإن البدن حارٌّ رطب، والحار إذا أثَّر في الرطب تحلَّل جوهر الرطب حتى فنيَ بكليته كما لو يوقد عليه النار دائمًا فإنه ينحلُّ إلى أن لا يبقى منه شيء؛ ولهذا لو حُبس عن الإنسان الغذاء مدة قليلة نزل وانتقص قريبًا من ربع بدنه، فتعلم نفسك أن في مدة عشرين سنة لم يبقَ شيء من أجزاء بدنك، وأنت تعلم بقاء ذاتك في هذه المدة، بل جميع عمرك؛ فذاتك مغايرة لهذا البدن وأجزائه الظاهرة والباطنة؛ فهذا برهان عظيم يَفتح لنا باب الغيب، فإن جوهر النفس غائب عن الحواس والأوهام، فمن تحقَّق عنده هذا البرهان وتصوَّره في نفسه تصوُّرًا حقيقيًّا فقد أدرك ما غاب عن غيره.
- البرهان الثاني: هو أن الإنسان إذا كان مُتَّهمًا في أمر من الأمور فإنه يَستحضِر ذاته، حتى إنه يقول إنِّي فعلت كذا أو فعلت كذا، وفي مثل هذه الحالة يكون غافلًا عن جميع أجزاء بدنه، والمعلوم بالفعل غير ما هو مغفول عنه، فذات الإنسان مُغايرة للبدن.
- البرهان الثالث: هو أن الإنسان يقول: أدركت الشيء الفلاني ببصري فاشتهيته، أو غضبت منه. وكذا يقول: أخذت بيدي ومشيتُ برجلي وتكلَّمت بلساني وسمعتُ بأذني، وتفكرتُ في كذا وتوهمته وتخيَّلتُه. فنحن نعلم بالضرورة أن في الإنسان شيئًا جامعًا يجمع هذه الإدراكات ويجمع هذه الأفعال، ونعلم أيضًا بالضرورة أنه ليس شيء من أجزاء هذا البدن مجمِّعًا لهذه الإدراكات والأفعال، فإنه لا يُبصر بالأذن ولا يسمع بالبصر ولا يَمشي باليد ولا يأخذ بالرجل؛ ففيه شيء مجمِّع لجميع الإدراكات والأفاعيل الإلهية. فإذن الإنسان الذي يُشير إلى نفسه ﺑ «أنا» مغاير لجملة أجزاء البدن، فهو شيء وراء البدن. ثمَّ نقول إن هذا الشيء الذي إنه هوية الإنسان ومُغاير لهذه الجثة لا يُمكن أن يكون جسمًا ولا جسمانيًّا؛ لأنه لو كان كذلك لكان أيضًا منحلًّا سيَّالًا قابلًا للكون والفساد بمنزلة هذا البدن، فلم يكن باقيًا من أول عمره إلى آخره، فهو إذن جوهر فرد روحاني، بل هو نور فائض على هذا القالب المحسوس بسبب استعداده، وهو المزاج الإنساني. وإلى هذا المعنى أُشير في الكتاب الإلهي بقوله: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي؛ فالتسوية هو جعل البدن بالمزاج الإنسي مستعدًّا لأن تتعلَّق به النفس الناطقة، وقوله: مِنْ رُوحِي إضافة لها إلى نفسه لكونها جوهرًا روحانيًّا غير جسم ولا جسماني.
فهذا ما أردنا أن نذكره في هذا الفصل.