الجزء الأول
المأمون يسأل ما هو العشق
أخبَرَنا أبو علي محمد بن الحسين الحازري بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا أبو الفرج المعافى بن زكرياء الجريري، قال: حدَّثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: حدَّثنا أحمد بن يحيى ثعلب، قال: حدَّثنا أبو العالية الشامي، قال: سأل أميرُ المؤمنين المأمونُ يحيى بنَ أكثم عن العشق ما هو؟ فقال: هو سوانحُ تسنح للمرء، فيهتم بها قلبه، وتُؤثِرها نفسُه.
قال: فقال له ثُمامة: اسكُت يا يحيى! إنما عليك أن تُجيب في مسألة طلاق أو في مُحرِمٍ صادَ ظبيًا أو قتَل نملة، فأما هذه فمسائلنا نحن.
فقال له المأمون: قل يا ثُمامة، ما العشق؟
فقال ثُمامة: العشق جليسٌ مُمْتِعٌ، وأليفٌ مؤنس، وصاحب مُلكٍ مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائزة، مَلَكَ الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأُعطي عنان طاعتها، وقَوْدَ تصرُّفها، توارَى عن الأبصار مَدخلُه، وعميَ في القلوب مسلكه.
فقال له المأمون: أحسنتَ والله يا ثمامة! وأمر له بألف دينار.
العشق داء أهل الظُّرف
أخبَرَنا أبو طاهر محمد بن علي العلاف بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان المروَروذي، قال: حدَّثنا جعفر بن محمد الخالدي، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدَّثني علي بن عبد الله القُمِّي، قال: قال لي عبد الله بن جعفر المديني: قلت لأبي زهير المَديني: ما العشق؟ قال: الجنون والذلُّ، وهو داء أهل الظُّرف.
العشق أوله لعبٌ وآخره عطب
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ إن لم يكن حدَّثنا قال: أخبرني أبو الحسن علي بن أيوب القُمِّي الكاتب بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو عُبيد الله محمد بن عمران، قال: أخبرني المظفَّر بن يحيى قال: قال بعض الفلاسفة: لم أرَ حقًّا أشبه بباطلٍ ولا باطلًا أشبه بحقٍّ من العشق؛ هزله جدٌّ وجدُّه هزل، وأوله لعبٌ وآخره عطب.
ذنوب اضطرار
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ بالشام قال: حدَّثنا رضوان بن عمر الدِّينَوَرِي، قال: سمعتُ معروف بن محمد بن معروف الصوفي بالرِّي يقول: سمعتُ أبا بكر الصيني يقول: سمعتُ إبراهيم بن الفضل يقول: سمعتُ يحيى بن معاذ يقول: لو كان إليَّ من الأمر شيءٌ ما عذبتُ العُشاق؛ لأنَّ ذنوبهم ذنوب اضطرار لا ذنوب اختيار.
المجنون الشاعر
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ قال: أخبرنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان قال: حدَّثني أبو علي الحسن بن صالح قال: قال مساور الوراق: قلت لمجنونٍ كان عندنا، وكان شاعِرًا، ويُقال إن عقله ذهب لفقدِ ابنة عمٍّ كانت له، فقلت له يومًا: أجِز هذا البيت:
قال: فقال على المكان:
الجنة لمن عشق وعف
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بدمشق قال: حدَّثنا أبو الحسن علي بن أيوب بن الحسين بن أيوب القُمِّي إملاءً، قال: حدَّثنا أبو عُبيد الله المَرْزُباني وأبو عمرو بن حَيُّوَيْهِ وأبو بكر بن شاذان، قالوا: حدَّثنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي الملقب بنِفْطوَيْهِ، قال: دخلت على محمد بن داود الأصبهاني في مرضِه الذي مات فيه، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: حُبُّ مَن تَعْلم أورَثني ما ترى.
فقلت: ما منَعك عن الاستمتاع به مع القُدرة عليه؟
فقال: الاستمتاع على وجهَين؛ أحدهما النظر المباح. والثاني اللذَّة المحظورة. فأما النظر المباح فأورَثَني ما ترى، وأمَّا اللذة المحظورة فإنه منَعني منها ما حدَّثني أبي قال: حدَّثنا سُوَيْد بن سعيد قال: حدَّثنا عليُّ بن مُسهِر، عن أبي يحيى القتَّات، عن مُجاهدٍ، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من عَشِقَ وكتَمَ وعفَّ وصَبَرَ غَفَر الله له وأدخلَه الجنة.»
ثمَّ أنشَدنا لنفسه:
وأنشدنا لنفسه:
فقلت له: نفَيتَ القياس في الفقه، وأثبتَّه في الشعر. فقال: غلبةُ الهوى وملَكة النفوس دعَتا إليه.
قال: ومات في ليلته أو في اليوم الثاني.
العاشق الشهيد
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ، قال: حدَّثنا أبو الحسن علي بن أيوب القُمِّي، قال: حدَّثنا محمد بن عمران، قال: حدَّثني محمد بن أحمد بن مخزوم، قال: حدَّثني الحسن بن علي الأشناني وأحمد بن محمد بن مسروق، قالا: حدَّثنا سُوَيْد بن سعيد، قال: حدَّثنا علي بن مُسْهِر، عن أبي يحيى القَتَّات، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن عَشِقَ فظَفِر فعفَّ فمات؛ مات شهيدًا.»
سقراط والعشق
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي قال: وأخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، قال: حدَّثنا أبو بكر بن المَرْزُبان، قال: قال سقراط الحكيم: العشقُ جنونٌ، وهو ألوانٌ كما أن الجنون ألوان.
العاشق التقي
أخبرنا الشيخ الصالح أبو طالب محمد بن علي بن الفتح العشاري بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله القطيعي إجازة، قال: حدَّثنا جعفر بن محمد بن نصير الخالدي، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن مسروق، قال: حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: حدَّثنا سُوَيْد بن سعيد أبو محمد، قال: سمعتُ عليَّ بن عاصم يقول: قال لي رجلٌ من أهل الكوفة من بعض إخواني: ألا أريك فَتًى عاشِقًا؟ قال: بلى والله؛ فإني أسمع الناس يُنكِرون العشق وذهاب العقل فيه، وإني لأحب رؤيته، فعِدني يومًا أجئ معك فيه.
قال: فوعدته يومًا، فمضينا، فأنشأ صاحبي يحدِّثني عن نُسكِه وعبادته، وما كان فيه من الاجتهاد، قلتُ: وبِمَن هو متعلق؟ قال: بجارية لبعض أهله؛ كان يَختلِف إليهم، فوقعَت في نفسه، فسألَهم أن يبيعوها منه فأبوا، وبذَل لهم جميع ملكه، وهو سبعمائة دينار، فأبوا عليه ضِرارًا وحَسَدًا أن يكون مثلها في مُلكه، فلما أبوا عليه بعثَت إليه الجارية، وكانت تحبه حُبًّا شديدًا: مُرني بأمرك، فوالله لأُطيعنَّك ولأنتهين إلى أمرك في كل ما أمرتني. فأرسل إليها: عليكِ بطاعة الله عز وجل؛ فإنَّ عليها المُعوَّل والسكون إليها، وبطاعة من يَملك رقَّك؛ فإنها مضمومة إلى طاعة ربك عز وجل، ودَعي الفكر في أمري؛ لعلَّ الله عز وجل أن يجعل لنا فرجًا يومًا من الدهر، فوالله ما كنتُ بالذي تطيبُ نفسي بنَيلِ شيء أحبُّه أبدًا في ملكي، فأمنعه، أمُد يدي إليه حَرامًا بغير ثمن، ولكن أستعين بالله على أمري، فليكن هذا آخر مُرْسَلَك إليَّ، ولا تعودي فإني أكره والله أن يَراني الله تعالى وأنا في قبضته مُلتمسًا أمرًا يَكرهه مني، فعليكِ بتقوى الله، فإنها عصمة لأهل طاعته، وفيها سُلُوٌّ عن معصيته.
قال: ثمَّ لزم الاجتهاد الشديد، ولبس الشَّعر وتوحَّد، فكان لا يدخل منزله إلا من ليلٍ إلى ليلٍ، وهو مع ذلك مشغول القلب بذكرها ما يكاد يُفارقه، فوالله ما زال الأمر به حتى قطعه، فهو الآن ذاهب العقل والِهٌ في منزله.
قال: فالتفتٌّ فإذا أنا بوَردة حمراء مشدودةٍ في عضُده، قال: فقلتُ لصاحبي: ما هذه؟ فوالله ما رأيتُ العامَ وردًا قبل هذه! فقال: أظن فُلانة — وسمَّاها — بعثَت بها إليه. فلمَّا سماها رفع رأسه فنظر إلينا، ثمَّ قال:
قال: ثمَّ أطرق، فقلت: الساعة واللهِ يَموت. قال علي بن عاصم: وَوَرَدَ عليَّ من أمره ما لم أتمالك، وقمتُ أجرُّ ردائي، فوالله ما بلغتُ الباب حتى سمعت الصراخ، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: مات والله! قال عليٌّ: فقلت: والله لا أبرح حتى أشهده. قال: وتسامَع الناس فجاءوا بطبيبٍ فقال: خذوا في أمر صاحبكم، فقد مضى لسبيله، فغسلوه وكفَّنوه ودفنوه، وانصرف الناس.
فقال لي صاحبي: امضِ بنا! فقلتُ: امضِ أنت؛ فإني أريد الجلوس ها هنا ساعة، فمضى، فما زلت أبكي وأعتبر به، وأذكُر أهل محبة الله عز وجل وما هم فيه. قال: فبَينا أنا على ذلك إذا أنا بجارية قد أقبلَت كأنها مَهاة، وهي تُكثِر الالتفات، فقالت لي: يا هذا! أين دُفِن هذا الفتى؟ قال: عليٌّ: فرأيتُ وجهًا ما رأيت قبله مثله، فأومأتُ إلى قبره. قال: فذهبت إليه، فوالله ما تركت على القبر كثير تُرابِ إلا ألقتْه على رأسها، وجعلت تتمرغ فيه حتى ظننتُ أنها ستموت، فما كان بأسرع من أن طلع قومٌ يسعَون حتى جاءُوا إليها، فأخذوها وجعلوا يَضربونها، فقُمت إليهم فقلت: رِفقًا بها، يَرحمكم الله! فقالت: دعهم أيها الرجل يبلغوا هِمَّتهم، فوالله لا انتفعوا بي بعدَه أيامَ حياتي، فليصنعوا بي ما شاءوا.
قال عليٌّ: فإذا هي التي كان يحبُّها الفتى، فانصرفتُ وتركتُها.
رواية ثانية عن العاشق التقي
أنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ قراءةً عليه، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف بن المَرْزُبان إجازةً قال: أخبرني عبد الله بن نصر المروزي قال: أخبرني عبد الله بن سُوَيْد عن أبيه قال: سمعتُ عليَّ بن عاصم يقول: قال لي رجلٌ من أهل الكوفة من بعض إخواني: هل لك في عاشقٍ تراه؟ فمضيتُ معه، فرأيت فتًى كأنما نُزعت الروح من جسده، وهو مؤتزرٌ بإزارٍ ومُرتدٍ بآخر، وإذا هو مُفكِّرٌ، وفي ساعده وردة، فذكرنا له بيتًا من الشعر، فتهيَّج، وقال … وذكر الأبيات المتقدِّمة الخمسة، ثمَّ أطرق، فقلنا: ما شأنه؟ فقالوا: عاشق جارية لبعض أهله، فأعطى بها كل ما يَملك وهو سبعمائة دينار فأبوا أن يبيعوها، فنزل به ما ترى، وفقد عقله.
قال: فخرجنا، فلبثنا ما شاء الله، ثمَّ مات فحضرتُ جنازته، فلما سُوِّيَ عليه إذا أنا بجارية تسأل عن القبر، فدلَلْتُها، فما زالت تبكي وتأخذ التراب فتجعله في شعرها، فبينا هي كذلك إذا قوم يسعَون، فأقبلوا عليها ضربًا، فقالت: شأنكم، والله لا تنتفعون بي بعده أبدًا.
عاتبوه في سفك دمي!
مجنون دير هرقل
فقال: أحسنَ الله عن جميل القول جزاءكما، وتولَّى عني مكافأتكما.
قلنا: وما تصنع في هذا المكان الذي أنتَ لغيره أهل؟ فقال:
ثمَّ التفت إلينا فقال: أحسنتُ؟ قلنا: نعم! ثمَّ ولَّينا. فقال: بأبي أنتُم، ما أسرع ملَلَكم! بالله أعيروني أفهامكم وأذهانكم. قلنا: هاتِ! فقال:
هند المحرَّمة
ومدَّ بها صوته حتى مات.
المجنون الشاعر
أخبَرَنا أبو عليٍّ الحسن بن محمد بن عيسى بقراءتي أو قراءة عليه بمصر، قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن القاسم بن مرزوق قال: أخبرنا إبراهيم بن علي بن إبراهيم البغدادي، قال: حدَّثنا محمد بن يحيى، قال: حدَّثنا أحمد بن إسماعيل، قال: حدَّثني المبرِّد، قال: خرجت أنا وجماعة من أصحابي مع المأمون، فلما قربنا من نحو الرقة فإذا نحن بديرٍ كبير، فأقبل إليَّ بعض أصحابي، فقال: مِلْ بنا إلى هذا الدير لننظُرَ مَن فيه، ونحمدَ الله سبحانه على ما رزقنا من السلامة. فلما دخلنا إلى الدير رأينا مجانين مغلولين، وهم في نهاية القذارة، فإذا منهم شابٌّ عليه بقيَّة ثياب ناعمة، فلما بصُر بنا قال: من أين أنتم يا فِتيان، حيَّاكم الله؟ فقلنا: نحن من العراق. فقال: يا بأبي العِراق وأهلها! بالله أنشدوني، أو أُنشدكم؟ فقال المبرِّد: والله إنَّ الشعر من هذا لَطريفٌ. فقلنا: أنشدنا! فأنشأ يقول:
قال المبرِّد، إن هذا لطريفٌ والله، زدنا! فأنشأ يقول:
فراقيَّة ابن زُرَيْق
وشُغِل عنه الأندلسي أيَّامًا، ثمَّ سأل عنه فخرجوا يطلبونه، فانتهَوا إلى الخان الذي كان فيه وسألوا الحانيَّة عنه، فقالت: إنه كان في هذا البيت، ومذ أمس لم أره. فصعدوا فدفعوا الباب، فإذا بالرجل ميِّتًا، وعند رأسه رُقعة فيها مكتوب:
قال لنا أبو الحسين محمد بن علي بن الجاز، وزادني أبو علي الحسن بن علي المتصوف:
مجنون على الدرب
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في المسجد الحرام بباب الندوة بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا الحسن بن محمد بن حبيب المُذكِّر، قال: سمعتُ أبا الفرج أحمد بن محمد بن بيان النهاوندي يقول: مررتُ بدربِ أبي خلَف، فإذا جماعةٌ وقوفٌ على مجنون، فوقفتُ، فهشَّ إليَّ وقال:
لحم على وَضَم
ولي في نسيب قصيدة مدحتُ بها أحد بني عقيل، رحمه الله، بالشام:
عقربا الصدغين
ولي أيضًا من نسيب قصيدة مدحتُ بها بعض الرؤساء ببغداد:
قبر النديم
فلما انقضى أكلُنا أُتِينا بشرابٍ، فشرِبَ قدحًا وشربتُ آخر، ثمَّ زفَر زفرةً ظننتُ أن أعضاءه قد نُقِضَت، وقال لي: يا أخي! إنَّ لي نديمًا، فقُم بنا إليه! فقُمتُ وتقدَّمني، ودخل مجلِسًا، فإذا قبرٌ عليه ثوبٌ أخضر، وفي البيت رملٌ مصبوبٌ، فقعَد على الرمل، وطرح لي مُصلًّى، فقلت: والله لا قعدتُ إلا كما تقعُدُ، وأقبل يُردِّد العَبَرات ثمَّ شرب كأسًا وشربت، وأنشأ يقول:
ثمَّ أكبَّ على القبر مغشيًّا عليه، فجاءَه غلام بماءٍ فصبَّه على وجهه، فأفاق فشربَ، ثمَّ أنشأ يقول:
ثمَّ قال لي: قد وجَب حقِّي عليك، فاحضر غدًا جنازتي! قلت: يُطيلُ الله عمرك. قال: إنِّي ميتٌ لا محالة. فدعوتُ له بالبقاء، فقال: لقد عققتني؛ ألا قلت:
فانصرفتُ وطالت عليَّ ليلتي، وغدوتُ فإذا هو قد مات.
مريض مطوَّح
فتبعتُ الصبي، وهو لا يشعر بي، فلما حاذاها رفع عَقِيرتَه بالأبيات ينشدها، فسمعت من بعض الأبيات قائلًا يقول:
فرجع بها الصبيُّ إليه، فتبعتُه، فأنشده إياها فسقط مغشيًّا عليه. ثمَّ أفاق بعد لأْيٍ وهو يقول:
حيَّ على البهم
أخبرنا أبو بكر الأردستاني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدَّثنا أحمد بن سعيد، قال: حدَّثنا محمد بن سعيد، قال: حدَّثنا عباس التَّرْقُفِي، قال: حدَّثنا عبد الله بن عمرو، قال: حدَّثنا الحسن بن علي، قال: حدَّثنا أبو غياب البصري عن إبراهيم بن محمد الشافعي، قال: بينا ابن أبي مُليكة يؤذِّن إذ سمعَ الأخضر الجدي يتغنى في دار العاص بن وائل ويقول:
قال: فأسرعَ في الأذان، فأراد أن يقول: حي على الصلاة، فقال: حي على البَهم، حتى سمعه أهل مكة، فجاء يعتذر إليهم.
موت عروة بن حزام
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي ثابت بالشام، قال: أخبرنا أبو الحسين بن رُوح، قال: حدَّثنا المعافى بن زكرياء، قال: حدَّثني علي بن سليمان الأخفش، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، قال: حدَّثني مسعود بن بشر المازني، قال: حدَّثنا العتبيُّ، عن أبيه، عن رجل، عن هشام بن عروة، عن النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري، قال: وُلِّيت صدقاتِ بني عُذَرة، قال: فدُفِعت إلى فتًى تحتَ ثوبٍ، فكشفت عنه، فإذا رجلٌ لم يبقَ منه إلا رأسه، فقلت: ما بك؟ فقال:
ثمَّ تنفَّس حتى ملأ منه الثوبَ الذي كان فيه، ثمَّ خمد، فإذا هو قد مات، فأُصلِحَ من شأنه، وصليتُ عليه، فقيلَ لي: أتدري من هذا؟ هذا عُروة بن حِزام.
ذو الرُّمَّة ورسيس الهوى
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ فيما أذِن لنا في روايته، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ، قال: حدَّثني جعفر بن هارون بن رياب، قال: حدَّثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدَّثنا يزيد بن محمد بن المهلب بن المغيرة المهلبي، قال: حدَّثني عبد الصمد بن المعذل عن أبيه عن جده غيلان بن الحكم، قال: وفَد علينا ذو الرُّمَّة، ونحن بكناسة الكوفة، فأنشدنا قصيدته الحائية، فلما انتهى إلى قوله:
قال له ابن شبرمة: أراه قد بَرَح. ففكَّر ثمَّ قال: لم أجد:
فرجعت بحديثهم إلى أبي الحكم البُحتري، من المختار، فقال: أخطأ ابن شبرمة حين رد عليه، وأخطأ ذو الرُّمَّة حيث قَبِل منه، إنما هذا كقول الله عز وجل: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا؛ أي لم يرها ولم يكد.
موت الصوفي عاشق الغلام
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا أبو صالح السمرقندي الصوفي، قال: حدَّثنا الحسين بن القاسم بن اليسع، قال: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدِّينَوَرِي، قال: حدَّثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط، قال: قال أبو حمزة: رأيتُ مع محمد بن قَطَن الصوفي غلامًا جميلًا، فكانا لا يَفترقان في سفرٍ ولا حضرٍ، فمكثا بذلك زمنًا طويلًا، فمات الغلام، وكمِدَ عليه محمد بن قَطَن، حتى عاد جِلْدًا وعظمًا، فرأيتُه يومًا وقد خرج إلى المقابر فاتبعته، فوقف على قبره قائمًا يبكي وينظر إليه، والسماء تُمطِر بالمطر، فما زال واقفًا من وقت الضُّحى إلى أن غربت الشمس لم يَبرح ولم يَجلس، ويده على خده، فانصرفتُ عنه وهو كذلك واقفٌ، فلما كان من الغد خرجت لأعرف خبره، وما كان من أمره، فصِرت إلى القبر فإذا هو مكبوبٌ لوجهه ميتٌ، فدَعوت من كان بالحضرة فأعانوني على حمله، فغسَّلتُه وكفَّنته في ثيابه ودفنته إلى جانب القبر.
عاشق يخاف معصية الله
وأخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر أيضًا بإسناده قال: قال أبو حمزة: ونظر محمد بن عُبيد الله بن الأشعث الدمشقي، وكان من خيار عباد الله، إلى غلامٍ جميل فغشيَ عليه، فحُمِلَ إلى منزله، واعتاده السُّقم حتى أُقعِدَ من رجليه، فكان لا يقوم عليهما زمنًا طويلًا، فكنا نأتيه ونعودُه، ونسأله عن حاله وأمره، وكان لا يُخبرنا بقصته ولا بسبب مرضه، وكان الناس يتحدَّثون بحديث نظره، فبلَغ ذلك الغلام، فأتاه عائدًا، فهشَّ إليه وتحرَّك وضحك في وجهه، واستبشر برؤيته، فما زال يعودُه حتى قام على رجلَيه وعاد إلى حالته. فسأله الغلام يومًا المصير إليه معه إلى منزله، فأبى أن يفعل، فكلَّمني أن أسأله أن يتحوَّل إليه، فسألته، فأبى، فقلت: وما الذي تكره من ذلك؟ فقال: لستُ بمعصومٍ من البلاء، ولا آمَنُ من الفتنة، وأخاف أن تقع عليَّ من الشيطان محنةٌ أو عند ظَفَر بفرصة، فتجري بيني وبينه معصيةٌ فيَحتجب الله عني يوم تظهرُ فيه الأسرار ويُكشَفُ فيه عن ساقٍ؛ فأكون من الخاسرين.
ليلى العامرية ومجنونها
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ الخزاز قراءة عليه، قال: حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان، قال: حدَّثني قاسم بن الحسن، عن العمري، قال: قال الهيثم بن عدي: حدَّثنا عثمان بن عمارة عن أشياخهم من بني مرة، قال: رحَلَ رجلٌ مِنَّا إلى ناحية الشام مما يلي تيماء والشراة في طلب بُغية له، فإذا هو بخيمة قد رُفِعت له، وقد أصابه مطر، فعدَل إليها، فتنحنح، فإذا امرأة قد كلمته، فقالت له: انزل، فنزل، وراحَت إبلهم وغنمهم، فإذا أمرٌ عظيمٌ وإذا رُعاءٌ كثيرٌ، فقالت لبعض العبيد: سلُوا هذا الرجل من أين أقبل؟ فقلتُ: من ناحية اليمامة ونجد. فقالت: أي بلاد نجد وَطِئتَ؟ قلت: كلها. قالت: بمن نزلتَ هناك؟ قلت: ببني عامر. فتنفَّسَت الصُّعداء وقالت: بأيِّ بني عامر؟ فقلت: بني الحُريش. فاستعبَرَت، ثمَّ قالت: هل سمعتَ بذكر فتًى يُقال له قيس ويُلقَّب بالمجنون؟ فقلتُ: إي والله، ونزلت بأبيه، وأتيتُه حتى نظرت إليه يهيم في تلك الفيافي، ويكون مع الوحش، لا يَعقِل ولا يَفهم، إلا أن تُذكَر له ليلى فيبكي، ويُنشد أشعارًا يقولها فيها.
قال: فرفعَتِ السِّترَ بيني وبينها، فإذا شِقة قمرٍ لم ترَ عيني مثلَها، فبكَت وانتحبَت حتى ظننتُ والله أن قلبها قد انصدع، فقلت لها: أيتها المرأة! اتقي الله، فوالله ما قلتُ بأسًا. فمكثَت طويلًا على تلك الحال من البُكا والنحيب، ثمَّ قالت:
ثمَّ بكت حتى غُشي عليها. فلما أفاقت قلتُ: مَن أنتِ بالله؟ قالت: أنا ليلى المشئومة عليه، غيرُ المساعِدة له. فما رأيتُ مثل حزنها ووَجدِها، فمضَيتُ وتركتُها.
ردُّوا على المشتاق قلبه الجريح
ولي من نسيب قصيدةٍ مدحت بها أمير المؤمنين المقتدي بأمرِ الله:
الرشيد وجارية زلزل
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءةً عليه، قال: حدَّثنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ الخزاز قال: حدَّثنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أبو العباس المروزي، قال: حدَّثني المفضل، قال: حدَّثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه، قال: قال لي زلزلٌ، وكان اسمه منصورًا: عندي جاريةٌ مِن حالها ومن صفتها، قد علَّمتُها الغناء. فكنت أشتهي أن أراها فأستحيي أن أسأله، فلما تُوفيَ زلزلٌ بلغني أن ورثَته يَعرضون الجارية، فصرتُ إليهم فأخرَجوها، فإذا جارية كاد الغَزال أن يكونها لولا ما تمَّ منها ونقص منه. قال: قلتُ لها: غنِّي صوتًا! فجيء بالعود فَوُضِع في حِجرِها، فاندفعت تُغني وتقول وعيناها تذرفان:
ثمَّ شهقَت شهقةً ظننتُ أن نفسها قد خرجت، فركبتُ من ساعتي، فدخلت على أمير المؤمنين فأخبرتُه بخبر الجارية وما سمعت منها، فأمر بإحضارها، فلما دخلت عليه قال لها: غنِّي الصوت الذي غنَّيتِ به إبراهيم! فغنَّت وجعلَت تريد البُكا فيمنعُها إجلال أمير المؤمنين، فرحمها وأُعجِبَ بها، فقال: أتُحبِّين أن أشتريَك؟ فقالت: يا سيِّدي، أما إذا خيَّرتَني فقد وجب نُصحُك عليَّ، والله لا يَشتريني أحدٌ بعد زلزلٍ فيَنتفِع بي. فقال: يا إبراهيم! أتعلم بالعراق جارية جمعَت ما جمَعَت هذه؟ إن وُجِدَت فاشتَرِها بشَطرِ مالي! فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ولا على وجه الأرض. فأمَر بشرائها وأعتَقَها وأجرى عليها رِزقًا.
اطلبوا نفسي
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق بقراءتي عليه، قال: أنشدنا جحظةُ لنفسه:
وجهك أظرف
أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن حسنون الترسي بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو حاتم محمد بن عبد الواحد بن محمد اللبان الرازي، قال: حدَّثنا أبو محمد بيان بن يزداد القُمِّي إجازة، قال: أنشَدَني أحمد بن محمد القُمِّي المؤدِّب:
العيون الدُّعْج
صريع الغواني
أنبأنا أحمد بن علي، قال: حدَّثنا علي بن أيوب، قال: حدَّثنا محمد بن عمران، قال: حدَّثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة بن أبي العباس محمد بن يزيد المبرِّد: أنَّ مُسلِم بن الوليد الأنصاري لما وصَل الرشيد في أول يومٍ لقيه أنشده قصيدته التي يصف فيها الخمر، وأولها:
فاستحسن ما حكاه من وصف الشراب واللهو والغزل، وسماه يومئذٍ صريع الغواني بآخر بيتٍ منها، وهو:
غليل ودموع
أخبرنا أبو بكر الأردستاني بقراءتي عليه في المسجد الحرام بباب الندوة، قال: أخبَرَنا ابن حبيب المُذكِّر، قال: دخلت دار المرضى بنيسابور، فرأيت شابًّا من أبناء النِّعم، يُقال له أبو صادق السكري، مشدودًا وهو يُجلِب ويَصيح، فلما بصُرَ بي قال: أتروي من الشعر شيئًا؟ قلت: نعم! قال: مِنْ شِعر مَنْ؟ قلت: من شعر مَن شِئت. قال: من شعر البُحتري؟ قلت: أي قصيدة تريد؟ فقال:
فأنشدته القصيدة، فقال: أفأُنشدك قصيدة؟ قلت: نعم! فأخذ في إنشاد قصيدته:
حتى بلغ قوله:
فقفز وجعل يرقص في قيده ويَصيح إلى أن سقط مغشيًّا عليه.
عبد الله بن جعفر وجاريته
وجدت بخط أحمد بن محمد بن علي الأنبوسي، ونقلته من أصله، قال: حدَّثنا أبو محمد علي بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدَّثني جدي، قال: حدَّثني عمي، قال: حدَّثني علي بن أبي مريم، قال: حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: حدَّثني بكر بن إسحاق النجلي، قال: حدَّثنا أبو سهل محمد بن عمر الأنصاري عن محمد بن سيرين، قال: نظر عبد الله بن جعفر إلى جارية له كان يُحبُّها حُبًّا شديدًا وهي تلاحظُ مولاه، فسألها: بالله هل تُحبين فُلانًا؟ فقالت: أعيذُك بالله يا سيِّدي! قال فسألها: بالله لا تكتميني ذلك! فسكتَت، فأعتقها ودعاه فزوَّجها إياه. قال: ثمَّ إن نفسه تتبعتها، فدعا مولاه، فقال: أتنزل عنها ولك عشرة آلاف درهم؟ قال: لا والله، ولا مائة ألف درهم. قال: بارك الله لك فيها! قال: فأَعرَضَ عنها. قال: فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا حتى مات مولاه وتزوَّجها ابن جعفر بعد ذلك.
قال ابن حُسين: فذكرت هذا الحديث لأبي ياسين الرَّقي، فحدثني عن بعض أصحابه أن عبد الله بن جعفر لما دخلت عليه أنشأ يقول:
صريعا الحب
أخبرني القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي قراءةً عليه، قال: أخبرنا أبو محمد عُبيد الله بن محمد بن علي الجرادي الكاتب، قال: أخبرنا أبو بكر بن دُرَيْد، قال: أخبرنا عبد الرحمن، عن عمه، عن يونس، قال: انصرفتُ من الحج فمررتُ بماوية، وكان لي فيها صديقٌ من بني عامر بن صعصعة، فصرت إليه مُسلِّمًا، فأنزلني، فبينا أنا عنده، ونحن قاعدان بفنائه، إذا نِساءٌ مُستبشرات، وهن يَقُلن: تكلَّم تكلَّم! فقلتُ: ما هذا؟ فقالوا: فتًى مِنَّا كان يعشق ابنة عمٍّ له، فزُوِّجت، وحُمِلت إلى ناحية الحجاز، فإنه لعلى فراشه منذ حَوْلٍ ما تكلَّم، ولا أكل، إلا أن يؤتى بما يأكله ويشربه. فقلت: أُحبُّ أن أراه. فقام، وقمتُ معه فمشَينا غير بعيد، وإذا بفتًى مُضطجع بفناء بيت من تلك البيوت، لم يبقَ منه إلا خيالٌ، فأكبَّ الشيخ عليه يسأله، وأمه واقفةٌ، فقالت: يا مالك! هذا عمُّك أبو فلان يَعُودُك. ففتح عينيه، وأنشأ يقول:
ثمَّ تنفَّس الصُّعَدَاء فإذا هو ميت، فقام الشيخ، وقمتُ فانصرفت إلى خبائه، فإذا بجارية بضة تبكي وتتفجَّع، فقال الشيخ: ما يبكيك؟ فأنشأت تقول:
ثمَّ انثنت على كبدها، وشهقت، فإذا هي ميتة.
أجساد بغير قلوب
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي قال: أخبرنا أبو محمد بن الجرادي الكاتب، قال: حدَّثنا أبو بكر بن دُرَيْد قال: أنشدنا العُكلي عن أبيه لداود بن سلم التميمي:
السل داء الحب
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي فيما أذِن لنا في روايته، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ الخزاز قال: أخبرنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان إجازةً، قال: حدَّثنا أحمد بن منصور بن سوار، قال: حدَّثنا نوح بن يزيد المعلم، قال: حدَّثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدَّثني محمد بن إسحاق، قال: حدَّثني محمد بن جعفر بن زبير، قال: سمعت رجُلًا من بني عذرة عند عروة بن الزبير يحدثه، فقال عروة: يا هذا، بحقٍّ أقول لكم إنكم أرقُّ الناس قلوبًا. فقال: نعم، والله؛ لقد تركتُ بالحي ثلاثين قد خامرهم السلُّ، وما بهم داءٌ إلا الحب.
مجنون وعليلة
قال: فمضيتُ وسألت عن الدرب والزقاق، فدُللت عليه، فطرقتُ الباب، فخرجت إليَّ عجوزٌ فأبلغتها الرسالة، فدخلت وغابت عني ساعة، ثمَّ خرجت فقالت:
فرجعتُ إلى الفتى فأخبرتُه بالجواب، فشهق شهقة فمات، وعدتُ إلى القوم أخبرهم بذلك، فوجدت الصراخ في الدار وقد ماتت الجارية، أو كما قال.
الحب للحبيب الأول
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن الفضل الأزجي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الهمذاني بمكة في المسجد الحرام، قال: حدَّثنا محمد بن علي بن المأمون، قال: حدَّثنا أبو محمد الرقاقي، قال: خرج أبو حمزة يُشيِّعُ بعض الغزاة، وكان راكِبًا، فسمع قائلًا يقول:
فسقط حتى خَشينا عليه.
دِين الغدر
ولي من قطعةٍ:
سواجع وهواتف
لكني خرجتُ فآواني الليل إلى حيٍّ فخفتُ أن يكونوا من قومها، فبِتُّ في القفر، فلما هدأَتِ الرِّجل إذ قائل يقول:
فتألَّمتُ من ذلك ثمَّ غلبتني عيناي، فإذا آخر يقول:
فزادني ذلك قلقًا، ثمَّ نمتُ، فإذا ثالث يقول:
فقمتُ، فغيَّرت، وركبت مُتنكِّبًا عن الطريق، فلما برَق الفجر إذا راعٍ مع الشروق قد سرَّح غنمه، وهو يتمثَّل:
فأظلمت عليَّ الأرض، فتأمَّلتُه فعرفته، فقلت: فلان؟ قال: فلان. قلت: ما وراءك؟ قال: ضاجعتُ والله رملة الثرى، فما لبثتُ أن سقطتُ عن بعيري، فما أفقت حتى حمِيَت الشمس عليَّ، وقد عقل الغلام ناقتي وقد مضى، فكررتُ إلى أهلي، وأنشأت أقول:
من الحب اليائس إلى التعبد
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن شكر، قال: حدَّثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الهمذاني بمكة، قال: حدَّثنا إبراهيم بن علي، قال: حدَّثنا محمد بن جعفر الكاتب، عن محمد بن الحسن البرجلاني، عن جعفر بن معاذ، قال: أخبرني أحمد بن سعيد العابد، عن أبيه، قال: كان عندنا بالكوفة شابٌّ يتعبَّد مُلازِمًا للمسجد الجامع، لا يكاد يخلو منه، وكان حسَن الوجه، حسَن القامة، حسَن السمت. فنظرَت إليه امرأة ذات جمال وعقل، فشُغِفَت به، وطال ذلك عليها، فلما كان ذات يوم وقفَت له على طريقه وهو يريد المسجد، فقالت له: يا فتى، اسمع مني كلمات أُكلِّمك بها، ثمَّ اعمل ما شئت. فمضى ولم يكلمها، ثمَّ وقفت له بعد ذلك على طريقه، وهو يريد منزله، فقالت له: يا فتى، اسمع كلمات أكلمك بها. فأطرق، فقال لها: هذا موقف تُهمة، وأنا أكره أن أكون للتُّهمة موضِعًا. فقالت له: والله ما وقفتُ موقفي هذا جهالةً مني بأمرك، ولكن معاذ الله أن يتشوَّف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حمَلني على أن لقيتك في هذا الأمر بنفسي معرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثيرٌ، وأنتم معاشر العُبَّاد في مثال القوارير؛ أدنى شيء يَعيبه، وجُملةُ ما أكلمك به أن جوارحي كلها مشغولةٌ بك، فاللهَ اللهَ في أمري وأمرك.
ثمَّ جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت على طريقه، فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله لئلا يراها، فقالت: يا فتى لا ترجع، فلا كان المُلتقى بعد هذا أبدًا إلا بين يدَي الله عز وجل. وبكَت بُكاءً كثيرًا، ثمَّ قالت: أسأل الله عز وجل الذي بيده مفاتيح قلبك أن يُسهِّل ما قد عسِر من أمرك. ثمَّ تبعته فقالت: امنُن عليَّ بموعظة أحملها عنك، وأوصني بوصية أعمل عليها! فقال لها الفتى: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك، وأُذكِّرك قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ.
قال: فأطرقت، وبكت بُكاءً أشدَّ من بُكائها الأول، ثمَّ أفاقت، فقالت:
وذكرت أبياتًا آخرها:
ثمَّ لزمت بيتها، فأخذت بالعبادة. قال: فكانت إذا أجهدها الأمر تدعو بكتابه فتضعه على عينَيها، فيُقال لها: وهل يُغني هذا شيئًا؟ فتقول: وهل لي دواءٌ غيره؟! وكان إذا جَنَّ عليها الليل قامت إلى مِحاربها، فإذا صلَّت قالت:
قال لنا الشيخ أبو القاسم الأزجي رحمه الله: ووجدت في نسخة زيادةً مسموعةً عن الزينبي شيخنا رحمه الله، قال: ثمَّ إن الجارية لم تلبث أن بُليَت ببليَّة في جسمها، فكان الطبيب يقطع من لحمها أرطالًا لأنه قد عرف حديثها مع الفتى، فكان إذا أراد أن يقطع لحمها يُحدِّثها بحديث الفتى، فما كانت تجد لقطع لحمها ألمًا، ولا كانت تتأوَّه، فإذا سكَتَ عن ذكره تأوَّهت. قال: فلم تزل كذلك حتى ماتت كمدًا.
خارب بيته
أخبَرَني القاضي أبو القاسم التَّنُوخِي إجازة، وحدَّثني أحمد بن ثابت الحافظ عنه، قال: أنشَدَني أبو عبد الله بن الحجاج لنفسه:
آه من البَيْن!
وفاء زوجة
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءةً عليه، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، قال: أخبرنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أبو بكر العامري، عن مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: تزوَّج مالك بن عمرو الغساني بابنة عم النُّعمان بن بشير، فشُغف كل واحد منهما بصاحبه، وكان مالك شُجاعًا، فاشترطت عليه أن لا يُقاتِلَ إذا لُقيَ شفقةً عليه وضنًّا به، وإنه غزا حيًّا من لخم، فباشر القتال، فأصابته جراحٌ، فقال وهو مثقلٌ منها:
وإنه مكث يومًا وليلةً ثمَّ مات من جراحه، فلما وصَل خبرُه إلى زوجته بكته سنةً، ثمَّ اعتُقِل لسانُها فامتنعت من الكلام، وكثُر خُطَّابها، فقال عمومتها وولاة أمرها: نُزوِّجها لعل لسانها يَنطلِق ويذهب حزنها، فإنما هي من النساء. فزوَّجوها بعض أبناء الملوك، فساق إليها ألف بعير، فلما كان في الليلة التي أُهديت إليه فيها قامت على باب القبة ثمَّ قالت:
جميل والبنات العذريات
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، قال: حدَّثنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أبو بكر، قال: أخبرنا المدايني، قال: قال هشام بن محمد: سمعت رجلًا من بني عذرة يُحدِّث، قال: لما علق جميل بثينة، وجعل ينسُبُ بها، استعدى عليه أهلُها رِبعيَّ بن دجاجة، وهو يومئذٍ أمير تيماء، قال: فخرج جميلٌ هارِبًا حتى انتهى إلى رجُلٍ من عذرةَ بأقصى بلادهم، وكان سيِّدًا، فاستجار به، وكان للرجل سبع بنات، فلما رأى جميلًا رغب فيه وأراد أن يُزوِّجه ليَسلُوَ عن بثينة، فقال لبناته: البسنَ أحسن ثيابكن وتحلَّين بأحسن حُليِّكُن وتعرَّضن له، فلعلَّ عينه أن تقع على إحداكن فأُزوجه.
قال: وكان جميل إذا أراد الحاجة أبعدَ في المذهب، فإذا أقبل رفعنَ جانب الخباء، فإذا رآهنَّ صرف وجهه. قال: ففعلن ذلك مِرارًا، فعرف جميلٌ ما أراد به الشيخ، فأنشأ يقول:
فقال الشيخ: أرخينَ عليكنَّ الخباء، فوالله لا يفلح هذا أبدًا.
حبذا ذاك الظلم
أنبأنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي، قال: أخبَرَنا الشريف أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون، قال: قُرئ على أبي بكر بن الأنباري، وأنا أسمع، للمؤمَّل:
الظريفة العاشقة
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي في ما أذن لنا أن نرويه عنه، قال: أخبرنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، قال: حدَّثنا محمد بن خلف، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله السرخسي، قال: حدَّثني عباس بن عبيد، قال: كان بالمدينة جاريةٌ ظريفةٌ حاذِقةٌ بالغناء، فهويَتْ فتًى من قُرَيش، فكانت لا تُفارقه ولا يفارقها، فملَّها الفتى وتزايَدت هي في محبته، وأَسِفت، فغارت، فولهت وجعَل مولاها لا يعبأ بذلك، ولا يرقُّ لشكواها، وتفاقم الأمر بها حتى هامت على وجهها، ومزقَّت ثيابها، وضربَت مَن لقيَها، فلما رأى مولاها ذلك عالجها، فلم ينجع فيها العلاج، وكانت تدور بالليل في السكك مع الأدب والظَّرف. قال: فلقيها مولاها ذات يوم في الطريق، ومعه أصحابٌ له، فجعلت تبكي وتقول:
قال: فما بقي أحدٌ إلا رحمها، فقال لها مولاها: يا فُلانة، امضي معنا إلى البيت. فأبت وقالت:
قال: وذكر بعض من رآها ليلةً، وقد لقيَتْها مجنونةٌ أخرى، فقالت لها: فلانةُ! كيف أنتِ! فقالت: كم لا أحب، فكيف أنت من ولهك وحُبك؟ قالت: على ما لم يزل يتزايَد بي على مرِّ الأيام. قالت لها: تَغني بصوتٍ من أصواتك، فإني قريبة الشبه بك. فأخذَت قصبةً توقِّعُ بها وغنَّت:
ثمَّ مضت.
عُليان المجنون
ومضى، فقلت لغلامي: رُدَّه وارفق به! فردَّه، فقلت: زدني! فقال: الذي أعطيتَني لا يساوي أكثر مما أعطيتك. فقلت للغلام: اسقه قَدَحًا، فوقف، فلما شربه قال:
فشُغِلت بخط ما أنشدنيه، ومضى.
عاشق يموت كتمانًا
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد بن العلاف الواعظ، رحمه الله، بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين، قال: حدَّثنا جعفر بن محمد الصوفي، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن مسروق، قال: حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: حدَّثنا زكريا بن إسحاق، قال: سمعتُ مالك بن سعيد يقول: حدَّثني مشيخةٌ من خزاعة أنه كان عندهم بالطائف جاريةٌ مُتعبِّدة ذات يسارٍ وورعٍ، وكانت لها أمٌّ أشد عبادةً منها، وكانت مشهورةً بالعبادة، وكانتا قليلتي المخالطة للناس، وكانت لهما بضاعةٌ مع رجلٍ من أهل الطائف، فكان يُبْضِعُها لهُما، فما رزقهنَّ الله من شيء أتاهن به.
قال: وبعث يومًا ابنه — وكان فتًى جميلًا مُسرِفًا على نفسه — إليهنَّ ببعض حوائجهن، فقرع الباب، فقالت أمها: من هذا؟ قال: أنا ابن فلان. قالت: ادخل! فدخل وابنتها في بيت، ولم تعلم بدخول الفتى، فلما قعد معها خرجَت ابنتها وهي تظن أنها بعض نسائهنَّ حتى جلست بين يديه، فلما نظرت إليه قامت مبادرةً فخرجت، ونظر إليها فإذا هي من أجمل العرب.
قال: ووقع حُبُّها في قلبه، فخرَج من عندها، وما يدري أين يسلُكُ، فأتى أباه، فأخبره برسالتهنَّ، وجعل الفتى ينحل ويذوب جسمه وتغيَّر عما كان عليه، ولزم الوحدة والفكر، وجعل الناس يظنُّون أن الذي به من عبادة قد لزِمها حتى سقط على فراشه.
فلما رآه أبوه على تلك الحال دعا له الأطباء والمعالجين، فجعلوا ينظرون إليه، فكُلٌّ يصف له دواءً ويقول: به داءٌ لا يقوله صاحبه، والفتى مع ذلك ساكت لا يتكلم، حتى إذا طالت علَّته واشتدَّ عليه الأمر دعا أبوه فتيانًا من الحي، وإخوانه الذين كانوا له أُنسًا، فقال لهم: اخلوا به وسلوه عن علَّته لعله يخبركم ببعض ما يجده. فأتوا فكلموه وسألوه، فقال: والله ما بي عِلَّةٌ أعرفها فأُبينها لكم، وأخبركم بما أجد منها، فأقِلُّوا الكلام.
وكان الفتى فطِنًا ذا عقل، فلما طال به الوجد دعا امرأة من بعضِ أهله، فخلا بها، وقال: إنِّي مُلقٍ إليك حديثًا ما ألقيتُه إليك إلا عند الإياس من نفسي، فإن ضمنتِ لي كتمانه أخبرتك، وإلا صبرتُ حتى يحكم الله في أمري ما يُحِب، وبعد؛ فوالله ما أخبرتُ به أحدًا قبلك، ولئن كتمت عليَّ لا أُخبر به أحدًا بعدك، وإن هذا البلاء الذي أرى بي لا شك قاتلي، وإنه يجب عليَّ في محبتي له أن أكون لمن أُحب صائنًا، وعليه مُشفِقًا من تزيُّد الناس وإكثارهم حتى يَصير الصغير كبيرًا، والكبير عندهم الباقي ذكره أبدًا، الله الله في أمري، واجعليه مُحرَزًا في صدرك، فإن فعلتِ فلك حسنُ المكافأة، وإن أبيت فالله يحسن لك الشكر.
فقالت له المرأة: قل يا بني ما بدا لك، فوالله ما أجد في الدنيا أحدًا أحبُّ بقاءه غيرك، وكيف لي أن يكون عندي بعض دوائك، فوالله لأكتمنَّ أمرك ما بقيت أيام الدنيا. فقال لها: إن من قصتي كذا وكذا! فقالت له: يا بني، أفلا أخبرتنا، فوالله ما رأيتُ كلمة أسكن بمجامع القلب فلا تُفارقه أبدًا من كلمة مُحِبٍّ عاشقٍ أخبر مَن يُحبه أنه له وامقٌ، فتلك الكلمة تزرع في قلوب ذوي الألباب شجرًا لا تُدرَك أصوله. فقال لها: ومَن لي بها؟ وكيف السبيل إليها؟ وقد بلغَكِ حالُها وقصتها وشدة اجتهادها وعبادتها؟ قالت له: يا بني، عليَّ أن آتيك بما تُسَرُّ به.
قال: فلبسَت ثوبها وأتت منزل الجارية، فدخلت فسلَّمت على أمها وحادثتها ساعة، فسألتها أمها عن حاله وعن وجعِه، فقالت: والله لقد رأيت الأوجاع والآلام فما رأيت وجعًا قط كوجعه، وإن وجعه يزيد في كل يوم، وألمه يترقَّى، وهو في ذلك صابرٌ غيرُ شاكٍ، لا يَفقِد من جوارحه شيئًا، ولا من عقله. فقالت أمها: أفلا تدعون له الأطباء؟ قالت: بلى، والله فما وقع أحدٌ منهم على دائه ولا يفقه دواءه.
ثمَّ قامت فدخلت على الجارية في بيتها الذي كانت تتعبَّد فيه، فسلَّمت عليها وحادثتها ساعة، وقد كان وقع إلى الجارية خبره، فعلمت أن ذلك من أجلها، فقالت لها المرأة: يا بُنية، أبليتِ شبابك وأفنيت أيامك على هذه الحال التي أنتِ عليها. قالت: يا عمتاه، أيَّةُ حال سوء تريني عليها؟ قالت: لا يا بنية، ولكن مثلك يفرح في الدنيا ويلذُّ فيها ببعض ما أحل الله عز وجل لكِ، غير تاركة لطاعة ربك ولا مفارقة لخدمته، فيجمع الله لك بذلك الدارَين جميعًا، فوالله ما حرَّم الله عز وجل على عباده ما أحل له.
فقالت: يا عمتاه، أو هذه الدار دارُ بقاء لا انقطاع لها ولا فناء فتكون الجوارح قد وثقت بذلك، فتجعل لله تعالى منظر هِمَمِها، وللدنيا شطرها، فتعدَّ الجوارح إذن التعب راحة والكدَّ سلامةً، أم هذه الدار دارُ فناءٍ وتلك دار بقاء ومكافأة، والعمل على حسب ذلك؟
قالت: يا بنية لا! ولكن الدنيا دار فناء وانقطاع، وليست بباقية على أحد ولا دائمة له، ولكن قد جعل الله تعالى لعباده فيها ساعاتٍ صدقة منه على النفوس، تنال فيها ما أحل لها من مخافة الشدة عليها.
قالت: يا بنية، فأنا مخبرتك به، والذي منعني من إلقائه إليك هيبتُك، فأمَّا إذا بسطتني وعلمت أن عندي خيرًا وأمرتني بإلقائه، فإن من قصة فلان كذا وكذا.
قالت: قد ظننت ذلك، فأبلغيه مني السلام، وقولي: أي أخاه! إنِّي والله قد وهبت نفسي لمليكٍ يُكافئ من أقرضه بالعطايا الجزيلة، ويُعينُ من انقطع إليه وخدمه بالهمم الرفيعة، وليس إلى الرجوع بعد الهبة سبيلٌ، فتوسَّل إلى مولاك ومولاي بمحابِّه، واضرع إليه في غفران ما قدَّمَت يداك من عمل لم يَهبه فيه ولم يَرضه، فهو أول ما يجبُ عليك أن تسأله، وأول ما يجب عليَّ أن أعظك به، فإذا خدمتَه بقدرِ ما عصيته طاب لك الفراغ من سؤال شهوات القلوب وخطرات الصدور، فإنه لا يَحسُن بعبد كان لمولاه عاصيًا وعن أمره مولِّيًا ناسيًا أن ينسى ذنوبه والاعتذار منها، ويُلزم نفسه مسألة الحوائج لعلها داعيةٌ له إلى الفتنة إن لم يتداركه الله تعالى بكرمه، فاستنقذ نفسك يا أخي من مهلكات الذنوب، فإن له فضلًا وَسِعَ كل شيء، ولستُ مؤيستَكَ من فضله إن رآك مُتبَتِّلًا إليه، ومما قدمت يداك مُعتذِرًا أن يمنَّ بي عليك، فإن الملك الذي يجود على من ولَّى عنه بكرمه، فكيف من أقبل إليه، فلا يشك أنه إذا جاد على من تولى عنه يكون لمن أطاعه مُكرِمًا، وإليه وقت الندامة مُسرِعًا، وما أبقيتُ لك حُجة تحتجُّ بها، فليكن ما أخبرتك به نصب عينك ولا تُرادِّني في المسألة، فلا أجيبك والسلام.
قال: فقامت المرأة من عندها، فأتته، فأخبرته بمقالتها. قال: فبكى بُكاءً شديدًا، فقالت له العجوز: والله يا بني ما رأيت امرأةً خوفُ الله عز وجل في صدرها مثل هذه المرأة، فاعمل بما أمرَتْك به، فقد والله بالغَت في النصيحة وأحسنت الموعظة، فلا تُلقِ نفسك في مهلكات الأمور فتندم حيث لا تُغني الندامة، ولو علمتَ يا بني أن حيلة تنفُذُ غير الذي دعتك إليها لاحتلتُها، ولكان عندي من ذلك ما أرجو أن أكون محتالةً، ولكني رأيت الله عز وجل قد جعلَتْه نُصب عينَيها، فهي بقلبها إليه ناظرة، ومن جعل الله عز وجل نصب عينيه لها عن زينة الحياة الدنيا ورِفعتها واشتغل بما قد جعله نصب عينيه.
وجعل يبكي ويقول: كيف لي بالبلوغ إلى ما دعت إليه، ومتى يكون آخر المدة التي نلتقي فيها؟ قال: فاشتد وجعُه ذلك، وحال عن ذوي العقول، فلما نظر القوم إليه في تلك الحال، وجعل لا يُقرُّه قرار، حبسوه في بيت وأوثقوه، وتوهم القوم أن الذي به من عشق، فكان ربما أفلَتَ، فيخرُج من منزله فيجتمع عليه الصبيان فيقولون له: مُت عشقًا، مُت عشقًا! فكان يقول:
فلما صح ذلك عند أهله، وعلموا أنه عاشق، جعلوا يسألونه عن أمره، فكان لا يُجيبهم، وكتمت العجوز قصته، فأخذوه فحبسوه في بيت، فلم يزل فيه حتى مات رحمه الله.
جفني كأس ودمعي الراح
ولي من أبيات من أثناء قصيدة:
رأي سقراط في العشق
أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي علي، قال: أخبرنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، قال: حدَّثنا أبو بكر بن المَرْزُبان، قال: قال سُقراط: العشق جنون، وهو ألوان كما أن الجنون ألوان.
لا أنت تدري بي ولا أدري
أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي، قال: أنشدنا أبو عمر محمد بن العباس، قال: أنشدنا أبو عبد الله بن عرفة لبعضهم:
شكوى المحبين
ولي ابتداءُ قصيدة كتبتُ بها من دمشق إلى الشيخ الفقير أبي الحسن مروان بن عثمان النحوي الإسكندراني، وهو بصور:
مجنون المربد
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن إجازة، قال: أخبرنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، قال: حدَّثنا أبو بكر بن خلف، قال: حدَّثني محمد بن الفضل، قال: حدَّثني بعض أهل الأدب عن محمد بن أبي نصر الأزدي، قال: رأيتُ بالبصرة مجنونًا قاعدًا على ظهر الطريق بالمربد، فكلَّما مر به راكب قال:
قال: فسألت عنه، فقيل: هذا رجلٌ من أهل البصرة، كانت له ابنةُ عم، وكان يحبها، فتزوجها رجلٌ من أهل الطائف فنقلها، فتولَّه عليها.
إبراهيم بن المهدي والشعر
كتب إليَّ أبو غالب بن بشران من واسط قال: أخبرنا ابن دينار، قال: أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني، قال: حدَّثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدَّثني الحسين بن إسحاق، قال: حدَّثني خالد قال: لما بُويَع لإبراهيم بن المهدي بالخلافة طلبَني، وقد كان يعرفني، وقد كنتُ متَّصِلًا ببعض أسبابه، فأُدخلتُ إليه، فقال: أنشدني يا خالدُ شيئًا من شعرك! فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس من الشعر الذي قال فيه رسول الله ﷺ: «إن من الشِّعر لحِكَمًا»، وإنما أمزح وأَهزل. قال: لا تقل هذا! هاتِ أنشدني. فأنشدته:
قال: فاستملح ذلك ووصلني.
راكب القصبة
أخبرنا أبو غالب بن بشران في ما كتب به إلينا، قال: أخبرنا ابن دينار قال: أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني، قال: حدَّثني حمزة بن أبي سلالة الشاعر، قال: دخلت بغداد في بعض السنين، فبينا أنا مارٌّ في الجنينة إذا أنا برجلٍ عليه مُبطنةٌ نظيفةٌ، وعلى رأسه قلنسوةٌ سوداءُ، وهو راكبٌ قصبةً والصبيان يصيحون خلفه: يا خالد، يا بارد! فإذا أذوه حمل بالقصبة عليهم، فلم أزل أَطردُهم عنه حتى تفرَّقوا، وأدخلته بُستانًا هُناك، فجلس واستراح، واشتريتُ له رُطبًا فأكل. واستنشدته فأنشدني:
فاستزدته، فقال: ولا حرف.
الأمين وحبه للشعر
وإذا على العود مكتوبٌ:
قال: وبين أيديهما صينيةُ ذهبٍ. قال: وإذا على الصينية مكتوبٌ:
وإذا على المَغسلِ مكتوب:
قال: فملأ الكأس وأعطاني، وإذا على الكأس مكتوب:
قال: وإذا على الأترُجة مكتوب:
هوى الملاح بلاء
ولي من غزل قصيدة مدحت بها أحد بني منقذ:
ولي أيضًا ابتداء قصيدة:
حجر من أرض لوط
فاسق لم يغفر له
أخبرنا أبو الحسين محمد بن عثمان بن مكي بقراءتي عليه بمصر، قال: أخبرنا جدي أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن أحد بن زريق، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشا المقري، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن الحكم يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: خرجت حاجًّا إلى مكة، فلما كان ليلة عرفات رأى الإمام الذي حجَّ بنا تلك الليلة بمِنًى منامًا، فلما صرنا بعد الحج إلى مكة بعد انقضاء الحج بِتنا تلك الليالي في المسجد الحرام، والخلائق جلوسٌ؛ إذ سمعنا مناديًا ينادي فوق الحجر: أنصتوا يا معشر أهل الحجيج. فأنصتوا، ثمَّ قال: يا معشر أهل الحجيج، إن إمامكم رأى أن الله عز وجل قد غفر لكل من وافى العام البيت إلا رجلًا واحدًا فإنه فسق بغلام.
امرأة صاحب المسحاة والملك
يقتل جاريته بريبة
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي قال: حدَّثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، قال: حدَّثنا الحسين بن القاسم، قال: حدَّثنا عُبيد الله بن خرداذبة، قال: أخبرني موسى بن المأمون، قال: كان فرُّوح الزنَّاء يعشق جارية بالمدينة يُقال لها رهبة، ثمَّ اشتراها، فقال:
قال: ثمَّ عثر على ريبةٍ بينها وبين جاريةٍ له، فقتَلها، فقال ابن الخياط المديني:
قتيل لا يُودى
يقتلها ويبكي عليها
قال: وزادني غير أبي عبد الله، وكان لها أختٌ شاعرة، فقالت تجيبه:
ظبيات لهن أسرى وقتلى
ولي ابتداء قصيدة:
إهدار دم الفاسق
عمر وابنة الشيخ الأنصاري
أخبرنا أبو طاهر بن السواق، قال: حدَّثنا محمد بن فارس، قال: حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، قال: حدَّثنا محمد بن خلف، قال: حدَّثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: حدَّثنا عبد الله بن صالح، قال: حدَّثني الليث، قال: قال عمرُ بن الخطاب: لا أهدر دمَ أحدٍ من المسلمين. وإنه أُتي يومًا بفتًى أمرد قد وُجِد قتيلًا مُلقًى على وجه الطريق، فسأل عُمر عن أمره واجتهد فلم يقف له على خبر ولم يُعرف له قاتل، فشقَّ ذلك عليه، وقال: اللهم أظفرني بقاتله، حتى إذا كان رأس الحول أو قريبًا من ذلك وُجد صبيٌّ مولودٌ ملقًى بموضع القتيل، فأُتي به عمر رحمة الله عليه، فقال: ظفرت بدم المقتول إن شاء الله، فدفَع الصبيَّ إلى امرأة وقال لها: قومي بشأنه وخذي مِنَّا نفقتَه، وانظري من يأخذه منك، فإذا وجدت امرأة تُقبِّله وتضمُّه إلى صدرها فأعلميني بمكانها.
فلما شب الصبي وطاب جاءت جاريةٌ فقالت للمرأة: إن سيِّدتي بعثتني إليك لتبعثي بالصبي لتراه وتردَّه إليك. قالت: نعم، اذهبي به إليها وأنا معك. فذهبت بالصبي والمرأة معها حتى دخلت على سيدتها، فلما رأتْه أخذته فقبَّلته وضمَّته إليها، وإذا هي بنت شيخٍ من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرت عمر خبر المرأة، فاشتمل عمر على سيفه، ثمَّ أقبل إلى منزلها، فوجد أباها مُتَّكِئًا على باب داره، فقال: يا أبا فلان! ما فعلَتِ ابنتُك فلانة؟ قال: يا أمير المؤمنين، جزاها الله خيرًا، هي مِن أعرف الناس بحق الله تعالى وحقِّ أبيها مع حسن صلاتها وصيامها والقيام بدينها. فقال عمر: قد أحببت أن أدخل عليها فأزيدها رغبةً في الخير وأحثَّها على ذلك. فقال الشيخ: جزاك الله خيرًا يا أمير المؤمنين! فقال له: امكث مكانك حتى أرجع إليك.
فاستأذن عمر عليها، فلما دخل أمر عمرُ كل من كان عنده بالخروج فخرجوا عنها، وبقيت هي وعمر في البيت ليس معهما أحدٌ، فكشَف عمر عن السيف فقال: لتصدقني. وكان عمر لا يكذب. فقالت: على رسلك يا أمير المؤمنين، على الخبير وقعت، فوالله لأصدقنَّ. إن عجوزًا كانت تدخل عليَّ، فاتَّخذتُها أمًّا، وكانت تقوم من أمري بما تقوم به الوالدة، وكنت لها بمنزلة البنت، فأمضَت بذلك حينًا، ثمَّ إنها قالت: يا بُنية، إنه قد عرض لي سفرٌ، ولي بنتٌ في موضعٍ أتخوَّف عليها فيه أن تضيع، وقد أحببت أن أضمَّها إليك حتى أرجع من سفري، فعمدَت إلى ابنٍ — كان لها — شاب أمرد فهيَّأته كهيأة الجارية وأتتني به، وأنا لا أشك أنه جاريةٌ، فكان يرى مني ما ترى الجارية من الجارية، حتى اغتفَلَني يومًا وأنا نائمة، فما شعرت حتى علاني وخالطني، فمددتُ يدي إلى شفرةٍ كانت إلى جنبي فقتلته، ثمَّ أمرت به فأُلقي حيث رأيت، فاشتملت منه على هذا الصبي، فلما وضعته ألقيتُه في موضع أبيه، فهذا والله خبرهما على ما أعلمتك.
فقال لها عمر رحمة الله عليه: صدقتِ بارك الله فيك! ثمَّ أوصاها ووعظها ودعا لها، وخرج من عندها، وقال لأبيها: بارك الله في ابنتك؛ فنعم الابنة ابنتك، وقد وعظتُها وأمرتها. فقال له الشيخ: وصلَكَ الله يا أمير المؤمنين، وجزاك خيرًا عن رعيتك!
سوسن العابدة ومُراوداها
قال أبو بكر: وفي خبرٍ آخر أنها وقفت لتُرجَم، فنزل الوحي على دانيال وهو ابن سبع سنين.
يخون الغازي فيُقتل
قال: فدخل عليه فقتله، ثمَّ رمى به، فلما أصبح أُخبر عمر بذلك، فقام يخطب الناس، فقال: أنشد الله رجلًا، وأعزمُ على مَن علم مِن هذا الرجل علمًا إلا أخبرنا به. فقام الرجل فأخبره بما رأى وبما سمع، فقال عمر: اقتُل! قال: فعلتُ يا أمير المؤمنين.
ما أذنبتُ إلا ذنب صحر
الحسناء المهجورة
وجعلَت تُردد هذه الأبيات وتبكي، فقمت إليها فقلت: بنفسي أنت، مع هذا الوجه يمتنع عليك من تريدينه؟ قالت: نعم والله، وفي قلبه أكثر مما في قلبي. فقلت: إلى كم هذا البكاء؟ قالت: أبدًا أو يصير الدمع دمًا وتتلف نفسي غمًّا. فقلت لها: إن هذا لآخر ليلة من ليالي الحج، فلو سألتِ الله التوبة مما أنت فيه، رجوتُ أن يُذهِب حبَّه من قلبك. فقالت: يا هذا عليك بنفسك في طلب رغبتك، فإني قد قدَّمت رغبتي إلى من ليس يجهل بُغيتي. وحولت وجهها عني، وأقبلَت على بكائها وشعرها، ولم يعمل فيها قولي وعظتي.
إنما يرحم الصحيح السقيما
أنشدنا أبو محمد الجوهري، قال: أنشدنا ابن حَيُّوَيْهِ، قال: أنشدنا عُبيد الله بن احمد، قال: أنشدني أبي لخالد الكاتب:
يخصي المغنِّي
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي ثابت الحافظ، قال: حدَّثنا أبو نعيم الحافظ الأصبهاني بها، قال: حدَّثنا سليمان الطبراني، قال: حدَّثنا محمد بن جعفر بن أعين، قال: حدَّثنا علي بن حرب المؤمَّلي عن عامر بن الكلبي عن حماد الراوية، قال: حدَّثني بعض خدم سليمان بن عبد الرحمن، قال: خرَج سليمان بن عبد الملك يريد بيت المقدس، وكان أغيَرَ قُريش وأسرع طيرةً، فنزل منزلًا من غور البلقاء بديرٍ لبعض الرهبان، فحفَّ بالدير أهل العسكر، وكان في من خرج معه رجلٌ من كلب يُقال له سِنانٌ، وكان فارسًا ومُغنِّيًا مُحسِنًا، وشُجاعًا، وبغيرة سليمان بن عبد الملك عارِفًا، ولم يكُ يُسمع له صوتٌ في عسكره، فزاره في تلك الليلة فتيةٌ من أهله، فعشَّاهم وسقاهم، فأخذ فيهم الشراب، فقالوا: يا سنان! ما أكرمتنا بشيء إن لم تُسمعنا صوتك. فترنَّم فغنَّاهم، فقال:
فلما سمع سليمان الصوت قام مفزعًا يتفهَّم ما سمع، وكان معه جاريته عوان، ولم يكن لها نظيرٌ في زمانها في الجمال والتمام والحذق بالغناء، وكان يُحبها، فلما فهم الصوت ارتعدت فرائصه غيرةً، ثمَّ أقبل نحو عوان وهي خلف سِتر، فكشَف الستر رويدًا لينظر أنائمة هي أم مُستيقظة، فوجدها مستيقظة، وهي صفة الأبيات: عليها مُعصفَرة، وحليها على لباتها، فلما أحسَّت به وعلمت بأنه قد علم بأنها مستيقظة قالت: يا أمير المؤمنين! قاتل الله الشاعر حيث يقول:
فسكَن مِن غضبه قليلًا، ثمَّ قال لها: فقد راعك صوته على ذلك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، صادف مني استيقاظًا. فقال: ويحك يا عوان! كأنه والله يراكِ ويَنعتُك في غنائه في هذه الليلة، والله لأقطعنه أطباقًا كائنًا ما كان. ثمَّ بعث في طلبه، فبعثت عوانُ خادِمًا إليه سِرًّا، وقالت له: إن أدركته فحذَّرته، فأنت حرٌّ ولك ديته. فخرج سليمان حتى وقف على باب الدير، فسبقت رُسلُ سليمان، فأتوا به إلى سليمان مربوطًا حتى وقفوا بين يديه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا سنان الكلبي فارسُك يا أمير المؤمنين. فأنشأ سليمان يقول:
فقال سنان: يا أمير المؤمنين:
تقتل حفاظًا على عرضها
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس، قال: حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، قال: حدَّثنا محمد بن خلف، قال: حدَّثني إسحاق بن محمد، قال: حدَّثنا محمد بن زياد الأعرابي، قال: نزل رجلٌ من العرب بامرأة من باهلة، وليس عندها زوجُها، فأكرمته وفرشته، فلما لم يرَ عندها أحدًا سامَها نفسها، فلما خشيَتْه قالت له: امكث أستَصلِح لك، ثمَّ راحت فأخذَت مُديَة فأخفَتْها ثمَّ أقبلت إليه، فلما رآها ثار إليها فضربت بها في نحره، فلمَّا رأت الدم سقطَت مغشيًّا عليها وسقط هو ميِّتًا، فأتاها آتٍ من أهلها، فوجَدها على تلك الحال، فأجلسها حتى أفاقت، فقال: أعشى باهلة في ذلك:
هل يأتيكم نفسي؟
وأنشد لخالد الكاتب:
المرأة الفاجرة والحية
فلقد سمعتُ شيئًا ظننتُ أن الجبال التي حولنا تَنطِق معه شجا صوتٍ وطيب غناءٍ. وقال لي: أتحبُّ أن نزيدك؟ فقلت: إي والله. فقال له: هذا ضيفُك وضيفنا، وقد رغب إليك وإلينا، فأَسعِفه بما يريد. فاندفع يُغني بشعر مجنون بني عامر:
فما عقلتُ بما غنى من حسنه، إلا بقول صاحبي: نجورُ عليك يا أبا يزيد، عرَّض بأني لما وليتُ الحكم عليه جُرتُ في سؤالي إياه أكثر من صوت. فقلت له بعد ساعة سِرًّا: جُعلتُ فداءك، إنِّي أريد المضيَّ في أصحابي نُريد الرحلة، وقد أبطأتُ عليهم، فإن رأيت أن تسأله حاطَه الله من السوء والمكروه أن يَزيدني لحنًا واحدًا، فقال: يا أبا يزيد! أتعلم ما هو أشهى إلى ضيفنا؟ قال: نعم، أرادك على أن تُكلمني في أن أُغنيه. قلت: فهو والله ذاك. فاندفع يغني:
فقال له: قد أخذنا العفو منك، واستدَمنا مودَّتك. ثمَّ أقبل علينا، فقال: ألا أحدثكم بحديثٍ حسنٍ؟ قلنا: بلى! فقال: قال شيخٌ من أهل العلم وبقُبة الناس وصاحب علي بن أبي طالب، وخليفة عبد الله بن عباس على البصرة، أبو الأسود الدؤلي لابنته ليلة البناء: أي بنية! النساء كنَّ بوصيتك وتأديبك أحقَّ مني، ولكن لا بدَّ مما لا بدَّ منه. يا بنية، إن أطيب الطيب الماء، وأحسنَ الحسنِ الدهن، وأحلى الحلاوة الكحل.
يا بنية، لا تُكثري مباشرة زوجك فيَملَّك، ولا تَتباعَدي عنه فيجفوَكِ ويعتلَّ عليك، وكوني كما قلتُ لأمك:
أبو نواس والغلام عند الحجر الأسود
وجدتُ بخط محمد بن نصر بن أحمد بن مالك يقول: حدَّثنا أبو بكر محمد بن الفضل بن قديد بن أفلح البزاز، قال: حدَّثنا أبو الحسن بكر بن أحمد بن الفرج بن عبد الرحيم بكازرون، قال: حدَّثنا عباد قال: قال الأصمعي: كنتُ مع أبي نواس بمكة، فإذا أنا بغلام أمرَد يستلم الحجر، فقال أبو نواس: والله لا أبرَحُ حتى أُقبِّله عند الحجر. فقلتُ: ويلك! اتق الله عز وجل، فإنك في بلد الله الحرام وعند بيته. فقال: ما منه بُدٌّ. ثمَّ دنا من الحجر، وجاء الغلام يستلمه، فبادر أبو نواس، فوضع خده على خد الغلام وقبَّله والله وأنا أرى، فقلت: ويلك لقد ارتكبتَ أمرًا عظيمًا في حرم الله تعالى. فقال: دع ذاك عنك، فإن ربي رحيم. ثمَّ أنشأ يقول:
الزاغ الشاعر العاشق
ثمَّ قال: يا كهل، أنشدني شعرًا غزلًا! فقال لي يحيى: قد أنشدَك الزاغ، فأَنشِده. فأنشدته:
فصاح: زاغ زاغ زاغ، وطار، ثمَّ سقط في القمطرة. فقلتُ ليحيى: أعزَّ الله القاضي، وعاشقٌ أيضًا! فضحك. قلت: أيها القاضي! ما هذا؟ قال: هو ما تراه، وجَّه به صاحب اليمن إلى أمير المؤمنين، وما رآه بعد، وكتَب كتابًا لم أفضَضْه، وأظن أنه ذكر في الكتاب شأنه وحاله.
الزاغ في رواية أخرى
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق، قال: أخبرنا الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد بن المكتفي بالله قال: حدَّثنا جحظة قال: أخبرني بعض بني الرضا، قال: قال علي بن محمد: دخلت على أحمد بن أبي دؤاد، وعن يمينه قِمطرٌ مجلَّدٌ، فقال لي: اكشف وانظرِ العجب! فكشفتُ فخرج عليَّ رجل طوله شبرٌ، من وسطه إلى أعلاه رجل، ومن وسطه إلى أسفل صورة الزاغ ذنبًا ورجلًا، فقال لي: مَن أنت؟ فانتسبت له، فسألته عن اسمه، فقال:
ثمَّ قال: أنشدني شيئًّا في الغزل. فأنشدته:
فصاح: وا أبي، وا أمي! ورجَع إلى القِمَطْرِ، وستر نفسه. فقال ابن أبي دؤاد: وعاشقٌ أيضًا.
البلبل الناطق
عزة وكُثير
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد، قال: حدَّثنا محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف بن المَرْزُبان، قال: حدَّثني يزيد بن محمد، قال: أخبرني محمد بن سلام الجمحي، قال: أرادت عزة أن تعرف ما لها عند كُثير فتنكَّرت له، وقامت به متعرِّضة، فقام فاتَّبعها، فكلَّمها، فقالت له: فأين حُبُّكَ عزة؟ فقال: أنا الفداء لك، لو أن عزة أَمةٌ لي لوهبتها لك. قالت: ويحك! لا تفعل، فقد بلَغني أنها لك في صدق المودة، ومحض المحبة والهوى على حسب الذي كنتَ تُبدي لها من ذلك وأكثر، وبعد، فأين قولك:
فقال كُثير: بأبي أنتِ وأمي! أَقصري عن ذكرها، واسمعي ما أقول. ثمَّ قال:
قال: فأنشأ كثير يقول بانخزال وحصر وانكسار يَعتذر إليها ويتنصَّل مما كان منه، ويحتال في دفع زلته، مُتمثِّلًا قول جميل، ويُقال: بل سرقه من جميل وانتحله لنفسه، فقال:
يرى الدم حلالًا
ولي، وهما بيتان لا غير:
هبني لا أبوح
أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت بالشام، قال: أخبرنا أبو القاسم عُبيد الله بن أحمد الصيرفي، قال: أخبرنا أبو بكر بن شاذان، قال: أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي، قال: أنشدني بعض أصحابنا:
ما كان قلبي حاضِرًا
أنشدنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، قال: أنشدني قاضي القضاة أبو عبد الله الحسين بن علي بن جعفر بن ماكولا لأبي بكر الخوارزمي الطبري من طبرية الشام من تشبيب قصيدة في الصاحب أبي القاسم بن عباد:
لم يبقَ إلا نفَسٌ خافت
ثغر يقرع ثغرًا
أخبرني أبو عبد الله الصوري، قال: قرأتُ على أبي القاسم علي بن عمر بن جعفر الشيخ الصالح، رحمه الله، بالرملة، قلتُ له: أَنشدَكم أبو القاسم علي بن محمد بن زكريا بن يحيى الفقيه لبعضهم:
ابنة أبي ربيعة وأبو مُسْهِر
قال: فقلت: إنك قد تعبت وأتعبت، فلو نزلت. فثنى رجله فنزل، فشدَّ فرسه بغصنٍ من أغصان الشجرة، ثمَّ أقبل حتى جلس قريبًا مني، فجعل يحدِّثني حديثًا ذكرت به قول الشاعر:
ثمَّ قال لي: ما هذا الذي تعلقتَ في سرجك؟ قلت: شرابٌ أهداه إليَّ بعض أهلك، فهل لك فيه؟ قال: وما أكرهه. فأتيتُه به فوضَعه بيني وبينه، فلما شرب منه شيئًا نظرت إلى عينيه كأنهما عينا مَهاة، قد أضلَّت وَلدًا، أو ذعَرها قانِصٌ، فعلم أين نظري، فرفع عقيرته يغني:
قال: قلت: إنِّي لم آتِكَ في نفسي، وإن كنتُ موضع الرغبة، ولكن أتيتكم لابن أختكم العُذري.
قال: والله إنه لكفيء الحسب كريم المنصب، غير أن بناتي لم يقَعْن إلا في هذا الحي من قريش.
قال: فعرَف الجزع من ذلك في وجهي، فقال: أما إنِّي لم أصنع بك شيئًا لم أصنعه بغيرك، أُخيِّرُها ما اختارت.
قال: قلت له: والله ما أنصفْتَني. قال: وكيف ذاك؟
قال: كنتَ تختار لغيري، وولَّيت الخيارَ لي غيرَك.
فأومأ إليَّ صاحبي أن دعه يُخيِّرها. قلت: خيِّرها.
فأرسل إليها أن من الأمر كذا وكذا، فارتئي رأيك. قال: فأرسلت إليه، ما كنتُ لأستبدَّ برأيٍ دون القرشي، أما الخيار فخياري ما اختار.
قال: قد صيَّرَتِ الأمر إليك. فحمدت الله تعالى وصلَّيتُ على نبيه، وقلت: قد زوجتها الجعد بن مَهجَع، وأصدقتُها هذه الألف دينار، وجعلت تكرِمَتَها العبد والقُبَّة، وكسوتُ الشيخَ المُطرفَ، فقَبِلَه وسُرَّ به، وسألته أن يبني بها من ليلته، فأجابني إلى ذلك، وضُربت القبة وسط الحي، وأُهديت إليه ليلًا، وبِتُّ عند الشيخ خير مبيت. فلما أصبحت غدوت، فقمت بباب القبة، فخرج إليَّ وقد تبيَّن الجذل في وجهه. قال: فقلت له: كيف كنتَ بعدي، وكيف هي بعدك؟ قال: أبدت لي كثيرًا مما أخفَت يوم رأيتها. فقلت: ما حملك على ذلك؟ فأنشأ يقول:
قال: فقلت: أقِم على أهلك، بارك الله لك! وانطلقتُ إلى أهلي، وأنا أقول:
ماني الموسوس وعائداته
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المُحسن التَّنُوخِي، قال: حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ الخزاز، قال: حدَّثنا محمد بن خلف إجازة، قال: أنشدتُ لماني:
من أشعار ماني
أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة بقراءتي عليه، قال: أخبرني أبو عُبيد الله محمد بن عمران المَرْزُباني إجازةً، قال: أخبرني المظفر بن يحيى، قال: أخبرنا علي بن محمد، قال: أنشدني ابن عروس لماني:
وله؛ أعني ماني:
لحى الله يوم البين
ولي من أثناء قصيدة:
ومنها:
لروعات الحب نيران
ذو الرُّمَّة ومي
أخبرنا أبو طالب محمد بن علي البيضاوي بقراءتي عليه من أصل أبي بكر بن شاذان، وفيه سماعه، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان، قال: قرئ على أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة نِفْطوَيْهِ.
قال ذو الرُّمَّة:
اقرأ السلام
وأنشد نِفْطوَيْهِ لآخر:
أيهما أصدَق عِشقًا
والقوادح ما ينقبها ويَعيبها. وكُثيِّرٌ أتاه عن عزَّة ما يكره، فقال:
قال: فما انصرَفوا إلا عن تفضيلي.
يزيد بن عبد الملك وحبابة
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام، قال: حدَّثنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدَّثنا العباس بن الحسين الفارسي ببغداد، قال: حدَّثنا علي بن الحسين بن أحمد الكاتب، قال: حدَّثنا إسماعيل بن محمد الشيعي من شيعة بني العباس، قال: حدَّثنا عمر بن شبة عن أبي إسحاق، قال: بلَغني أن جاريةً غنَّت بين يدي يزيد بن عبد الملك:
فراسلتها سلَّامة فغنَّت:
فغنَّت حبابة:
فراسلتها سلَّامة فغنَّت:
فطرب يزيد وشقَّ حُلَّةً كانت عليه حتى سقطت في الأرض، ثمَّ قال: أفتأذنان لي في أن أطير؟ قالت له حبابة: على من تدع الأمة؟ قال: عليكِ.
أبو السائب وشعر جرير
وبإسناده قال علي بن عمر بن أبي الأزهر، قال: حدَّثنا الزبير بن بكار، قال: حدَّثنا محمد بن حسن، قال: أنشَدَ إنسانٌ أبا السائب القاضي قول جرير:
وهو على بئر، فطرح نفسه في البئر بثيابه.
عمر الوادي والراعي
أخبرنا أبو بكر الأردستاني بمكة، قال: حدَّثنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدَّثنا يوسف بن عمر الزاهد، قال: حدَّثنا جعفر بن محمد بن نصير، قال: حدَّثنا الزبير بن بكار، قال: قال: حدَّثنا مؤمل بن طالوت، قال: حدَّثنا مكين العذري، قال: سمعتُ عمر الوادي بينا أنا أسير بين العَرجِ والسُّقيَا إذا سمعت رجلًا يتغنى ببيتَين لم أسمع بمثلهما قط، وهما:
من عشق فعفَّ دخل الجنة
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن فارس، قال: حدَّثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم بن بيان، قال: حدَّثنا محمد بن خلف، قال: حدَّثنا زكريا بن يحيى الكوفي، قال: قال محمد بن حريث الشيباني، عن أبيه، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: «من عشقَ فعفَّ فمات دخل الجنة.»
قتل العاشقين
ولي قطعةٌ مفردة:
يريد ماعز بن مالك الذي أقرَّ على نفسه بالزنا ورجمه النبي ﷺ.
سنان الصوفي والغلام
أخبرنا إبراهيم بن سعيد بمصر، قال: أخبرنا أبو صالح السمرقندي الصوفي، قال: حدَّثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن اليسع بالقرافة، قال: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدِّينَوَرِي، قال: حدَّثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي، قال: قال أبو حمزة الصوفي: كنت مع سِنان بن إبراهيم الصوفي، فنظر إلى غُلامٍ فقال: الحمدُ لله على كل حال! كُنَّا أحرارًا بطاعته، فصِرنا عبيدًا بمعصيته لألحاظٍ قد بلغت بنا جهد البلاء، وأسلمتنا إلى طول الضناء، فلبثنا مع بلائنا وطول ضنائنا لا نخسر الآخرة، كما تولَّت عنَّا الدنيا، ثمَّ بكى، فقلت له: ما يُبكيك؟ فقال: كيف لا أبكي، وأنا مُقيمٌ على غُرورٍ، ومتخوَّفٌ من نزول محذور، من نظرٍ شاغلٍ، أو بلاء شامل، أو سخط نازل، ثمَّ شهق وسقط إلى الأرض.
قتيل القِيَان
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي إجازة، قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سُوَيْد المعدَّل، قال: حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدَّثنا أبو حفص عمر بن بنان الأنماطي، قال: حدَّثني الحسام بن قُدامة المكي باليمن:
لا سبيل إلى وصله
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري في ما أجاز لنا، قال: حدَّثنا ابن روح، قال: حدَّثنا القاضي أبو الفرج النهرواني، قال: حدَّثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: أنشدنا محمد بن يزيد لأبي حيَّان الدارِمي البصري في أبي تمام الهاشمي، وكان الدارِمي يُتهم به:
الواثق وشعر الدارمي
وبإسناده قال: أخبرنا المعافى، قال: حدَّثنا عبد الله بن منصور الحارثي، قال: حدَّثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: حدَّثني الفضل ابن بنت أبي الهذيل، قال: كنتُ مع جدي عند الواثق قبل أن يلي الخلافة، فتذاكروا الشعراء إلى أن أنشده أبو الهُذيل:
يقول: استوى الناس في النظر إليهن. فقال: يا أبا الهذيل، شعرٌ وقعَ إليَّ لا أدري لمن هو، يقول فيه:
ما سمعتُ في هذا المعنى بأجوَدَ منه. فقال له: أصلح الله الأمير، هذا الشعر لرجلٍ بالبصرة يُكنى بأبي حيان الدارمي، عمارة بن حيان. فقال: يُحمل إلينا. فورد الكتاب وقد مات.
الغلام وجارية المهدي
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر بقراءتي عليه، قال: أخبرنا الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد المكتفي بالله، قال: حدَّثنا جحظة، قال: حدَّثني ابن أخت الحاركي، أن خادمًا ممن خدم أباه جاءه يخبره أن عند جاريةٍ في بعض قصوره رجلًا، فلبس حُلَّةً وسار إلى القصر، فألفى عندها غُلامًا شابًّا، له ذؤابتان، كأنه قضيبُ فضة، فسأله عن دخوله وكيف كان، وما شأنه. فقال: إن هذه الجارية كانت لوالدتي، وكان بيني وبينها أُلفة، فلما بيعَت لأمير المؤمنين صِرتُ إلى الباب متعرِّضًا لها، فأَذِنتْ في الدخول، فدخلت على أحد أمرَين، إمَّا أن أظفر بما أريد أو أُقتَل فأستريح.
فأمر المهدي بإحضار سياط، ونصَبه بينها، ثمَّ ضربه عشرين سوطًا ورفع عنه الضرب، وقال: ما أصنع بتعذيبك، ولستُ بتاركك حيًّا ولا تاركها، يا غُلام، سيفٌ ونِطعٌ! فلما أُتي بذلك، وأُجلسَ الغلام في النِّطع، قال: يا أمير المؤمنين! قبل أن يُنزَل بي القتل، وهو دون حقي، اسمع مني ما أقول! قال: هاتِ، فأنشأ يقول:
فأطرق المهدي وتغرغرت عيناه بالدموع. ثمَّ قال: يا غلام، ائتني بإزار! فأُتي به، فقال: الففهما به جميعًا بعد أن تنزع ثيابهما، وأخرجهما عن قصري. ففعل ذلك.
سيد العشاق
حدث أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، ونقلته من خطه، قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف، قال: حدَّثني أبو بكر العامري، قال: حدَّثني أبو عبد الله القرشي، وحدثنا الدمشقي، عن الزبير، قال: حدَّثني مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: عَشِقَ رجلٌ من ولد سعيد بن العاص جاريةً مُغنِّية بالمدينة، فهام بها دهرًا، وهو لا يُعلمها بذلك، ثمَّ إنه ضجرَ فقال: والله لأبوحنَّ لها. فأتاها عشية، فلما خرجَت إليه، قال لها: بأبي أنتِ، أتُغنِّين:
قالت: نعم، وأغنِّي أحسن منه. ثمَّ غنَّت:
فاتَّصلَ ما بينهُما، فبلغ الخبرُ عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، فابتاعها له وأهداها إليه، فمكثت عنده سنة، ثمَّ ماتت، فبقي مولاها شهرًا أو أقل، ثمَّ مات كَمدًا عليها، فقال أبو السائب المخزومي: حمزةُ سيدُ الشهداء، وهذا سيد العشاق، فامضوا بنا حتى ننحر على قبره سبعين نحرة، كما كبَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبر حمزة رضي الله عنه سبعين تكبيرة. قال: وبلغ أبا حازم الخبر، فقال: ما من مُحِبٍّ في الله يبلُغُ هذا إلا وليٌّ.
قتيل الهجران
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الخياط، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن بمكة، قال: حدَّثنا أحمد بن أبي عمران، قال: سمعتُ أبا بكر الرازي، قال: سمعتُ عبد الرحمن الصوفي، يقول: كنتُ ببغداد في سوق النخَّاسين، فرأيتُ قومًا مجتمعين، فدنوت منهم، فرأيت شابًّا مصروعًا مغشيًّا عليه، فقلتُ لواحد منهم: ما الذي أصابه؟ فقال: سمع آيةً من كتاب الله عز وجل. فقلت: أيَّة آية كانت؟ فقال: قوله عز وجل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ؟ قال: فلما سمع أفاق، وأنشأ يقول:
ثمَّ صاح صيحةً خرَّ مغشيًّا عليه، فحرَّكناه فإذا هو ميت.
ولمَّا شكوت الحب
أخبرني عبد العزيز بن علي الطحان، قال: أخبرنا علي بن عبد الله الهمذاني في المسجد الحرام، قال: حدَّثني الجُنَيْد، قال: أرسلني سريٌّ في حاجَةٍ يومًا، فمضيتُ فقضيتها، فرجعت، فدفع إليَّ رجلٌ رقعة، وقال: ما في هذه الرقعة أُجرَتُك لقضاء حاجتي، ففتحتها، فإذا فيها مكتوبٌ:
دماء أهل الهوى هدر
ولي من أثناء قصيدة:
مواقع الأنفس
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أيوب القُمِّي، قال: حدَّثنا محمد بن عمران، قال: حدَّثنا ابن عرفة النحوي، عن محمد بن يزيد، قال: قال أبو نواس:
يجتمعان في القبر
ذكر أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ ونقلته من خطه قال: حدَّثنا أبو بكر بن المَرْزُبان، قال: حدَّثنا إبراهيم بن محمد، قال: حدَّثنا الحسن بن محمد بن عيسى المقَّري، قال: أخبرني محمد بن عبيد الله العتبي، قال: حدَّثنا ابن المنبِّه، قال: سمعتُ أبا الخطاب الأخفش يقول: خرجت في سَفَرٍ، فنزلنا على ماءٍ لطيءٍ، بصرت بخيمةٍ من بعيدٍ فقصدتُ نحوَها، فإذا فيها شابٌّ على فراشٍ كأنه الخيال، فأنشأ يقول:
قال: ثمَّ أُغمي عليه، فمات. فوقعتِ الصيحة في الحي، فخرَج من آخر الماء جاريةٌ كأنها فِلقَةُ قَمَرٍ، فتخطَّت رقاب الناس حتى وقفت عليه، فقبَّلته، وأنشأت تقول:
قال: ثمَّ شهقت شهقة فخرَّت ميِّتة منها، فخرَج من بعض الأخبية شيخٌ فوقف عليهما فترحَّم عليهما، وقال: والله لئن كنتُ لم أجمع بينكما حيَّين لأجمعنَّ بينكما ميِّتَين! فدفنهما في قبر واحد احتفره لهما، فسألته، فقال: هذه ابنتي، وهذا ابن أخي.
رد فؤادي
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي في ما أجاز لنا، قال: حدَّثنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، قال: أنشدنا أبو عبد الله النوبختي:
حديث عاشقين
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا علي بن أيوب، قال: حدَّثنا أبو عبيد المَرْزُباني، قال: حدَّثني أحمد بن محمد الجوهري، قال: حدَّثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: رأيتُ عاشقَين اجتمَعا، فجعَلا يتحدَّثان من أول الليل إلى الغداة.
أموت بدائي
أخبرنا عبد العزيز بن علي الأزجي قراءةً عليه، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الهمذاني بمكة، قال: أنشدَنا محمد بن عبد الله ليحيى بن معاذ:
مصارع العشاق
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ بالشام، قال: حدَّثنا علي بن أيوب، قال: حدَّثنا أبو عُبيد الله محمد بن عمران، قال: أخبرني محمد بن يحيى، قال: قال علي بن الجهم:
غريقة الهوى
فأراد الملاحون أن يطرحوا أنفسهم خلفهما، فصاحَ بهم محمد: دعوهما يغرقا إلى لعنة الله! قال: فرأيتُهما وقد خرجا من الماء متعانقين، ثمَّ غرقا.
التطير من البكاء
أنشَدَنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، قال: أنشدنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى، قال: أنشدنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: أنشدنا عبد الله بن عمرو بن لقيط:
ما لقتيل الحب قود
ولي من أثناء قصيدة:
الحب حلوٌ ومُرٌّ
أنبأنا الشيخ أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة أن أبا عُبيد الله محمد بن عمران المَرْزُبان أخبرهم إجازة قال: أخبرنا عُبيد الله بن أحمد الكاتب، قال: حدَّثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: أنشدني إبراهيم بن عبد الله الوراق لمحمد بن أبي أمية:
لم يَفُتْها جواره ميِّتًا
فقالت:
فقال حيي:
فقال زرعة:
فقالت المفداة:
فقال حيي:
فشاع هذا الشعر في الحي وبلغ المُفداة، فاحتجَبَت عنه، وامتنعت من محادثة الرجال، فامتنع من الحركة والطعام، فغبَر على ذلك حولٌ، ومات عظيمٌ من عظماء القبائل، فبرَز مأتم النساء، فبلَغ زرعة أن المفداة في المأتم، فاحتمل حتى تناءى نشزًا، واجتمع إليه لِداتُه، يُفنِّدون رأيه ويَعذُلونه، فأنشأ يقول:
ثمَّ شهق فمات، وتصايَحَ أصحابه ونساؤه، وبلَغ المفداة خبره، فقامت نحوه حتى وقفت عليه، وقد تعفَّر وجهه، وأهله يَنضحونه بالماء، فهمَّت أن تُلقي نفسها عليه، ثمَّ تماسكت، وبادرَت خباءها، فسقطَت تائهة العقل، تُكلَّم فلا تُجيب، سحابة يومها، فلما جنَّ عليها الليل رفعت عقيرتها فقالت:
ثمَّ تنفَّست نفسًا نبَّه من حولها فإذا هي ميتةٌ، فدُفنت إلى جنبه.
تفارق قومها باكية
حدَّث شيخنا أبو علي بن شاذان قال: حدَّثني أبي أحمد بن إبراهيم بن شاذان، قال: حدَّثنا أبو عبد الله أحمد بن سليمان بن داود بن محمد الطوسي، قال: حدَّثنا الزبير بن بكار، قال: حدَّثنا هارون بن موسى، قال: حدَّثني عبد الله بن عمرو الفهري عن عمه الحارث بن محمد عن عيسى بن عبد الأعلى، قال: كانت بالمدينة جاريةٌ لآل أبي رُماثة، أو لآل أبي تُفَّاحة، يُقال لها سلَّامة. قال: فكتب فيها يزيد بن عبد الملك لتُشترى له، فاشتُريَت بعشرين ألف دينار، فقال أهلها: لا تخرُج حتى نُصلح من شأنها. فقالت الرسل: لا حاجة لكم بذاك! معنا ما يُصلحها. قال: فخُرج بها حتى أُتي بها سقاية سليمان. قال: فأنزلها رسله، فقالت: لا والله لا أخرج حتى يأتيَني قومٌ كانوا يدخلون عليَّ فأسلِّم عليهم. قال: فامتلأ ذلك الموضع من الناس. قال: ثمَّ خرَجَت فوقفَت بين الناس وهي تقول:
قال: فما زالت على ذلك تَبكي ويبكون حتى راحت، ثمَّ أرسلت إليهم بثلاثة آلاف درهم.
يزيد يموت حزنًا على حبابة
قال أبو موسى: وهذا الشعر للأحوص، فلما سَمعها قال للخصيِّ: ويحك! قُل لصاحب الشُّرَط يُصلي بالناس. وقال يومًا: والله إنِّي لأستحيي أن أخلو بها، ولا أرى أحدًا غيرها. وأمر ببستانٍ، وأمر بحاجبه أن لا يُعلمه بأحد.
قال: فبينما هو معها أسرُّ الناس بها، إذ حذَفها بحبة رمان أو بعنبة وهي تضحك، فوقعت في فيها فشَرِقت فماتت، فأقامت عنده في البيت حتى جيفَت أو كادت تجيف، ثمَّ خرَج فدفنها، وأقام أيَّامًا، ثمَّ خرج وعليه الهمُّ باديًا، حتى وقَف على قبرها فقال:
ثمَّ رجَع فما خرَج من منزله حتى خُرج بنعشه.
الصوفي المتعفف
أخبرنا إبراهيم بن سعيد بقراءتي عليه بمصر، قال: أخبرنا أبو صالح محمد بن أبي عدي السمرقندي، قال: حدَّثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن اليسع بالقرافة، قال: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدِّينَوَرِي، قال: حدَّثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الحافظ، قال: قال أبو حمزة الصوفي: رأيت ببيت المقدس فتًى من الصوفية يَصحبُ غُلامًا مُدَّةً طويلةً، فمات الفتى، وطال حزن الغلام عليه، حتى صارَ جلدًا وعظمًا من الضَّنى والكمد. فقلت له يومًا: لقد طال حزنُك على صديقك حتى أظن أنك لا تسلو بعده أبدًا. فقال: وكيف أسلو عن رجلٍ أجلَّ الله تعالى أن يَعصيه معي طرفة عين وصانَني عن نجاسة الفسوق في طولِ صُحبتي له وخَلَواتي معه في الليل والنهار.
هويت شادنًا
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي إجازةً، قال: أخبرنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ قراءة عليه قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف، قال: قال عُمر بن أبي ربيعة:
دهر يُشتُّ ويجمع
أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد النرسي، قال: أخبرنا أبو حاتم محمد بن أحمد الرازي قال: أنشدني أبو مُضَر ربيعة بن ميسرة بن علي البزار بقَزوين لبعضهم:
لو بدلت مساكنها
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو محمد عُبيد الله بن محمد الجرادي الكاتب، قال: حدَّثنا أبو بكر بن دُرَيْد، قال: حدَّثني العكلي عن المدايني، قال: أنشد الحارث بن خالد المخزومي عُبيد الله بن عُمَر:
الفرزدق والبدوية الحسناء
قلت: نعم. قال: فضحكَت، وقالت: فإن جريرًا هدم عليه بيتَيه حيث يقول:
قال: فأعجبَتْني، فلما رأت ذلك في عيني قالت: أين تؤمُّ؟ قلت: اليمامة. فتنفَّسَت الصُّعَدَاء ثمَّ قالت:
قال: فأنستُ بها، فقلت: أذاتُ خَدينٍ أنتِ أم ذاتُ بعلٍ؟ فقالت:
ثمَّ سكتت كأنها تسمع كلامي، فأنشأت تقول:
ثمَّ شهقَت شهقة فماتت. فقيل لي: هي عقيلة بنت النجاد بن النعمان بن المنذر، وسألتُ عن عمرو، فقيل لي: ابنُ عمها، وكان مُغرَمًا بها وهي كذلك، فدخلتُ اليمامة، فسألتُ عن عمرو فإذا به قد مات في ذلك اليوم من ذلك الوقت.
العشق شغل قلب فارغ
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: حدَّثنا أبو الحسن علي بن أيوب القُمِّي الكاتب بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عمر المَرْزُباني، قال: أخبرني أحمد بن يحيى، قال: حدَّثنا أبو العيناء، قال: حدَّثنا ابن عائشة، قال: قلتُ لطبيبٍ كان موصوفًا بالحذق: ما العشق؟ قال: شغل قلبٍ فارغ.
وأنشد لبعضهم:
يتهدد بالهجر
أنشدنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أنشدنا طلحة الشاهد، قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح، قال: أنشدني إسحاق بن عمار لسلم الخاسر:
لا جسم ولا قلب
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب بدمشق، قال: أخبَرَنا أبو بكر عبد الله بن علي بن حمويه بن أبرك الهمذاني بها قال: أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي التميمي، قال: حدَّثنا أحمد بن علي الناقد، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن جرير، قال: قال أبو بكر محمد بن فرخان: لقيت غورك المجنون، وفي عنقه حبلٌ قصيرٌ، والصبيان يقودونه، فقال لي: يا أبا بكر! بِمَ يُعذِّب الله أهل جهنم؟ قلتُ: بأشد العذاب. قال: صِف لي. قلتُ: ومَن يصفُ عذاب ربِّ العالمين؟ قال: أنا في أشد من عذابه. ثمَّ رفع ثوبه عن جسده، فإذا هو ناحل الجسم دقيق العظم، فقال لي:
الحب أعظم من الجنون
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس ابن حَيُّوَيْهِ الخزاز، قال: حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان، قال: حدَّثنا زكريا بن موسى، قال: حدَّثني شعيب بن السكن عن يونس النحوي، قال: لما خولط قيس بن الملوَّح وزال عقله وامتنع من الأكل والشرب، صارت أمه إلى ليلى فقالت لها: إن ابني جُنَّ مِن أجلِك، وذهب حُبُّك بعقله، وقد امتنع من الطعام والشراب، فإن رأيت أن تصيري معي إليه فلعله إذا رآك يسكن بعض ما يجد. فقالت لها: أما نهارًا فما يُمكنني ذلك، وإن علم أهل الماء لم آمَنْهم على نفسي، ولكن سأَصير إليه في الليل. فلما كان الليل صارت إليه، وهو مُطرِقٌ يَهذي، فقالت له: يا قيس! إن أمك تَزعُم أنك جُننت على رأسي، وأصابك ما أصابك؟ قال: فرفع رأسه فنظر إليها وتنفَّس الصُّعَدَاء، وأنشأ يقول:
كُثيِّر على قبر عَزَّة
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي بقراءتي عليه، قال: أخبَرَنا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، قال: أخبرنا أبو بكر بن دُرَيْد، قال: أخبرنا عبد الأول بن مربد، قال: أخبرني حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: خرَج كُثيِّر يريد عبد العزيز بن مروان، فأكرمه ورفع منزلتَه وأحسن جائزته، وقال: سلني ما شئت من الحوائج! قال: نعم، أحبُّ أن تنظر لي من يعرف قبر عزَّة فيوقفني عليه. فقال رجل من القوم: إنِّي لعارفٌ به. فوثَب كُثيِّر فقال لعبد العَزيز: هي حاجتي أصلَحَك الله. فانطلَق به الرجل حتى انتهى به إلى موضع قبرها فوضع يده عليه، ودمعُه يَجري، وهو يقول:
الموت أيسَرُ محملًا
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي بقراءتي عليه، قال: أخبَرَنا أبو محمد عُبيد الله بن محمد بن علي الجرادي الكاتب، قال: أنشَدَني بعض أصحابنا لأبي تمام:
العينان القاتلتان
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو محمد عُبيد الله بن محمد الجرادي، قال: أنشدنا أبو العباس أحمد بن سهل لبعض المحدثين:
مات على قبر حبيبته
ثمَّ أنَّ أنَّاتٍ، فمات. فأقمتُ مع الفتيان حتى احتفروا له ودفنَّاه، فسألت عنه، فقالوا: ابن سيد هذا الحي، وهذه ابنةُ عمِّه، وهي إحدى نساء قومه وكان بها مُغرمًا، فماتت منذ ثلاث، فأقبلَ إليها وقد رأيتَ ما آل إليه أمره. فركبت وكأنني والله قد ثكلت حميمًا.
قبور العُشاق
وجدتُ في مجموع سمَّاه جامعُه زهرَ الربيع، قال: أنشدت عبد الله بن المعتز:
فقال لي: لعَنَ الله صاحب هذا الشعر، لا والله ما أذلَّ الله تُرابَ قبرِ عاشقٍ قط، بل أجلَّه وشرَّفه ونضَّره وحسَّنه.
قال ابن المعتز: ولي في هذا المعنى أملح من قول هذا البارد، وأنشَدني لنفسه:
ما ضرَّهم
ولي وهي قطعةٌ منفردةٌ:
تعلل ساعة
وجدتُ بخط أحمد بن محمد الآبنوسي، حدَّثنا أبو محمد بن المغيرة الجوهري، قال: حدَّثنا أحمد بن إسحاق الغطفاني، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد، قال: حدَّثني سليمان بن عياش السعدي، قال: حدَّثني أبي، قال: سِرتُ في بلادِ بني عقيل أطلب ضالَّة لي، فرأيت فتاةً تدافعُ في مشيتها كتدافع الفرس السابق المختال. قال: فأسرعت المشي في إثرها حتى أدركتها، وقد كادَت تلجُ خباءها، فاستوقفتُها فوقَفَت، فجعلتُ أُسائلها وأُكلمها، والله ما يقع بصري على شيء منها إلا ألهاني عن غيره. قال: فصاحت بي عجوزٌ: ما يُوقفك على هذا الغزال النجدي، فوالله ما تنال منه طائلًا. فقالت لها الفتاة: دعيه يا أمتاه يكون كما قال ذو الرُّمَّة:
فتاة مراد وخطيبها البكري
أخبرنا أبو الحسن علي بن صالح بن علي الروذباري بقراءتي عليه بمصر، قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب في ما أجاز لنا، قال: حدَّثنا ابن دُرَيْد، قال: حدَّثنا أبو حاتم، قال: أخبرنا أبو عبيدة، قال: خطب رجلٌ من بكر بن وائل إلى رجلٍ من مُراد ابنته، فهمَّ أن يُزوِّجه، فبَينَا الجارية يومًا تلعبُ مع الجواري إذ جاء الخاطب، فقُلنَ لها: هذا خاطِبُك؟ فقالت: ما رجلٌ هو أحب إليَّ أن أكون قد رأيتُه منه. فلما رأته رأتْ رجلًا كبير السن قبيح الوجه، فقالت: أوَقد رضيَ أبي به؟ قلنَ: نعم! فدخلت البيت، فاشتملَت على السيف وشدَّت عليه فسبقها عدوًا، ونالتْه بضربة، فقال همام السلولي وهو يُشبِّب بامرأة:
التبسُّمُ النمام
أخبرني أبو عبد الله بن أبي نصر الأندلسي بدمشق، قال: أُنشد بحضرة بعض ملوك الأندلس قطعةٌ لبعض أهل المشرق، وهي:
فأفرط بعض الحاضرين في استحسانها، وقال: هذا ما لا يَقدِرُ أندلسي على مثله، وبالحضرة أبو بكر يحيى بن هذيل، فقال بديهًا:
مي الغادرة
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري في ما أَذن لنا أن نَرويه عنه، قال: أخبرنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ محمد بن العباس، قال: حدَّثنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أحمد بن شداد، قال: حدَّثنا عبد الله بن أبي كريم، قال: أخبَرَنا ميسرة بن عبد الله بن الحارث، قال: أخبرني أبي، قال: كان رجلٌ من بني سُلَيم يُقال له عمروُ بن مُسلِم، وكانت له امرأة يُقالُ لها مي، وكانت تَبغَضه، ولم يكن يعلم ذاك، وكان من أشدِّ الناس حُبًّا لها، فدخل عليها ذات يوم، وهي تقرأ في المصحف. فقال: يا مي، أسألك بما أنزل الله تعالى في هذا المُصحف، أتُحبِّينني أو تَبغضينني؟ فقالت: لا والله أخبرتك إلا أن تُعطيني سؤلةً أسألُكها. فقال: وأي شيءٍ سُؤلتك؟ قالت: تجعل أمري في يدي. قال: نعم. وظنَّ أنها مازحةٌ، قالت: فلا والله وما أنزل فيه ما أحبَبتُكَ ساعةً قط. فلما جعل أمرَها بيدها اختارت نفسها، فكاد يموت أسفًا عليها، وأنشأ يقول:
اللص والمرأة التي أحبها
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي بن محمد السواق، قال: أخبَرَنا محمد بن أحمد بن فارس، قال: حدَّثنا أبو الحسين بن بيان الزبيبي، قال: حدَّثنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أحمد بن زهير، قال: حدَّثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدَّثنا ابن إدريس عن الأعمش، قال: كان في بني إسرائيل رجُلٌ لِصٌّ يُقالُ له برزين المناقيب، فتاب، وكان يُحدِّثُ الناس عما كان فيه، فقال: أعجبَتْني امرأةٌ في ناحيةٍ من نواحي الكوفة، فأخذتُ سيفي وخرجت في السَّحر، فلقيتُ بعيرَ سقاء، فضربتُ عنقه، ثمَّ توجَّهتُ نحوها فتسوَّرت عليها، فعالجتها، فلم أَقدر عليها، وامتنعَتْ أن تدخل معي في الحرام، فجمعتُ يدي في السيف، ثمَّ ضربت به وسط رأسها ثمَّ انصرفتُ، فقلت: لأنظرنَّ إلى أثر سيفي، فعدت إلى موضع البعير فإذا البعير مُلقًى ورأسه ناحيةً، ثمَّ أتيتُها بعد لأعلم الخبرَ، فإذا هي وسط النساء تحدِّثُ وتقول: والله لضرَب وسط رأسي فما أخطأ منه شعرة.
أبو دَهبَل والمرأة الشامية
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، قال: حدَّثنا محمد بن خلف، قال: حدَّثني أبو العباس أحمد بن يحيى، قال: حدَّثنا الزبير بن أبي بكر، قال: حدَّثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: حدَّثني إبراهيم بن أبي عبد الله، قال: خرَجَ أبو دَهبَل الجُمَحي يُريدُ الغزو، وكان رجلًا جميلًا صالِحًا، فلما كان بجيرون جاءته امرأة فأعطته كتابًا، فقالت له: اقرأ هذا! فقرأه لها، ثمَّ ذهبت فدخلت قصرًا، ثمَّ خرجت إليه، فقالت له: لو بلغتَ معي إلى هذا القصر فقرأتَ الكتاب على امرأةٍ فيه كان لك أجرٌ إن شاء الله. فبلَغَ معها القصر، فلما دخل إذا فيه جوارٍ كثيرة، فأغلقنَ عليه باب القصر، فإذا امرأةٌ جميلةٌ قد أتتْه فدعَتْه إلى نفسها فأبى، فأمرَت به فحُبِس في بيتٍ من القصر، وأُطعم وسُقي قليلًا قليلًا حتى ضَعُفَ وكاد يموت، ثمَّ دعته إلى نفسها، فقال: أما في الحرام فلا يكون ذلك أبدًا، ولكن أتزوَّجك. قالت: نعم! فتزوجها، وأمرت به فأُحسن إليه حتى رجعت نفسه إليه، فأقام معها زمانًا طويلًا لم تدعْه يَخرج من القصر حتى يئس منه أهله وولدُه، وزوَّج أولاده بناته واقتَسموا ميراثه.
وأقامت زوجته تبكي، ولم تُقاسِمهم ماله، ولا أخذت من ميراثه شيئًا، وجاءها الخُطَّاب فأبَت وأقامت على الحزن والبكاء عليه، قال: فقال أبو دَهبَل لامرأته يومًا: إنك قد أثمتِ فيَّ وفي ولدي، فأْذني لي أن أخرج إليهم وأرجع إليك، فأخذت عليه أيمانًا ألا يُقيمَ إلا سَنَةً حتى يعود إليها، وأعطَتْه مالًا كثيرًا، فخرج من عندها بذلك المال حتى قدم على أهله، فرأى زوجته وما صارت إليه من الحزن، ونظر إلى ولده ممَّن اقتسم ماله، وجاءوه، فقال: ما بيني وبينكم عمل! أنتم ورثتُموني وأنا حي، فهو حظُّكم، والله لا يُشرك زوجتي أحدٌ في ما قدِمتُ به. وقال لزوجته: شأنُك بهذا المال فهو كله لك، ولستُ أجهل ما كان من وفائك. وأقام معها، وقال في الشامية:
وفي هذه القصيدة يقول أبو دَهبَل:
وقد رُويَ هذا الشعر لعبد الرحمن بن حسَّان، وليس بصحيح. قال: فلما جاء الأجل أراد الخروج إليها ففاجأه موتُها، فأقام.
الصوفي وغلامه
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال بمصر، قال: أخبرنا أبو صالح محمد بن أبي عدي السمرقندي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن اليسع، قال: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدِّينَوَرِي، قال: حدَّثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط، قال: قال أبو حمزة الصوفي: رأيتُ مع أحمد بن علي الصوفي ببيت المقدس غُلامًا جميلًا، فقلت: مُذ كم صحبك هذا الغلام؟ فقال: مُنذ سنين، فقلتُ: لو صِرتما إلى بعض المنازل فكنتما فيه بحيثُ لا يراكما الناس كان أجمل بكما من الجلوس في المساجد والحديث فيها. فقال: أخاف احتيال الشيطان عليَّ فيه في وقت خلوتي به، وإني لأكره أن يراني الله معه على معصية فيُفرِّق بيني وبينه يوم يظفر المحبُّون بأحبابهم.
يكره الخلو بالغلام
أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت بالشام، قال: حدَّثنا ابن أيوب القُمِّي، قال: أخبرنا أبو عُبيد الله المَرْزُباني، قال: حدَّثني أبو عبد الله الحكيمي، قال: حدَّثنا أحمد بن إبراهيم، قال: حدَّثنا أبو أسامة، قال: كُنَّا عند شيخٍ يُقرئُ، فبقي عنده غُلامٌ يقرأ عليه، وأردتُ القيام فأخذ بثوبي وقال: اصبر حتى يفرغ هذا الغُلام، وكرهَ أن يخلو هو والغلام.
على طريقة ابن مدرك الشيباني
ثمَّ قلت:
قال المعافى بن زكريا: ولنا أيضًا في كلمة:
وأنا أستغفر الله تعالى من مُساكنة ما يشغل عن عبادته، ومما يُضارع ما وصفنا في هذا الفصل من وجه قول ابن الرومي:
عناية الله بخائفيه
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، قال: حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، قال: حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، قال: حدَّثنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أحمد بن حرب، قال: حدَّثني عبد الله بن محمد، قال: حدَّثني أبو عبد الله البلخي، أن شابًّا كان في بني إسرائيل لم يُرَ شابٌّ قط أحسن منه، قال: وكان يبيع القِفاف، قال: فبينا هو ذات يومٍ يطوف بقفافه إذ خرجت امرأةٌ من دار ملك من ملوك بني إسرائيل، فلما رأته رجعت مُبادرة فقالت لابنة الملك: يا فُلانة، إنِّي رأيتُ شابًّا بالباب يبيع القِفاف لم أرَ شابًّا قطُّ أحسن منه. قالت: أَدخليه! فخرجت إليه، فقالت: يا فتى ادخل نشترِ منك! فدخل، فأغلقت الباب دونه، ثمَّ قالت: ادخل. فدخل فأغلقَت بابًا آخر دونه.
قال: فلما صار في أعلى الجوسق قال: اللهم إنِّي دُعيتُ إلى معصيتك، وإني أختار أن أصبِّر نفسي، فأُلقيها من هذا الجوسق ولا أركب المعصية. ثمَّ قال: بسم الله. وألقى نفسه من أعلى الجوسق، فأهبط الله عز وجل ملكًا من الملائكة فأخذ بضبعَيه فوقع قائمًا على رجلَيه، فلما صار في الأرض قال: اللهمَّ إنك إن شئت رزقتني رزقًا يُغنيني عن بيع هذه القِفاف. قال: فأرسل الله عز وجل إليه جرادًا من ذهب، فأخذ منه حتى ملأ ثوبه، فلما صار في ثوبه قال: اللهمَّ إن كان هذا رزقًا رزقتنيه في الدنيا فبارك لي فيه، وإن كان يُنقصني مما لي عندك في الآخرة فلا حاجة لي به. قال: فنودي إن هذا الذي أعطيناك جُزءٌ من خمسة وعشرين جزءًا لصبرك على إلقائك نفسك من هذا الجوسق. قال: فقال اللهمَّ لا حاجة لي في ما يُنقصني مما لي عندك في الآخرة. قال: فرُفع.
المجنون الأديب
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في المسجد الحرام بباب الندوة، قال: حدَّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، قال: سمعتُ أبا سعيد أحمد بن محمد بن رميح الزيدي يقول: سمعتُ محمد بن إبراهيم الأرجاني، يقول: سمعت محمد بن يعقوب الأزدي عن أبيه قال: دخلتُ دير هِرَقل، فرأيت مجنونًا مُكبَّلًا، فكلمته، فوجدته أديبًا، فقلت له: ما الذي صيَّرك إلى ما أرى؟ فقال:
أربع نسوة وأربعة غربان
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد العتيقي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس ابن حَيُّوَيْهِ الخزاز قال: حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان، قال: حدَّثني محمد بن عبد الله الأهوازي، قال: أخبرني بعض أهل الأدب أن بعض البصريِّين أخبره، قال: كُنَّا لُمَّة نجتمع ولا يفارقُ بعضُنا بعضًا، وكُنَّا على عدد أيام عند أحدنا، فضجرنا من المقام في المنازل، فقال بعضنا: لو عزمتم فخرجنا إلى بعض البساتين، فخرجنا إلى بُستان قريبٍ مِنَّا، فبينا نحن فيه إذ سمعنا ضجَّة راعتنا، فقلت للبستاني: ما هذا؟ فقال: هؤلاء نسوةٌ لهنَّ قِصَّة. فقلت له أنا دون أصحابي: وما هي؟ قال: العِيان أبرُّ من الخبر، فقُم حتى أريك وحدك. قلت لأصحابي: أقسمت ألا يبرح أحدٌ منكم حتى أعود. فنهضت وحدي، فصعدتُ إلى موضع أُشرف عليهن وأراهن، ولا يرينني، فرأيت نسوة أربعًا كأحسن ما يكون من النساء وأشكلهن، ومعهنَّ خدم لهنَّ وأشياء قد أُصلحت من طعام وشرابٍ وآلةٍ، فلما اطمأن بهنَّ المجلس جاء خادمٌ لهن ومعه خمسة أجزاء من القرآن، فدفع إلى كل واحدة منهن جزءًا، ووضع الخامس بينهنَّ، فقرأنَ أحسن قراءة، ثمَّ أخذن الجزء الخامس فقرأت كل واحدة منهن ربع الجزء، ثمَّ أخرجت صورة معهنَّ في ثوب ديبقي فبسطنها بينهن فبكين عليها ودعونَ لها، ثمَّ أخذن في النوح، فقالت الأولى:
ثمَّ قالت الثانية:
ثمَّ قالت الثالثة:
ثمَّ قالت الرابعة:
ثمَّ قُمن فقُلن بصوتٍ واحدٍ:
ثمَّ تنحَّين وقُلن لبعض الخدم: كم عندك منهنَّ؟ قال: أربعة. قلن: ائتِ بهن. فلم ألبث إلا قليلًا حتى طلَع بقفص فيه أربعة غِربان مُكتَّفة، فوَضَع القفص بين أيديهن، فدعون بِعيدان، فأخذت كل واحدةٍ منهن عودًا، فغنَت:
ثمَّ أخذنَ واحدًا من الغربان، فنتفن ريشه حتى تركْنَه كأن لم يكن عليه ريش قط، ثمَّ ضربنه بقُضبانٍ معهن لا أدري ما هي حتى قتَلنه، ثمَّ غنَّت:
ثمَّ أخذن الثاني فشدَدْن في رجليه خيطَين وباعدن بينهما وجعلن يقلن له: أتبكي بلا دمعٍ وتُفرِّق بين الآلاف، فمَن أحق بالقتل منك؟ ثمَّ فعلن به ما فعلن بصاحبه. ثمَّ غنت الثالثة:
ثمَّ قالت: أما الدعوى فقد استُجيبت، ثمَّ كسرت جناحيه، وأمرت ففُعل به ذلك. ثمَّ غنت الرابعة:
ثمَّ قالت لأخواتها: أي قتلةٍ أقتله؟ فقلن لها: علِّقيه برجليه وشدي في رأسه شيئًا ثقيلًا حتى يموت. ففعلت به ذلك، ثمَّ وضعن عيدانهن، ودعَون بالغداء فأكلن، ودعون بالشراب فشربن، وجعلن كلَّما شربْنَ قدحًا شربن للصورة مثله، وأخذنَ عيدانهن فغنين، فغنت الأولى كأنها تودِّع به:
ثمَّ غنت الثانية:
ثمَّ غنت الثالثة:
ثمَّ غنت الرابعة:
قالت: صحَّفتَ وأحلتَ المعنى، إنما قال: بفرقة الأحباب، فلذاك صِرت عدوَّ كل غاب. فقلت لهن: فبالذي خصَّكُن بهذا المجلس، وبحقِّ صاحبة الصورة، لما خبرتني بخبركن؟ قلن: لولا أنك أقسمت علينا بحق من يجبُ علينا حقه ما أخبرناك.
كنَّا صواحب مجتمعات على الأُلفة، لا تشرب مِنَّا واحدة البارد دون صاحبتها، فاختُرِمَت صاحبة الصورة من بيننا، فنحن نصنعُ في كل موضع نجتمع فيه مثل الذي رأيت، وأقسمنا أن نقتل في كل يوم نجتمِعُ فيه ما وجدنا من الغربان لعلة كانت. قلت: وما تلك العلة؟ قلن: فرَّق بينها وبين أُنسٍ كان لها، ففارَقت الحياة، فكانت تذمُّهنَّ عندنا وتأمر بقتلهن، فأقلَّ ما لها عندنا أن نمتثل ما أمرت به، ولو كان فيك شيء من السواد لفَعلنا بك فِعلنا بالغربان.
ثمَّ نهضنَ فمضين، ورجعتُ إلى أصحابي فأخبرتهم بما رأيت، ثمَّ طلبتهنَّ بعد ذلك، فما وقعت لهنَّ على خبر ولا رأيت لهنَّ أثرًا.
أبو السائب والغراب
أخبرنا أبو الحسن علي وأبو منصور أحمد ابنا الحسن بن الفضل الكاتب في ما أجازاه لي، قالا: حدَّثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله خالد الكاتب من لفظه، قال: أخبرنا أبو محمد علي بن عبد الله بن العباس بن المُغيرة الجوهري، قال: حدَّثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدَّثنا الزبير بن بكار، قال: قال الخليل بن سعيد: مررتُ بسوق الطير، فإذا الناس قد اجتَمَعوا يركبُ بعضهم بعضًا، فإذا أبو السائب قائمًا على غُراب يُباع قد أخذ طرف ردائه وهو يقول للغراب: يقول لك قيس بن ذريح:
ثمَّ لا تقع، ويَضربه بردائه والغراب يصيح.
لبنى صاحبة قيس بن ذريح والغربان
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، قال: حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان، قال: حدَّثني عبد الجبار بن عبد الأعلى، قال: قال خندف بن سليم: حدَّثني أحمد بن هود أن لُبنى أمرت غُلامًا لها فاشترى لها أربعة غِربان، فلما رأتهنَّ بكت وصرخَت وكتَّفتهنَّ، وجعلت تَضربهنَّ بالسوط حتى متن جميعًا، وجعلت تقول بأعلى صوتها:
فدخل زوجها، فرآها على تلك الحال، فقال: ما دعاكِ إلى ما أرى؟ قالت: دعاني أن ابن عمي وحبيبي قيسًا أمرَهنَّ بالوقوع فلم يَقعْنَ، حيث يقول:
فآليت أن لا أظفر بغرابٍ إلا قتلتُه. قال: فغضب، وقال: لقد هممتُ بتخليَةِ سبيلك. فقالت: لوددتُ أنك فعلتَ وأني عمياء، فوالله ما تزوَّجتُكَ رغبةً فيك، ولقد كنتُ آلَيتُ أن لا أتزوج بعد قيسٍ أبدًا، ولكني غلَبني أبي على أمري.
قلبي باكٍ
أخبرني أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة في ما أجاز لنا، قال: أخبرنا أبو عُبيد الله محمد بن عمران المَرْزُباني إجازة، قال: أنشدنا نِفْطوَيْهِ:
قاتل الله الرقيب
ولي من قصيدة أولها:
وفيها:
مَعبد المغني وغلامه
أخبرنا أبو الفتح عبد الواحد بن أحمد بن الحسين بن شيطا وأبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي، قالا: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سُوَيْد المعدل، قال: أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدَّثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: حدَّثني حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: كان لمَعبد مملوكٌ ربَّاه وأحسَن أدبه، فمر به فتًى، فاستظرف الغلامَ فاشتراه منه، فلما رحل سمع الفتى الغلامَ يبكي، ويقول:
فقال له مولاه: الحق بأهلِك، فهم في حِلٍّ من ثمنك.
الفضل بن الربيع يهوى غلامًا
دمعة هطلت في ساعة البين
وبالإسناد أيضًا قال: أخبَرَنا الحسين بن القاسم، قال: حدَّثني محمد بن عجلان، قال: أخبرني ابن السكِّيت أن عبد الله بن طاهر عزم على الحج، فخرجت إليه جاريةٌ شاعرةٌ، فبكت لما رأتْ آلة السفر، فقال محمد بن عبد الله:
ثمَّ قال لها: أجيزي. فقالت:
حنَّ شوقًا وأنَّ
ولي من نسيب قصيدة:
إياس وابنة عمه صفوة
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التَّنُوخِي في ما أجاز لنا، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ الخزاز، قراءةً عليه، قال: أخبرنا محمد بن خلف إجازةً، قال: حدَّثنا قاسم بن الحسن، قال: حدَّثنا العمري، قال: أخبَرَني الهيثم بن عدي أن إياس بن مُرَّة بن مُصعَب القيسي كان له أخٌ يُقال له فِهر، وكانا يَنزلان الحيرة، وأن فِهرًا ارتحَلَ بأهله وولده، فنزل بأرض السراة وأقام مُرَّة بالحيرة، وكانت عند مرة امرأة من بكر بن وائل، فلبثَت معه زمانًا لم يُرزَق منها ولدًا حتى يئس من ذلك. ثمَّ أُتي في منامه ليلةً من ذلك، فقيل له: إنك إن باشرت زوجتك من ليلتك هذه رأيتَ سرورًا وغِبطةً، فانتَبَه فباشرَها فحملت، فلم يزل مسرورًا إلى أن تمَّت أيَّامها، فولدت له غُلامًا فسماه إياسًا لأنه كان آيِسًا منه، فنشأ الغلام منشأً حسنًا.
فلما ترعرع ضمَّه أبوه إليه، وأشركه في أمره، وكان إذا سافر أخرَجَه معه لقلة صبره عنه، فقال له أبوه يومًا: يا بني، قد كبرت سني، وكنتُ أرجوك لمثل هذا اليوم، ولي إلى عمِّك حاجة، فأحب أن تشخص فيها. فقال له إياس: نعم يا أبه، ونِعمَ عين وكرامة، فإذا شئتَ فأنا لحاجتك. فأعلَمَه الحاجة، فخرج متوجِّهًا حتى أتى عمه، فعظُم سروره به وسأله عن سبب قدومه، وما الحاجة فأخبره بها، ووعده بقضائها، فأقام عند عمه أيَّامًا ينتظر قضاء الحاجة.
وكان لعمه بنتٌ يُقال لها صفوة ذات جمال وعقل، فبَينا هو ذات يوم جالسٌ بفناء دارِهِم إذ بدت له صفوةُ زائرةً بعض أخواتها، وهي تَهادى بين جوارٍ لها، فنظر إليها إياسٌ نظرةً أورثت قلبه حسرةً، وظلَّ نهارَه ساهيًا، وبات وقد اعتكرت عليه الأحزان ينتظر الصباح، يرجو أن يكون فيه النجاح، فلما بدا له الصباح خرَج في طلبها ينتظر رجوعها، فلم يلبث أن بدت له، فلما نظَرت إليه تنكَّرت ثمَّ مضت فأسرعت، فمر يسعى خلفها يأمُلُ منها نظرة، فلم يصل إليها، وفاتَتْه فانصرف إلى منزله، وقد تضاعف عليه الحزن واشتد الوجد، فلبث أيَّامًا وهو على حاله إلى أن أعقبه ذلك مرضًا أضناه وأنحل جسمه، وظلَّ صريعًا على الفراش.
فلما طال به سُقمُه وتخوَّف على نفسِه بَعَثَ إلى عمه ليَنظر إليه ويوصيه بما يُريد، فلما رآه عمُّه ونظر إلى ما به سبَقَتْه العبرة إشفاقًا عليه، فقال له إياس: كفَّ، جُعلت فداك يا عم، فقد أقرَحْتَ قلبي. فكف عن بعض بُكائه، فشكا إليه إياس ما يجد من العلة، فقال له: عزَّ والله عليَّ يا ابن أخي، ولن أدع حيلةً في طلب الشفاء لك. فانصرف إلى منزله وأرسل إلى مولاةٍ له كانت ذات عقلٍ فأوصاها به وبالتعاهُد له والقيام عليه.
فلما دخلَتِ المولاة عليه فتأمَّلته عَلِمَت أن الذي به عِشقٌ، فقعدت عند رأسه، فأجرت ذكر صفوة لتَستيقِنَ ما عنده، فلما سمع ذكرها زفر زفرةً، فقالت المرأة: والله ما زفر إلا من هوًى داخله، ولا أظنُّه إلا عاشِقًا. فأقبلت عليه كالمُمازحة فقالت له: حتى متى تُبلي جسمك، فوالله ما أظنُّ الذي بك إلا هوى. فقال لها إياس: يا أمَّه، لقد ظننتِ بي ظنَّ سوءٍ، فكفي عن مُزاحك. فقالت: إنك والله لن تُبديه إلى أحدٍ هو أكتم له من قلبي. فلم تزل تُعطيه المواثيق وتقسم عليه إلى أن قالت له: بحقِّ صفوة! فقال لها: لقد أقسمت عليَّ بحق عظيمٍ لو سألتِني به روحي لدفعتها إليك. ثمَّ قال: والله يا أمه ما أُعظِمَ دائي إلا بالاسم الذي أقسمتِ عليَّ بحقَّه، فاللهَ اللهَ في كتمانه وطلب وجهِ الحيلة فيه.
فقالت: أما إذا أطلَعْتَني عليه، فسأبلُغُ فيه رِضاك إن شاء الله، فَسُرَّ بذلك، وأرسل معها بالسلام إلى صفوة. فلما دخلَتْ عليها ابتدأتها صفوةُ بالمسألة عن الذي بلَغها من مرضه وشدة حاله، فاستبشَرتِ المولاة بذلك، ثمَّ قالت: يا صفوة، ما حالةُ من يبيت الليل ساهِرًا محزونًا يَرعى النجوم ويتمنى الموت؟ فقالت صفوة: ما أظنُّ هذا على ما ذكرتِ بباقٍ، وما أسرع منه الفِرَاق.
ثمَّ أقبلت على المولاة فقالت: إنِّي أريد أن أسألك عن شيءٍ، فبحقِّي عليك لما أوضحتِه. فقالت: وحقك إن عرفتُه لا كتمتُك منه شيئًا. قالت: فهل أرسلك إياس إلى أحدٍ من أهل وده في حاجة؟ فقالت المولاة: والله لأصدُقنَّك، والله ما جُلُّ دائه وعِظَم بلائه إلا بك، وما أرسلني بالسلام إلا إليكِ، فأجيبيه إن شئتِ أو دعي. فقالت: لا شفاه الله، والله لولا ما أوجَبَ من حقك لأسأتُ إليكِ، وزجَرَتْها. فخرجت من عندها كئيبة، فأتَتْه فأعلمته، فازداد على ما كان به من مرضه، وأنشأ يقول:
قال: ثمَّ إن عمه دخل عليه ليَعرف خبره، فقال له: يا عم، إنِّي مُخبرك بشيءٍ لم أُخبرك به حتى برح الخفاء ولم أُطق له محملًا. فأخبره الخبر، فزوَّجه فأفاق وبرأ من عِلَّتِه.
إبليس يغني
أخبَرَنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري في ما أجاز لنا قال: أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا، قال: حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدَّثني الربيعي، قال: قال إبراهيم القارئ: رأيتُ إبليس في النوم شيخًا أبيض الرأس واللحية، وهو يُغني بصوتٍ شَجٍ:
محنة العاشق
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ، قال: أخبرنا علي بن أيوب القُمِّي، قال: أخبرني أبو عُبيد الله محمد بن عمران، قال: أخبرني الصولي قال: قال أبو تمام:
المأمون والعباس بن الأحنف
أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن الجاز القرشي بالكوفة، بقراءتي عليه سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وأنا متوجِّه إلى مكة، قال: حدَّثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سعيد بن إسحاق البزاز في ما كتَبَ به إلينا، قال: حدَّثنا أبو هريرة أحمد بن عبد الله، قال: حدَّثنا الحسن بن محمد بن إسماعيل بن موسى، قال: رأيتُ في كتاب الأخبار لأبي أن المأمون لما خرَج إلى خُراسان كان في بعض الليل جالِسًا في ليلة مُقمِرَة إذ سمِعَ مُغنِّيًا يُغني من خيمة له:
فخرَج المأمون من موضعه حتى وقف على الخيمة وعَلِمها، فلما كان من الغد وجَّه فأحضر صاحب الخيمة، وهو شابٌّ، فسأله عن اسمه، فقال: العباس بن الأحنف. قال: أنت الذي كنت تقول:
قال: نعم. قال: ما شأنُك؟ قال: يا أمير المؤمنين تزوجتُ ابنةَ عمٍّ لي، فنادى مُناديك يوم أسبوعي في الرحيل إلى خُرَاسان، فخرجتُ. فأعطاه رزقَ سنةٍ وردَّه إلى بغداد، وقال: أقِم إلى أن تُنفِقَها، فإذا نفَدت رجَعْت.
مهجور لا مسحور
أنبأنا أبو سعيد مسعود بن ناصر السخبري، وقد قدم علينا بغداد، قال: أنبأنا أبو القاسم منصور بن عمر ببغداد، قال: أنشدنا أبو علي الحسن بن عبد الله الزنجاني لبعضهم:
صيَّرَت لحظها سِلاحًا
أخبرنا أبو سعيد أيضًا، قال: حدَّثني أبو غانم حميد بن مأمون بهمذان، قال: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي، قال: أخبرني أبو العباس الوليد بن بكر الأندلسي، قال: أنشدنا أبو عمر يوسف بن عبد الله المُلَقَّب بأبي رِمال، على البديهة، إذ عَبَرَ عليه حبيبُه:
جمال يلهي الناس
فلما أن كان يوم الجمعة وصلى الناس الغداة أقبلوا من كل ناحية، فوقف يتكلم علينا، فبَيَنا هو كذلك إذ أقبل كامل بن المخارق، فلما رأتْه الناس رموه بأبصارهم، وشُغلوا بالنظر إليه عن الاستماع منه، وفطنَ بهم حجَّار، فقطع كلامه، وقال: يا قوم! ما لكم لا ترجون لله وقارًا، ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقًا، وجعل القمر فيهن نورًا وجعل الشمس سراجًا، فوالله لَما تَنظرون منها على بُعدهما أعجب إليَّ من نظركم إلى هذا، فاحذروا أن تعودَ عليكم النفوس بعوائد حكمها، إذا حالت القلوب في غامض فكرها، أتنظُرون إلى جمالٍ تحوَّلُ عنه نضرته، ووجه تتخرَّمه الحادثات بعد خُبرَته؟ ما هذا نَظَرَ المشتاقين، أين تذهب بكم الشهوات؟ لقد عرَّضَتْكم لمحنة عظيمة على أنكم لا تَبلُغون منها محبوب نفوسكم ومُطالَبَة قلوبكُم إلا بإحدى ثلاثٍ؛ إما بتوبة يتلافاكم الله عز وجل بها، أو عصمةٍ يتغمَّدكم برحمته فيها، أو يُطلقكم وما تطلبون، فإما أن تحول أقدارُه بينكم وبين شهواتكم، وإمَّا أن تبلُغوا منها إرادتكم فتُسخِطوه عليكم، أما سمعتموه تعالى ذكره يقول: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ؟ ثمَّ أخذ في كلامه فأحصيتُ من أحرم من مجلسه ذلك اليوم نيَّف على سبعين بين رجُلٍ وغُلام.
مجنون مصفَّد بالحديد
إمَّا موت أو حياة
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، قال: حدَّثنا محمد بن القاسم، قال: أنشدني إبراهيم بن أحمد الشيباني لقيس بن ذريح:
عاشقان يُصلِّيان
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي ثابت قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أيوب، قال: حدَّثنا محمد بن عمران، قال: حدَّثني أحمد بن محمد الجوهري قال: حدَّثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: رأيتُ عاشقين اجتمعا، فجعَلا يتحدثان من أول الليل إلى الغَداة، ثمَّ قاما إلى الصلاة.
الحياء المانع
قال محمد بن عمران وأخبرنا الصوفي، قال: أنشدنا محمد بن القاسم:
العشاق الأعفَّاء
قال: وأنشدنا إبراهيم بن محمد بن عرفة لنفسه:
وللعطوي من أبيات:
سيوف البين
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، قال: أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: أنبأني أي قال: أنشدنا أحمد بن عبيد:
لقاء في الجنة
أخبرنا أحمد بن علي بن محمد السواق، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس، قال: حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، قال: حدثا محمد بن خلف، قال: حدَّثنا عبد الله بن عبيد، قال: حدَّثني محمد بن الحسين في إسنادٍ لا أحفظه، قال: عَلِق فتًى من الحي بنتَ عم له، فخطبها إلى أبيها فرغبَ بها عنه، فبلغ ذلك الجارية فأرسلَت إليه: قد بلَغني حُبُّك إياي، وقد أحببتُك لذلك لا لغيره، فإن شئتَ خرجتُ إليك بغير علم أهلي، وإن شئت سهَّلت لك المجيء. فأرسل إليها: كل ذلك لا حاجة لي فيه، إنِّي أخاف أن يُلقيني حُبُّكِ في نارٍ لا تُطفأ وعذاب لا يَنقطع أبدًا. فلما جاءها الرسول بكت ثمَّ قالت: لا أراكَ راهِبًا، والله ما أحدٌ أولى بهذا الأمر من أحدٍ، إن الخلق في الوعد والوعيد مشتركون.
قال: فقلت لها: أيتها الحبيبة، أفتذكُرينَني هناك؟ قال: فقالت: والله إنِّي لأتمنَّاك على مولاي ومولاك، فأعنِّي على نفسك بطاعته، فلعله يجمع بيني وبينك في داره. ثمَّ ولَّت: فقلت لها: متى أراك؟ قالت: تراني قريبًا إن شاء الله. قال: فلم يلبث الفتى بعد هذه الرؤيا إلا قليلًا حتى مات فدُفِنَ إلى جانِبِها.
صخر بن الشريد وزوجته
نوم الفهد
قال: فمات، فوالله ما انقضَت عدَّتها إلا ريثما تزوَّجت، فكأنه كان يرى زوجها وهو كما وصف.
لم يفوا ولم يرحموا
ضجيج الكواكب
أنبأنا محمد بن أبي نصر بدمشق، قال: أنشَدَني علي بن أحمد ليحيى بن هذيل:
الهوى حلو ومر
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا المعافى بن زكريا الجريري، قال: حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدَّثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدَّثني أبو الوضاح عن الواقدي عن أبي الجحاف قال: إنِّي لفي الطَّواف وقد مضى أكثر الليل وخفَّ الحاجُّ، إذا امرأة قد أقبلت كأنها شمسٌ على قضيبٍ غُرِسَ في كثيبٍ، وهي تقول:
زليخا ويوسف
قال وهبٌ: ولان من يوسف عليه السلام مقدارُ جناحِ بعوضة، فارتفعت الشهوة إلى وجهه، فاستنار، وكان سِرواله معقودًا تسعَ عشرةَ عقدةً، فحلَّ أول عقدة، وإذا قائلٌ يقول من زاوية البيت: إن الله كان عليكم رقيبًا! ثمَّ حلَّ العقد الثانية، فإذا قائلٌ يقول: ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فأوحى الله عز وجل إلى جبريل: الحقه، فإنه المعصوم في ديوان الأنبياء! فانفرَج السقف في أقل من الملح، فنزل جبريل عليه السلام فضرب صدره ضربة، فخرجت شهوته من أطراف أنامله، فنقص منه ولَدٌ، فوُلِد لكُلِّ رجُل من أولاد يعقوب عليه السلام اثنا عشر ولدًا، ما خلا يوسف عليه السلام فإنه وُلِدَ له أحدَ عَشَرَ. فقال: يا رب، ماذا خبري؟ لم ألحق بإخوتي في الولد. فأوحى الله عز وجل إليه أن الشهوة التي خرجت من أنامِلِك حاسبناك بها.
قال وهب بن منبِّه: وكانت زُلَيخا ممنوعةً من الشقاء، وكانت أجمل من بطشابع صاحِبة داود عليه السلام.
انتظري الدهر
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا، قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر بن إسحاق الجابري الموصلي بالبصرة، قال: حدَّثنا محمد بن ياسر الكاتب كاتب ابن طولون قال: حدَّثني أبي قال: حدَّثنا علي بن إسحاق قال: اشترى عبد الله بن طاهر جاريةً بخمسة وعشرين ألفًا على ابنةِ عمِّه، فوجدت عليه وقعَدت في بعض المقاصير، فمكثَت شهرين لا تُكلمه، فعمل هذين البيتَين:
قال: وقال للجارية: اجلسي على باب المقصورة فغنِّي به! قال: فلَمَّا غنَّت البيت الأول لم تَرَ شيئًا، فلما غَنَّت البيت الثاني إذا هي قد خرجت مشقوقة الثوب حتى أكبَّت على رجله فقبَّلَتها.
هَبُوا ساعةً
أخبرني أبو عبد الله الحافظ الأندلسي بدمشق قال: أنشدني أبو عبد الله بن حزم لنفسه:
الله يحب التوَّابين
أخبرنا أبو الحسن علي بن صالح بن علي بقراءتي عليه بمصر، في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب في ما أجاز لنا، قال: حدَّثنا ابن دُرَيْد قال: أخبرنا الحسن بن خضر، قال: أخبرني رجلٌ من أهل بغداد عن أبي هاشم المذكِّر، قال: أردتُ البصرة، فجئت إلى سفينة أكتريها، وفيها رجلٌ ومعه جاريةٌ، فقال الرجل: ليس ها هنا موضِعٌ! فسألَتْه الجارية أن يحملني فحملني، فلما سِرنا دعا الرجل بالغداء فوُضِع، فقال: انزِلوا بذلك المسكين ليتغدَّى. فأُنزِلتُ على أنني مسكينٌ، فلما تغدَّينا قال: يا جاريةُ هاتي شرابك. فشرب، وأمرها أن تسقيني، فقلت: رحمكَ الله إن للضيف حقًّا، وهذا يُؤذيني. قال: فتركني، فلما دبَّ فيه النبيذ قال: يا جارية هاتي العود وهاتي ما عندك. فأخذت العود ثمَّ غنَّت:
ثمَّ التفتَ إليَّ فقال: أتحسن مثل هذا؟ فقلت: أُحسن خيرًا منه. فقرأت: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ، فجعل يبكي، فلما انتهيت إلى قوله: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، قال: يا جارية اذهبي، فأنت حرة لوجه الله عز وجل، وألقى ما معه من الشراب في الماء، وكسَر العود، ثمَّ دنا إليَّ فاعتنقني وقال: يا أخي، أتُرى الله يقبل توبتي؟ فقلت: إن الله يحب التوابين ويُحب المتطهرين. قال: فآخيته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات قبلي، فرأيتُه في المنام، فقلت: إلامَ صِرت بعدي؟ فقال: إلى الجنة. فقلت: يا أخي، بِمَ صِرت إلى الجنة؟ قال: بقراءتك علي: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ.
رجل لا يَملك دمعه
أخبرنا إبراهيم بن سعيد إجازة قال: حدَّثنا أبو صالح السمرقندي قال: حدَّثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن اليسع بالقرافة، قال: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدِّينَوَرِي، قال: حدَّثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي، قال: قال أبو حمزة الصوفي، وحدثني أبو الغمر حسام بن المضاء المصري قال: غزوتُ في زمن الرشيد في بعض المراكبِ فلجَجنا في البحر، فانكسر بنا في بعض جزائر صقلية، فخرج مَن أفلَت وخرجتُ معه، فرأيت في بعض الجزائر رجُلًا لا يملك دمعه من كثر البكاء، فسألته عن حاله، وقلتُ له: أرفق بعينَيك، فإن البكاء قد أضرَّ بهما. قال: إلا ذلك. فقلت: وما جنايتهم عليك حتى تتمنَّى لهما البلاء؟ فقال: جنايةٌ لا أزال معتذِرًا منها إلى الله تعالى أيام حياتي. قلت: وما هي؟ قال: سرعة نظرهما إلى الأمور المحظورة عليهما، ولقد أوقعَتاني في ذنبٍ نظرت إليه لولا الرجاء لرحمة الله لأيستُ أن يعفو لي عنه، وبالله لو صفَح الله لي عنه وأدخلني الجنة ثمَّ تراءى لاستحيَيتُ أن أنظُر إليه بعينين عصتاه. ثمَّ صُعق وسقط مغشيًّا عليه.
حنين المغنية الحسناء إلى بغداد
أخبرني أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الأندلسي بمصر، وكتبه لي بخطه قال: أخبرني أبو محمد اليزيدي قال: حدَّثنا الزبير قال: حدَّثني أبو علي بن الأشكري المضري، قال: كنتُ من جُلاس تميم بن أبي أوفى، وممن يَخفُّ عليه، فبعث بي إلى بغداد، فابتعت له هناك جاريةً رائعةً جِدًّا، فلمَّا حصلت عنده أقامَ دعوةً لجُلسائه، قال: وأنا فيهم، ثمَّ وُضِعَت الستارة، وأمرَها بالغِناء ليَسمع غناءها، ويُحاسِنَ الحاضرين بها، فغنَّت:
قال: فأحسنَت ما شاءت، وطرب تميم وكل من حَضَر، ثمَّ غنت:
قال: فطرب تميمٌ، ومن حَضَر طربًا شديدًا، ثمَّ غنَّت:
قال: فاشتدَّ طربُ تميم، وأفرط جِدًّا، ثمَّ قال لها: تمني ما شِئت، فَلَكِ مُتَمَنَّاك. فقالت: أتمنَّى عافية الأمير وبقاءه. فقال: والله لا بدَّ لك أن تتمني. فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنَّى؟ فقال: نعم! فقالت له: أتمنى أن أغني بهذه النوبة ببغداد. قال: فاستنقعَ لونُ تميم، وتغيَّر وجهه، وتكدر المجلس، وقام وقُمنا كُلُّنا.
قال ابن الأشكري: فلحقني بعض خدمه، وقال لي: ارجع فالأميرُ يدعوك، فرجعت فوجدته جالسًا ينتظرني، فسلَّمت وجلست، فقال: ويحك، أرأيتَ ما امتُحِنَّا به؟ قلت: نعم أيها الأمير. فقال: لا بدَّ من الوفاء لها، وما أثقُ في هذا بغيرك، فتأهَّب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنَّت هُناك فاصرِفْها. فقلتُ: سمعًا وطاعةً. قال: ثمَّ قمت وتأهَّبت وأمرها بالتأهُّب وأصحبها جارية سوداء تخدُمها، وأمر بناقةٍ ومحْمل، فأُدخلَت فيه، وجعلها معي، ثمَّ دخلنا الطريق إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجَّنا، ثمَّ دخلنا في قافلة العراق، فلما وردنا القادسية أتَتْني السوداء عنها، فقالت: تقول لك سيِّدتي: أين نحن؟ فقلت لها: نحن نزول بالقادسية. فانصرفَت إليها وأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتها قد اندفع بالغناء:
فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله! أعيدي بالله! فما سُمع لها كِلمة. قال: ثمَّ نزلنا بالياسِريَّة، وبينها وبين بغداد قريبٌ في بساتين متصلة من الناس فيَبيتون ليلتهم، ثمَّ يُبكِّرون لدخول بغداد. فلما كان قرب الصباح إذا أنا بالسوداء قد أتتني ملهوفةً، فقلت: ما لك؟ فقالت: إن سيِّدتي ليست حاضرة! فقلت: وأين هي؟ قالت: والله ما أدري. قال: فلم أُحسَّ لها أثرًا، فدخلت بغداد وقضيت حوائجي بها، وانصرفت إلى تميم فأخبرته الخبر، فعَظُم ذلك عليه، ثمَّ ما زال بعد ذلك ذاكِرًا لها واجمًا عليها.
الأسود المتيم بالله
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الزوزني شيخ الرباط بقراءتي عليه، قال: سمعت محمد بن محمد بن ثوابة يقول: حُكيَ لي عن الشبلي أنه دخل إلى مارستان، فإذا هو بأسود إحدى يديه مغلولةٌ إلى عُنُقِه، والأخرى إلى سارية، وهو مقيَّد بقيدَين. قال: فلما رآني قال لي: يا أبا بكرٍ قُل لربك أما كفاك أن تيَّمتَني بحبِّك حتى قيَّدتَني؟ ثمَّ أنشأ يقول:
قال: فزعق الشبلي، وأُغميَ عليه، فلما أفاق رأى الغُلَّ مطروحًا والقيد والأسودَ مفقودَين.
الشبلي وشعر المجنون
أخبرنا أبو الحسن الزوزني أيضًا على أثره قال: قال لي علي بن المُثنَّى: دخلت على أبي بكر جَحدَر بن جعفر المُلقَّب بالشبلي في داره يومًا، وهو يهيجُ ويقول:
سأل الله أن يبتليه
حدَّثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن علي العلاف الواعظ من حفظه، قال: سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد بن سمعون الواعظ شيخنا يقول: سمعت أبا عبد الله الغلفي، أو قال لي أبو عبد الله الغلفي بطرطوس صاحب أبي العباس بن عطاء يقول: سمعت أبا العباس بن عطاء يقول: قرأتُ القرآن، فما رأيتُ الله عز وجل ذكر عبدًا فأثنى عليه حتى ابتلاه، فسألت الله تعالى أن يَبتليَني، فقلت: اللهم ابتلِني واحفظني في ما تبتليني، فما مضت الأيام والليالي حتى خرج من داري نيفٌ وعشرون ما رجع منهم أحدٌ، وذهَب ماله، وذهب عقله، وذهب ولده وأهله.
قال أبو عبد الله الغلفي: فمكث بحكمِ الغلبة سبعَ سنين أو نحوها، فما رأيت أحدًا صحا بعد غَلَبَةٍ فنطق بالحكمة أحسن من أبي العباس بن عطاء، فكان أول شيءٍ قال بعد صحوه من غلبته:
قال لنا شيخنا أبو طاهر بن العلاف: قال لنا أبو الحسين بن سمعون رحمه الله: أظن كان بقيَ عليه من الغلبة شيء، فقال: لقد كلَّفتني شططًا، وأنا أقول: لقد حمَّلتني عَجَبًا.
ريحانة ناطقة
أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد المكي صاحب قوت القلوب بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا أبو الفتح يوسف بن عمر القواس إملاءً، قال: حدَّثنا أحمد بن الحسن بن محمد بن سهل الواعظ قال: حدَّثنا محمد يعني ابن جعفر قال: حدَّثنا إبراهيم بن الجُنَيْد قال: حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: حدَّثنا روح بن منصور، قال: قال عباد العطار: قُمتُ ذاتَ ليلَةٍ فقلتُ: اللهم اكسُ وجهي منكَ حياءً، فصَرَخَت ريحانةٌ: أدعو لك بإسقاط العرَى، أنت مُراءٍ وتدعو بالحياء؟ الورع أولى بك من ذا، وأنشأت تقول:
قال: فبكَيتُ حتى اشتفيت.
عيسى ابن مريم والأسد
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سُوَيْد الشاهد قال: حدَّثنا الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، قال: حدَّثنا أبو يوسف الضخم قال: حدَّثنا عبد الله بن مقوم التَّنُوخِي قال: أخبرنا عبد المنعم عن أبيه قال: خرج عيسى ابن مريم — عليه السلام — في ليلةٍ شاتية في سياحته، فأخذته السماء بالمطر والريح، فأتى كهفًا ليسكُن فيه، فإذا هو بسبعٍ قد خَرَجَ إليه يُبصبِص، فلما رآه عيسى رجع وقال: أنت أحقُّ بموضعك. وجعل يقول: يا رب لكل ذي رُوحٍ ملجأً يسكن إليه، وليس لعيسى مسكن. فأوحى الله عز وجل إليه: استبطأتني، وعزتي لأزوِّجَنَّك يوم القيامة حوراء، ولأولمَنَّ عليك أربعة آلاف سنة.
كمون الحب في الحشا
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي الوكيل، قال: حدثا الحسن بن حسين بن حكمان قال: حدَّثنا أبو الفتح البصري قال: حدَّثنا إبراهيم بن محمد الصوفي قال: حدَّثنا أبو العباس بن عطاء قال: حُكيَ لنا عن الأصمعي قال: دخلتُ بعض أحياء العرب فإذا بقومٍ شُحبٍ ألوانُهُم، فقلتُ في نفسي: إن هؤلاء قد وقعوا على داء، فأنا أخرج من بينهم.
قال: فذهبتُ لأخرُج فإذا بعضُهم يقول لي: إلى أين يا أخا العرب؟ فقلت: أطلبُ لدائكم دواءً. فقال: ارجع عافاك الله، فإنا قومٌ ليس لدائنا دواءٌ، نحن قومٌ فَشَت في قلوبنا محبَّة الله فتغيَّرت ألواننا. قال الأصمعي: فأعجبني ما سمعت لأنني ما سمعت مثله قط. قال: فرجعتُ إلى الحي، ولم أزل أدورُ فرأيت خباءَ شَعر مُنفردًا عن البيوت، فقصدته فاطَّلعت فيه، فإذا أنا بفتًى حسنِ الوجه في عنقِه سلسلة مشدودةٌ إلى سِكَّةٍ في الأرض، قال: فهالني ما رأيتُ منه، فقلت: يا فتى، ما شأنك؟ فقال: يا ابن عمي! يقولون إنِّي مجنون! فقلت: أهو كما يقولون؟ فقال لي: لا والله ما أنا بمجنون، ولكني بحبِّ الله مفتون.
قال: قلت: فصِف لي الحب! قال: إليك عني يا أخا العرب، جَلَّ عن أن يُحَدَّ، وخفيَ أن يُرى، كمنَ في الحشا كُمون النار في الحجر، إن أقدحته أورى، وإن تركته توارى. ثمَّ صفَّق وأنشأ يقول:
كُل مُحبٍّ عليلٍ
أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن حسنون النرسي بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا أبو حاتم محمد بن عبد الواحد الرازي، قال: أخبرني محمد بن هارون الثقفي، قال: أنشدنا المسروقي، قال: أنشدنا بعض أصحابنا:
المكفوف المجذوم
أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ، قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن فضالة النيسابوري، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن شاذان المزكى، قال: سمعتُ طيبًا المخملي بالبصرة يقول: سمعت علي بن سعيد العطار يقول: مررتُ بعبادان بمكفوفٍ مجذوم، وإذا الزَّنبُور يقع عليه فيقطع لحمه، فقلت: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه، وفتح مِن عيني ما أغلق من عينيه.
قال: فبَينَا أنا أُردِّد الحمد إذ صُرِع، فبَينَا هو يتخبط نظرت إليه، فإذا هو مُقعدٌ، فقلت: مكفوفٌ يُصرَع، ومُقعَد مجذوم؟ قال: فما استتمتُ كلامي حتى صاح: يا مُكلَّفُ! ما دخولك في ما بيني وبين ربي؟ دعْهُ يعمل بي ما شاء. ثمَّ قال: وعزتك وجلالك لو قطعتني إربًا إربًا، وصببتَ عليَّ العذاب صبًّا، ما ازددتُ لك إلا حُبًّا.
زوجتان من الحور العين٢٦٨
فبينَا هو كذلك إذ ضَحِكَ، فقلنا: إنه حي. ثمَّ مكث مليًّا ثمَّ ضحك، ثمَّ مكث مليًّا ثمَّ بكى، ففتح عينيه. فقلنا: أبشِر يا فُلان، فلا بأس عليك، لقد رأينا منك عَجَبًا، كُنَّا نظن أنك قد مُتَّ إذ ضَحِكتَ، ثمَّ مكثت مليًا. قال: إنِّي لمَّا أصابني ما أصابني أتاني رجلٌ فأخذ بيدي فمضى بي إلى قصرٍ من ياقوتةٍ، فوقف بي على الباب، فخرج إليَّ غِلمان مُشمِّرين لم أرَ مِثلَهُم، فقالوا: مرحبًا بسيدنا! فقلت: من أنتم بارك الله فيكم؟ قالوا: نحن خُلِقنا لك.
ثمَّ مضى بي حتى أتى بي قصرًا آخر، وخرج إليَّ منه غِلمانٌ مُشمِّرين هم أفضل من الأولين، فقالوا: مرحبًا وأهلًا بسيدنا! فقلت: من أنتم بارك الله فيكم؟ فقالوا: نحن خُلِقنا لك.
ثمَّ مضى بي إلى بيتٍ لا أدري من ياقوتٍ أو زَبَرجَدٍ أو لؤلؤٍ، فخرج إليَّ غِلمانٌ مشمِّرين سوى الأولين، فقالوا مثل ما قال الأولون، وقلت لهم مثل ذلك، فوقف بي على باب البيت فإذا بيتٌ مبسوطٌ في فُرشٌ موضوعةٌ بعضها فوق بعض ونمارِقُ مبسوطة، فأدخلني البيت وفيه بابان، فألقيتُ نفسي بين الوسادتين، فقال: أقسمت عليك إلا ألقيت نفسك فوق هذه الفُرُش، فإنك قد نَصِبتَ في يومك هذا. فقمت فاضطجعت على تلك الفرش على وِطاءٍ لم أضع جنبي على مثله قط.
فبَينَا أنا كذلك إذ سمعتُ حِسًّا من أحد البابين، فإذا أنا بامرأة لم أرَ مثل جمالها، وعليها حُليٌّ وثيابٌ لم أرَ مِثلَها، وأقبلت حتى وقفت عليَّ، ولم تتخطَّ تلك النمارق، ولكن أقبَلَت بين السماطين حتى وقَفَت وسلَّمت، فرددت عليها السلام. فقلت: من أنتِ بارك الله فيكِ؟ فقالت: أنا زوجتك من الحور العين. فضحكت فرحًا بها، فأقامت تحدِّثني وتُذكِّرني أمر نساء أهل الدنيا كأن ذلك معها في كتاب.
فبَينَا أنا كذلك إذ سمعتُ حِسًّا من الشق الآخر، فإذا أنا بامرأةٍ لم أرَ مثلها ولا مثل حليها وجمالها، فأقبلَت حتى وقفت كنحوِ ما صنعت صاحبتها، ثمَّ مكثتْ تحدِّثُني، فأقصرت الأخرى، فأهويتُ بيدي إلى إحداهما، فقالت: تأنَّ لم يأنِ لك، إن ذلك مع صلاة الظهر. فما أدري أقالت ذلك أم رُميَ بي إلى صَحراء، فلم أرَ منهم أحدًا، فبكيتُ عند ذلك.
فقال الرجل: فما صلَّيتُ الظهر أو عند الظهر حتى قبضه الله عز وجل.
الشهداء في قباب ورياض
أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان أيضًا قال: أخبرنا أبو بكر الشافعي قال: حدَّثنا محمد بن يونس بن موسى قال: حدَّثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: حدَّثنا يزيد بن إبراهيم التُّستَرِي، عن أبي هارون الغنوي، عن مسلم بن شداد، عن عُبيد الله بن عمير، عن أبي بن كعب قال: الشهداء يوم القيامة بفناء العرش، في قِبَابٍ ورياضٍ بين يدي الله عز وجل.
عيناء الجنة
أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان، قال: حدَّثنا أبو بكر الشافعي، قال: حدَّثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، قال: حدَّثنا الحسن بن الصباح البزاز، قال: حدَّثنا إسحاق ابن بنت داود بن أبي هند، قال: أخبرنا عباد بن راشد البصري، عن ثابت البناني، قال: كنتُ عند أنس بن مالك، إذ قدمَ عليه ابنٌ له من غزاة يُقال له أبو بكر، فساءله، فقال: ألا أُخبرُك عن صاحبنا فلان؟ بينَا نحنُ قائلون في غزاتِنا إذ ثار، وهو يقول: وا أهلاه! وا أهلاه! فثُرنا إليه، وظننا أن عارضًا عرَضَ له، فقلنا: ما لك؟ فقال: إنِّي كنت أُحدِّثُ نفسي ألا أتزوَّج حتى أُستُشهد، فيُزَوِّجني الله تعالى من الحور العين، فلما طالت عليَّ الشهادة قلتُ في سفرَتي هذه: إن أنا رجعت، هذه المرة تزوَّجتُ، فأتاني آتٍ في المنام، قال: أأنتَ القائلُ إن رجعت تزوَّجتُ؟ قم، فقد زوَّجك الله العيناء، فانطلق بي إلى روضة خضراء مُعشِبة فيها عَشرُ جوارٍ.
(وذكر الحديث وقطع الحديث بسبب ما وقع في الجامع؛ وذلك أنه تكلَّم رجلٌ في المذهب، فعاوَنه رجلٌ فضوليٌّ في رواق الجامع، وأخرجوه فقُتل وانقطع عنَّا الحديث، وقُبر في غدٍ في قبر معروف، فسُئِل الشافعي أن يُملي تمام هذا الحديث، في يوم الجمعة لسبعٍ خلون من جمادى الأولى، فأملاه علينا) وبيد كل واحدٍ صنعة تصنَعُها، لم أرَ مثلَهُنَّ في الحسنِ والجمال. فقلت: أفِيكُن العيناء؟ فقُلن: نحن مِن خَدَمِها، وهي أمامك.
فمضيت فإذا بروضةٍ أعشَبُ من الأولى وأحسن، فيها عشرون جارية في يد كل واحدة صنعةٌ تصنعها، وليس العشر إليها بشيءٍ في الحسن والجمال، قلت: أفيكن العيناء؟ قُلن: نحن مِن خَدَمِها، وهي أمامك.
فمضيت فإذا بروضةٍ، وهي أعشبُ من الأولى والثانية في الحسن والجمال، فيها أربعون جارية، في يد كلِّ واحدةٍ منهنَّ صنعة تصنعها، وليس العشر والعشرون إليهن بشيء في الحسن والجمال. قلت: أفيكن العيناء؟ قلن: نحن من خدمها، وهي أمامك.
فمضيتُ فإذا أنا بياقوتة مجوَّفة فيها سرير عليه امرأةٌ قد فَضَلَ جَنباها عن السرير، فقلت: أأنتِ العيناء؟ قالت: نعم! مرحبًا بك. فأردتُ أن أضع يدي عليها، قالت: مَه، إن فيك شيئًا من الرُّوح بعد، ولكن تُفطِرُ عندنا الليلة. قال: فانتبهت.
قال: فما فرغ الرجل من حديثه حتى نادى المنادي: يا خيل الله اركبي. قال: فركبنا فصافَّ الرجلُ العدو، وقال: فإني لأنظر الرجل وأنظر إلى الشمس وأذكر حديثه، فما أدري أرأسه سقط أم الشمسُ سقطت.
جارية تزور في المنام
قال: فأصبح الفتى تاركًا لكل ما كان عليه من البطالة والصِّبى، ولم يزل مُتنسِّكًا أحسن تنسُّك حتى مات. قال: وكان اسمه سهلًا. قال أبو بكر بن الأنباري: الخُرد الحسان. والموضونة: المنسوجة بالذهب. والعِين: الحسان الأعين.
خود في قصر زبرجد
الجارية المجنونة والزرع
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي بهذا الإسناد عن زُرَيْق الصوفي، عن عبد الواحد، قال: قال عتبة الغلام: خرَجتُ من البصرة والأُبُلَّة، فإذا أنا بخِباءِ أعرَاب قد زرعوا، وإذا أنا بخيمة، وفي الخيمة جاريةٌ مجنونةٌ عليها جبَّةُ صوفٍ لا تُباع ولا تُشترى، فدنوت فسلَّمت، فلم ترُدَّ السلام، ثمَّ وليتُ فسمعتُها تقول:
قال: فدنوتُ إليها فقلت: لمن الزرع؟ فقالت: لنا إن سلِم. فتركتها وأتيتُ بعض الأخبية، فأرخَّتِ السماء كأفواه القرَب فقلت: والله لآتينَّها فأنظر قصَّتها في هذا المطر، فإذا أنا بالزرع قد غرِق، وإذا هي قائمةٌ نحوه وهي تقول: والذي أسكن قلبي من طرف سحر بصفيَّ محبة اشتياقك، إن قلبي ليُوقِن منك بالرِّضا، ثمَّ التفتَت إليَّ فقالت: يا هذا! إنه زرعه، فأنبَته، وأقامه، فسنبلَه، ركَّبه، وأرسل عليه غيثًا فسقاه، واطلع عليه فحفظه، فلما دنا حصاده أهلكه. ثمَّ رفعت رأسها نحو السماء فقالت: العبادُ عبادُك، وأرزاقُهُم عليك، فاصنع ما شِئتَ! فقلتُ لها: كيف صبرك؟ فقالت: اسكت يا عُتبة.
قال عتبة: فوالله ما ذكرتُ كلامها إلا هيَّجتني.
دعاء ريحان المجنون
وحكى الصَّقرُ بن عبد الرحمن الزاهد قال: كان ريحانُ المجنونُ يقول في دعائه: اللهم قصَدَتك آمالي، الطمع رغَّبني فيك، وولهت بك جوارحي لمواصلات الوداد إليك. ثمَّ يقول:
لا تمرض ولا تهرم ولا تموت
الغلام الشهيد
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بقراءتي عليه بمصر بإسناده، قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي: كنتُ مع عُبيد الله بن محمد الإسكندراني ببلاد الروم، فنظر إلى غُلامٍ جميلٍ يحمِلُ على عِلجٍ من الروم، ويرجع عنه أحيانًا، فدنا منه، وقال: فدتكَ النفسُ أما تَرى وجهًا هو أحسنُ من وجهِك وأبهَجُ من شَخصِكَ؟ فقال: بلى، والله يا عم. فقال: والله ما بينَك وبين أن ترى الله عز وجل إلا أن يَقتُلَكَ هذا العِلجُ، فصاح الغُلامُ، وحمل عليه فقتله العِلجُ، فكان عُبيد الله بن محمد يقول بعد ذلك إذا ذكره: رحمة الله علينا وعليه، إنِّي لأرجو أن يكون الله عز وجل قد ضَحِكَ إلى وجهه الحسنِ الجميل بما بذَلَ له من مُهجَة نفسه.
ابن جويرية والغلام الجميل
وبإسناده قال: قال أبو حمزة، وحدثني إسماعيل بن هرثمة الوقاص، قال: حدَّثنا الأسود بن مالك الفزاري قال: حدَّثني أبي قال: حضَرتُ أبا مسلم سعيد بن جُويرية الخشوعي، وقد نظر إلى غُلامٍ جَميل فأطال النظر إليه. ثمَّ قرأ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، سبحان الله، ما أهجَمَ طرفي على مكروه نفسه وأقدمه على سخطِ سيده، وأغراه بما قد نهى عنه، وألهَجَه بالأمرِ الذي حذَّر منه، لقد نظرت إلى هذا نظرًا لا أحسبُه إلا أنه سيَفضحُني عند جميع من عرفني في عرصة القيامة، ولقد تركني نظري هذا، وأنا أستحيي من الله عز وجلَّ وإن غَفَرَ لي وأراني وجهه. ثمَّ صُعِق.
يُجن بالجِنان
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بقراءتي عليه في المسجد الحرام بباب الندوة، قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المُذكِّر قال: حدَّثنا أبو الفضل العباس بن هزار بن محمد بن هزار الخطيب بمرو الروذ، قال: حدَّثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، قال: حدَّثنا علي بن الجعد، قال: حدَّثنا شعبة، قال: بَلَغَني عن عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز النُّخعي أنه كان يُصلِّي في مسجدٍ على عَهد عمر فقرأ الإمامُ ذات ليلة: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، فقطع صلاته وجُنَّ، وهام على وجهه، فلم يُوقَف له على أثر.
العظة القاتلة
يا حبيبي، أتدري مَن يرَاك، ومَن يَشهَد عَلَيكَ؟ قال: ومَن هُما يا عم؟ قال: الله تعالى يراك، ونبيه ﷺ يشهد عليه، فإياك واقتراف المعاصي بحضرة نبيك ﷺ، فإنك لا تأتي أمرًا في هذه البلدة يكونُ عليك فيه تبعة إلا والله تعالى له حفيظٌ والنبي ﷺ عليك به شهيدٌ وأصحابه لك خُصومٌ، وكفى خصمًا أن يكون القاضي عليه خالِقُه والشاهد عليه نبيه ﷺ والخصوم له خيرةُ في الله من خلقِه الصالحون من عِباده. فانتفض الغلام وسقط مغشيًّا عليه، واجتمع الناس فاحتَمَلوه إلى منزله، فما أتى عليه ثلاثة أيام حتى مات.
خليلان في الجنة
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا أبو صالح السمرقندي الصوفي، قال: حدَّثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بالقرافة، قال: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدِّينَوَرِي، قال: حدَّثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي، قال: حدَّثنا أبو حمزة الصوفي، قال: حدَّثنا محمد بن الأحوص الثقفي، قال: حدَّثني أبي قال: حدَّثني رجلٌ من أصحابنا، قال: كان محمد بن الحُسَين الضَّبِّي وعبد العزيز العزيز بن الشاه التيمي كأنهما هِلالان أو دُرَّتان من حُسنِهِما وجمالِهما، فسَمِعا كلام أبي عبد الله الديلمي، وكان من أحسن الناس كلامًا وأظهرهم خشوعًا وأكثرهم صلاةً واجتهادًا، فصَحِباه، وكان معه لا يأمن عَلَيهما أبواهما أحدًا غيره، فكان يحجُّ بهما في كلِّ عامٍ، ويُرابِطُ معهُما في السواحل سائر سِنيه، حتى أخذا منه ووعَيا عنه وتأسَّيَا بأخلاقه، واحتَذَيا على طريقته، وكانا مُقبلَين على طلب الخير والجهاد، فخرَج بهما فرآهما رجُلٌ من الجُند، فرأى شيئًا لم يرَ مثلَه، فأراد أخذهما منه، فحال بينه وبينهما، وأعانه الناس على ذلك، وكان مشهورًا بالنسك والعفاف، فاغتاله الجندي فقتله، وقبض على الغلامين فامتنعا عليه، واستغاثا بالناس، فجاءُوا فنظروا إلى أبي عبد الله الديلمي مقتولًا، فأخذوا الجندي وأتوا به السلطان، فقتله.
قال أبي: فحدثني هذا الرجل، قال: كنت حاضِرًا لهما، وقد دفنَّاه ورَجعا عن قبره، يُعرَف الحُزنُ عليهما، والكآبة فيهما، فسمعتُ أحدهما يقول لصاحبه: ما ترى يا أخي؟ قال: أرى أن يكون على عزيمتنا أو يَمضي على ما عقدنا من نيتنا حتى نقضي رباطَنَا، ونرجع إلى بلادنا. فقال له الآخر: لستُ أرى رأيك، ولا ما أشرتَ به، ولكن مصيبتنا بهذا الرجل ليست بصغيرة، ولا حقُّه علينا بيَسير، له علينا حق الوالد بالشفقة وحق التعليم وطول الصحبة وطهارة العشرة وحسن المرافقة. قال: فما ترى؟ قال: أرى أن نقيم على قبره مِقدار رباطنا نستغفر له، ثمَّ ننصرف، فإن عزمت أن نرابط بعد فعَلنَا، وإن أحببت أن نرجع صَدَرْنا.
قال: لقد قلتَ قولًا لن أخالِفَك عليه، فسألاني الإسعاد لهُما على ذلك، فأقمتُ معهُما نيِّفًا على عشرين يومًا، فاعتلَّ محمَّد بن الحسن، فاشتدَّت علَّتُه، فقلق عبد العزيز قَلَقًا شديدًا، وجَزِعَ جَزَعًا لم أرَه من أحدٍ قط، فقلتُ: ما هذا الجزَعُ يا أخي؟
قال: أفلا يحقُّ لي أن أجزَعَ على أخٍ شقيقٍ وحبيبٍ شفيقٍ؟
فسمعنا محمد فقال: يا عبد العزيز لا تجزع، فإن الجزع لا يُغني عني شيئًا مما نزل بي من الموت، واعلَم يا أخي أنك أرفع عند الله عز وجل درجةً مني.
فقال: وبِمَ ذاك؟
قال: بمُصابِك بي، فبكى عبد العزيز حتى ألصق خدَّه بالأرض وأبكى من حَضَرَ من النُّسَّاك وغيرهم. فقال له محمد: يا أخي، لا تَبكِ فإني في أمرٍ عظيم، وعلى خطرٍ جسيمٍ هو أكبر عندي وأجلُّ في قلبي من بُكائِك، وقد شغلني الفكرُ فِيكِ وفي وَحدَتِك بعدي عن بعض ما أنا فيه من ألم العلة، وقد تزايدت عِلَّتي لما أراه في وجهك من الحزن والغم، فإن استطعت أن تحتسبني عند الله عز وجل، فافعلنَّ، ولا تُطلِقن عليَّ عبرةً ولا تُذرين بعدي دمعة، فإني منقولٌ إلى رحمةٍ وصائِرٌ إلى نعمة، ولو كان أحدٌ أحق بالبكاء من أحد لكنتُ أحقَّ به لما نزل بي من الموت وشدة كربه وحياءً مما حضرني من ملائكة ربي.
فصُعِقَ عبد العزيز، وخرَّ مغشيًّا عليه، فدنوتُ من محمد بن الحسن، فقلت: ألك حاجةٌ أو أمرٌ توصيني به؟
فقال: أوصيك بإيثار تقوى الله عز وجل على جميع الأمور، وحاجتي أن تحفظني في أخي هذا، فإنه من أهمِّ من أترك بعدي.
فقال له أبو المغلَّس الصوفي، وكان يُشبَّه خشوعه بخشوع أبي عبد الله الديلمي: يا أبا عبد الله! قد عشتُما مصطحبَين منذ كنتما صغيرين، لا نعرِفُ لأحدٍ منكُما خِزيَةً ولا نحفَظ عليكم زلَّة، فنشأتما على أمر واحد لم تتهاجرَا ولم تختصما ولم تَتفرَّقا، وقد تكلَّم بعض الناس فيكما بكلامٍ قد رفع الله أقداركما عنه لما بيَّن الله تعالى اليوم من أمورِكما، ونشر من حسن طَويتكما، فالحمد لله على ما أولاكما من ذلك. وقد تذكر أن أعلام الموت إليك قد أقبلَت، والملائكة منك قد اقتربت، وإني أثِقُ بفهمك، لما أعلم من حُسنِ عقلك، فهل ترى أحدًا مِنهُم؟
فقال: إنِّي أرى صُوَرًا تُقبِلُ ولا أُثبِتُها على حقيقة النظَر.
قال: فما تجد؟
قال: أجِدُ ألمًا لو قُسِمَ على جميع الخلائق لكانوا في مثل حالي.
قال: صِفه لي.
قال: وما عسى أن أصِفَ لك منه؟ أجدُ نفسي كأنها بين جبلين قد اصطكَّا عليَّ، وكأن أسنَّة تُوخَزُ في بدني، وكأن نارًا تَوقَّدُ في عيني وأجِدُ لهاتي قد يَبِسَت، فما أجِدُ فيها شيئًا من ريقي.
فقال له أبو المغلَّس: إنِّي قرأتُ في بعض الأخبار، وما رُويَ في الآثار: حتى يرى مقعده من النار أو الجنة، فهل رأيتَ شيئًا من ذلك؟
قال: أما في وقتي هذا فلا.
فلما اشتد به الأمر، وكاد أن يَغلبه الكَرْبُ أو ما بيده إلى أبي المغلس، فأصغى بأذنه إليه، فقال: إنك سألتني عن مقعدي، وهذه الرُّوح قد خرجت من بعض جسدي، وارتفعت إلى حقويَّ، وقد رأيت مقعدي.
قال: وأين رأيته؟
قال: رأيته في جنة عدن.
قال: فهل رأيتَ أبا عبد الله الديلمي؟
قال: إن رُوحه لتُرفرِفُ عليَّ، وقد رأيتُ مقعده أفضل من مقعدي ودرجته أفضل من درجتي، ولا أحسب أنه قال إلا بالعلم الذي سَبَقَ إليه قبلي، أو بالشهادة التي اختصَّه الله تعالى بها دوني، وهذه رُوحه تُبشِّر روحي بما أعده الله تعالى لي مما لم يَبلغه عملي ولا أحاط به فهمي، ولا استحققتُه بفعلي مما يعجزُ عن صفته قول. ثمَّ مدَّ يده وغَمضَ عينيه، وقُضيَ رحمة الله عليه.
ثمَّ إن عبد العزيز أفاق بعد طويل، فحضر غُسله وجهازه، ودفنه ورجع، ورجعنا معه، فمكث أيَّامًا لا يطعم ولا يتكلم، وحضرت صلاة الغَداة، فقام إلى جانبي في الصف، فسمعته يدعو بعد ما فرغ من الصلاة، وهو يقول: اللهمَّ لا تجمع عليَّ كرب الدنيا وعذاب الآخرة، وعجِّل خُروجي عن الدنيا سالِمًا منها إلى رِضاك ومغفرتك، وارحم غربتي وأجِب دعوتي، واجمع بيني وبينَ من أحبَّني فيك، وأحببتُه لك، ولا تُفرِّق بيني وبينه، واجعل اجتماعنا في محل الفائزين.
ثمَّ قال: أقسمتُ عليك ألا فعلت. ثمَّ خرَّ ساجِدًا فظننتُ أنه قد سَجَدَ وأطال السجود، فدنوت منه فحرَّكته، فإذا هو قد قُضي، فدفنتُه إلى جنب صاحبه، فكُنَّا حينًا من الدهر نتحدَّثُ بحديثهم، وبما وهب الله عز وجل لهم من الاجتماع في الدنيا والآخرة، وبما أفضوا إليه من الكرامة والرحمة.
قال: فمكثت سِنين أتمنَّى أن أرى واحِدًا منهم في منام، فرأيت عبد العزيز بن الشاه، وعليه ثيابٌ خُضرٌ وهو يَطير بين السماء والأرض، فناديته فوقف، فقلت: ما فعل الله بك؟
قال: غفر لي.
قلت: بماذا غفر لك؟
قال: بقول الناس فيَّ ما لا يعلمون، وبرَميهم إيَّاي بالإفك والظنون.
قلتُ: فما فَعَلَ محمد بن الحَسَن؟
قال: جمع الله بيني وبينه، وأنا وهو في درجةٍ واحدةٍ.
قلتُ: فما فعل أبو عبد الله الديلمي؟
قال: هيهات! ذاكَ رجُلٌ أُبيحَ له الجنَّةُ، فهو يسرَحُ فيها ويَحِلُّ منها حيثُ يَشاءُ.
قلتُ: وبم ذاك؟
قال: بما سَبَقَ له من السعادة، وبفضل أجرِ الشهادة، وبحفظه لفَرْجه عن الحرام، وطرفه ولسانه عن الآثام.
فقلت: كيف وجدت الموت؟
قال: هوَّنه الله عليَّ لِما عَلِمَ من ضعفي وطول حزني.
قلتُ: هل رأيت جَهَنَّم؟
قال: وهل الصراط إلا عليها، والورود إلا إليها؟ نعم قد رأيتها ووردتها، فما آلمني حَرُّها ولا أفزعني زَفيرُها.
قلت: فكيف كان ممرُّك على الصِّراط؟
قال: كما يجري الفرسُ الجواد على الأرض البسيطة التي ليس فيها حجَرٌ يُخافُ أن يُعثَر به.
قلت: هل رأيت مُنكَدِرًا الشَّعرَاني؟
قال: رأيته وسَلَّمت عليه، وما أقرب درجته من درجة أبي عبد الله الديلمي.
قلتُ: وبم أُعطي ذلك؟
قال: بغضِّه لطرفه وحِفظِه لفرجه.
قلت: فهل رأيت مُغلِّسًا الصوفي؟
قال: نعم، رأيته على فرسٍ من ياقوتٍ أحمر، يطيرُ به في الجنة.
فقلت له: أين تريد؟
فقال: أريد أن أستقبل أرواحَ قومٍ قُتِلوا في البحر.
قلت: وكيف أُعطي ذلك؟
قال: بفضلِ رحمة الله.
قلتُ: قد علمت أنه إنما نال ذلك بفضل الله تعالى وبرحمه.
قال: بكثرة البكاء ومُلازمة الدعاء وطول الظماء وصبره على البلاء.
الهارب إلى ربه والآبق من ذنبه
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور الزاهد القوَّاس، رحمه الله، قال: حدَّثنا أبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد بن سهل إملاءً، سمعتُه من لفظه، قال: حدَّثنا سعيد بن عثمان بن عباس الخياط، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن عيسى الإسكندراني واصله مصيصي، قال: حدَّثني منصور بن عمار، قال: بَينَا أنا سائرٌ في بعض طُرُقات البصرة إذا أنا بقصرٍ مُشيد، وخَدمٍ وعبيدٍ، وبسُمرِ القنا منصوبة وقِباب الأدمِ مضروبةً، وإذا حاجِبٌ قد جلس على كرسي من حديد، وثنى رِجلًا على رِجل، كأنه جبار عنيد، فهممتُ بأن أدنو من القصر، فصاح بي تجبُّرًا وتحكُّمًا: ويحك! أما كان لك قصدٌ غير هذا الطريق إلى غيره؟ قلت: هذا مَلِكٌ يموت والحي في السماء مَلكٌ لا يموت، والله لأدنونَّ من القصر، فأنظر لمن هو.
فقلت: لمن يكون هذا القصر؟
فقالوا: لملك البصرة، وابن سيدها.
فدخلت إليه فنظر إليَّ وأجال حماليق عينَيه، كأنهما عينا ظبي تتفرَّس إليَّ، فقال لي: لقد اجترأتَ عليَّ إذ نظرت إلى حرمتي.
فصرخ الغُلامُ صَرْخَةً، ثمَّ قال: يا طبيب قَتلتَني، وبأسهُم المنايا رَشقتني، فما أخطأت صميم كبدي، ويحك يا طبيب، ما أحرَّ مكاويك وأرشق نَبَلَك.
فقلت له: حبيبي، قد أعجبتك نشوَانُ، فلو نظرت إليها بعد ثالثة من وفاتها، وقد تمعَّط شعرُها، وسال صديدها وبَليَ بدنُها إذن لمقتَّها، أفلا أصِفُ لك نشوان الجِنَان التي ذكرها الله تعالى في القُرآن: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا٢٨١ أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، جارية إذا خطرت مالت الأشجار إلى حُسن وجهها، وصَفَرَت الطيرُ إلى جمالها طربًا، وإذا وقَفَت وقفَ جاري الماء لوقوفها، وإذا مشت تبسَّمت الخضرةُ من تحت زِمام نَعلِها، ويكادُ ينطوي من رطوبة جسمِها، جاريةٌ خُلِقَت من الزَّعفَرَان والمسك الأذفر، بلا تَعَبٍ ولا نَصَب، فترى مجرى الدم منها كما ترى الخمرة في الزجاجة البيضاء، قال لها بارئ النسم: كوني، فكانت.
قال: فصاح الغُلام: يا طبيب قتَلتني، وبسهم المنايا رشقتني. ثمَّ ضرب بيده إلى أقبيته فشقَّها، ورمى بسيفه ومنطقته، ووثبَ قائِمًا على قدميه يرتعِدُ كالسَّعفة في يومٍ ريحٍ عاصِفٍ. ثمَّ قال: يا قصرُ! عليك السلام، قد هرَّبني هذا الطبيب الشفيق الرفيقُ.
قال منصور: فصرخَت نشوان صرخة من داخل القصر وقالت: يا مولاي، والله ما تُنصِفني، تهرُب وتترُكني، رويدًا مكانَك. فخرجت عليَّ نشوان، وقد قصَّرت من شعرِها، ثمَّ قالت: يا مولاي! من أراد السفر إلى بلدٍ قفرٍ هيَّأ الزاد، ومن أراد التوبة شمَّر لها.
قال منصور: ثمَّ هربا جميعًا، فخرجتُ إلى باب القصر، فإذا بالقُباب قد نُزعت وبالخيام قد رُفعَت، وبالحُجُب قد نُحِّيَت، فوقفتُ فناديت بأعلى صوتي: يا أيُّها الهارب إلى ربه، والآبق من ذَنبِه، لقد هربتَ إلى أكرمِ الأكرمين.
قال منصور: فلما كان بعد حولين كاملَين حججتُ إلى بيت الله الحرام، فبَينَا أنا في الطواف إذ سمعت صوتَ محزُونٍ مكروبٍ مغمومٍ، وهو يقول: إلهي وسيدي! نحل جسمي ودقَّ عظمي ورقَّ جلدي وخرجت من مالي رجاءَ أن تريني وجهك الكريم الجميل، وتجمع بيني وبين نشوان في الجنان.
قال منصور: فدنوت منه فقلت: يا غُلام، ما أقل حياءَك! بأي حقٍّ تطلب من ربك نشوان الجنان؟ فنظر إليَّ وبكى وقال لي: رفقًا يا طبيب! رِفقًا! هكذا تَضربُ بسوطِكَ جسمًا عليلًا، ثمَّ لا تَعرِفه؟ أنا والله مَلِكُ البصرة وابنُ سيدها.
قال منصور: فوالله ما عرفته إلا بخالٍ كان في وجهه، وقد نحل وذابَ جسمه، فقلت له: حبيبي، ما فعلت نشوانُك؟ فبكى: وقال: يا ابن عمَّار، والله لو رأيتَها ما عرفتها، فقد ذهب البُكا ببصرها، ومَحتِ الدموع محاسنَ وجهها.
فقلت له: حبيبي! ما كان أحوَجَني إلى رؤيتها. فأخذ بيدي فأوقفني إلى بابِ خيمة من الشَّعر، فقلتُ: أحبَّتي! بعد القُصور صرتم إلى خيامِ الشعر، قد أبلغتُم في العِبادة.
فخرجت نشوانُ من داخل الخيمة فقالت: بالله! أنت منصورُ بن عمَّار؟ فقلت لها: نعم! فقالت لي: يا منصور، أترَى ربي يُسكُنني الجنان ويُريني نشوان الجِنان؟ فقلت لها: جُدِّي في الطلب، وأحسني المعاملة، تخُدمكِ الوِلدان وتسكني الجِنان، وترَي نشوان الجِنان، وتزوري الله عز وجل الملك الديَّان.
قال منصور بن عمَّار: فشهقت شهقةً خرَّت منها ميِّتة بإذن الله. قال: فبكى الغلام وقال: بأبي والله مَن كانت مُساعدتي على الشدة والرخاء! ولم يتمالك الغُلامُ أن شهقَ أيضًا شهقةً خرَّ منها ميِّتًا.
قال منصور: فأخذنا في جهازِهِما، وغسلناهُما وكفَّنَّاهُما، وصلَّينا عليهما، ودفنَّاهُما رحمهما الله.
الدب المنقطع إلى الله
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الخياط قال: حدَّثنا أبو الحسن علي بن جهضم بمكة قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن سالم، قال: قال سهل يعني ابن عبد الله: أوَّلُ ما رأيت من العجائب والكرامات أني خرجتُ يومًا إلى موضعٍ خالٍ وطاب لي المقامُ، وكأني وجدتُ من قلبي قُربَةً إلى الله عز وجل، وحضرَتِ الصلاة، وأردتُ الطَّهورَ، وكانت عادتي من صِباي أن أُجدِّد الوضوء عند كل صلاة، وكأني اغتممتُ لفقد الماء، فبَينَا أنا كذلك إذا دُبٌّ يَمشي على رجليه كأنه إنسان ومعه جرَّةٌ خضراءُ مُمسكٌ بيده عليها.
قال سهل: فلمَّا رأيته من بعيد توهَّمت أنه آدمي، حتى إذا دَنا مني وسلَّم عليَّ ووضع الجرَّة بيني يدي قال: أبو محمد؟ فجاءني العلمُ يعترضُ، وذلك من شرطية الصحَّة، فقلت في نفسي: هذه الجرة، والماء من أين هو؟ فنطَقَ الدب وقال: يا سَهل! إنَّا قومٌ من الوحش قد انقطعنا إلى الله عز وجل بعزم التوكُّل والمحبة، فبَينَا نحن نتكلَّم مع أصحابنا في مسألة إذ نودينا: ألا إن سَهلَ بن عبد الله يريد ماءً للوضوء، فوضعت هذه الجرة في يدي، وبجنبتي ملكان، حتى دنَوت منك فصبَّا فيها هذا الماء من الهواء، وأنا أسمعُ خرير الماء.
قال سهل: فغُشي عليَّ، فلما أفقتُ إذا أنا بالجرة موضوعة، ولا علم لي بالدب أين ذهب، وأنا متحسِّرٌ إذ لم أُكلِّمه، فتوضَّأت، فلما فرغت أردتُ الشرب منه، فنوديت من الوادي: يا سَهلُ! لم يأن لك أن تشرب هذا الماء بعدُ. فبقيت الجرة، وأنا أنظر إليها تضطرب، فلا أدري أين مرَّت.
تصفيق القناديل
أخبرنا عبد العزيز بن علي قال: أخبرنا علي بن عبد الله الهمذاني بمكة، قال: حدَّثني محمد بن إبراهيم بن أحمد الأصبهاني بطرسوس، قال: سمعتُ أبا طالب يقول: كنت مع سَمنون، وهو يتكلَّم في شيءٍ من المحبة، وقناديل مُعلَّقَةٌ، فرأيت القناديل تُصفِّق حتى تكسَّرت.
المشتاق إلى الجنة
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي المحتسب قال: حدَّثنا أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن سويد، قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدَّثنا الكديمي، قال: حدَّثنا إسماعيل بن نصر العبدي، قال: صاح صائحٌ في مجلس صالح المُري: ليَقُمِ البَكَّاؤون المشتاقون إلى الجنة! فقام أبو جُهير، فقال: يا صالح، اقرأ! فقرأ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا. فقال: أعِدها يا صالح. فأعادها، فما انتهى حتى مات أبو جُهَير.
أشعر من قال في مِنى
أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن عيسى القيسي بقراءتي عليه بمصر، في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قال: حدَّثنا أبو الحسن بن مغلس بن جعفر السراري قال: حدَّثنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي، قال: أنشدنا ثعلب، قال: وسُئِلَ جعفر بن موسى اللِّيثي: من أشعرُ من قال في مِنًى وعَرَفاتٍ والحج؟ فقال: ما قال أحدٌ ما قال أصحابنا القُرَشيُّون، ولقد أحسن المَلحي — يعني كثيرًا — حين يقول:
أعين الإنس لا أعين الجن
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بمكة في المسجد الحرام، قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن حبيب المُذكِّر، قال: سمعت أبا علي الحسين بن أحمد البيهقي القاضي يقول: سمعت أبا بكر بن الأنباري يقول: سمعتُ العباس بن سالم الشيباني يقول: سمعتُ بن الأعرابي قال: ومن جيِّد شعره، يعني مجنون بني عامر:
قميص سعدون
أخبرنا أبو بكر الأردستاني محمد بن أحمد بمكة، قال: حدَّثنا أبو القاسم بن حبيب المذكِّر، قال: سمعتُ الحاكم الحسين بن محمد يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعتُ ذا النون المصري يقول: خرَجتُ يومًا بُكرَةً إلى مقابِرِ عبد الله بن مالك، فرأيت شخصًا مقنَّعًا كُلَّما رأى قبرًا منخَسِفًا وقف عليه، فإذا هو سعدون، فقلت: أي شيء تصنع ها هنا؟ فقال: إنما يسألُ عما أصنعُ مَن أنكر ما أصنع، فأمَّا مَن عرف ما أصنع فما يُغني سؤاله. فقلت: يا سعدون، تعالَ نبكِ على هذه الأبدان قبل أن تَبلَى! فقال: البُكا على القُدوم على الله عز وجل أولى بنا من البُكا على الأبدان، فإن يكُن عندها خيرٌ فخيرُها عند ربها أكثرُ من بلاها، وإن يكُن عِندها شَرٌّ، فشرُّها عند ربها شرٌّ من بِلاها في القبور، فليتها تُركت تبلى في القبور ولم تُبْعَث للحساب.
يا ذا النون إنك إن تدخل النار فلا ينفعك في النار دخول غيرك الجنة، وإن تدخُل الجنة لا يضرُّك دخولُ غيرك النار.
ثمَّ قال: يا ذا النون! وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ. ثمَّ صاح: وا غوثاه بالله، ماذا نقابله في الصحف؟ قال: فغشيَ عليَّ غشية، فلما أفقت إذا هو يمسح وجهي بِكُمِّه، ويقول: يا ذا النون! من أشرفُ منك إن متَّ مكانك هذا؟
قال محمد بن الصبَّاح: وقرأتُ على قميص سعدون:
ذو النون الصوفي والمشتاقون
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الهمذاني بمكة، قال: سمعتُ أبا بكر محمد بن علي، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن عيسى، قال: حدَّثنا يوسف بن الحسين، قال: وَصَفَ ذو النون المشتاقين فقال: سقاهم من صِرفِ المودَّة شُربَةً، فماتت شهواتُهُم في القلوب من خوف عَواقِب الذنوب، وذهلَتْ أنفسُهم عن المطاعم من حذرِ فوت المناعم، قد أنحلوا الأبدان بالجوع وصفُّوا القلوب من كل كَدَر، فهي مُعلَّقةٌ بمواصلة المحبوب. ثمَّ قال: يا حُسنَ غِراسِ الأشجان في رياض الكِتمانِ! وذكر كلامًا. ثمَّ تنفَّس وقال:
يا من يَعِزُّ عليَّ!
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بمكة بقراءتي عليه، في المسجد الحرام بباب الندوة، قال: حدَّثنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، قال: حدَّثنا يوسف بن عمر الزاهد، قال: قرأتُ على جعفر بن محمد الخواص حديث إبراهيم بن محمد المروزي، قال: رأيتُ الوليدَ بن عُتبَة قد سمِعَ صَوْتًا وهو يقول: يا من يَعِزُّ عليَّ ما لي أهُونُ عليكَ؟ ثمَّ صاح ووَقَعَ في الطين، فبقي أربعين يومًا مريضًا.
كل كريم طروب
أخبرنا الأردستاني بمكة، قال: حدَّثنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعتُ الإمام أبا سهل محمد بن سليمان بن روزبة يقول: سمعت أبا محمد السوري يقول: سمعتُ أبا العباس محمد بن يزيد يقول: حُدِّثت أن معاوية قال لعمرو بن العاص: امضِ بنا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو في هدم مروءته، نُبقي عليه فعله، يريد عبد الله بن أبي طالب، فدخلا عليه وعنده سائب خاسر، وهو يُلقي على جوارٍ له، فأمرَ عبد الله الجواري أن يتنحَّين لدخول معاوية، وتنحَّى عبد الله عن سريره لمعاوية، فرفع معاوية عمرًا فأجلسه إلى جنبه، ثمَّ قال لعبد الله: عُد إلى ما كنت عليه! فأمر بالكراسي فأُلقيت، وأمر الجواري أن يَخرُجن فخرجن فجلسن على الكراسي، فتغنَّى سائب:
ومضى في الشعر وردَّدت الجواري عليه النغم الطيب، وحرَّك معاوية يديه وتحرَّك في مجلسه، ثمَّ مد رجليه، فجعل يضرب وجه السرير، فقال له عمرو: اتَّئد، فإن الذي جئت تلحاه أحسن حالًا منك وأقل حركة. فقال معاوية: اسكت لا أبالك، فإن كل كريمٍ طروب.
عروة بن حزام
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري إجازةً، قال: أخبرنا أبو الحسين بن روح قراءةً عليه، قال: حدَّثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا، قال: حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدَّثني ابن فهم، قال: حدَّثني عبد الله بن شبيب، عن سليمان بن عبد العزيز، قال: حدَّثني خارجة المكي، قال: حدَّثني من رأى عروةَ بن حِزام يُطافُ به حول البيتِ، قال: فدنوت منه، فقلت: من أنت؟ قال: أنا الذي أقول:
قلتُ: زدني. قال: لا والله، ولا حرفًا واحدًا.
جفون وجفون
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا علي بن أيوب القُمِّي، قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن عمران المَرْزُباني، قال: أنشدني محمد بن أحمد الكاتب، قال: أنشدني محمد بن موسى البربري:
القاتلات الضعائف
الزوجة الفارك
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري إجازةً، قال: حدَّثنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، قال: حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان، قال: حدَّثني عبد الله بن المهاجر، قال: حدَّثني محمد بن يزيد، قال: تزوَّج رجُلٌ امرأةً من أهل الكوفة، وكانت ذات جمال وظرف، فكانت تجيء وتذهب وتتمثَّل بهذا البيت:
قال: فكان الزوج يتطيَّر من قولها، ويقول: تَعِدُني بالذهاب، قال: وكان لها مُحِبًّا، قال: فأصبح ذات يومٍ يَطلُبُها، فلم يقدر عليها حتى الساعة.
لابسة السواد
حدَّث أبو عمر محمد بن العباس، قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف، قال: حدَّثني أبو صالح الأزدي، قال: حدَّثني محمد بن الحسين، قال: أخبرني محمد بن سماعة القرشي، قال: آخرُ من مات من العشق عليُّ بن أديم مولى الجعفي، وكان خرَّازًا، مرَّ بكُتَّابٍ بالكوفة في بني عبس، فرأى جارية يُقال لها مُنهِلَة، فعشقها، وكان رآها في سواد، فقال:
قال: وأصابه عليها شبيه الجنون، فجمع أبوه التُّجار فتحمَّل بهم على العبسية مولاةِ الجارية، وأعطاها مالًا كثيرًا فأبت، فخرَج الفتى إلى أم جعفر، فكتب إليها قصةً يُخبرُها فيها بخبره وحاله، فأمرت أن تُشترى له، فبَينا هو يتنجَّزُ ذلك إذ خرجت جاريةٌ من القصر فقالت: أين هذا العاشِقُ؟ فأومئوا لها إليه، فقالت: أنت عاشقٌ، وبينك وبين من تحب الجسور والمفاوز والقناطر، ولا تدري ما يكون؟ قال: صدقتِ. وقام من مجلسه مبادرًا، فاكترى بغلًا، فمات يوم دخوله الكوفة.
ما لليالي وما لي
أنشدني أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن الشويح الأرموي الفقيه بمصر لنفسه:
يا جارة الحي
ولي من ابتداء قصيدة نَظَمتُها بالشام في بني أبي عقيل رحمهم الله:
رابعة العدوية الصوفية ومنامها
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي بقراءتي عليه، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله القطيعي قال: حدَّثنا الحسين بن صفوان، قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد القرشي، قال: حدَّثنا محمد هو ابن الحسين، قال: حدَّثني عصام بن عثمان الحلبي، قال: حدَّثني مسمع بن عاصم، قال: قالت لي رابعة العدوية: اعتللتُ عِلَّة قطعتني عن التهجد وقيام الليل، فمكثت أيَّامًا أقرأ جزئي إذا ارتفع النهار، لما يُذكر فيه أنه يُعدَّل بقيام الليل. قالت: ثمَّ رزقني الله عز وجل العافية فاعتادَتْني فترةٌ في عقبِ العلة، وكنت قد سكنت إلى قراءة جزئي بالنهار، فانقطع عني قيام الليل. قالت: فَبَينَا أنا ذات ليلة راقدةٌ أريتُ في منامي كأني رُفِعتُ إلى روضةٍ خضراء، ذات قُصورٍ ونَبتٍ حسن، فبَينَا أنا أجولُ فيها أتعجَّب من حُسنِها إذا أنا بطائرٍ أخضَرَ وجاريةٍ تُطاردُه، كأنها تريد أخذه، قالت: فشغلني حسنُها عن حسنه، فقلت: ما تريدين منه؟ دعيه، فوالله ما رأيتُ طائرًا قط أحسنَ منه.
قالت: بلى. ثمَّ أخذت بيدي فأدارت بي في تلك الروضة حتى انتهت بي إلى بابِ قصرٍ فيها، فاستفتحت، ففُتح لها، ثمَّ قالت: افتحوا لي بيت لَمْقَة. قالت: ففُتِح لها بابٌ شاع منه شعاعٌ استنار من ضوء نوره ما بين يدي وما خلفي، وقالت لي: ادخلي، فدخلت إلى بيتٍ يحارُ فيه البصر تلألؤًا وحُسنًا، ما أعرِفُ له في لدنيا شبيهًا أشبِّهُه به.
قالت: فأرسلت يدها من يدي، ثمَّ أقبلت عليَّ فقالت:
ثمَّ غابت من بينِ عينيَّ، واستيقظتُ حين تبدَّى الفَجرْ، فوالله ما ذكرتها فتوهَّمتها إلا طاش عقلي، وأنكرتُ نفسي. قال: ثمَّ سقطت رابعة مغشيًّا عليها.
معاذة وغايتها من صلاتها
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي، قال: حدَّثنا محمد بن عبد الله، قال: حدَّثنا الحسين، قال: حدَّثنا عبد الله، قال: حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: حدَّثنا يحيى بن بسطام، قال: حدَّثنا عمران بن خالد، قال: حدثتني أم الأسود بنت زيد العدوية، وكانت معاذة قد أرضعتها، قالت: قالت لي معاذة، لمَّا قُتِلَ أبو الصَّهباء وقُتِل ولدُها: والله يا بنيَّةُ! ما محبَّتي للبقاء في الدنيا للَذيذِ عيشٍ، ولا لِرُوح نسيم، ولكني والله أحبُّ البقاء لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل لعله يجمعُ بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة.
معاذة تبكي وتضحك عند احتضارها
وبإسناده قال: حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: حدَّثني رُوح بن سلمة الوراق، قال: سمعتُ عُفَيرَةَ العابدةَ تقول: بَلَغَني أن معاذة العدوية، لمَّا احتُضِرَت بَكَت، ثمَّ ضحكت، فقيل لها: بكيتِ ثمَّ ضحكتِ، فمم البكاء ومم الضحك رحمك الله! قالت: أما البكاء فإني والله ذكرتُ مُفارقة الصيام والصلاة والذكر، فكان البكاء لذلك. وأمَّا الذي رأيتم من تبسُّمي وضِحكي، فإني نظرت إلى أبي الصهباء، وقد أقبل في صَحنِ الدار، وعليه حُلَّتان خضرَاوان، وهو في نَفَرٍ، والله ما رأيتُ لهم في الدنيا شبَهًا، فضحِكتُ إليه، ولا أُراني أُدركُ بعدَ ذلك فَرضًا. قال: فماتت قبل أن يدخل وقت الصلاة.
ذو الرُّمَّة ومي
أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة، قال: أنبأنا أبو عُبيد الله محمد بن عمران المَرْزُباني، قال: حدَّثني محمد بن أحمد الكاتب، قال: حدَّثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد بن زياد الأعرابي، قال: حدَّثني أبو صالح الفزاري، قال: ذُكِرَ ذو الرُّمَّة في مجلِسٍ فيه عدةٌ من الأعرَاب، فقال عصمةُ بن مالك الفَزاري شيخٌ منهم، بلغ مائة وعشرين سنة: إيَّاي فَسَلوا عنه! كان حُلو العينين، حسن المضحك، برَّاق الثنايا، خفيف العارضين، إذا نازَعَك الكلام لا تسأم حديثه، وإذا أنشد أبرَّ وحَسُنَ صوتُه.
فلما انتهيت إلى قوله:
قالت الظريفة: لكن اليوم فليُجل، ثمَّ مضيتُ، فلما انتهيت إلى قوله:
قالت مي: وَيحك يا ذا الرُّمَّة، خَفْ عواقب الله عز وجل. ثمَّ مضيتُ حتى انتهيت إلى قوله:
فقالت الظريفة: قتلتِه قتَلَكِ الله! فقالت مية: ما أصحَّه وهنيئًا له. قال: فتنفَّس ذو الرمة تنفَّسةً كاد حرُّها يَطيرُ بلحيته، ثمَّ مضيت حتى انتهيت إلى قوله:
فقالت الظريفة: هذا الوجه قد بَدا، وهذا القولُ قد تُنوزِعَ، فمن لنا بأن ينضو الدَّرْعَ سالِبُه؟ فالتفتت إليها مي فقالت: ما لكِ قاتلك الله؟ ماذا تَجنينَ به؟ فتضاحكت النسوة، فقالت الظريفة: إن لهذَينِ لشأنًا، فقُم بنا عنهُما. فقُمنَ، وقمتُ فصرتُ إلى بيتٍ قريبٍ منهما أراهُما، ولا أسمع كلامَهُما إلا الحرفَ بعد الحَرْفِ، فوالله ما رأيته بَرحَ مكانَه ولا تَحَرَّك، وسمعتها تقول: كذبتَ والله، فوالله ما أدري ما الذي كذَّبتْه فيه. فتحدَّثا ساعةً، ثمَّ جاءني ومعه قُوَيْرِيرَة فيها دُهْنٌ طَيِّبٌ، فقال هذه دُهنَةٌ أتحفَتْنا بها مي، فشأنك بها. وهذه قلائدُ زوَّدَتناها للجُؤذُرِ، فلا والله لا قلَّدتُهُن بعيرًا أبدًا. ثمَّ عقدهُنَّ في ذؤابة سيفه.
قال: فانصَرفنا، فلم نزل نختلف إليها مَرْبَعَنا حتى انقضى. ثمَّ جاءني يومًا، فقال: يا عصمةُ! قد ظَعنت مي، فلم يَبق إلا الديار، والنظر في الآثار، فانهَض بنا ننظر إلى آثارِها، فخَرَجنا حتى وَقَفنا على دِيارِها، فجعل ينظر ثمَّ قال:
ثمَّ انتضحَت عيناه بعَبرَةٍ، فقلت: مَه! فقال: إنِّي لجَلْدٌ، وإن كان مني ما ترَى، فما رأيتُ صبابةً قط، ولا تجلُّدًا أحسَنَ من صَبابته وتجلُّده يومئذٍ. ثمَّ انصرفنا، فكان آخر العهد به.
تآلفا في الحياة وفي الممات
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، قال: حدَّثنا علي بن أيوب القُمِّي، قال: حدَّثنا أبو عُبيد الله محمد بن عمران، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد بن أبي سعيد، قال: حدَّثني إسحاق بن محمد النخعي، قال: حدَّثني معاد بن يحيى الصنعاني، قال: خرجتُ من مكة إلى صنعاء، فلمَّا كان بيننا وبين صنعاء خمسُ ساعات، رأيت الناس يَنزِلونَ عن محامِلِهم ويَرْكبون دوابَّهم، فقلتُ: أين تُريدون؟ قالوا: نريد أن ننظُرَ إلى قبرِ عفرَاءَ وعُروَةَ. فنزلتُ عن مَحملي ورَكِبتُ حِماري، واتصلت بهم، فانتهَيتُ إلى قبرين مُتلاصقَين، قد خرج من كِلا القبرَين ساقُ شجرَة، حتى إذا صارا على قامةٍ التفَّا، فكان الناسُ يقولون: تآلَفا في الحياةِ وفي الممات.
الهوى إله معبود
وبإسناده قال: حدَّثنا محمد بن يحيى، قال: حدَّثنا عون بن محمد، قال: حدَّثنا إسحاق الموصلي، قال: قال يحيى بن أكثم: قال ابن عباس: الهَوَى إله معبود! فقيل له: أتقول ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ.
عمر بن عون وحبيبته بيا
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، قال: حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس الحافظ، قال: أخبرنا أبو الحسين الزبيبي، قال: حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُباني، قال: حدَّثنا أبو الفضل المروروذي، قال: حدَّثني أبو عبد الله محمد بن صالح، قال: كان فتًى من بني مُرَّةَ يُقال له عمر بن عون، وكان يُحب جاريةً من قومه يُقالُ لها بيا بنتُ الرُّكين، فتزوَّجها رَجلٌ من قومه يُقالُ له دُهَيم، وأبَت بيا إلا حُبَّ عُمَرَ بن عون، وأبى عمر إلا حُبَّها وقول الشعر فيها، فخرج زوجُها بها هاربًا منه حتى وقَع باليمن في بني الحارث بن كعب، فطلبها عمر فخفيَ عليه أمرُها، ولم يعلم مَوضِعَها، فمكث حينًا يبكي ويَبكي له من عرَفه. ثمَّ خرج حاجًّا على ناقةٍ له، ومعه صحابةٌ له، وقال: لعلي أتعلَّقُ بأستارِ الكعبة أسأل الله، فعسى أن يَرحمني فيرُدَّها عليَّ أو يذهب بقلبي عن حُبِّها.
فلما كان بمِنًى نظَرَ إليه فتًى من بني الحارِثِ بن كعب، فأعجبه، فجلس إليه يتحدَّثُ معه، وأنشَدَه عُمَرُ بعضَ شِعرِه في بيا، وشكا إليه بعض ما هو فيه من البلاء، فرقَّ له، فقال الفتى وسأله عن صفتها وصفة زوجها، فوصفها له، فقال الفتى: عندي خبرُ هذه المرأة وهذا الرجل منذُ سنواتٍ. فخرَّ عُمرُ لله تعالى ساجِدًا، ثمَّ سأله عن حالها، فذكَرَ له أنها سالمةٌ، وأنها باكيةٌ حزينةٌ لا يُهنؤها شيءٌ من العيش. فقال له عمر: هل لك في صنيعةٍ عندَ مَن يُحسِنُ الشكر؟ فقال له الفتى: أفعلُ ماذا؟ قال عمر: تخلَّف عن أصحابك، وأتخلَّفُ عن أصحابي حتى لا يكونَ عندَ أحدٍ مِنَّا عِلمٌ، ثمَّ أمضي معك متنكِّرًا. فقال الفتى: ذلك لك في عُنقي.
فلما كان النَّفْرُ تخلَّفَ كلُّ واحدٍ منهما عن صاحبه، وأقاما بمكة أيَّامًا ثلاثةً أو أربعةً حتى ارتحل الحاج، ثمَّ مضَيا حتى وصل الفتى إلى أهله، فأدخله مع امرأته وأخته في منزلهما، ومضى إلى بيا، وأخبرها، فكانت تجيئه كل يوم فيتحدَّثان ويشكُوانِ ما كانا فيه من البلاء والوحشة.
واسترابَ زوجُها بغِشيانها ذلك البيت، ولم تكن من قبل تَغشاه، ولا تقرَبُ أهلَه، واسترابَ بطيبِ نفسِها، وأنها ليست كما كانت. فخرَج في رِفقة إلى نَجرَان على أن يغيب عشرَ ليال، فأقام ليلتين مُختفيًا في موضع، ثمَّ أقبَلَ راجِعًا في الليلة الثالثة، وقد أمِنه عمرُ، وظنَّ أنه قد ذهب فأتاها، ففرشَت له بِساطًا قُدَّامَ البيت، فتحدَّثا ثمَّ غَلَبَهُما النوم، وهي مُضطجعةٌ على جانبِ البِساطِ، وعمرُ على جانبه الآخر، فأقبل الزوج فوجَدهما على تلك الحال، فنظر في وجه عمر، فعرفه فأثبَتَه، وانتبه عمر، فوثبَ بالسيفِ فَزِعًا. فقال له الزوج: ويلك يا عمرُ ما يُنجيني منك بَرٌّ ولا بحرٌ.
فقال عمر: يا ابن عمي! ما أنا على رِيبةٍ، وما يُسائلني الله تعالى عن أهلك عن قبيحٍ قط، ولكن نشأتُ أنا وهي فألِفتُها وألِفَتني، ونحن صبيان، فلست أُعطى عنها صَبرًا، وما بيننا شيءٌ أكثر من هذا الحديث الذي ترى.
قال له الزوج: أما أنا فلم أهرُبْ إلى هذه البلاد إلا منك، فأمَّا بعدَ أن صحَّ عندي من عِفَّتِك وصِدقِ قَوْلِكَ فإني لا أهرُبُ منك أبدًا.
فأقاموا سَنَوَاتٍ، وهم على تلك الحال، فمات عمر وجدًا بها، فكانت تبكي عليه الدماء فضلًا عن الدموع، ثمَّ مات دُهَيْم بعد ذلك وعُمِّرَت هي.
التقيُّ عزيزٌ
وبإسناده قال: وأخبرني محمد بن سعد قال: أنشدني رَجُلٌ من النُّسَّاك:
لا تنفع الرُّقى
ولي من أثناء قصيدة:
ماتت على القبر
أخبرني أبو عبد الله محمد بن أبي نصر، قال: حدَّثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي، قال: أخبرنا القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع، قال: حدَّثنا أبو علي القالي إسماعيل بن القاسم، قال: حدَّثنا ابن دُريد، قال: حدَّثنا عبد الرحمن عن عمه، قال: رأيتُ بالبادية امرأةً على راحلةٍ تطوفُ حولَ قبرٍ وهي تقول:
قال: فدنوتُ منها لأسألها عن أمرِها فإذا هي ميتة.
إسحاق وزهر الأعرابية
وبإسناده قال: حدَّثنا القالي، قال: حدَّثني جحظة، قال: حدَّثني حماد بن إسحاق الموصلي، قال: حدَّثني أبي، قال: كتبتْ إليَّ زَهر الأعرابية وقد غابت عني كتابًا فيه:
قال حماد: قال لي أبي، فكتبتُ إليها:
الضيف الضائع
وبإسناده قال: حدَّثنا القالي، قال: أنشدنا ابن دُرَيد ولم يُسمِّ قائِلًا، ولا عَزاه إلى أحد:
التفاح بدل الجمار
أنبأنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي، قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سُوَيْد المعدل، قال: حدَّثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: أخبرني ابن الأصقع، قال: قال لي بعضُهم: رأيتُ ببغداد في وَقتِ الحَج فتًى، ومعه تُفَّاحٌ مُغلَّفٌ، فانتهى إلى سورٍ فوقف تحته، فاطلَعَ عليه جوارٍ كأنهن المَها، فأقبل يَرميهنَّ بذلك التفاح، فقلت له: أليس كنت معتزِمًا على الحج؟ فقال:
قمرية الوادي
أنبأنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي، قال: حدَّثنا إسماعيل بن سويد، قال: حدَّثنا الكوكبي، قال: حدَّثنا أبو الحسن بن الأصقع، قال: كان فتًى من بني عُذرَة يتعشَّقُ ابنة عمٍّ له، فبلغه أن فتًى أسوَد يأتيها لريبة، فغمَّه ذلك، فمرَّ يومًا ببابها، فقال:
فلما سَمِعت شعره خرجت، فاعتذرَت إليه، وآلت أن لا تعرِفَ ذِكرًا غيره، فلم يزل يحتالُ حتى تزوَّجَها.
الصوفي وغلامه
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر، قال: أخبرنا أبو صالح السمرقندي، قال: حدَّثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن اليسع بالقرافة، قال: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر الدِّينَوَرِي، قال: حدَّثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي، قال: حدَّثني أبو المختار الضبي، قال: حدَّثني أبي، قال: قلتُ لأبي الكُمَيت الأندلسي، وكان جوَّالًا في أرض الله عز وجل: حدِّثني بأعجب ما رأيتُه من الصوفية! قال: صحبتُ رجُلًا منهم يُقال له مِهرجان، وكان مجوسيًّا، فأسلَمَ وتَصَوَّفَ، فرأيتُ معه غُلامًا جميلًا لا يُفارقُه، فكان إذا جاء الليل، قام فصلَّى ثمَّ ينام إلى جانبه ثمَّ يقوم فَزِعًا، فيُصلِّي ما قُدِّر له، ثمَّ يعود فينام إلى جانبه أيضًا، حتى يفعل ذلك في الليلة مِرارًا، فإذا أسفر الصبح أو كاد أن يُسفِر أوتَرَ. ثمَّ رفع يديه فقال: اللهمَّ إنك تعلمُ أن الليل قد مضى عليَّ سليمًا لم أُقارِفْ فيه فاحشةً، ولا كتبَتِ الحَفَظة عليَّ فيه معصية، وأن الذي أُضمِرُهُ في قلبي لو حَمَلَتهُ الجبال لتصدَّعت، أو كان بالأرض لتدكدكت.
ثمَّ يقول: يا ليلُ اشهد بما كان مني فيك، فقد منَعني خوفُ الله عز وجل عن طلب الحرام والتعرض للآثام.
ثمَّ يقول: يا سيِّدي! أنتَ اجمع بيننا على تُقى، ولا تُفرِّق بيننا يوم تُجمَعُ فيه الأحباب.
فأقمتُ معه مُدَّةً طويلةً أراه يفعلُ ذلك في كل ليلة، وأسمعُ هذا القول، فلما هممتُ بالانصراف من عنده قلتُ له: سمعتك تقول: إذا انقضى الليل: كذا وكذا. فقال: أوَ قد سمعتَني؟ قلت: نعم! قال: فوالله يا أخي إنِّي لأداري من قلبي ما لو داراه سلطانُنا من رعيَّته لكان من الله حقيقًا بالمغفرة.
فقلت: وما الذي يدعوك إلى صُحبة من تخافُ على نفسك العَنتَ من قِبَله؟ وذكر كلامًا اختصرته.
الصوفي المتقشِّف
وبإسناده قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي: حدَّثني الصلت بن بهرام المجاشعي، قال: حدَّثني محمد بن الخضر التيمي، قال: كان أبو عمرو الضَّبابي من أحسن من رأيته وَجهًا ممن يَصْحبُ الصوفية، وكان لا يُرافق أحدًا ولا يُجالسه ولا يُلابسه إلا في طريق، فأتاني ذات يومٍ ونحن ببلاد الروم، فقال: هل لك في مُرافقتي، فإني قد مللت الوحدة وطالت عليَّ الوحشة.
فقلت: على خِلالٍ ثلاث.
قال: وما هي؟
قلتُ: على أن لا أراك ضاحِكًا إلى أحدٍ من خلق الله، ولا مُشتغلًا بغيرِ طاعة الله — عز وجل — ولا تعمل عملًا حتى أقول لك.
قال: قد فعَلت.
وكان معي لا يُفارِقُني في حجٍّ ولا غزوٍ، فكنت أرى منه أمورًا أعلم أنه الله سيرفعه بها في الدنيا والآخرة من حسن صلاته وكثرة صيامه وطول صمته وقلة كلامه، فقلت له: ذات يوم لأتبين معرفة عقله: ألا أشتري لك جارية؟
فقال: وما أصنعُ بها؟
قلت: ما يصنعُ الرجلُ بملك يمينه!
فقال: لو أردت هذا لم أترُك أهلي وأشخص عن وَطني وأخرُجْ عن دنياي، ولكان لي منهم مَقْنَعٌ وفي المقام معهم مُتَّسَعٌ.
فقلت: ألقِ هذا الصوف عنك، فإنه قد أثَّر ببدنك، ونَهَك جِسمَكَ.
فقال: أتأمرُني أن أُلقي عني ثوبًا أتقرَّب إلى الله عز وجل بخشونته وريحه، وأنا أرجو منه حسن الثواب عليه عند منقلبي إليه.
قلت: فهل لك أن تُفطِر، فإن الصيام قد أنحلك والظمأ قد غيَّرك؟
فقال: سبحان الله، ما أعجب ما تأمرني به! هل الدنيا إلا يومان، يومٌ قد مضى عليَّ ويومٌ أنا فيه لا أدري بما يُختمُ لي من رحمةٍ أو عذاب، فإن عذَّبتني وأنا على حالةٍ أتقرَّبُ إليه بها، فهو أجدر أن يعذِّبني إذا فعلتُ أمرًا أنا فيه مقصِّرٌ.
فقلت: فصُمْ يومًا وافطر يومًا.
فقال: ذلك صوم الأبرار، ومن أمِنَ النار، الذين علموا أن الله عز وجل متجاوزٌ عنهم وقابلٌ منهم، فأمَّا أنا فأنت تعلمُ أني غيرُ عالمٍ بما سبق عليَّ في الكتاب من شقاءٍ وسعادةٍ، والله لئن عذَّبني الله على طاعته أحب إليَّ من أن يغفر لي وأنا على معصيته، على أنه غير جائرٍ على من خلقه ولا معذِّب له إلا بذَنب.
قلت: أفلا أشتري لك وطاءً تنامُ عليه؟
فقال: وأي وطاء أوطأ من ظَهرِ الأرض، وقد سماه الله عز وجل مِهادًا، والله لا أفترش فراشًا ولا أتوسَّدُ وِسادًا حتى ألحقَ بالله عز وجل.
فقلت: فهل لك أن تُريحَ نفسك في هذه الغزاة وترجع؟
فقال: وا عجباه من قولك! تأمرني أن أَرجع عن الجنة وقد فُتح لي بابها، والله لا أزال أعرِضُ نفسي على الله تعالى لعله يقبَلُني، فإن رزقني وخصَّني بالشهادة فهو الذي كنتُ أحاوِلُ وبه أُطالِبُ، فإن حرَمني ذلك فبالذنوب التي سَلَفَت، وأنا أسأل الله أن يتفضَّل عليَّ بما سألته، ويُجيبُني في ما دعوته.
فغزا معنا ونحنُ في خَلقٍ كثيرٍ مع محمَّد بن مُصعَب، فلقينا العدو، فكان أول من جُرِح، فوقفتُ عليه، فقلتُ: أبشر بثواب الله عز وجل فقد أعطاك الرضا، وفوق المزيد.
فقال بصوت ضعيف: الحمد لله على كُلِّ حالٍ، لقد نظرت إلى كل ما تمنَّيت، وفوق ما اشتهيت، وبلغتُ ما أحببتُ وأدركتُ ما طلبتُ من حُورٍ وَوِلدانٍ وسلسبيلٍ وريحان، وإياك والتقصير لعلَّ الله عز وجل أن يُبَلِّغَكَ ما بَلَغني ويرزُقَك ما رَزَقَني. ثمَّ فاضت نفسه.
أبو إسماعيل وفتح الموصلي
حدَّث جعفر الخالدي قال: حدَّثنا أحمد بن مسروق، قال: حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: حدَّثنا عبد الله بن الفرج العابد، قال: كان بالموصِل رجلٌ نصراني يُكنى أبا إسماعيل، قال: فمرَّ ذات ليلةٍ برَجلٍ وهو يتهجَّدُ على سطحه ويقرأ: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ. قال: فصرَخ أبو إسماعيل صرخةً وغُشيَ عليه، فلم يزل على حاله تلك حتى أصبح، فلما أصبح أسلم، ثمَّ أتى فتحًا الموصلي فاستأذنه في صحبته، فكان يَصحبه ويخدمه.
قال: وبكى أبو إسماعيل حتى ذهبت إحدى عينَيه وغَشيَ على الأخرى، فقلت له ذات يوم: حدِّثني ببعضِ أمرِ فتحٍ.
قال: فبكى، ثمَّ قال: أُخبرُك عنه، كان والله كهيئة الروحانيِّين معلَّقَ القلبِ بما هناك، ليست له في الدنيا راحةٌ.
قلت: على ذاك؟
قال: شهدتُ العيدَ ذات يوم بالموصل، ورجع بعد ما تفرَّق الناس، ورجعت معه، فنظر إلى الدخان يَفورُ من نواحي المدينة، فبكى ثمَّ قال: قد قرَّب الناس قربانهم، فليت شعري ما فعلتُ في قرباني عندك أيها المحبوب! ثمَّ سقط مغشيًّا عليه، فجئتُ بماء فمسحت به وجهه، فأفاق. ثمَّ مضى حتى دخل بعض أزِقَّة المدينة، فرفع رأسه إلى السماء ثمَّ قال: قد علمتَ طول غمي وحُزني وتردادي في أزِقَّة الدنيا، فحتى متى تَحبسُني أيها المحبوب؟ ثمَّ سقط مغشيًّا عليه، فجئتُ بماء، فمسَحتُ على وجهه فأفاق، فما عاش بعد ذلك إلا أيَّامًا حتى مات، رحمه الله.
النفس حيث يجعلها الفتى
قال: فوالله لقد خفتُ أن أُسلَبَ عقلي لما غَنَّت. فقلت: جعلني الله فداءكِ، وهو الذي صيَّركِ إلى ما أرى يستحقُّ هذا منك! فوالله إن الناس لكثيرٌ، فلو تسلَّيتِ بغيرِه فلعلَّ ما بكِ أن يَسكُنَ أو يَخِفَّ، فقد قال الأول:
فأقبَلت عليَّ فقالت: قد والله رُمتُ ذلك، فكنتُ كما قال قيس بن الملوَّح:
قال: فأسكتَتْني والله بتواتُر حُججها على مُحاوَرَتها، وما رأيت كمنطِقها ولا كشكلها وأدبها وكمال خُلقِها.
العظة الناجعة
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله، قال: أخبرنا الحسين بن صفوان، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد قال: حدَّثني الحسين بن عبد الرحمن، قال: حدَّثني محرز أبو القاسم الجلاب، قال: حدَّثني سعدان، قال: أمرَ قومٌ امرأةً ذاتَ جمالٍ بارعٍ أن تتعرَّض للربيع بن خُثَيم، فلعلَّها تفتِنُه، قال: وجعلوا لها، إن هيَ فعَلت، ألف درْهم، فَلَبست أحسنَ ما قَدرَت عليه من الثياب، وتطَيبَت بأطيب ما قدرت عليه. ثمَّ تعرضت له حين خرج من مسجده، فنظر إليها في تلك الحال، فراعه أمرُها وجمالها. ثمَّ أقبلت عليه وهي سافرةٌ فقال لها الربيع: كيف بكِ لو نَزلتِ الحُمَّى بجسمِك فغيَّرت ما أرى من نورِك وبَهجَتك؟ أم كيفَ بكِ لوْ نَزَلَ بكِ مَلَكُ المَوْتِ فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بكِ لو سألكِ مُنكرٌ ونَكِيرٌ؟ فصرخت صرخةً، وخرَّت مغشيًّا عليها، قال: فوالله لقد أفاقت وبَلَغت من عبادتها أنها يومَ ماتت كانت كأنَّها جِذعٌ مُحترِق.
الحب الصارع
وجدتُ بخطِّ أحمد بن محمد بن علي الآبنوسي رحمه الله، قال: حدَّثنا أبو محمد بن مغيرة الجوهري، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد أبو عيسى، قال: أنشدنا أبو العباس المبرِّد لأم الضحَّاك المحاربية:
أم سبعة أنبياء
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي الحسين المحتسب، قال: حدَّثنا محمد بن عبد الله القطيعي، قال: حدَّثنا الحسين بن صفوان، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد، قال: حدَّثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، قال: حدَّثنا المعتمر بن سليمان عن أبي كعب الحريري عن الحسن.
أن امرأةً من بني إسرائيل كانت أُعطيَت من الجمال عَجَبًا، قال: فبلَغَ من أمرِها أنها كانت لا تُمكِّنُ من نفسِها إلا مَن أعطاها مائة دينارٍ، فاتَّخذت سريرًا من ذهب، فأبصرَها رَجلٌ من العابدين، فأعجبَتْه. فانطلق فالتمس وابتغى وتمحَّل، أو كما وُصفَ، حتى جمع مائة دينار، فأتاها بها، فقال: إني رأيتكِ فأعجبتِني، فانطلقتُ فتمحَّلتُ وابتغيتُ حتى جمعتُ مائة دينارٍ.
قال: ليس في الأرض شيءٌ أبغضَ إليَّ منكِ.
قالت: وما رأيتَ؟ قال: هذا شيءٌ لم أفعله قط.
قالت: ما قال لي هذا أحد، لئن كنتَ صادِقًا فما أُريد زوجًا غيرَك، فلي عليك أن تتزوَّجني.
قال: نعم. فقنَّع رأسه ورَجعَ، فلحقَ ببلده، وأقبلت تَبيعُ متاعَها، ثمَّ ارتَحَلت إليه، فانتَهَت إلى البَلَد الذي هو فيه، فسألت عنه، فقيل لها: هو ذا في المسجد. فقيل له: جاءت مَلِكةُ أرضِ كذا وكذا تسأل عنك فأتَتْه، فلما نظر إليها نظرةً مال ميِّتًا، فوَجدَت عليه وَجدًا شديدًا. قالت: أما هذا فقد فاتني، ولكن هل له أخٌ أو قريبٌ؟ فقيل: إن له أخًا ضعيفًا.
قال معتمر: أي ليس في العبادة مثله، فتزوَّجت أخاه، فولدَت له سبعة أنبياء.
المرقِّش الشاعر وأسماء
ورجع مُرقش، فقال إخوتُها: لا تخبروه إلا أنها ماتت، فذبحوا كبشًا فأكلوا لحمه ودفنوا عظامه، ولفُّوها في ملحفة ودفنوها، فلمَّا قَدِمَ مرقشٌ عليهم أخبروه أنها ماتت، وأتوا به موضِعَ القبر، فنظر إليه، وكان بعد ذلك يَعتاده ويزوره.
وإنهما نزلا كَهفًا بأسفلِ نجران، وهي أرضُ مُرَاد، ومع الغفلي امرأته وليدة مرقش، فسمع مرقشٌ زوج الوليدة يقول لها: اتركيه، فقد هلك سَقمًا وهلكنا معه جوعًا وضَرًّا، فجعلت الوليدة تبكي من ذلك، فقال لها زوجُها: إن أطعتِني وإلا فإني تاركك. وكان مرقش يكتب، وكان أبوه دفَعه وأخاه حرملة وكانا أحبَّ ولده إليه إلى نصراني من أهل الحيرة، فعلَّمهما الخط، فلما سمع مرقشٌ قول الغفلي للوليدة كتب على مؤخَّرِ الرحل:
قال: وانطلق الغفليُّ وامرأته حتى رجَعا إلى أهلهما، فقالا: مات المُرقش. ونظر حرملة إلى الرحل وجعله يُقلِّبه، فقرأ الأبيات، فدعاهما وخوَّفهما، وأمرهما أن يَصدُقاه ففعلا، فقتَلهما، وقد كانا وصَفَا له الموضع، فركب في طلب المُرقش حتى أتى المكان، فسأل عن خبره، فعرف أن مرقشًا كان في الكهف ولم يزل فيه حتى إذا هو بغنم تنزُو على الغار الذي هو فيه، وأقبل راعيها إليه، فلمَّا بُصرَ به قال: من أنت وما شأنك؟ فقال له مرقش: أنا رجلٌ من مراد، فمَن أنت؟ قال: راعي فلان، وإذا هو راعي زوج أسماء، فقال له مرقش: أتستطيع أن تُكلِّم أسماء امرأة صاحبك؟ قال: لا، ولا أدنو منها، ولكن تأتيني جاريتها كل ليلة فأحلُبُ لها عنزًا فآتيها بلبنها. فقال له: خُذ خاتمي هذا، فإذا حلبتَ فألقِه في اللبن فإنها ستَعرفه، وإنك مصيبٌ به خيرًا لم يُصِبه راعٍ قط إن أنت فعلت ذلك.
فقال زوجها: وما هذا الخاتم؟
قالت: هذا خاتم مُرقش، فأعجل الساعة في طلبه، فركب فرسه وحَمَلها على فرسٍ وسارا حتى طرقاه من ليلته، فاحتمَلاه فمات عند أسماء، وقال قبل أن يموت:
فدُفن في أرض مراد.
المحب الجاحد
أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحافظ، قال: أخبرنا أبو القاسم الأزهري، قال: حدَّثنا محمد بن جعفر الأديب، قال: حدَّثنا أبو القاسم السكوني إملاءً، قال: حدَّثني الحسين بن مكرم، قال: حدَّثنا يزيد الثمالي، قال: مات أبو العتاهية وعباس بن الأحنف وإبراهيم الموصلي في يوم واحد، فرُفَع خبرُهم إلى الرشيد، فأمر المأمون بحُضورهم والصلاة عليهم، فوافى المأمون وقد صُفوا في موضع الجنائز، فقال: من قدَّمتُم؟ قالوا: إبراهيم. قال: أخِّروه وقدِّموا عبَّاسًا! قال: فلما فرغ من الصلاة اعترضه بعض الظاهرية، فقال له: أيها الأمير بِمَ قدَّمت عبَّاسًا؟ قال: يا فضولي بقوله:
القبلة القاتلة
قال الزبير: أنشدتني ظبيةٌ لحسن بن عبد الله بن عبد الله بن عُبيد الله بن العباس بن عبد المطلب في مالح بن أبي السمح:
ضل عنه فؤاده
أنبأنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الأزهري قال: أنشدنا سهل بن أحمد الديباجي قال: أنشدنا ابن دُرَيْد لنفسه:
هل من آسٍ لداء القلب؟
ولي من قصيدة أولها:
ومنها:
بنت الوالي والسجين
فأجابها الفتى:
فكتبت إليه:
فأجابها الفتى:
فذاع الشعر وبلغ الخبر الوالي، فدعا به فزوَّجه إيَّاها ودفَعها إليه.
دواء الحب غالٍ
أخبرنا التَّنُوخِي علي بن المحسن قال: أخبرنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، قال: أخبرنا أبو بكر المحولي، قال: وأنشدني حمَّاد بن إسحاق للوليد بن يزيد:
مرضى الحب
وبإسناده قال: وأنشدني أبو العبَّاس بن أحمد من أهل ضرية لرجل من بني أسد:
وبإسناده قال: أنشدني أحمد بن منصور المروروذي:
القطيعة أذهب للعقل
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر، قال: أخبرنا أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي، قال: حدَّثنا القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع، قال: حدَّثنا أبو علي القالي، قال: قرأتُ على أبي بكر بن دُرَيْد للحسين بن مطير الأسدي:
أنا أشعر من قيس
قال: ثمَّ مرَّ فجَمَزَ في الصحراء، فلما كان في اليوم الثاني أتيتُه، فجلست في ذلك الموضع، فلما أحسستُ به قلتُ: ما أشعر قيسًا حيثُ يقول:
فقال: أنا أشعرُ منه حيثُ أقول:
سيف الفراق
وبإسناده قال: حدَّثنا القالي، قال: أنبأنا أبو بكر بن الأنباري، قال: أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي:
مصدِّعة القلوب
وبإسناده قال: حدَّثنا القالي، قال: قرأتُ على أبي بكر بن دُرَيْد لجميل:
ليست له صبوة
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي ثابت، قال: أخبرني أبو الحسن علي بن أيوب القُمِّي الكاتب بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا أبو عُبيد الله محمد بن عمرن بن موسى المَرْزُباني الكاتب، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي إملاءً، قال: حدَّثنا كامل بن طلحة، قال: حدَّثنا ابن لهيعة قال: حدَّثنا أبو عشافة، قال: سمعتُ عقبة بن عامر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عَجِبَ ربنا تعالى من شابٍّ ليست له صَبوَة.
المأمون وجارية أبيه
الأطباء والمحبون
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي قال: حدَّثنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ قراءةً عليه، قال: حدَّثنا أبو بكر بن المَرْزُبان إجازةً، قال: أنشَدَني مُنشدٌ للحسن بن وَهب:
وأنشد:
وقال عمر بن أبي ربيعة:
ولي من أثناء قصيدة:
السوداء وحبيبها عمرو
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي، وأبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس ابن حَيُّوَيْهِ، قال: حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان، قال: حدَّثني محمد بن عبد الله بن أبي مالك بن الهيثم الخزاعي، عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: حدَّثني إبراهيم بن ميمون، قال: حججتُ في أيام الرشيد، فبينا أنا بمكة أجولُ في سِكَكِها، إذا أنا بسوداء قائمةٍ ساهيةٍ، فأنكرتُ حالها، فوقفتُ أنظر إليها، فمكثتْ كذلك ساعةً، ثمَّ قالت:
قال: فدنوتُ منها، فقلت: يا هذه! من عمرو؟ فارتاعَت من قولي وقالت: زوجي. فقلت: وما شأنه؟
قالت: أخبرني أنه يهواني وما زال يدسُّ إليَّ ويعلَقُ بي في كل طريق ويشكو شدة وجده حتى تزوَّجني، فلبثَ معي قليلًا، وكان له عندي من الحب مثل الذي كان لي عنده، ثمَّ مضى إلى جُدَّة وتركني.
قلت: فصِفيه لي.
فقالت: أحسن مَن تراه، وهو أسمرُ حلوٌ ظريفٌ.
قال: قلت: فخبِّريني أتُحبِّين أن أجمع بينكما؟
قلت: كم يَكفيك كل سنة؟
قال: ثلاثمائة درهم. فأعطيته ثلاثة آلاف درهم، وقلت: هذه لعشر سنين. ورددته إليها، وقلتُ له: إذا فنيَتْ أو قارَبَت الفناء قدمت عليَّ فسررتك، وإلا وجَّهت إليك، وكان ذلك أحبُّ إليَّ من حجي.
قال محمد بن عبد الله: قال إسحاق: والناس ينسبون هذا الصوت إلى إبراهيم، وكان إبراهيم أخذه من هذا الفتى.
مدرك الشيباني وعمرو النصراني
القصيدة جميعها.
وقال أبو القاسم جعفر بن شاذان القُمِّي: وكان عمرو بن يوحنا النصراني يسكن في دار الروم ببغداد من الجانب الشرقي، وكان من أحسن الناس صورة وأجملهم خُلقًا، وكان مُدرك بن علي الشيباني يهواه، وكان مدرك من أفاضل أهل الأدب والمطبوعين في الشعر، وكان له مجلس يجتمعُ إليه الأحداث لا غير، فإن حضَره شيخٌ أو كهلٌ قال له مدرِك: إنه يَقبُح بمثلك أن يختلط بالأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله. فيقوم.
وكان عمرو بن يوحنا ممن يَحضر مجلسه، فعشق مدرك وهام به، فجاء عمرو يومًا إلى المجلس، فكتب مدرك رُقعةً وطرحها في حجره، فقرأها فإذا فيها:
فقرأ الأبيات، ووقف عليها من كان في المجلس وقرءوها، واستحيا عمرو من ذلك فانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك فترك مجلسه ولزم دار الروم، وجعل يتبعُ عمرًا حيثُ سَلَك، وقال فيه هذه القصيدة المزدوجة العجيبة.
ولمدرك في عمرو أيضًا أشعارٌ كثيرة، ثمَّ خرج مدرك إلى الوسواس. وسُلَّ جسمه وذهل عقله، وانقطع عن إخوانه ولزم الفراش، فحضره جماعةٌ، فقال لهم: ألستُ صديقكم القديم العشرة لكم، أفما فيكم أحدٌ يُسعدني بالنظر إلى وجه عمرو؟ فمضوا بأجمعهم إليه، وقالوا له: إن كان قتلُ هذا الفتى دِينًا فإنه إحياءه لمروءة! قال: وما فعل؟ قالوا: قد صار إلى حالٍ ما نحسبُك ترضى به. فلبس ثيابه ونهض معهم، فلما دخلوا عليه سلَّم عليه عمرو وأخذ بيده وقال: كيف تجدُك يا سيِّدي؟ فنظر إليه فأغميَ عليه ساعةً ثمَّ أفاق، وفتح عينيه وهو يقول:
ثمَّ شهق شهقةً فارَقَ فيها الدنيا، فما برحنا حتى دفنوه.
موسى في وقت الكلام
الحب يذهب بالحب
فخرجتُ حتى انتهَيتُ إلى الدير، وإذا أنا برجلٍ في فنائه جالس كأجمل ما يكون من الرجال، فسلَّمت فرد وسألني فأخبرته من أنا، وأين بت، وما قالت لي المرأة. فقال: صدقت! أنا رجلٌ من قومك من آل الحارث بن الحكم. ثمَّ صاح: يا قِسط! فخرجت إليه نصرانيةٌ عليها ثياب حِبَرِ وزنار ما رأيت مثلها، فقال: هذه قِسطٌ، وتلك أروى، وأنا الذي أقول:
صوفي سيئ الحال
فقلت: ما يُبكيك؟ فقال: أخاف أن يكون حسابي إلى النار يطول فيها شقائي. فانصرفت عنه، وأنا راحمٌ له لما رأيتُ به من سوء الحال.
الطرف الغرَّار
وبإسناده قال: قال أبو حمزة: وكنتُ مع ثابت بن السري الصوفي، فنظر إلى غلام، فقال: يا طول حُزناه مما أرتنيه عيني، لقد تركني وأنا لا آنسُ إلى نظرٍ بعد نظرتي هذه! يا شر ما أتاني به المقدور في النظرِ إلى الغُرور، غرَّني والله طرفي حتى استمكَنَ من حتفي.
ثمَّ قال: كم أستقيل الله عز وجل فيُقيلني، وكم أستعفيه فيعفيني، لقد خفت أن يكون ذلك استدراجًا مه حتى يأخذني بذلك كله في وقت حاجتي إليه عند قدومي عليه.
ثمَّ بكى حتى غُشيَ عليه.
الهاتف بالليل
أنبأنا أبو القاسم علي بن أبي علي التَّنُوخِي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي إجازةً، قال: حدَّثني سعيد بن عمر بن علي البيرورذي، قال: حدَّثني علي بن المختار، قال: حدَّثني القحذمي، قال: هوى رجلٌ من أهل البصرة امرأةً فضنيَ من حبها حتى سقط على الفراش، وكان إذا جنه الليل صاح بأعلى صوته: كم تُرى بيننا وبين الصباح؟ فإذا أكثر من ذلك هتف به هاتفٌ من جانب البيت:
قال: فأقام الرجل على علته سنين، ثمَّ أبلَّ من علته.
لي سكرتان
أخبرنا أبو بكر الأردستاني، قال: حدَّثنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: حضرتُ مع الشِّبلي في مجلس سماع، وحضر المشايخ، فغنَّى قوَّال، فصاح رجلٌ والقوم سكوت، فقال له بعض المشايخ: يا أبا بكر، أليس هؤلاء سمعوا معك كما سمعت؟ فقام من بين الجماعة وتواجدَ، وأنشأ يقول:
وأنشد على أثره:
سُكينة وعروة بن أُذينة
الهالك من عشق
أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني أبو الحسن علي بن أيوب القُمِّي، قال: حدَّثنا محمد بن عمران، قال: أخبرني محمد بن يحيى، قال: قال العباس بن الأحنف:
قال: وله أيضًا:
ولي من أثناء قصيدة:
ومنها:
كوى ما كوى
ولي ابتداء قصيدة:
قتله خبر زواجها
خِشْفٌ شبيه الحبيب
قال: ثمَّ بكى، قال: فقلت: دونكه يا فتى فهو لك. قال: فعمد إليه فحلَّه، ثمَّ قبَّل عينيه، ثمَّ أرسله.
قال: فمرَّ الظبيُ وأتبعه بصرَه يبكي في أثره، قال: ثمَّ سكن، فقلت: يا فتى، ألك حاجةٌ؟ قال: نعم! قلت: ما هي؟ قال: تبلغ معي الحي. قال: فوصلتُ معه المنزل، قال: فلما كان من الغد إذا به يسوقُ عشرًا من الإبل حتى وقف عليَّ، فقال: دونَكها. فامتنعتُ، فأبى إلا قَبولها. قال: فسألت عنه، فقالوا: هذا فتًى يهوى فتاة من الحي.
العجوز المتصابية
قال الأصمعي: فأظلمت والله عليَّ الدنيا لحلاوة منطقها، وفصاحة لهجتها، فدنوت منها فقلت: نشدتُك بالله لما زدتني من هذا؟ فرأيتُ الضحك في عينَيها، وأنشدتْ:
فقلت: أحسنت والذي خلقك! فقالت: أكذاك؟ قلت: نعم! قالت: فنُشرك في هذا الإحسان غيركم. ثمَّ قامت، فوالله ما سمعتُ مُنشدة بعدها أحلى ألفاظًا منها.
أماتها ومات أسفًا عليها
وجدت بخط أبي عمر بن حَيُّوَيْهِ، رحمه الله، ونقلته منه، قال: حدَّثني أبو بكر محمد بن خلف المحولي، قال: حدَّثنا أبو عبد الله التميمي، قال: أخبرنا زياد بن صالح الكوفي، قال: كان العلاء بن عبد الرحمن التغلبي من أهل الأدب والظُّرف، فواصلتْه جارية من جواري القيان، فكان يُظهرُ لها ما ليس في قلبه، وكانت الجارية على غاية العِشق له والميل إليه، فلم يَزالا على ذلك حتى ماتت الجارية عِشقًا له ووجدًا به، فذكَرها بعد ذلك وأسفَ على ما كان من جفائه لها وإعراضه عنها، فرآها ليلة في منامه وهي تقول له:
قال: فزاد ما كان عليه من الأسف والغم والبُكا حتى فاضَت نفسه، فمات.
عذبة الأنياب
أنبأنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي، قال: أخبَرنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن المأمون، قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، قال: قال جميل بن معمر:
بكيت من الفراق
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس ابن حَيُّوَيْهِ، قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، قال: أنشدني إبراهيم بن عمرو لمحمد بن أبي أمية:
آهٍ من الحب
حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الأندلسي من لفظه، قال: حدَّثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي، قال: حدَّثني القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع، قال: حدَّثنا أبو علي القالي، قال: أنشدنا ابن عرفة نفطوَيه لابن أبي مُرَّة المكي:
قاتل الله الحمى
قال: وأخبرنا الأشرف قال: قرأتُ على أبي العباس الأعرابي:
حديث كالقطر
وبإسناده قال: حدَّثني القالي، قال: قرأت في نوادر ابن الأعرابي عن أبي عمر المطرز الأعرابي، قال أبو عمر: أنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
حديثها السحر الحلال
وأحسَنَ ابن الرومي في هذا المعنى قوله:
حديث كقطع الرياض
قال: وأنشدني بعضُ أصحابنا لبشار:
ما لي وللعيد
أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، قال: أنشدني أبو عبد الله بن حجاج لنفسه:
محتضر يصف نفسه في ساعة الموت
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بفسطاط مصر، قال: أخبرنا أبو صالح محمد بن أبي عدي السمرقندي الصوفي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن اليسع بالقرافة، قال: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدِّينَوَرِي، قال: حدَّثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط، قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي، قال: حدَّثنا أبو كامل الحراني، قال: حدَّثني أبو محمد بن زرعة، قال: كانَ خضرُ بن زَهرَةَ الشيباني من أعبد الصوفية وأنسكِهم وأشدِّهم اجتهادًا وأملكهم لنفسه، وكن مقبول القول مُطاعًا في بلده، فارسًا شُجاعًا ذا مالٍ وافر، فنشأ له غلامٌ قد ربَّاه كأحسن ما رُؤيَ من الغِلمان في حفظ القرآن وحفظ الحديث وحسن المناظرة والأدب والعبادة، وكان قد أخذ عنه وسمع حتى كان بعض الناس يُوازيه به في الفروسية والشجاعة والمعرفة، وكانا ملازمَين للغزو، فخرَجا في بعض السرايا فأُصيبت السرية وأفلت منها جرحى، وفيها خضرٌ وغلامه جريحان مُثخَنان، فكمنا في بعض الغياض فاشتدَّت عِلَّةُ الغلام وضَعُفَ عن الحركة والنهوض، فأقمنا عليه ثلاثًا ونزَلَ به الموت، فأقبل يضحك أحيانًا ويبكي أحيانًا، فقال له خضرٌ: مم تضحك يا بني؟
قال: أضحكُ إلى جَوَارٍ يضحكن إليَّ، ويُقبِلن بوجوههن عليَّ.
قال: فما يبكيك؟
قال: أبكاني فراقُك وحبسُك في الدنيا بعدي.
قال: أما لئن قلت ذلك يا بني ليكونَّن عمري بعدك قصيرًا، وحُزني عليك كثيرًا، وفرحي بعدك قليلًا، وقلبي بفراقك عليلًا، فسبحان من أبقاني بعدك للأحزان، وعرَّضني لنوائب الزمان، وجعلني غرَضًا لنوازل الحِدثانِ.
وبكى حتى انقطع عن الكلام، فقال له: لا تَبكِ فإن لقاءنا قريبٌ واجتماعنا سريعٌ.
فقال: أتُوصي بشيء يا بني حتى أبلغ فيه محبوبك؟
قال: نعم! قال: قل! قال: عليك بالصبر بعدي، فإنها درَجةُ الأبرار ومعقل الأخيار، وإياك والجزع، فإنه سبيلُ لكل ضعيف، ومُعَوَّل كل خاطئ، وإياك والزيغ، والزم ما أنت عليه، فإنه يوشك أن يُقدَمَ بك على غِبطةٍ وسرورٍ وسعادةٍ وحبورٍ، فلو رأيتَ ما أعدَّ الله تعالى لي من الكرامة، وتفضَّل علي به من الرحمة، لأحببت أن تكون المقدَّمَ إليه قبلي.
فقال: لقد سرَرتني يا بني بما وَصَفت، وَغبَطتُك بما قد بلغت، فهل بقيَ سَبيلُ أمرٍ من أمور الدنيا تُحب أن تبلغه حتى أُبلِغَه لك إن رزقني الله العافية، وتخلَّصتُ سالمًا، ووُهِبَتْ لي الحياة.
قال: نعم! تجعل لي معك سَهمًا في حَجِّك وغزوِك وصَدَقتك.
قال: قد فعلتُ، لوالدي الثلث ولكَ الثلثُ، مما تفضَّلَ الله به عليَّ من الأجر.
فقال: أما إذا بدا لك ما سألت، فإني أقول شيئًا لم أكن قلته لك ولا أطلعتك عليه، ما أتيت أمرًا من أمور الخير إلا قلت: اللهم ما قسمت لي فيه من أجرٍ فاجعله لمولاي دوني.
قال: بم استحققتُ ذلك منك يا بني؟
قال: لأنك ملكتني صغيرًا فأحسنت ملكي، وصحبتني كبيرًا فوُفِّقت في صُحبتي، وخِفت مقام الله فيَّ، ونزَّهت نفسك عن السوء، وصُنتَني عن أفعالٍ قد كانت عن غيرك مأثورةً عنهم، ومحفوظةً مشهورةً، قد تحدَّث بها النُّساك عنهم وسمعوها منهم، وشهدت الحفظةُ وكتبتها الملائكة من هجومهم على السيئات وركوبهم الفاحشات، وجموحهم في الباطل وتركهم سبيل الحق، وإيثارهم لشهواتهم في جميع حالاتهم، وقد صحبتُكَ على مرِّ الأيام وكرِّ السنين فلم أرَك تؤثِرُ شيئًا من هواك على أمر آخِرَتك، ولم أر أحدًا الله أهيبَ في قلبه منك، فنفعك الله بذلك، وجعله سببًا للنظرِ إلى وجهه والبلاغ إلى رحمته والخلوة في داره والمقام في جواره.
قال أبو محمد بن زُرْعة: فدنوتُ منه وقلت: بأبي أنت وأمي! اجعلني في شفاعتك.
قال: أنت الرفيق والصاحب، أنت أول من أشفع له بعد مولاي، ولهؤلاء الذين معك.
فقال له مولاه: يا بني! هل تجد للموت ألمًا، وترى من مقدماته عِلمًا؟ فإن كنت ترى شيئًا فحدِّثني بكل ما تراه قبل أن تُغلَبَ على الحديث، فلا يُمكنك أن تُخبِرَني بشيءٍ مما تجد أو ترى.
قال: أما ما أجده فإني أجدُ قلبي كأنه سعفةٌ في يوم ريحٍ عاصفٍ من خفقانه، أو ريشةٍ في جناح طائرٍ إذا أمعن في طيرانه، وأجد نفسي ساعةً بعد ساعةٍ تذبُلُ كالسراج إذا أراد أن يطفأ، وأجد عيني كأن الأسنَّة تنخَسُها، فما أقدرُ على جمرةٍ تتوقَّد، وأجدُ عظامي كأنها بينَ رَحيَين تطحنانها، وأجد أمعائي وأحشائي كأنها في أفواه سباعٍ تمضغُها.
فبكى خضرٌ وقال: كُفَّ عني، لا تَصِف شيئًا، فقد كاد عقلي أن يذهل بصفتك وقلبي يتصدع مما نَزَلَ بك.
فقلتُ له: أليس في ما سمعت وسمعنا أن الشهيد لا يجدُ من ألمِ السلاح إلا كما يجدُ أحدكم ألم الشوكة أو أقل؟ قال: بلى! قال: فقلتُ: أفلستَ شهيدًا مثلهم؟ قال: بلى! قلت: فما بالك أنت تألمُ من بينهم؟ قال: إنما ذلك عند خروج النفس ورؤية ملك الموت، ولم أبلُغْ بعدُ إلى ذلك.
فقال له خضر: فهل ترى شيئًا؟
قال: أرى صورًا مُقبِلةً لها أجنحةٌ تطيرُ بها، تُرفرف بين السماء والأرض.
قال: فهل قرُبَ منك أحدٌ منها؟
قال: نعم جماعةٌ.
قال: صِفهم لي.
قال: أرى صُوَرًا لم أرَ أحسنَ منها منظرًا، بعضهم جناحاه من لؤلؤ وسائر بدنه من ياقوت، وبعضهم جناحاه من ياقوت وسائر بدنه من زمُّرُد.
قال: فهل ترى ملك الموت؟
قال: ما أراه! أليس في ما كتبتَ من الحديث أن العبد إذا عايَنَ ملك الموت شخص ثمَّ أمسك ساعةً فلم يتكلم؟
فقال له خضر: هل ترى شيئًا؟
قال: أرى شخصًا قد هَبَطَ من السماء إلى الأرض حتى سدَّ ما بين الخافقين، قد نشر أجنحته، فأشرقت الشمس من حسنه وأضاءت الدنيا من نوره، وسكن عني ما أجد من الألم حتى كأنه لم يكن، فما أحسُّ منه شيئًا. ثمَّ سكت فلم يتكلم بكلمة حتى مات رحمه الله.
نومة عبود
ذكر أبو بكر محمد بن الفضل بن قدير في مجموعه، قال: حدَّثني محمد بن أحمد البزاز، قال: حدَّثني عبد الله بن محمد أبو جمعة الوراق، قال: أُخبرتُ أن المهدي دخل الكوفة فقال لأبي الأحوَص محمد بن حيان الكوفي: حدِّثنا حديثًا من طرائف الأخبار بما حضرَك، قال: كان في الزمان الأول رجلٌ يُقال له عبود، وكان عاشقًا لابنة عم له، فحضرتها الوفاة فأزعجه ذلك وأقلقه، فلما تُوُفَّيَت صار إلى المسيح، فسأله أن يُحييها، قال: لن يتهيَّأ ذلك أو تَهَبَ لها من عمرك شيئًا. قال: قد وَهَبتُ لها نصف عمري، فصار المسيح إلى تُربَتها فوقف عليها، وسأل ربه أن يحييها فأحياها، فأخذ بيدها عبود ومضى يُريد بها أهله، فأدركه الفتور في بعض الطريق، فحط رَحله ووضع رأسه في حِجرِها واستقلَّ نومًا.
قالت: فإني قد رَدَدتُه عليك، ولا حاجة لي فيه. فما أتمَّت هذه الكلمة حتى وقعت ميتة، وانصرف عبود إلى أهله مُغتبِطًا، فضربَت العرب بنومة عبود مثلًا.
عمر وعفراء وعروة
أخبرنا أبو طاهر بن السواق وذكر حديثًا، قال: قال أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، قال: حدَّثني أبو بكر محمد بن خلف، قال: حدَّثني أبو محمد البلخي، قال: حدَّثني أحمد بن سراقة، قال: حدَّثني العباس بن الفرج، قال: سمعتُ الأصمعي يقول عن ابن أبي الزناد، قال: قال عمر بن الخطَّاب رحمه الله: لو أدركت عفراء وعُروة لجمعتُ بينهما.
شجرتان ملتفَّتان على قبرين
وبإسناده قال ابن المَرْزُبان: وحدثني إسحاق بن محمد بن أبان، قال: حدَّثني معاذ بن يحيى، قال: خرجتُ إلى صنعاء، فلما كُنَّا ببعضِ الطريق قيل لنا: إن قبر عفراء وعروة على مقدار ميل من الطريق. قال: فمضت جماعةٌ كنتُ فيهم، فإذا قبران مُتلاصِقان قد خرج من كل قبرٍ ساقُ شجرة، حتى إذا صارتا على مقدار قامة التفَّت كل واحدةٍ منها بصاحبتها.
قال إسحاق: فقلت لمعاذ أي ضَرْبٍ هو من الشجر؟ فقال: لا أدري، ولقد سألتُ أهل القرية عنه فقالوا: لا نعرف هذا الشجر ببلادنا.
القلب الخافق
قال أبو بكر بن المَرْزُبان: أخبرني سعيد بن الفضل الأزدي، قال: أنشدني العتبي لعروة بن حزام:
هاتف الجبل
وجدت بخط ابن حَيُّوَيْهِ يقول: حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف، قال: حدَّثني عبد الواحد بن محمد النجاري، قال: حدَّثني محمد بن الهيثم بن عدي عن الهيثم، قال: حدَّثنا محمد بن ملك، قال: حدَّثني عثمان بن عمر التيمي، قال: هوِيَ فتًى من بني أسد فتاة من فخذه، وكان أيسر منها وأغنى، فكان أبوه يمنعه من أن يتزوَّجها، ويُريد له أشرف منها وأيسَرَ، ويَعرِضُ عليه غيرها فيأبى إلا هي، فيمتنع أبوه من ذلك. وكان أبوها قد حبَسها عليه رجاءَ أن يتزوَّجها، فلما طال على أبيها وأيسَ منه زوَّجها من غيره، فلقيَها الفتى يومًا فقال لها:
فقالت الجارية:
فلما كان في غدٍ أتاها حيثُ زعمت له، فوجدها ميتة، فحمَلَها فأدخلها شعبًا ثمَّ التزمها فمات معها. قال: فالتُمِسا حولًا، فلم يُقدر عليهما ولم يُعلَم لهما خبر، فإذا هاتِفٌ يهتفُ على الجبل الذي هما فيه، وكان الجبل يُدعى أعرافًا:
قال: فصعد القوم الجبل فوجدوهما ميتين فوارَوهما.
المجنون الهائج
الناسك العاشق
قال: ثمَّ صرخ صرخةً وشخص ببصره فإذا هو ميت.
لا راحة ولا نوم
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن العلاف صاحب بن سمعون بقراءتي عليه، من نحو خمسين سنة، قال: أخبرنا عمر بن أحمد بن شاهين، حدَّثنا جعفر بن محمد، حدَّثنا أحمد بن محمد بن مسروق، حدَّثنا أبو حاتم السجستاني، حدَّثني شيخ ظريف حجازي، قال: كنتُ بمكة، فإذا كان الليل سمعتُ أنينًا إلى جنبي، فطال عليَّ، فسألتُ عنه فقيل لي: فتًى مريضٌ. فدخلت عليه فإذا هو من أحسن الناس وجهًا كأنه ذهبٌ وفِضَّةٌ، فكلمته فإذا هو عاشق يُغلَبُ على عقله حتى يُخالَط، فأصابه ذلك وأنا عنده، فجعل يقول:
فما له راحة ولا نوم إلى الصباح.
آه من البين
يوم طش بعد رش
وأخبرنا أبو بكر الأردستاني أيضًا بمكة على باب الندوة، أخبرنا الحسين بن حبيب المذكَّر، سمعتُ أبا الفرج أحمد بن محمد النهاوندي، يقول: مررت بدرب أبي خلف، فإذا جماعةٌ وقوفٌ على مجنون، فوقفتُ فهشَّ إليَّ وقال:
ابن أبي البغل والمغنية
وطرح الشعر على المغنية فلقِنَته وغنتنا فيه، وشربنا القدح وانصرفنا، فلما كان من الغد وحضرنا المائدة وهي معنا، فاتحناه بما كان فحلف أنه لم يَشعُر بما جرى ولا بالشعر، واستدعى دفتره فأثبت البيتَين فيه.
لا قضاةَ للعاشقين
أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي عن أبي الحسن بن نصر بن الصباح لعمرو الوصافي:
حديث الجُنَيْد
أصناف الناس
ذو النون والمريض
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي، حدَّثنا علي بن الحسن بمكة، حدَّثنا أحمد بن محمود بن خرزاد الأهوازي، حدَّثني أحمد بن جعفر الدستري، حدَّثنا سعيد بن عثمان، قال: دخَل ذو النون على مريضٍ يعودُه، فرأى المريض يئنُّ، فقال ذو النون: ليس بصادقٍ في حُبِّه من لم يصبر على ضربه. فقال المريض: لا ولا صدق في حُبِّه مَن يَتلذَّذ بضربه. فقال ذو النون: لا ولا صدق من رأى حبَّه لربه عز وجل.
نوح داود
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام، حدَّثنا أبو عبد الرحمن السلمي، حدَّثنا عبد الرحمن بن محبوب، حدَّثنا زكريا بن يحيى البزاز، حدَّثنا محمد بن الحسين، حدَّثنا سلمة بن شبيب، حدَّثنا محمد بن يحيى البصري، حدَّثنا عمرو بن جميع العجلي عن عامر بن يسار عن يحيى بن أبي كثير، قال: بلغنا أنه إذا كان يوم نَوحِ داود عليه السلام كان يمكث قبلَ ذلك لا يأكل الطعام ولا يَشرب ولا يقرب النساء، فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له مِنبرًا إلى البرية، وأمرَ مُناديًا قبل ذلك بيوم ليستنفر في البلاد ومن حولها: ألا من أحب أن يسمع نَوح داود فليأت. فتأتي الوحوش والسباع والهوام والطير والرهبان والعذارى من خدورهنَّ، وبنو إسرائيل، كل صنفٍ على حِدتِه، فيُصغون إليه. قال: وسليمان قائمٌ على رأسه، فيأخذ في الثناء على الله عز وجل، فيضجُّون بالصراخ والبُكاء، ثمَّ يأخذ في ذكر الجنة فتموت طائفةٌ من الناس والوحوش والسباع والرهبان وطائفةٌ من العذارى، ثمَّ يأخذ في ذكر النار فتموت طائفةٌ منهم، ثمَّ يأخذ في أهوال القيامة والنَّوح على نفسه فتموت طائفة من هؤلاء ومن كل صِنف.
قال: فإذا رأى سُليمانُ ما قد كثُرَ من الموتى في كل فرقة نادى: يا أبتاه! قد مزَّقتَ المُستمعين كل ممزَّق من بني إسرائيل والوحوش والهوام والسباع. قال: فيقطع النَّوح ويأخذ في الدعاء.
قال: فبينما هم كذلك إذ ناداه بعض عُبَّاد بني إسرائيل: يا داود! عجَّلتَ على ربك تطلبُ الجزاء. فيخرُّ داود مغشيًّا عليه، فإذا نظر إليه سليمان وما أصابه أتى بسرير فحمله عليه، ثمَّ أمر مناديًا فنادى: من كان له مع داود حميمٌ أو قريبٌ فليأت بسرير، فإن الذين كانوا معه قد قتَلَهم ذكر الجنة والنار.
قال: فكانت المرأة تأتي بالسرير، فتقف على ابنها وأبيها وأخيها وهم أمواتٌ، فينادي: وا أبي! مَن قتَله ذكرُ النار، وا أبي! من قتله ذكر الجنة، وا أبي! من قتله ذكر الخوف من الله تعالى. حتى إن الوحوش ليجتمعنَ على من مات منهنَّ فيحملنه، وكذلك السباع والهوام.
قال: ثمَّ يتفرَّقون، فإذا أفاق داود من غشيتِه قال لسليمان: ما فعلت عُبَّاد بني إسرائيل؟ فيقول سليمان: يا أبتاه ماتوا عن آخرِهم. قال: فيقوم داود فيضع يده على رأسه، ثمَّ يدخل بيت عِبادته، ويُغلق عليه بابه ثمَّ يُنادي: يا إله داود! أغضبانٌ أنت على داود أم كيف ذا، إذ قصَّرتُ من الموتِ خوفًا منك.
أيوب في بلائه
أخبرنا عبد العزيز بن علي الطحان، رحمه الله، حدَّثنا علي بن عبد الله بمكة، حدَّثني منصور بن أحمد، قال: سُئل أبو العباس بن عطاء عن قوله عز وجل: مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فقال: إنَّ الله عز وجل سلَّط الدود على جسم أيوب عليه السلام كله إلا على قلبه ولسانه، فكان القلب غنيًّا بالله عز وجل، قويًّا، واللسان بذكر الله تعالى رطبًا دائمًا، فأكل الدود الجسم كله حتى بقيت أضلاعه مشتبكة والعروق ممدودة، وحتى ما بقيَ للدود شيء يأكله، فسلط الله عز وجل الدود بعضه على بعض، فأكل بعضه بعضًا حتى بقيَ دودتان، فجاعتا فشدَّت إحداهما على الأخرى فأكلتها، وبقيت واحدةٌ، فجاعت فدبَّت إلى القلب لتَنفذه، فقال أيوب عليه السلام عند ذلك: مسَّني الضرُّ أن فقدت حلاوة ذكرك من قلبي لأنك لو جمعت البلاء كله عليَّ بعد أن لا أفقدك من قلبي ما وجدتُ للبلاء ألمًا. فأوحى الله عز وجل إليه: يا أيوب! إنك لتنظُر إليَّ غدًا. قال: يا رب بهاتَين العينين؟ قال: يا أيوب أجعل لك عينين يُقال لهما البقاء، فتنظر إلى البقاء بالبقاء.
الجارية الصوفية
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي، حدَّثنا علي بن عبد الله بن الحسن الهمذاني بمكة، حدَّثنا محمد بن عبد الله الشكلي، حدَّثني محمد بن جعفر القنطري، قال: قال ذو النون: بَينا أنا أسيرُ على ساحل البحر، إذ بصُرتُ بجاريةٍ عليها أطمار شَعَرٍ، وإذا هي ناحلة ذابلة، فدنوت منها لأسمع ما تقول، فرأيتها مُتصلة الأحزان بالأشجان، وعصفَتِ الرياح واضطربَتِ الأمواج، وظهرَتِ الحيتان، فصرخت ثمَّ سقطت إلى الأرض، فلما أفاقت نحبَت، ثمَّ قالت: سيِّدي! بك تقرَّب المتقرِّبون في الخَلَوات، ولعظمتك سبَّحت النِّينان في البحار الزاخرات، ولجلال قُدسك تصافقَت الأمواج المتلاطمات. أنت الذي سجد لك سواد الليل وبياض النهار والفلك الدوار والبحار الزخار والقمر النوار والنجم الزهار وكل شيء عندك بمقدار، لأنك الله العلي القهار:
فقلت لها: مَن تريدين؟ فقالت: إليك عني. ثمَّ رفعت طرفها نحو السماء فقالت:
ثمَّ شهقتْ شهقةً فإذا هي قد فارقت الدنيا، فبقيتُ أتعجَّبُ مما رأيت منها، فإذا أنا بنسوةٍ قد أقبلن وعليهنَّ مدارعُ العشر، فاحتملنها فغيَّبنَها عني فغسلنَها، ثمَّ أقبلن بها في أكفانها، فقلن لي: تقدَّم فصلِّ عليها. فتقدَّمت فصليت عليها، وهن خلفي، ثمَّ احتملنها ومَضَين.
ما بي جنون
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي، حدَّثنا أبو الحسن بن جهضم: أنشدنا محمد بن عبد الله ليحيى بن معاذ:
رابعة العدوية ورياح القيسي
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي، رحمه الله، بقراءتي عليه، أخبرنا محمد بن عبد الله بن أخي ميمي، حدَّثنا الحسين بن صفوان، حدَّثنا عبد الله بن محمد القرشي، حدَّثني محمد بن الحيس، حدَّثني أبو معمل صاحب عبد الوارث، قال: نظرت رابعة إلى رياح القيسي وهو يُقبِّل صبيًّا من أهله، ويضمه إليه، فقالت: أتحبه يا رياح؟ قال: نعم! قالت: ما كنت أحسبُ أن في قلبك موضعًا فارغًا لمحبَّة غيري. قال: فصاح رياحٌ وسقط مغشيًّا عليه، ثمَّ أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، وهو يقول: رحمةٌ منه، تعالى ذكره، ألقاها في قلوب العباد للأطفال.
دواء المحبين
أخبرنا أحمد بن علي بن الحسين البزاز، حدَّثنا محمد بن عبد الله القطيعي، حدَّثنا الحسين بن صفوان، حدَّثنا عبد الله بن محمد، حدَّثني إبراهيم بن عبد الملك، قال: قدمت شعوانة وزوجها مكة، فجعلا يطوفان ويُصليَّان، فإذا كلَّ الرجلُ وأعيا جلس، وجلستُ خلفه، فيقول هو في جلوسه: أنا العطشان من حُبك لا أروى، وتقول هي بالفارسية: أنبتَ لكل داءٍ دواءً في الجبال، ودواء المحبين في الجبال لم يَنبُت.
يستحيي من الله
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت إن لم يكن سَماعًا فإجازةً، أخبرنا علي بن أيوب، حدَّثنا محمد بن عمران، قال: حُكيَ عن أبي مُسلم الخشوعي أنه نظر إلى غلام جميل فأطال، ثمَّ قرأ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، سبحان الله، ما أهجم طرفي على مكروه نفسه، وأدمنه على سُخط سيده، وأغراه بما قد نهى عنه، وألهجه بالأمر الذي قد حذَّر منه، لقد نظرتُ إلى هذا نظرًا لا أحسب إلا أنه سيفضحُني عند جميع من قد عرفني في عرصة القيامة، ولقد تركني نظري هذا وأنا أستحيي من الله سبحانه وإن غفر لي. ثمَّ صُعِق.
محبو الله أحياء وإن قُبروا
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن شكر الخياط، حدَّثنا علي بن عبد الله بن الحسن بمكة، حدَّثنا علي بن إبراهيم النقاش، سمعت أبا القاسم بن مردان، سمعت أحمد بن عيسى الحراز يقول: دعتني امرأة إلى غُسل ولدِها، ذكرَت أنه أوصى بذلك، فلما كشفتُ عن الثوب قَبضَ على يدي، فقلت: يا سبحان الله! حياةٌ بعد موت؟ فقال: يا أبا سعيد، إن المحبين لله تعالى أحياءٌ وإن قبروا.
العباد على ثلاث منازل
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي الخياط الشيخ الصالح رحمه الله، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد الهمذاني بمكة في المسجد الحرام، حدَّثنا الخالدي، سمعتُ ابن مسروق يقول: بلَغنا عن حيَّان القيسي أنه قال: العِباد مع الله تعالى على ثلاث منازل: قومٌ يضنُّ بهم عن البلاء لئلا يَسترق الجزعُ سرَّهم، فتكون هذه حكمةٌ، أو يكون في صدورهم حَرَجٌ من قضائه، وقومٌ يضنُّ بهم عن مُساكَنة أهل المعاصي لئلا تغتمَّ قلوبُهم، فمن أجل ذلك سَلمَت صدورهم للعالم، وقومٌ صُبَّ عليهم البلاء صَبًّا فما ازدادوا له إلا حُبًّا.
تاه في حب الله
أخبرنا عبد العزيز بن علي، حدَّثنا علي بن عبد الله، حدَّثنا الحسن بن يحيى بن حموَيه، حدَّثنا عُبيد الله بن عمر، حدَّثني إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن الحسن البلخي، عن إبراهيم بن أدهم، قال: وجدت يومًا راحةً، وطاب قلبي لحُسن صُنع الله بي واختياره لي، فقلتُ: اللهمَّ إن كنت أعطيتَ أحدًا من المحبين لك ما أسكنَت به قلوبهم قبل لقائك فأعطني ذلك، فلقد أضرَّ بي القلق. قال: فرأيتُ الله تبارك وتعالى في النوم، فوقفني بين يديه، وقال: يا إبراهيم! ما استحييتَ مني، تسألني أن أُعطيك ما يسكنُ به قلبك قبل لقائي، وهل يسكن قلب المشتاق إلى غير حبيبه أم هل يستريح المُحبُّ إلى غير من اشتاق إليه؟ فقلت: يا رب! تهتُ في حبك فلم أدرِ ما أقول.
عمر والزاني القتيل
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس ابن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، حدَّثنا أبو الفضل أحمد بن ملاعب، أخبرني محمد بن سعيد الأصبهاني، أخبرنا علي بن مُسْهِر عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي، قال: كان أخَوان من الأنصار، فخرَج أحدهما في بَعثٍ وتخلَّف الآخر عند امرأة أخيه، فقالت امرأة المقيم له: أُشعرتُ أن امرأة أخيك يَختلف إليها رَجلٌ. قال لها: فإذا جاء فأعلميني. فلما جاء أخبرته، وبينها وبينه حائط، فوضعَت له سُلَّمًا فصعد، فأشرف فإذا هو بامرأة أخيه توقدُ له نارًا وتشوي له دجاجةً، وهو يقول:
فنزل فضربه بالسيف حتى قتَله، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فلما أصبح قام خطيبًا فقال: أنشدُ الله والإسلام رجلًا عنده علمٌ من هذا المقتول إلا أنبأ به. فقام إليه رجلٌ فقصَّ عليه القصة وأخبره بقوله، فقال عمر: أبعده الله وأسحقه.
نصر بن حجاج وامرأة السُّلمي
ضحيَّتا الهوى
وجدت بخط أبي عمر بن حَيُّوَيْهِ ونقلته منه، قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف بن المَرْزُبان، أخبرني صالح بن يوسف المحاربي، قال: أخبرني أبو عثمان المازني، أخبرنا العتبي عن شبابة بن الوليد العذري، أن فتًى من بني عُذرة يُقال له أبو مالك بن النضر كان عاشِقًا لابنة عمٍّ له عِشقًا شديدًا، فلم يزل على ذلك مدة، ثمَّ إنه فُقد بضع عشرة سنة ولم يُحسَّ له خبر.
قال شبابة بن الوليد: فضلَّتْ إبل لي، فخرجتُ في طلبها، فبينا أنا سيرُ في الرمال إذا بهاتفٍ يهتف بصوتٍ ضعيفٍ وهو يقول:
فقلت: دلُّني عليه رحمك الله. فقال: نعم اقصد الصوت. فلما قصدت غير بعيد سمعت أنينًا من خباء فأصغيتُ إليه، فإذا قائلٌ يقول:
فدنوت منه، فقلت: أبو مالك؟ قال: نعم! قلت: ما بلَغ بك ما أرى؟ قال: حبي سعاد ابنة أبي الهيذم العذري، فشكوتُ يومًا إلى ابن عمٍّ لنا من الحي ما أجد من حبها، فاحتملني إلى هذا الوادي منذ بضع عشرة سنة، ويأتيني كلَّ يوم بخبرها، ويُقوِّتني حفظه الله من عنده، فقلت له: إنِّي أصيرُ إلى أهلها فأُخبرهم بما رأيت. قال: أنت وذاك.
فانصرفتُ وصرتُ إلى أهل الجارية، فخبَّرتهم بحال الفتى وما رأيت منه، وحدَّثتهم حديثه، فرقُّوا له فزوَّجوه بحضرتي، ورجعتُ إليه عامدًا لأُفرِّج عنه لما رأيتُ منه، فلما أخبرته الخبر حدَّد النظر إليَّ، ثمَّ تأوَّه تأوُّهًا شديدًا بلغ من قلبي، ثمَّ أنشأ يقول:
ثمَّ زَفَرَ زفرةً فمات، فدفنتُه في موضعه ثمَّ انصرفت فأعلمتهم الخبر، فأقامت الجارية ثلاثًا لا تطعمُ طعامًا ثمَّ ماتت.
غصص الموت
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدَّثنا محمد بن القاسم النباري: أنشدني أبي عن بعض أصحابه لأبي نواس:
الدماء المطلولة
ولي من أثناء أبيات كتبتُها إلى بعض الأدباء:
ولي أيضًا من أثناء قصيدة مدحتُ بها بعض الرؤساء بالإسكندرية:
ولي من أثناء قصيدة:
ليلى الأخيلية والحجاج
أخبرنا أبو جعفر بن مسلمة في ما أذن لنا في روايته أن أبا القاسم إسماعيل بن سعيد بن سُوَيْد أخبرهم إجازةً، قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، حدَّثني أبي، حدَّثنا أحمد بن عبيد عن أبي الحسن المدائني عمَّن حدَّثه عن مولى لعنبسة أن سعيد بن العاص، قال: كنتُ أدخل مع عنبسة بن سعيد إذا دخل على الحجاج، فدخل يومًا فدخلت إليهما، وليس عند الحجاج غير عنبسة، فقعدتُ فجيء الحجاج بطبق فيه رُطَبٌ فأخذ الخادم منه شيئًا فجاءني به، ثمَّ جيء بطبق حتى كَثُرت الأطباق، وجعل لا يؤتون بشيءٍ إلا جاءني منه بشيءٍ، حتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهم. ثمَّ جاء حاجب فقال: امرأةٌ بالباب. فقال له الحجاج: أدخلها! فدخلت، فلما رآها الحجاج طأطأ رأسه حتى ظننتُ أن ذقنه قد أصاب الأرض، فجاءت حتى قعدت بين يديه، فنظرت إليها فإذا هي امرأةٌ قد أسنَّت، حسنة الخلق، ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى ما أتى بك؟ فقالت: إخلافُ النجوم، وقلَّة الغيوم، وكلَبُ البرد، وشدة الجهد، وكنتَ لنا بعد الله الرفد.
قال: فلما قالت هذا قال الحجاج: قاتَلها الله! ما أصاب صفتي شاعرٌ مذ دخلتُ العراق غيرها. ثمَّ التفَت إلى عنبسة بن سعيد فقال: والله إنِّي لأعدُّ للأمر عسى أن لا يكون أبدًا. ثمَّ التفَتَ إليها فقال: حسبُك. قالت: إنِّي قد قلت أكثر من هذا. قال: حسبك، ويحك حسبك. ثمَّ قال: يا غلام، اذهب إلى فلان فقل له اقطع لسانها. قال: فأمر بإحضار الحجَّام، فالتفتَت إليه فقالت: ثكلتْكَ أمُّك! أما سمعتَ ما قال: إنما أمرك أن تقطع لساني بالصِّلة. فبعث إليه يَستثبته، فاستشاط الحجاجُ غضبًا وهمَّ بقطع لسانه، وقال: اردُدها. فلما دخلت عليه قالت: كاد وأمانة الله يَقطعُ مقولي. ثمَّ أنشأت تقول:
ثمَّ أقبل الحجَّاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أنا لم نرَ امرأةً قطُّ أفصح لسانًا ولا أحسن مُحاوَرةً ولا أملح وجهًا ولا أرصن شِعرًا منها. فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبِّها. ثمَّ التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة. فقالت: نعم أيها الأمير، هو الذي يقول:
فقال لها زيدينا يا ليلى من شعره. فقالت: هو الذي يقول:
فقال لها الحجاج: يا ليلى، ما الذي رابه من سفورِك؟ فقالت: أيها الأمير، كان يُلِم بي كثيرًا، فأرسل إليَّ يومًا أني آتيكِ، وفطنَ الحيُّ، فأرصدوا له، فلما أتاني سفرتُ فعلم أن ذلك لشرٍّ، فلم يَزد على التسليم والرجوع. فقال: لله درُّك، فهل رأيت منه شيئًا تكرهينه؟ فقالت: لا والذي أسأله أن يُصلحك غير أنه قال لي مرة قولًا ظننتُ أنه قد خضع لبعض الأمر، فقلت له:
فلا والذي أسأله أن يُصلحك ما رأيتُ منه شيئًا حتى فرَّق الموت بيني وبينه. قال: ثمَّ ماذا؟ قالت: لم يلبث أن خرج في غزاة له فأوصى ابن عمه: إذا أتيتَ الحاضرة من بني عُبادة، فنادِ بأعلى صوتك:
فخرجت وأنا أقول:
قال: ثمَّ ماذا؟ قالت: لم يَلبث أن مات، فأتاني نعيُّه. قال: فأنشدينا بعض مراثيك. فأنشدت:
قال: فأنشدينا:
فلما فرغت من القصيدة قال مُحصنٌ الفقعسي، وكان من جلساء الحجاج: من هذا الذي تقول هذه هذا فيه؟ فوالله إنِّي لأظنُّها كاذبة. فنظرت إليه، ثمَّ قالت: أيها الأمير! إن هذا القائل لو رأى توبةَ لسرَّه أن لا يكون في داره عذراء إلا وهي حاملٌ منه. فقال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنتُ عنه غنيًّا.
ثمَّ قال لها: سَلي يا ليلى تُعطَي. قالت: أعط فمثلُك أعطى فأجزل. قال: لك عشرون. قالت: زِد فمثلك زاد فأجمل. قال: لك أربعون. قالت: زِد فمثلُك زادَ فأفضل. قال: لك ستون. قالت: زِد فمثلك زاد فأكمل. قال: لك ثمانون. قالت: زِد فمثلُك زاد فأتمَّ. قال: لك مائةٌ، واعلمي يا ليلى أنها غَنَمٌ. قالت: معاذ الله أيها الأمير، أنت أجود جُودًا وأمجدُ مجدًا وأورى زندًا من أن تجعلها غَنَمًا. قال: فما هي ويحك يا ليلى؟ قالت: مائة ناقة يُدعى بها. فأمر بها ثمَّ قال: ألك حاجةٌ بعدها؟ قالت: تدفع إليَّ النابغة الجعدي في قَرَن. قال: قد فعلت.
وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك، فخرج هاربًا عائذًا بعبد الملك، فاتَّبعته إلى الشام، فهرب إلى قُتيبة بن مُسلم بخراسان، فأتبعَته على البريد بكتاب الحجاج إلى قُتيبة، فمات بقومَس، ويُقال بحُلوان.
علي بن صالح والقينة
ذكر أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ في ما نقله من خطه، قال: حدَّثنا محمد بن خلف، قال: حدَّثنا الحسين بن جعفر، قال: حدَّثنا عبد الله بن أحمد العبدي، قال: حدَّثني سليمان بن علي الهاشمي، أن علي بن صالح بن داود ذكر عن جارية من القيان أنها تميلُ إليه مَحبةً وكلفًا، وكانت موصوفة بالأدب شاعرةً، فكرِهَ مُراسلتها، فحضر يومًا عند بعض أهل البصرة وكانت عنده، فلما رأت علي بن صالح قالت: طاب عيشُنا في يومنا هذا. فلم يلتفت إليها، وأطرقَت هي أيضًا فلم تنظر إليه، ثمَّ دعت بدواةٍ فكتبت على منديل كان معها، ثمَّ غافَلت أهل المجلس فألقَت إليه المنديل فأخذه فإذا فيه:
قال: فما هو إلا أن قرأتُ الشعر حتى وجدتُ في قلبي من أمرها مثل النار، وقمتُ فانصرفتُ خوفًا من الفضيحة، ثمَّ لم أزل أعمل الحيلة في ابتياعها من حيث لا تعلم، فعسُر ذلك عليَّ، فعرَّفتها الخبر، وما عزمت عليه من ابتياعها، فأعانَتْني على ذلك حتى ملكتها، فلم أوثر عليها أحدًا من حرمي ولا أهلي، ولا كان عندي شيءٌ يَعدِلُها، فتُوفِّيَت، فأنا لا عيش لي بعدها ولا سرور. فوالله ما لبث بعد هذا الكلام إلا أيَّامًا يسيرةً حتى مات أسفًا عليها وكمدًا، فدُفن إلى جنبها.
ريقته مدام
ولي من قصيدة أولها:
عشقٌ ليس فيه فحش
أنبأنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، حدَّثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب، قال: حدَّثني العتبي، قال: كان عند خالد بن عبد الله فقهاء من أهل الكوفة، فيهم أبو حمزة الثُّمالي، فقال خالد: حدِّثونا بحديث عشقٍ ليسَ فيه فُحش! فقال أبو حمزة الثمالي: أصلَحَ الله الأمير! زعموا أنه ذُكر عند هشام بن عبد الله غدرُ النساء وسرعة تزويجهن. فقال هشام: إنه ليبلُغني من ذلك العجب. فقال بعض جلسائه: أنا أحدِّثُك عما بلغني من ذلك.
بلَغني أن رجلًا من بني يشكر يُقالُ له غسَّان بن مَهضَم من العذافر، كانت تحته ابنةُ عمٍ له يُقالُ لها أم عقبة بنت عمرو بن الأبجر، وكان لها مُحِبًّا، وكانت هي له كذلك، فلما حضَره الموت وظنَّ أنه مُفارِقٌ الدنيا قال ثلاثة أبيات، ثمَّ قال لها: يا أم عقبة! اسمعي ما أقول، وأجيبيني بحقٍّ، فقد تاقت نفسي إلى مسألتك عن نفسك بعدما يواريني التراب. فقالت: قُل، فوالله لا أجيبُك بكذبٍ ولأجعلنه آخِرَ خِطابٍ مني. فقال وهو يَبكي بكاءً منعه الكلام:
فأجابته ببكاء وانتحاب:
قال: فلما قالت ذلك طابت نفسه، وفي النفس ما فيها، فقال:
قال: ثمَّ اعتُقل لسانه، فلم يَنطق حتى مات. فلم تلبث بعده حتى خُطبت من كل جانب، ورغب فيها الأزواج لاجتماع الخصال الفاضلة فيها من العقل والجمال والعفاف، فقالت مُجيبة لهم:
فأيسَ الناسُ منها حينًا، فلما مرَّت بها الأيام نسيَتْ عهده قالت: من مات فقد فات. فأجابت بعض خُطَّابها، فتزوَّجها، فلما كانت الليلة التي أراد الدخول بها جاءها غسَّان في النوم، وقد أغفَت. فقال:
قال: وكانت المرأة القائلةُ هذا الكلام صاحبة شعرٍ ورَجز، فقالت:
قال: فلما بلغ زوجها، وكان يُقال له المِقدام بن حُبيش، وكان قد أُعجبَ بها أنها قالت: ما كان لي مُستمتَع بعد غسَّان، قال: هكذا فلتكن النساء في الوفاء، وقلَّ من تحفظ ميِّتًا، إنما هي أيامٌ قلائل حتى يُنسى وعنه يُسلى.
نظرة بتبسُّم
أنشدنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي الخلال رحمه الله، قال: أنشدنا أبو بكر أحمد بن محمد الخوارزمي لبعضهم:
قميص الكتمان
ثمَّ ذهب عقله، فقال المتطبِّبُ لأهله ومن حضره: ارفقوا به. ثمَّ انصرف. فما مكث إلا ليالي يَسيرةُ حتى قضَى.
طرف قتول
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري، أخبرنا ابن رَوح، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا الكوكبي، حدَّثني إسحاق بن محمد، أخبرني أبو عثمان المازني، قال: قال أبو حيان الدارِمي في أبي تمام الروبج من بني هاشم، وكان يهواه:
قال أبو عثمان: فحدثني من أتى بخبره أن المأمون أنشد هذا الشعر، فقال: ما سمعتُ أرقَّ من هذا المعنى:
شعر ليحيى بن طالب
أخبرنا محمد بن أبي نصر الحافظ، حدَّثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي، حدَّثنا القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع، حدَّثنا أبو علي القالي: قال أبو بكر الأنباري: غُنِّيَ هارون الرشيد بشعر يحيى بن طالب:
فقال هارون الرشيد: يُقضى دينُه. فطُلب فإذا هو قد مات قبل ذلك بشهر.
غصة الحديث
وبإسناده حدَّثنا القالي، أخبرنا أبو بكر بن دُرَيْد: أنشدنا عبد الرحمن عن عمِّه لرجل من بني كلاب:
قال أبو علي القالي: الرس الشيء من الخبر، والرسيس مثله.
أفِق من الحب
وبإسناده قال: وأنبأنا القالي، أخبرنا ابن دُرَيْد: حدَّثنا أبو حاتم للعوَّام بن عُقبة بن كعب:
نُصَيب وأُم بكر
أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدَّثنا الزبير بن بكار، وحدَّثني إبراهيم بن عبد الله السعدي، عن جدته جمال بنت عون بن مسلم، عن جدها مسلم السعدي، قال: رأيتُ رجلًا أسود معه امرأةٌ بيضاء، فوقفتُ أتعجب من شدة سواده مع شدة بياضها، فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا الذي أقول:
فقالت: لا، بل ندوم على العهد. فسألت عنه فقيل لي: هذا نُصَيبٌ، وسألت عنها فقيل لي: عشيقته أم بكر.
ابن أبي عتيق ونصيب وسعدى
أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الحنبلي، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا الجرمي بن أبي العلاء، واسمه أحمد، حدَّثنا الزبير بن بكار، وحدثني أبو عثمان أحمد بن محمد الأسدي، عن محمد بن عبد الله بن مؤرج، قال: أراد ابن أبي عتيقٍ الحج، فلقى نصيبًا، فقال: هل تُوصي إلى سُعدى بشيء؟ قال: نعم ببيتَين. قال: ما هما؟ قال:
قال: فخرج ابن أبي عتيق فوجد سُعدى في مجلسٍ لها، فقال لها: يا سُعدَى! معي إليك رسالة. قالت: وما هي؟ هاتها يا ابن الصِّدِّيق. فأنشدها البيتَين، فتنفَّست تنفُّسًا شديدًا، فقال ابن أبي عتيق: أُوهِ أجبته والله بأحسن من بيتَيه، وعتق ما ملك أن لو سمعها لنعق وطار.
عاشقُ يقتله الصدُّ
حدَّثني محمد بن عبد الله الأندلسي، وكتبه لي بخطِّه، حدَّثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد الحافظ الأندلسي، حدَّثني أبو عبد الله محمد بن الحسن المذحجي الطبيب الأديب، قال: كنتُ أختلفُ في النحو إلى محمد بن خطَّاب النحوي في جماعةٍ، وكان معنا عنده أبو الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد ابن قاضي قضاة الأندلس أسلم بن عبد العزيز صاحب المزنى والربيع. قال محمد بن الحسن: وكان أجمل من رأته العيون. وكان معَنا عند محمد بن خطاب أحمد بن كُليب، وكان من أهل الأدب والشعر، فاشتدَّ كلفه بأسلم وفارق صبره وصرفَ فيه القول مُتستِّرًا بذلك إلى أن فشَت أشعارُه فيه، وجرت على الأسنة وتُنوشِدت في المحافل.
فلعهدي بعرسٍ في بعض الشوارع بقرطبة، والكوري الزامر قاعدٌ في وسط المحفل وفي رأسه قلنسوة وشيء، وعليه ثوب خزٍّ عُبَيدي، وفرسه بالحِليةِ المحُلَّاة يمسكه غلامه، وكان يزمر لأمير المؤمنين الناصر، وهو يزمر في البوق بقول أحمد بن كليب في أسلم، وهو:
ومُغنِّ مُحسنٌ يُسايُره فيها، فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلمُ عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته والجلوس على بابه.
وكان أحمد بن كُليب لا شُغل له إلا المرور على باب أسلم سائِرًا ومُقبِلًا نهاره كله، فامتنع أسلم عن الجلوس على باب داره نهارًا، فإذا صلَّى المغرب واختلط الظلام خرج مُستروِحًا وجلس على باب داره، فعيل صبرُ أحمد بن كُلَيب فتحيَّل في بعض الليالي ولبس جُبة صوفة من جِباب أهل البادية واعتمَّ بمثل عمائمهم، وأخذ بإحدى يديه دَجاجًا وبالأخرى قفصًا فيه بيضٌ، وتحيَّن جلوس أسلم عند اختلاطِ الظلام على بابه، فتقدَّم إليه وقبَّل يده وقال: يا مولاي! تأمرُ مَن يقبِضُ هذا؟ فقال له أسلم: ومن أنت؟ فقال: أجيرُك في الضيعة الفلانية. وقد كان يعرف أسماء ضياعِه والعاملين فيها، فأمر أسلم غِلمانه بقبض ذلك منه على عادتهم في قبول هدايا العاملين في الضياع عند ورودِهم منها. ثم جعل يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام، فتأمَّله فعرَفه، فقال له: يا أخي! وإلى هنا بلغت بنفسك، وإلى ها هُنا تتبعُني؟ أما كفاك انقطاعي عن مجالس الطلب، وعن الخروج جُملةً وعن القعود على بابي نهارًا، حتى قطعتَ عليَّ جميع ما لي فيه راحةٌ، فقد صرتُ من سجنك في حيرة، والله لا فارقتُ هذه الليلة قعر منزلي ولا جلستُ بعدها على بابي لا ليلًا ولا نهارًا. ثمَّ قام، فانصرف أحمد بن كليب حزينًا كئيبًا.
قال محمد بن الحسن: واتَّصل ذلك بنا، فقلنا لأحمد بن كليب: قد خسرتَ دجاجك وبيضك. فقال: هاتِ كل ليلة قبلة يده وأخسر أضعاف ذلك.
قال: فلما يئس من رؤيته البتة نهكتْه العلة، وأضجعه المرض.
قال محمد بن الحسن: فأخبرني شيخُنا أبو عبد الله محمد بن خطاب، قال: فعُدته فوجدته بأسوأ حال، فقلت له: ولِمَ لا تتداوَى؟ فقال: دوائي معروفٌ، وأمَّا الأطباء فلا حيلة لهم فيَّ البتة. فقلت له: وما دواؤك؟ قال: نظرة من أسلم، ولو سعَيتَ في أن يزورني لأعظم الله أجرك بذلك، وكان هو والله أيضًا يؤجرُ.
قال: فرحمته وتقطَّعت نفسي له، فنهضتُ إلى أسلم فاستأذنت عليه، فأذن لي وتلقَّاني بما أُحب. فقلت له: لي حاجةٌ. قال: وما هي؟ قلت: قد علمتَ ما جمعك مع أحمد بن كليب من ذِمام الطلب عندي. فقال: نعم! ولكن تعلم أنه برَّح بي وشهَرَ اسمي وآذاني. فقلت: كل ذلك يُغتفرُ في مثل الحال التي هو فيها، فتفضَّل بعيادته. فقال لي: والله ما أقدر على ذلك فلا تُكلِّفني هذا. فقلت له: لا بدَّ، فليس عليك في ذلك شيء، وإنما هي عيادةُ مريض.
قال: ولم أزل به حتى أجاب. فقلت: فقُم الآن! فقال لي: لستُ والله أفعل، ولكن غدًا. فقلت له: ولا خُلفَ؟ قال: نعم.
قال: فانصرفتُ إلى أحمد بن كليب وأخبرته بوعده بعد تأبِّيه، فسُرَّ بذلك وارتاحت نفسه.
قال: فلما كان من الغد بكَّرت إلى أسلم وقلت له: الوعد. فوجم، وقال: والله لقد تَحملُني على خطةٍ صعبةٍ عليَّ، وما أدري كيف أُطيقُ ذلك. قال: فقلت له: لا بدَّ أن تفي بوعدك لي.
قال: فأخذ رداءه ونهض معي راجِلًا، فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يَسكن في آخر دربٍ طويلٍ، وتوسَّط الزقاق وَقَفَ واحمرَّ وخجل، وقال لي: يا سيِّدي، الساعة والله أموت وما أقدر أن أنقُلَ قدمي، ولا أستطيع أن أعرِض هذا على نفسي. فقلت له: لا تفعل بعد أن بلغت المنزل وتنصرف؟ فقال: لا سبيل والله إلى ذلك البتَّة.
ورجع هاربًا، فاتَّبعته فأخذت بردائه، فتمادى وخرق الرداء، وبقيَتْ قطعةٌ منه في يدي لشدة إمساكي له، ومضى ولم أدركه، فرجعت ودخلت على أحمد بن كليب.
قال: فقلتُ اتَّقِ الله، ما هذه الكبيرة؟ فقال لي: قد كان. فخرجتُ عنه، فوالله ما توسَّطت الزقاق حتى سمعتُ الصراخ عليه وقد فارق الدنيا.
قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وهذه قصة مشهورةٌ عندنا. ومحمد بن الحسن ثقةٌ، ومحمد بن خطاب ثقةٌ، وأسلم هذا من بني خَلَف، وكان فيهم وزارة وحجابة، وهو حاجب الديوان المشهور في غناء زِرياب، وكان شاعرًا، وابنه الآن في الحياة يُكنَّى أبا الجعد.
قال أبو محمد: ولقد ذكرتُ هذه الحكاية لأبي عبد الله محمد بن سعيد الخولاني الكاتب، فعرفها وقال: لقد أخبَرَني الثقة أنه رأى أسلم هذا في يومٍ شديد المطر لا يكادُ أحدٌ يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب المذكور زائرًا له، قد تحيَّن غفلة الناس في مثل ذلك النهار.
شعر مَلحون
قال شيخنا: قال لنا أبو محمد، وحدثني أبو محمد قاسم بن محمد القرشي، قال: كتب ابن كليب إلى محمد بن خطاب شِعرًا يتغزَّلُه فيه بأسلم، فعرضه ابنُ خطاب على أسلم فقال: هذا ملحونٌ. وكان ابن كليب قد أسقط التنوين من لفظةٍ في بيتٍ من الشعرِ، فكتب ابن خطَّاب إلى ابن كليبٍ بذلك، فكتَب إليه ابن كليبٍ مسرعًا:
قبر عاشق
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، قال: أنشدنا أبو عمر محمد بن العباس عمَّن أنشده في أثرِ حكاية ذهبتْ عليَّ وحفظتُ الشعر:
وفاة عزيز لا حياة ذليل
أخبرنا أبو الخطاب أحمد بن المغيرة الأندلسي بدمشق لأبي العلاء أحمد بن سليمان، وذكر لي أنه قرأ عليه ديوان الصبابة وقرأته عليه جميعه بدمشق: ولي من أثناء قصيدة له أوَّلُها:
ومنها:
أجمل الناس وأقبحهم
كنتُ سابع سبعةِ إخوةٍ كلهم لو رأيتَني معهم ظننتَني عبدًا لهم، وكان أبي وإخوتي يَطرحونني، وكنتُ لكل عمل دنيء؛ للرواية مرَّة، ولرعاية الغنم أخرى. وكانت إخوتي هم أصحاب الإبل والخيل. فبَينا أنا أرعى الإبل في عام جَدْبٍ أشهَبَ إذ ضلَّ بعيرٌ منها، فقالوا لأبي: ابعث فلانًا يَبغيه! فدعاني فقال: اذهب فاطلب هذا البعير! فقلت: ما تُنصفني أنت ولا بنوك. أما إذا الإبل درَّت ألبانُها وطاب رُكوبُها، فهم أصحابها، وأمَّا إذا ندَّت ضُلَّالُها فأنا باغيها. فقال: يا لُكَع اذهَبْ! أما والله إنِّي لأظنه آخر أيامك من ضربٍ وجيع.
قالت: وَيحَكَ! هل لك أن تَدخُلَ هذا السِّتر عليَّ، إذا نام الحي، فنتحدَّث وتُمثلنا من أماثيلك هذه؟ فإنَّا نَراها مِلاحًا. فغرَّني إبليسُ لما شبعتُ من القِرَى، ودَفِئتُ من الصلى، وجاء أبوها وإخوتها مثل السباع، واضطجعوا أمام الخيمة وأنا فيها، فلم يزل بي القدر المحتوم حتى نهضتُ لألجَ عليها الستر فإذا هي نائمة، فهمزتُها برجلي، فانتبهت وقالت: من هذا؟ قلت: الضيف. قالت: إياك، فلا حيَّاك الله.
قال الأسدي: وهي والله تَصْدُفُ حياءً من حديث زوجها صُدُوفَ المُهرَةِ العربية سَمِعت صلاصِلَ لجامها. ثمَّ قالت: لا حَسُنَ خبرُك، اخرُج لعنك الله!
قال: فتواثبوا، فمِن آخذٍ حجرًا ومن آخذٍ سيفًا ومن آخذٍ عصا، وهم يُريدون أن يجعلوا البئر قبري وقبرها. فقال أبوها: مَه! فإن ابنتي ليست بحيث تظنُّون. قال: فنزل أحدهم، فأخرجها وأخرج الكلب ثم أخرجوني، فقال أبوهم: إنكم إن قتلتم هذا الرجل طُلبتم، وإن خليتُموه افتُضحتم، وقد رأيتُ أن أُزوِّجه إياها، فلعمري! أنه ما يُطعَنُ في نسبه، وإنه لكُفؤ. ثم أقبل عليَّ فقال: هل فيكَ خيرٌ؟
قلت: اربع عليكَ أيها الرجل تسمع الخبر، فإنما أنت مُحدَّثٌ، كان من الأمر كيت وكيت. قال: ورِّيَتُ بك زِنادُ أبيك، إذن والله لا تُسلَم ولا تُخذَل، عليَّ بالإبل.
فلما جاءت قال: اعتدَّ حاجتك، فاعتددتُ منهنَّ خمسين بكَرةً كأنهن العذارى، ودفع إليَّ عبدًا وأمة موَلَّدين، ثم ساق معي الإبل حتى أتيناهم، فدفعنا إليهم حقهم واحتملنا صاحبتنا، وها هي هذه، جُهدُها أن تقول كذبت، فاعجَب لذلك فعل دهرٍ؛ أي أكثر العَجب.
لا يقبل الرشوة
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في ما أذن لنا في روايته، حدَّثنا أبو عبد الرحمن السلمي، سمعتُ منصور بن عبد الله يقول: دخل قومٌ على الشبلي في مرضه الذي مات فيه فقالوا: كيف تَجِدُك يا أبا بكر؟ فأنشأ يقول:
كيف يقتل الفاسق
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي بن السواق، رحمه الله، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم، حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدَّثنا أبو بكر العامري، حدَّثنا عبد الله بن عمر، حدَّثنا أبو عباد شيخ قديم، قال: أدركتُ الخادم الذي كان يقوم على رأس الحَجاج، فقلت له: أخبرني بأعجبِ شيءٍ رأيتَ من الحجاج؟ قال: كان ابن أخيه أميرًا على واسط، وكان بواسط امرأةٌ يُقال: إنه لم يَكُ بها في ذلك الوقت امرأةٌ أجمل منها، فأرسل ابنُ أخيه إليها يريدها على نفسها مع خادمٍ له، فأبت وقالت: إن أردتَني فاخطُبني إلى إخوَتي، وكان لها إخوَةٌ أربَعةٌ، فأبى وقال: لا! إلا كذا، وعاوَدَها، فأبت إلا أن يخطبها إلى إخوَتها، فأما حرامٌ فلا، فأبى هو إلا الحرام، فأرسل إليها بهديةٍ فأخذَتْها فعزَلتها، ثم أرسل إليها عشية جُمعة أني آتيك الليلة، فقالت لأمها: إنَّ الأمير قد بَعثَ إليَّ بكذا وكذا، فأنكرت أُمُّها ذلك وقالت لإخوتها: إن أختكم قد زَعَمت كذا وكذا، فأنكروا ذلك وكذَّبوها، فقالت: إنه قد وَعدَني أن يأتيني الليلة فسترَونه.
فقعد إخوتها في بيتٍ حيال البيت الذي هو فيه، وفيه سراجٌ، وهم يَرَوْنَ من يدخل إليها، وجويرية لها على باب الدار قاعدة. حتى جاء الأمير فنزل عن دابته وقال لغلامه: إذا أذَّن المؤذن في الغَلس فأتني بدابتي. ودخل فمشت الجارية بين يديه، فقالت له: ادخل. فدخل وسيدتها على سريرٍ مُستلقية، فاستلقى إلى جانبها، ثم وضع يده عليها وقال: إلى كم هذا المطْل؟ فقالت له: كفَّ يدك يا فاسق. فدخل إخوتُها عليها ومعهم سيوفٌ فقطَّعوه ثم لفُّوه في نِطعٍ وجاءوا به إلى سِكَّةٍ من سِكَك واسط فألقَوه فيها.
وجاء الغلام بالدابة فجعل يَدُقُّ الباب دقًّا رفيقًا وليس يُكلِّمه أحد، فلما خشيَ الصبح وأن تُعرَفَ الدابة انصرف، وأصبحوا فإذا هم به، فأتوا به الحَجاج فأخذ أهل تلك السكة، فقال: أخبروني ما هذا؟ وما قصته؟ قالوا: لا نعلم ما حاله وما قصته. غير أنا وجدناه مُلقًى. ففطن الحجاج، فقال: عليَّ بمن كان يخدمه. فأُتي بذلك الخصي الذي كان الرسول، فقال: هذا كان صاحب سرِّه. فقال له الحجاج: اصدقني! ما كان حاله وما قصته؟ فأبى، فقال له: إن صدقتني لم أضرِب عنقك، وإن لم تصدُقني فعلتُ بك وفعلت. فأخبره الأمر على جهته، فأمر بالمرأة وأمها وإخوتها فجيء بهم، فعُزِلت المرأة عنهم، فسألها فأخبرته بمثل ما أخبر به الخصي، ثم سأل الإخوة على انفراد فأخبروه بمثل ذلك، وقالوا: نحن صنَعنا به الذي ترى. فصرفهم وأمر برفيقه ودوابِّه وماله وكلِّ قليلٍ وكثيرٍ له أن يُعطى للمرأة.
فقالت المرأة: عندي هديتُه التي وَجَّه بها إليَّ. فقال: بارك الله لكِ فيها وأكثر في النساء مثلك، هي لك، وكلُّ ما ترك من شيءٍ فهو لك، فأعطاها جميع ما ترك وخلَّى عنها وعن إخوتها، وقال: إن مثل هذا لا يُدفَنٌ، فألقوه للكلاب. ودعا بالخصيِّ فقال: أما أنت فقد قلت لك إني لا أضربُ عُنقَك، وأمَرَ بضربِ وَسطه.
ميِّتا الحُبِّ
ومات مكانه. فلما دخلتُ النباج أتيت الحي فناديت: يا هلال، يا هلال. فخرجت إليَّ جاريةً لم أرَ أحسن منها، وقالت: ما وراءك؟ قلت: شابٌّ بمكة أنشدني هذا البيت. قالت: وما صنع؟ قلت: مات. فخرَّت مكانها ميِّتة.
إساءة الدنيا وإحسانها
أخبرني أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي بقراءتي عليه، أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، حدَّثنا أبو بكر بن دُرَيْد: أنشدنا عبد الرحمن عن عمه:
عيون وخدود
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن أيضًا، أخبرنا علي بن عيسى الرماني، قال: أخبرنا ابن دُرَيْد: أنشدنا عبد الرحمن عن عمه لأبي المطراب العنبري:
جسم ناحل وعظام
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن التَّوَّزِي، أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، حدَّثنا أبو بكر ابن الأنباري، أخبرنا أبي: أنشدني أحمدُ بن عُبيد:
قال أبو بكر: الأشلاء جمع شِلْو، وهو العُضو.
موت جميل بثينة
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا أبو بكر العامري، أخبرني أبو الحسن بن محمد بن أبي سيف، أخبرني أبو عبد الرحمن العجلاني، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: بينا أنا بالشام إذ لقيَني رَجَلٌ من أصحابي فقال: هل لك في جميل تعودُه، فإنه ثقيل بالمرض؟ قلت: نعم! فدخلنا عليه، وهو يجودُ بنفسه، وما يُخيَّلُ إليَّ إلا أن الموت عَلِقَ به، فنظر إليَّ وقال: يا ابنَ سعد! ما تقول في رجلٍ لم يَزنِ قط، ولم يشرب خمرًا قط، ولم يَسفِك دمًا حرامًا قط، يشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا عبده ورسوله، منذ خمسين سنة؟
قال: قلت: مَن هذا الرجل؟ فإني أظنه والله قد نجا؛ لأن الله تعالى يقول: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا.
قال: أنا. قال: فقلت: والله ما رأيتُ كاليوم أعجب من هذا، وأنت تُشبِّب ببُثَينة منذ عشرين سنة.
قال: أنا في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من الآخرة، فلا نالتْني شفاعةُ محمد إن كنت وضعتُ يدي عليها لريبة قطُّ، وإن كان أكثر ما كان مني إليها أني كنتُ آخذُ يدَها أضعُها على قلبي فأستريحُ إليها.
قال: ثمَّ أُغميَ عليه، ثمَّ أفاق، فقال:
ثمَّ أغمى عليه فمات.
غشية تجيء وأخرى تذهب
قال: قلت: كيف أنت يَرحمك الله؟ فقال: مَن أنت؟ فقلتُ: أنا أخوك أبو المصعب. قال: غشية تجيء وأخرى تذهب، وأنا أتوقَّع الموت ما بين ذلك. قلت: الله بينك وبين من ظلَمك. قال: مه، والله ما أحبُّ أن يناله مكروه في الدنيا ولا في الآخرة! ثمَّ تنفَّس حتى رحمتُه، وهَمَتْ دموعه، وذهب عقله، فقمت عنه.
الهم الملازم
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري في ما أذن لنا أن نَرويه عنه، أخبرنا أبو القاسم طلحة بن محمد الشاهد، أخبرنا أبو عبد الله الحرمي بن أبي العلاء، وهو أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أبي الخمصة الغطفاني المكي، حدَّثنا الزبير بن بكار، حدَّثني محمد بن حسن: أنشدني مُحرِز بن جعفر لعُبيدِ الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود الهُذَلي:
الفتى المشدود بالحبل
ذكر أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ الخزاز، ونقلته من خطه، أن أبا بكر محمد بن خلف المحولي حدثهم، قال: حدَّثنا يحيى بن جعفر الواسطي، حدَّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق، حدَّثنا يعقوب بن عتبة بن المغيرة الأخنس عن الزهري عن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه، قال: كنتُ في خيل خالد بن الوليد، فقال لي فتًى منهم وهو في سنِّي، قد جُمعت يداه إلى عُنقه برُمَّةٍ، ونسوةٌ مجتمعاتٌ غيرُ بعيداتٍ عنه: يا فتى! قلتُ: ما تشاء؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرُّمَّة ومُدنيني من هؤلاء النسوة، فأقضي إليهنَّ حاجة ثمَّ ترُدني، فتفعل ما بدا لك؟
قال: قلت: والله ليسيرٌ ما طلبت. فأخذت برمَّته حتى وقفتُه فقال: اسلم حُبيش على بُعد العيش، وذكر الحديث.
حكاية: اسلم حبيش على بعد العيش
ذكر أبو عمر بن العباس بن حَيُّوَيْهِ الخزاز، ونقلته من خطه، أن أبا بكر محمد خلف بن المَرْزُبان حدثهم، قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الكوفي، حدَّثنا الهيثم بن عدي، حدَّثني سعيد بن شيبان عن أبي مسعود الأسلمي عن أبيه، قال: نشأ فينا غلامٌ يُقال له عبد الله بن علقمة، وكان جميلًا، فهويَ جارية من غير فخذه يُقال لها حُبَيشة، فكان يأتيها ويتحدَّثُ إليها. قال: فخرج ذات يومٍ من عندها ومعه أمه، فرأى في طريقه ظبيةً على رابية، فأنشأ يقول:
ثمَّ انصرف من عندها مرَّة أخرى، فأصابتْه السماء، فأنشأ يقول:
فلما يئسوا من أن ينصرف عنها قال بعضُهم لبعض: عليكم بحُبيشة وطمعوا أن يأتوا الأمر من قِبَلها، فقالوا: والله لئن أتاكِ لا تَزرين به وتتجهمينه وتقولين له: أنتَ أبغض الناس إليَّ، فلا تقربني، ونحن بمرأى منك ومسمع، ليفعلنَّ بك ما يسوءُك. فأتاها فلم تُكلمه بشيءٍ مما قالوا، ولم تَزِد على أن نظرت إليه ونظر إليها، ثمَّ أرسلت عينيها بالبكى، فانصرف عنها وهو يقول:
فبينما هما على أشد ما كانا عليه من الهوى والصبوة إذ هجَم عليه جيش خالد بن الوليد يوم الغُمَيصاء، فأخذ الغلامَ رجلٌ من أصحاب خالد، فأراد قتله، فقال له: ألمِم بي أهل تلك البيوت أقضي إليهن حاجة ثمَّ افعل ما بدا لك.
قال: فأقبلتُ به حتى انتهى إلى خيمة منها، فقال: اسلم حُبيش بعدَ انقطاع العيش. فأجابته فقالت: سَلِمتَ وحيَّاك الله عشرًا، وتسعًا وِترًا، وثلاثًا تترى، فلم أر مثلك يُقتَلُ صبرًا. وخرجَتْ تشتدُّ وعليها خِمارٌ أسودُ، وقد لاثته على رأسها، وكان وجهها مثل القمر ليلة البدر، فقال حين نظر إليها:
فأجابته:
فأجابها فقال:
فأجابته فقالت:
قال الذي أخبر به: فلما سمعتُ ذلك منهما أدركَتْني الغيرةُ، فضربتُه ضربةً، فقطعتُ منها يده وعُنقه، فلما رأتْه قد سقط قالت لي: ائذن لي أن أجمع بعضه إلى بعض. فأذنت لها، فجمعته وجعلت تمسحُ التراب عن وجهه بخمارها وتبكي، ثمَّ شهقت شهقةً خرجت معها نفسُها.
موت عروة بن حزام
قال أبو بكر بن المَرْزُبان، وأخبرنا أحمد بن زهير، أخبرنا الزهير بن بكار، أخبرني أبي، قال: قال عروة بن الزبير: مررتُ بوادي القُرى فقيل لي: هل لك في عُروة بن حِزام؟ فقلت: الذي يلقى من الحب ما يلقى؟ قالوا: نعم! فخرجت حتى جئتُه، فإذا هوَ في بيتٍ مُنفرِدٍ عن البيوت. وإذا والله حوله أخواتٌ له أمثال التماثيل وأمه وخالته. قال: فقلتُ له: أنت عروة؟ قال: نعم! قلت: صاحبُ عفراء؟ قال: صاحب عفراء. ثمَّ استوى قاعدًا فقال: وأنا الذي أقول:
ثمَّ التفت إلى أخواته فقال:
قال عروة بن الزبير: فلما سمعنَ قوله برزن والله يَضربن حُرَّ الوجوه ويَشقُقن جيوبهن. قال عروة: فقمتُ فما وصلت إلى منزلي حتى لحقَني رجلٌ فقال: قد مات.
قصة عروة والعفراء
نقلت من خط ابن حَيُّوَيْهِ: حدَّثنا أبو بكر بن المَرْزُبان، حدَّثني أبو العباس فضل بن محمد اليزيدي، حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أخبرني لقيط بن بكر المحاربي، أن عروة بن حزام وعفراء ابنة مالك العُذريَّين، وهما بطن من عذرة يُقال لهم بنو هند بن حزام بن ضبة بن عبد بكير بن عُذرَة، نشئا جميعًا فعلقها علاقة الصبي، وكان عروة يتيمًا في حجر عمه حتى بلغ، فكان يسأل عمه أن يُزوِّجه عفراء فيُسوِّفه، إلى أن خرجت عيرٌ لأهله إلى الشام وخرج عُروةُ إليها، ووفد على عمه ابنُ عمٍّ له من البلقاء يريد الحج فخطبها فزوَّجها إياه.
وأقبل عروةُ في عيره حتى إذا كان بتبوك نظرَ إلى رفقة مُقبلةٍ من نحو المدينة في امرأة على جمل أحمر، فقال لأصحابه: والله إنها شمائل عفراء. فقالوا: ويحك! ما تترُكُ ذكر عفراء لشيءٍ؟ قال: وجاء القوم، فلما دنوا منه وتبيَّن الأمر يبس وبقيَ قائمًا لا يتحرَّك ولا يُحيرُ كلامًا، ولا يُرجِعُ جوابًا حتى بعد القوم، فذلك حيث يقول:
قال أبو بكر: وعرَّاف اليمامة هو الذي ذكره عروة وغيره من الشعراء هو رياح بن راشد، ويُكنى أبا كُحَيلة، وهو عبد لبني يشكر، تزوَّج مولاه امرأة من بني الأعرج فساقه في مَهرِها ثمَّ ادَّعى بعدُ نسبًا في بني الأعرج.
وفي غير هذه الرواية: شخصٌ بالبلقاء مقيمٌ هو ورَّاني؛ أي أمرضني وهزلني، والوري داءٌ يكون في الجوف مثل القُرحة والسل.
قال سحيم عبد بني الحسحاس:
رجع الحديث قال: فانصرفوا به، فأنشأ يقول عند انصرافهم به:
قال: فلما قدم على أهله، وكان له أخواتٌ أربعٌ ووالدةٌ وخالةٌ، فمرض دهرًا، فقال لهن يومًا: اعلمنَ أني لو نظرتُ إلى عفراء نظرةً ذهب وجعي، فذهبن به حتى نزلوا البلقاء مُستخفين، فكان لا يزال يُلِمُّ بعفراء وينظر إليها، وكان عند رجلٍ كريمٍ سيِّدٍ كثيرِ المالِ والغاشية.
فبينا عروة يومًا بسوق البلقاء إذ لقيه رجلٌ من بني عُذرة فسأله عن حاله ومقدمه، فأخبره. قال: والله لقد سمعتُ أنك مريض، وأراك قد صححتَ. فلما أمسى الرجل دخل على زوج عفراء فقال: متى قدم عليكم هذا الكلبُ الذي قد فضَحَكم؟ فقال زوج عفراء: أي كلب هو؟ قال: عروة! قال: أوَقد قَدِم؟ قال: نعم! قال: أنتَ والله أَولى بها منه أن تكون كلبًا، ما علمت بقدومه، ولو علمت لضممته إليَّ.
فلما أصبح غدا يَستدلُّ عليه حتى جاءه، فقال: قدمتَ هذا البلد ولم تَنزل بنا، ولم تَرَ أن تُعلمنا بمكانك فيكون منزلكم عندنا وعليَّ، إن كان لكم منزِلٌ إلا عندي. قال: نعم! نتحوَّل إليك الليلة، أو في غدٍ. فلما وَلَّى قال عروة لأهله: قد كان ما ترون، وإن أنتم لم تخرُجوا معي لأركبنَّ رأسي ولألحقنَّ بقومكم فليس عليَّ بأسٌ. فارتحلوا وركبوا طريقهم، ونكس عروة ولم يزل مُدنَفًا حتى نزلوا وادي القُرى.
وروى العمري عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مسكين أن عفراء لما بلغها وفاة عروة قالت لزوجها: يا هَناه! قد كان من أمر هذا الرجل ما بلغَك، ووالله ما كان ذلك إلا على الحسن الجميل، وإنه قد بلَغني أنه مات في أرض غُربةٍ، فإن رأيتَ أن تأذن لي فأخرج في نسوة من قومي فيَندبنه ويبكين عليه. فقال: إذا شئت. فأذن لها، فخرجت وقالت ترثيه:
قال: ولم تزل تُردِّدُ هذه الأبيات وتبكي حتى ماتت، فدُفِنت إلى جانبه، فبلغ الخبر معاوية، فقال: لو علمتُ بهذين الشريفين لجمعت بينهما.
وقد روي مثل هذا الكلام عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الهجران إثم
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدَّثنا أبو القاسم طلحة، حدَّثنا الجرمي بن أبي العلاء، حدَّثني الزبير، حدَّثني عبد الملك بن عبد العزيز بن عُبيد بن أبي سلمة: أنشدني جدي يوسفُ بن الماجشون لعُبيد الله بن عبد الله بن عتبة:
مصطبران على البلوى
أنبأنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ، أخبرنا أبو الحسين بن روح النهرواني، حدَّثنا المعافى بن زكريا: أخبرنا محمد بن يحيى الصولي عن أحمد بن يحيى أنه أنشد:
فضل الشاعرة
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي إجازةً، أخبرنا القاضي أبو عمر أحمد بن محمد بن العلاف، أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدَّثنا محرز الكاتب، أخبرني يحيى بن الخصيب، قال: كنت عند فضل الشاعرة إذ استأذَنَ عليها إنسانٌ فأذنت له، وقالت: ما حاجتك؟ قال: تجيزين مصراع بيتٍ من شعرٍ. قالت: ما هو؟ قال:
فقالت:
شهقة الموت
قال محمد بن المَرْزُبان، ونقلته من خط ابن حَيُّوَيْهِ عنه، قال: أخبرني بعض أصحاب المدايني، أخبرنا المدايني، أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، قال: كان بالمدينة رجلٌ من ولد عبد الرحمن بن عوف، وكان شاعِرًا، وكانت عنده ابنة عمٍّ له، وكان لها عاشِقًا وبها مُستَهترًا، فضاق ضيقةً شديدةً، وأراد المسير إلى هشام إلى الرُّصافة، فمنعه من ذلك ما كان يجد بها، وكَرِهَ فراقها، فقالت له يومًا وقد بلغ منها الضيق: يا ابن عمي! ألا تأتي الخليفةَ لعلَّ الله تعالى أن يَقسِمَ لك منه رِزقًا، فنكشِفَ به بعض ما نحن فيه. فلما سمع ذلك منها نشطَ للخروج فتجهَّز ومضى، حتى إذا كان من الرصافة على أميالٍ خطرَ ذِكْرُها بقلبه وتمثَّلت له، فلبث ساعةً شبيهًا بالمُغمى عليه، ثمَّ أفاق فقال للجمَّال: احبِس. فحبس إبلَه، فأنشأ يقول:
ثمَّ قال للجمَّال: ارجِع بنا! فقال له: سبحان الله، قد بلغتَ طِيَّتك! هذه أبيات الرصافة. فقال: والله لا تخطو خُطوةً إلا راجعةً. فرجع حتى إذا كان من المدينة على قدْرِ ميلٍ لقيه بعض بني عمه، فأخبره أن امرأته قد تُوفِّيت، فشهق شهقة وسقط عن ظهر البعير ميِّتًا.
جنون وعشق
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في المسجد الحرام بقراءتي عليه بباب الندوة، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المُذكِّر، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الصوفي القزويني، حدَّثنا شادل، حدَّثنا يحيى بن سليمان المادراي، حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم الأُبُلِّيُّ، قال: رأيتُ غورَكَ يومًا خارِجًا من الحمام، والصبيان يؤذونه، فقلت: ما خبرك أبا محمد؟ قال: قد آذاني هؤلاء الصبيان، أما يَكفيني ما أنا فيه من العشق والجنون؟ قلت: ما أظنُّك مجنونًا. قال: بلى والله، وبي عشقٌ شديدٌ. قلت: هل قلتَ في عشقك وجنونك شيئًا؟ قال: نعم. وأنشد:
الفتى والشيخ العاشق
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي إن لم يكن سماعًا فإجازةً، أخبرنا عبد الغفار بن عبد الواحد بن نصر الأرموي، حدَّثني أبو عبد الله الحسين بن محمد القاضي، حدَّثني أبو بكر أحمد بن محمد الميموني، حدَّثني محمد بن عمر، حدَّثني أبو عبد الله الرُّوذباري، قال: دخلتُ دربَ الزعفراني، فرأيتُ فتًى قد صَرَعَ شيخًا وهو يَكلمه ويعضُّ حلقه، فقلت له: يا فتى، أتفعل هذا بأبيك؟ وظننته أباه، فقال: دعني حتى أَفرُغ منه ثمَّ أحدِّثك بقصتي. فلما فرغ قلت: يا فتى ما ذنبه؟ قال: إن هذا يزعم أنه يَهواني، وله ثلاثٌ ما رآني.
زينة الله
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سُوَيْد المعدل، حدَّثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، أخبرنا عسل، أخبرنا التَّوَّزِي، قال: نظر رجلٌ من قريش إلى رجل ينظر إلى غلام وضيء الوجه، فزجره، فرآه مُحيريز الزاهد فقال له: هل رأيتَ غير النظر؟ قال: لا! قال: أتريد أن تَبطُل زينة الله في بلاده، وحِليَتُه في عِباده؟
يُنشد في ظلِّ خيمة
أخبرنا أبو عبد الله الأندلسي الحافظ من لفظه، حدَّثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي، حدَّثنا القاضي أبو بكر عبد الله بن الربيع، حدَّثنا القالي أبو علي، حدَّثنا أبو بكر بن دُرَيْد، حدَّثنا عبد الرحمن، عن عمه، قال: بينا أنا سائرٌ بناحية بلاد بني عامر، إذا برجلٍ يُنشِدُ في ظلِّ خيمةٍ له، وهو يقول:
قال: فأذنت، وكان ندِيَّ الصوت، فلما رآني أومأ إليَّ فأتيته، فقال: أأعجبكَ ما سمعت؟ فقلت: إي والله! فقال: أمن أهل الحضارة أنت؟ قلت: نعم! قال: فممَّن تكون؟ قلت: لا حاجة لك في السؤال عن ذلك. قال: أوَمَا حَلَّ الإسلامُ الضغائن، وأطفأ الأحقاد؟ قلتُ: بلى! قال: فما يمنعك إذا قُلتَ: أنا امرؤٌ من قيس؟ قلتُ: الحبيب القريب. قال: فمن أيِّهم؟ قلت: أحد بني سعد بن قيس، ثمَّ أحد أعصر بن سعد. قال: زادك الله قُربًا.
ففارقتُه وأنا من أشد الناس ظمأً إلى معاودة إنشاده.
التفريق بين مؤتلفَين
أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سلامة القضاعي، عن أبي الحسن علي بن نصر بن الصياح، حدَّثنا أبو عمر عُبيد الله بن أحمد السمسار، أن أبا بكر بن داود الأصبهاني كان يدخل الجامع من باب الورَّاقين، فلما كان بعد مدَّة عدل عنه وجعل دخوله من غيره، وكنتُ مُجترِئًا عليه، فسألتُه عن ذلك، فقال: يا بُني! السبب فيه أني في الجمعة الماضية أردتُ الدخول منه فصادفتُ عند الباب حدَثَين يتحدَّثان، وكل واحدٍ منهما مسرورٌ بصاحبه، فلمَّا رأياني قالا: أبو بكر قد جاء، فتفرَّقا، فجعلت على نفسي أن لا أدخل من بابٍ فرَّقت فيه بين مؤتلفَين.