في بقاء النفس بعد بوار البدن
اعلم أن الجوهر الذي هو الإنسان في الحقيقة لا يفنى بعد الموت ولا يَبلى بعد المفارقة عن البدن، بل هو باقٍ لبقاء خالقه تعالى؛ وذلك لأن جوهره أقوى من جوهر البدن لأنَّه محرك هذا البدن ومُدبِّره ومتصرِّف فيه، والبدن منفصل عنه تابع له؛ فإذن لم يضرَّ مفارقته عن الأبدان وجوده، إذ البدن موجود باقٍ بعد الموت، فإذن لا يضر وجود النفس، وبقاؤه كان أولى ولأن النفس من مقولة الجوهر، ومقارنته مع البدن من مقولة المُضاف، والإضافة أضعف الأعراض لأنه لا يتم وجودها بموضوعها، بل يحتاج إلى شيء آخر وهو المُضاف إليه؛ فكيف يبطل الجوهر القائم بنفسه ببطلان أضعف الأعراض المحتاج إليه؟ ومثاله أن من يكون مالكًا لشيء متصرِّفًا فيه، فإذا بطل ذلك الشيء لم يبطل المالك ببطلانه؛ ولهذا فإن الإنسان إذا نام بطلَت عنه الحواس والإدراكات وصار مُلقًى كالميت، فالبدن النائم في حالة شبيهة بحال الموتى كما قال رسول الله عليه السلام: «النوم أخو الموت.» ثمَّ إن الإنسان في نومه يرى الأشياء ويسمعها، بل يدرك الغيب في المنامات الصادقة بحيث لا يتيسَّر له في اليقظة، فذلك برهانٌ قاطع على أن جوهر النفس غير محتاج إلى هذا البدن، بل هو يَضعف بمقارنة البدن ويتقوى بتعطُّله، فإذا مات البدن وخرب تخلص جوهر النفس عن جنس البدن، فإذا كان كاملًا بالعلم والحكمة والعمل الصالح انجذب إلى الأنوار الإلهية وأنوار الملائكة والملأ الأعلى انجذاب إبرة إلى جبل عظيم من المغناطيس، وفاضت عليه السكينة وحقَّت له الطمأنينة، فنودي من الملأ الأعلى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي.