في مراتب النفوس في السعادة والشقاوة بعد المفارقة عن الأبدان
اعلم أن النفس الإنسانية لا تخلو عن ثلاثة أقسام؛ لأنها إمَّا أن تكون كاملة في العلم والعمل، وإمَّا أن تكون ناقصة فيهما. وإمَّا أن تكون كاملة في أحدهما ناقصة في الآخر. وهذا القسم الثالث على قسمين؛ لأنها إمَّا أن تكون كاملة في العلم ناقصة في العمل أو بالعكس، فتكون أصناف النفوس بحسب القسمة الأولى ثلاثة كما ورد في القرآن: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، ثمَّ قال: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فنقول أما الكاملون في العلم والعمل، فهم السابقون ولهم الدرجة القصوى في جنات النعيم فيَلتحقون من العوالم الثلاثة بعالم العقول، ويتنزَّهون أن يُقارنوا درنَ الأجسام ونفوس الأفلاك مع جلالة قدرها، فهؤلاء هم السابقون الذين هم في المرتبة العليا. وأصحاب اليمين وهم في المرتبة الوسطى يرتفعون عن عالم الاستحالة، ويتَّصلون بنفوس الأفلاك ويتطهَّرون عن دنس عالم العناصر، ويُشاهدون النعيم الذي خلقه الله تعالى في السماوات من الحور العين، وألوان الأطعمة اللذيذة وألحان الطيور التي تَقصُر أوصاف الواصفين عن ذكرها وشرحها كما قال عليه السلام حكايةً عن ربه: «أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.» فهذه مرتبة المتوسِّطين من الناس. ولا يبعد أن يتمادى أمرهم إلى أن يَستعدُّوا للفوز بوصول الدرجة العليا، فيَنغمسوا في اللذات الحقيقية واصلين إلى السابقين بعد انقضاء دهور تأتي عليهم، فهذه مرتبة أصحاب الشمال وهم النازِلون في المرتبة السُّفلى، المُنغمِسون في بحور الظلمات الطبيعية، المُنتكِسون في قعر الأجرام العنصرية، المُنتحِسُون في دار البوار، وهم الذين دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا.
فهذا شرح أحوال الأرواح البشرية بعد المفارقة عن الأجسام والمهاجَرة إلى دار الآخرة، وقد اتفق على صحتها الوحي الإلهي والآراء الحِكمية كما شرحناه.