الجزء الثاني
لا كلَّمته أبدًا
أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة المصري، حدَّثنا ابن نصر، حدَّثنا أبو عمر عُبيد الله بن أحمد بن السمسار، أن حدَثًا كان يُعرَف بابن سمنون الصوفي، نشأ مع أبي بكر في كُتَّاب واحد، وكانا لا يَفترقان، فإذا عمل أبو بكر كتابًا في الأدب ناقَضَه، وعمل في معناه، وإنَّ أبا بكر نقَش على فص خاتمه سطرَين؛ الأول منهما: وما وجدنا لأكثرهم من عهد. والآخر: فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات. وكان إذا رأى إنسانًا يَنظرُ إلى حدثٍ رَمى إليه بخاتمه، وقال: اقرأ ما عليه. فينتهي عن ذلك. فقال لابن سمنون: أتقدرُ أن تُناقِضني في هذا؟ قال: نعم! فلما كان الغد جاءه بخاتم على فصِّه سطران، الأول منهما: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ، والثاني: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا، فاستحسنَ ذلك. وعلى هذا الطريق قال أبو نواس:
سلبتِ عظامي لحمها
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي في ما أذِن لنا في روايته، حدَّثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع، أخبَرَنا أبو الحسن علي بن محمد بن السري، حدَّثنا أحمد بن الحسين بن محمد بن فهم، حدَّثني الخريمي، قال: دخلت حمَّامًا في درب الثلج، فإذا بسوَّار بن عبد الله القاضي في الحمَّام، في البيت الداخل، مُستلقيًا، وعليه المئزرُ، فجلستُ بقُرْبه، فسكت ساعة ثمَّ قال لي: قد أحشمتَني يا رجلُ! إمَّا أن تخرُج أو أخرُجَ. فقلتُ: جئت أسألك عن مسألةٍ. فقال: ليس هذا مَوْضِع المسائل. قلت: إنَّها من مسائل الحمَّام. فضحك وقال: هاتِها. فقلت: من الذي يقول:
فقال سوار: أنا والله قلتها. قلت: فإنه يُغنَّى بها ويُجوَّد. فقال: لو شهد عندي الذي يُغنِّي بها لأجزتُ شهادته.
الزنجي الشاعر
نُصيب وزينب
قال: فوثبَت الزنجية إلى الزنجي، فخبطته وضربته، وهي تقول: شهَّرتني في الناس، شهَّرَك الله. فقلتُ: من هذا؟ قالوا لي: نُصيب الشاعر، وهذه زَينب. وذكر الزبير ضد هذا الخبر.
بُريرة وزوجها الحبشي
أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي، وأبو القاسم علي بن المُحسن التَّنُوخِي، قالا: أخبَرَنا أبو عمر بن العباس بن حَيُّوَيْهِ الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا الحسن بن مكرم بن حسان، حدَّثنا علي بن عاصم عن خالد الحذَّاء عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لما أُعتِقَت بُرَيرَةُ، وكان زوجها حَبشيًّا خُيِّرَت فاختارت فراقه، فكان يطوف حولها، ودموعه تسيل على خَدَّيه حُبًّا لها، فقال رسول الله ﷺ لعمِّه العباس: أما ترى شدة حبه لها، وشدة بُغضها له؟ فقال لها النبي ﷺ: «لو تزوجتِه؟» قالت: إن أمرتني. قال: لا آمُرُكِ، ولكني شفيعٌ. فلم تفعل.
وبإسناده حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا محمد بن الهيثم، حدَّثنا يوسف بن عدي، عن سعيد وأيوب، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن زوجَ بُريرة كان عبدًا أسود مولًى لبني المغيرة، يوم أُعتِقت، والله لكأني به في أطراف المدينة ونواحيها، وإن دموعه لتجري على لحيته، يَتبُعها ويترضَّاها لتختاره فلم تفعل.
ابن الدمينة العليل
ذكر شيخنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، حدَّثنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد بن عمر بن عبد الملك بن جريج الطوماري، أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنبأنا عبد الله بن شبيب: أنشدني الزبير لابن الدُّمينة:
لم يدرِ لوعتي إلا الله
وذكر أبو علي أيضًا: حدَّثني الطوماري، أخبرنا ثعلب: أنشدنا عبد الله لعُقبة الكلابي:
أغزل بيت وأشجع بيت
حدَّثنا أبو تغلب عبد الوهاب بن علي بن الحسن بن محمد الملحمي، حدَّثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا، حدَّثنا علي بن الجهم أبو طالب الكاتب، حدَّثني أبو العباس سوار بن أبي شراعة البصري، حدَّثني الرياشي، حدَّثني الأصمعي، قال: قال أبو عمرو بن العلاء: إنِّي أقول لكم أغزل الناس في بيت وأشجعهم في بيت، أما أغزل بيت فقوله:
وأمَّا أشجع بيت فقوله:
أرقُّ بيت في العيون
قال: ما عمل شيئًا، أشعر منه أبو نواس حيث يقول:
قال القاضي أبو الفرج: القولُ قولُ المأمون في رقة شعر أبي نواس.
الشعر ما دخل القلب بلا إذن
أخبرنا أبو تغلب عبد الوهاب بن علي قراءةً عليه، حدَّثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا الحريري إملاءً، حدَّثنا إبراهيم بن عرفة الأزدي، قال: استنشدني أبو سليمان داود بن علي الأصبهاني بعقب قصيدة أنشدتُه إيَّاها، ومدحته فيها وسألته الجلوس. فأجابني وقال لي في شيءٍ منها: لو بدَّلتَ مكانه. فقلت له: هذا كلام العرب. فقال: أحسن الشعر ما دخل القلب بلا إذن، هذا بعد أن بدَّلت الكلمة. فقال لي إنسان بحضرته: ما أشدَّ ولوعك بذكر الفراق في شعرك! فقال سليمان: وأي شيء أمضُّ من الفراق؟!
ثمَّ حكى عن محمد بن حبيب عن عُمارَة بن عُقيل بن بلال بن جرير، أنه قيل له: ما كان أبوك صانعًا حيث يقول:
قال: كان يَقلعُ عينه ولا يرى مَظعن أحبابه.
موت الحب
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا العباس بن العباس الجوهري، حدَّثنا محمد بن موسى الطوسي: أنشدني هلال بن العلاء الرقي:
معشوقان يختصمان
أخبرنا الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، أنبأنا أبو الحسن العباس بن العباس الجوهري، حدَّثنا الطوسي: أنشدني هلالُ بن العلاء:
من يموت في الحب
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس ابن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا محمد بن المَرْزُبان، حدَّثني هارون بن محمد، أخبرني أبو عبد الله القرشي، حدَّثني الحكم، قال: قيل لرجل من بني عامر: هل تَعرفون فيكم المجنون الذي قتله الحب؟ قال: إنما تموتُ من الحب هذه اليمانية الضعاف القلوب.
يا حبَّها زدني جوًى
معاوية والفتى العذري
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي قراءةً عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، قال: قُرئ على محمد بن المَرْزُبان، وهو يَسمع وأنا أسمع، حدَّثني محمد بن عبد الرحمن القرشي، حدَّثنا محمد بن عبيد، حدَّثنا أبو محنف، عن هشام بن عروة، قال: أذِن معاويةُ بن أبي سُفيان للناس يومًا، فكان في من دخل عليه فتًى من بني عُذرة، فلما أخذ الناس مجالسهم قام الفتى العُذري بين السِّماطين، ثمَّ أنشأ يقول:
فرقَّ له معاوية، وكتب له إلى ابن أمِّ الحكم كتابًا غليظًا، وكتب في آخره:
فلما ورَد على معاوية الكتاب، قال: إن كانت أُعطيت حُسنَ النعمة مع هذه الصفة فهي أكملُ البريَّة. فاستنطقها، فإذا هي أحسنُ الناس كلامًا وأكملُهم شكلًا ودَلًّا، فقال: يا أعرابي! هل مِن سلوٍّ عنها بأفضلِ الرغبة؟ قال: نعم، إذا فرَّقت بين رأسي وجسدي. ثمَّ أنشأ يقول:
قال: فغضب معاوية غضبًا شديدًا، ثمَّ قال لها: اختاري، إن شئتِ أنا، وإن شئت ابن أمّ الحكم،ِ وإن شئتِ الأعرابي. فأنشأت سعاد تقول:
فقال معاوية: خُذها، لا بارك الله لك فيها. فأنشأ الأعرابي يقول:
قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم، وناقةٍ ووطاءٍ، وأمَر بها، فأُدخلت بعض قصوره حتى انقضت عدَّتها من ابن أم الحكم ثمَّ أمر بدفعها إلى الأعرابي.
المحب يسيء الظنون
أخبرنا أبو محمد الحسن، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدَّثنا ابن المَرْزُبان: أنشدني أبو العباس محمد بن يعقوب:
اللهم فرِّجْ ما ترى
يا رُبَّ باكٍ شجوَه
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدَّثنا أبو العباس محمد بن يحيى، قال: قال أبو سعيد عبد الله بن شبيب: أنشدني علي بن طاهر بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب لبعض المدنيين:
قال أبو بكر بن الأنباري: الشنب الثغرُ البارد، والشنب: برد الأسنان، والغُر: البِيض.
ليلى الملَّاحين
النسيم المُنيم المُوقِظ
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي إجازةً، وحدثنا أحمد بن علي الحافظ عنه، أخبرنا أبحمد بن محمد بن العباس الأخباري: أنشدني أبو نَضْلَةَ لنفسه:
حديث كجنى النحل
الصوفي والوجه الجميل
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بفسطاط مصر بقراءتي عليه، أخبرنا أبو صالح السمرقندي، حدَّثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن اليسع، حدَّثنا أحمد بن محمد بن عمرو الدِّينَوَرِي، حدَّثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي، قال: قال أبو حمزة الصوفي: حدَّثني عبد الله بن الزبير الحنفي، قال: كنت جالسًا مع أبي النظر الغَنَوي، وكان من المبرِّزين الخائفين العابدين، فنظر إلى غُلامٍ جميل فلم تزل عيناه واقفتين عليه حتى دنا منه، فقال له: سألتُك بالله السميع وعزِّه الرفيع وسلطانه المنيع إلا وقفتَ عليَّ أُروى من النظر إليك! فوقف قليلًا ثمَّ ذهب. فقال له: سألتك بالحكيم المجيد الكريم المُبدي المعيد، إلا وقفت! فوقف ساعةً، فأقبل يُصعِّدُ النظر فيه ويُصوِّبه ثمَّ ذهب. فقال: سألتك بالواحد الجبار الصمد الذي لم يلد ولم يولد إلا وقفت! فوقف ساعةً ثمَّ نظر إليه طويلًا، ثمَّ ذهب. فقال: سألتك باللطيف الخبير السميع البصر، وبمن ليس له نظير إلا وقفت! فوقفت فأقبل ينظر إليه ثمَّ أطرق إلى الأرض. ومضى الغلام، فرفع رأسه بعد طويل وهو يبكي، وقال: لقد ذكَّرني هذا بنظري إليه وجهًا جلَّ عن التشبيه وتقدَّس عن التمثيل وتعاظَم عن التحديد، والله لأُجهِدَن نفسي في بلوغ رضاه بمجاهدتي جميع أعدائه، وموالاتي لأوليائه حتى أُصيَّرَ إلى ما أردته من نظري إلى وجهه الكريم وبهائه العظيم، ولوددتُ أنه قد أراني وجهه وحبَسني في النار ما دامت السموات والأرض. ثمَّ غُشيَ عليه.
قيس ولبنى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي إجازةً، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا بكر محمد بن خلف، حدَّثنا أبو بكر العامري، حدَّثنا سليمان بن أبي شيخ، حدَّثنا أيوب بن عباية، قال: خرَج قيس بن ذريح إلى المدينة يبيعُ ناقةً له، فاشتراها زوجُ لُبنى وهو لا يعرفه، فقال له: انطلِق معي أُعطِك الثمن. فمضى معه. فلما فتح الباب فإذا لُبنى، وقد استقبلت قيسًا، فلما رآها ولَّى هارِبًا وخرج الرجل في أثره بالثمن ليَدفعه إليه، فقال له قيس: لا تركب لي والله مطيتين أبدًا. قال: أنت قيس بن ذُريح؟ قال: نعم! قال: هذه لبنى قد رأيتها فقِف حتى أخُيِّرها فإن اختارتْك طلَّقتُها. وظنَّ القرشي أن له في قلبها موضعًا وأنها لا تفعل. قال له قيس: افعل. فدخل القُرشي عليها، فخيَّرها فاختارت قيسًا، فطلَّقها، وأقام قيس ينتظر انقضاء عدتها ليتزوَّجها، فماتَت في العدة.
بهرام جور وابنه الخامل
ثمَّ دعا بأبي الجارية، فقال له: إنِّي مُسِرٌّ إليك سِرًّا، فلا يَعدوَنَّك. فضمن له ستره، وأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن يُنكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها، ومراسلته من غير أن يراها وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها تجنَّت عليه وهجرته، فإن استعتبها أعلمتْه أنها لا تصلح إلا لملِكٍ ومَن هِمَّته همة ملك، وأنها تَمنع من مواصلتها مَن لا يصلُحُ للمُلك. ثمَّ ليُعلمه خبرها وخبره، ولا يُطلعها على ما أسرَّ إليه. فقبِل أبوها ذلك منه، ثمَّ قال للمؤدِّب الموكَّل بولده: شجِّعْه على مراسلة المرأة. ففعل ذلك، وفعلت المرأة ما أمرها به أبوها.
فلما انتهت إلى التجنِّي عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته له أخذ في الأدب وطلبِ الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصوالجة حتى مَهَرَ في ذلك. ثمَّ رفع إلى أبيه أنه مُحتاجٌ إلى الدوابِّ والآلات والمطاعم والملابس والنُّدَماء إلى فوق ما تقدَّم له، فسُرَّ الملك بذلك، وأمر له به. ثمَّ دعا مؤدِّبه فقال: إنَّ الموضع الذي وَضَعَ به ابني نفسه من حيث هذه المرأة لا يُزري به، فتقدَّمْ إليه أن يَرفع إليَّ أمرها ويسألني أن أُزوِّجه إيَّاها. ففعل، فرفع الفتى ذلك إلى أبيه، فدعا بأبيها فزوَّجها إيَّاه، وأمر بتعجيلها إليه، وقال: إذا اجتمَعا فلا تُحدِث شيئًا حتى أصيرَ إليك.
فلما اجتمعا صار إليه فقال: يا بني لا يَضَعَنَّ منها عندك مراسَلتُها إياك وليست في حبالك؛ فإني أنا أمرتها بذلك، وهي أعظم الناس مِنَّةً عليك بما دعتْك إليه من طلب الحكمة والتخلُّق بأخلاق الملوك حتى بلغتَ الحد الذي تَصلُح معه للمُلك من بعدي. وزِدها من التشريف والإكرام بقدر ما تَستحق منك.
ففعل الفتى ذلك وعاش مسرورًا بالجارية، وعاش أبوه مسرورًا به، وأحسَنَ ثواب أبيها، ورفع مرتبتَه وشرَّفه بصيانته سِرَّه وطاعته. وأحسن جائزة المؤدِّب بامتثاله ما أمره، وعقده لابنه على المُلك بعده.
قال اليماني مولى ذي الرئاستين: ثمَّ قال لنا ذو الرئاستين: سلوا الشيخ الآن لِمَ حَملَكم على العشق؟ فسألناه، فحدَّثنا بحديث بهرام جور وابنه.
فؤادي! فؤادي
أخبرنا أبو القاسم المحسن بن حمزة الشرطي، رحمه الله، بقراءتي عليه بِتِنِّيس في كتاب التسلِّي، حدَّثنا أبو علي الحسن بن علي الديبلي الكوفي، حدَّثني جماعة من أهل طبرية منهم أبو يعقوب وأبو علي ابنا يعقوب الحذَّاء وأبو الحسين بن أبي الحارث وأبو الفرج الصوفي وغيرهم: أنه كان عندهم رجلٌ صوفيٌّ يُعرَفُ بالقاسم الشرَّاك، وكانت له عُنيزاتٌ يرعاهن. وقال لي بعضهم: إنه لم يكن يَحضُرُ معهم مجالس السماع، ويَجتذبونه إلى ذلك فلم يكن له رغبةٌ فيه. قالوا: فبَينا هو يَرعى عُنيزاته إذ سمع صبيًّا من صبيان الصحراء يغني في حقل:
قال: فاعتراه طربٌ شديد، فقال للصبي وأقبل نحوه: كيف قلت؟ ففزع الصبي وعدا، وهو يقول: لا بأس عليك! كيف قلت يا صبي؟ فلم يقف له، ورَجَعَ إلى قصائديٍّ كان لهم بطبرية يُقال له حميد الفاخوري، حاذق بهذا المعنى، فتردَّد إليه ثلاثة أيام يُردِّد عليه هذه الأبيات، ثمَّ تخلَّف في منزله عليلًا يَصيح: فؤادي فؤادي. إلى أن قَضى رحمه الله.
الحب يعلن الجنون
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بقراءتي عليه في المسجد الحرام، حدَّثنا أبو القاسم الحسن بن حبيب المُذكِّر، حدَّثنا أبو علي الحسن بن أحمد الصوفي، حدَّثني يحيى بن سليمان، سمعت محمد بن الزيات قال: قلت لغُورك يومًا: متى حدث بك هذا العشق؟ قال: مُذ زمان، إلا أني كنت أكتمه، فلما غلبَ عليَّ بحتُ به. قلت: أنشدني من أحسن ما قلت في ذلك! فقال:
نار الهوى أحرُّ من الجمر
أخبرنا أبو بكر الأردستاني بمكة أيضًا، حدَّثنا الحسن بن حبيب: أنشدني عبد العزيز بن محمد بن النضر الفهري لماني:
ماتا معتنقَين
وجدت بخط أحمد بن محمد بن علي الآبنوسي، ونقلته من أصله، حدَّثنا أبو علي محمد بن عبد الله بن المغيرة الجوهري، حدَّثنا أحمد بن محمد بن أسد الأزدي، حدَّثنا الساجي عن الأصمعي، قال: رأيتُ بالبادية رجلًا قد دقَّ عظمُه، وضؤل جسمه، ورقَّ جلده، فتعجَّبت فدنوتُ منه أسأله عن حاله، فلم يَرُدَّ جوابًا، فسألت جماعةً حوله عن حاله، فقالوا: اذكر له شيئًا من الشعر يُكلِّمك. فقلت:
فشهق شهقةً ظننتُ أن روحه قد فارقته، ثمَّ أنشأ يقول:
قال: فقلت: أخبرني عن حالك؟ قال: إن كنتَ تريد علم ذلك، فاحملني وألقِني على باب تلك الخيمة! ففعلت، فأنشأ يقول بصوتٍ ضعيفٍ يرفعه جُهدَه:
فإذا جاريةٌ مثل القمر قد خرجت، فألقت نفسها عليه، فاعتنقا، وطال ذلك فسترتهما بثوبي خشيةَ أن يراهما الناس. فلما خِفتُ عليهما الفضيحة، فرَّقت بينهما فإذا هما ميِّتان، فما برحتُ حتى صليتُ عليهما ودُفنا، فسألتُ عنهما فقيل لي: عامر بن غالب وجميلة بن أَمْيَل المُزَنيَّان. فانصرفتُ.
عبد الله بن عجلان صاحب الهند
أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، أخبرنا محمد بن المَرْزُبان، حدَّثنا أبو بكر العامري، أخبرني سليمان بن الربيع الكاذي، حدَّثني عبد العزيز بن الماجشون، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: عبد الله بن عجلان هو صاحب هند بنت كعب بن عمرو، وإنه عشقها، فمرضَ مرضًا شديدًا حتى ضنيَ، فلم يَدْرِ أهله ما به، فدخلت عليه عجوزٌ فقالت: إن صاحبَكم عاشقٌ فاذبحوا له شاة وأتوه بكبدها، وغيِّبوا فؤادها.
قال: ففعلوا وأتوه بها، فجعل يَرفع بضعةً ويضعُ أخرى، ثمَّ قال: أما لشاتكم قلب؟ فقال أخوه: ألا أراكَ عاشِقًا ولم تُخبِرنا. فبلَغني أنه قال لهم بعد ذلك: آه! ومات.
عاشق جارية أخته
قال: فصارت الحاضنة والقينة إلى عمه، فأخبَرَتاه الخبر، فاشتدَّت له رحمته، فتلطَّف في دس جاريةٍ من جواريه إليه، وكانت ذات أدبٍ وعقل، فلم تزل تستخرجُ ما في قلبه حتى باح لها بالذي في نفسه، فصارت السفيرةَ فيما بينه وبين الجارية، وكَثُرت بينهما الكتب، وعلمت أختُه بذلك، فانتشر الخبر، فوهبتها له فبَرَأ من علته، وأقام على أحسن حال.
من غزل ابن السرَّاج
قال ابن السرَّاج: لي من جملة قصيدة كتبتُ بها إلى القاضي أبي مسلم ابن أخي أبي العلاء المعري، أوَّلها:
ومنها:
قال: ولي من أبيات كتبتُ بها إلى بعض أهل الأدب بديار مصر:
بكاء الزنجي
حدَّثنا محمد بن خلف، أخبرني عبد الجبار بن خلف، قال: قال المزني: بَينا أنا بنَواحي مدينة الرسول ﷺ إذا أنا بزنجي يبكي على إلفٍ كان له وهو يقول:
سوداء تنتقد ذا الرُّمَّة
حدَّثنا محمد بن خلف، أخبرنا محمد بن الفضل، أخبرني أبي، أخبرنا القحذمي، قال: دخل ذو الرُّمَّة الكوفة، فبينا هو يسيرُ في بعض شوارعها على نجيبٍ له إذ رأى جارية سوداء واقفة على باب دار، فاستحسَنها ووقعت بقلبه، فدنا إليها فقال: يا جاريةُ! اسقيني ماء. فأخرجت إليه كوزًا فيه ماء، فشرب، فأراد أن يُمازحها ويستدعي كلامها، فقال: يا جاريةُ! ما أحرَّ ماءك! فقالت: لو شئتَ لأقبلتَ على عيوبِ شِعرِك وتركتَ حَرَّ مائي وبرده. فقال لها: وأي شعري له عيب؟ فقالت: ألستَ ذا الرُّمَّة؟ قال: بلى! قالت:
فقال: نشدتُكِ بالله، إلا أخذت راحلتي هذه وما عليها، ولا تُظهري هذا! ونزَل عن راحلته، فدفعها إليها وذهب ليمضي، فدفعتها إليه وضمنتْ ألَّا تَذكُر لأحدٍ ما جرى.
الأصمعي يصف العشق
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بالشام، أخبرني علي بن أيوب القُمِّي، حدَّثني محمد بن عمران، حدَّثني علي بن هارون، أخبرنا محمد بن العباس، عن الرياشي، قال: قال الرشيد: يا أصمعي! ما العشقُ الذي على حقيقته؟ قال: قلت أن يكون ريحُ البصل منها أطيب عنده من ريح المسك والعنبر.
العاشق على وجل
قال محمد بن عمران: وأنشَدَني بعض أصحابنا، عن أبي العباس المبرِّد، لأبي حفص الشِّطْرَنجي:
الرضاب الشبم
ولي من أثناء قصيدة:
ولي أيضًا من أثناء قصيدة:
مجنون ليلى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثني عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدَّثني عبد الله بن المعدل، قال: سمعتُ الأصمعي يقول: وذكر مجنون بني عامر قيس بن معاذ، ثمَّ قال: لم يكن مجنونًا إنما كانت به لوثة، وهو القائل:
وبه قال القحذمي لما قال المجنون، وهو قيس بن الملوَّح:
نظرة شافية
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءةً عليه، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدَّثنا محمد بن خلف، قال: وزعم ابن دأب أن معاذ بن كليب أحد بني نُمير بن عوف بن عامر بن عقيل، وكان يعشقُ ليلى الأعلمية من بني عُقيل، وكان قد أقعده حبُّها من رِجلَيه، فأتاه أخو ليلى بها، فلما نظر إليها وكلَّمته تحلَّل ما كان به وانصرف وقد عُوفيَ.
ذكر ليلى يُعيد عقله
قال أبو عبيدة: وكان المجنون يجلس في نادي قومه وهم يتحدَّثون، فيُقبل عليه بعض القوم فيُحدِّثه وهو باهتٌ ينظر إليه ولا يفهم ما يُحدِّثه، ثمَّ يثوب عقله فيسأل عن الحديث فلا يعرفه، فحدَّثه مرة بعض أهله بحديث ثمَّ سأله عنه في غدٍ فلم يعرفه، فقال: إنك لمجنون! فقال:
قال أبو عبيدة: فتزايد الأمر به حتى فقَد عقله، وكان لا يقرُّ في موضع ولا يأنس برجُل، ولا يعلوه ثوبٌ إلا مزَّقه، وصار لا يفهم شيئًا مما يُكلَّم به إلا أن تُذكَر له ليلى، فإذا ذُكرت أتى بالبدائِهِ ورجَع عقله.
بيت ربي
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي، أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد القطيعي، حدَّثنا الحسين بن صفوان، حدَّثنا عبد الله بن محمد القرشي، حدَّثنا سعيد بن سليمان الواسطي، عن محمد بن يزيد، عن خنيس، عن عبد العزيز بن أبي روَّاد، قال: دخل قومٌ حُجَّاج ومعهم امرأة تقول: أين بيتُ ربي؟ فيقولون: الساعة ترَينه. فلما رأوه قالوا: هذا بيتُ ربك، أما ترَينه؟ فخرجت وهي تقول: بيت ربي بيت ربي. حتى وضعَت جبهتَها على البيت، فوالله ما رُفعت إلا ميتة.
ما أحلاكَ مولاي
أخبرنا أحمد بن علي بن الحسين، حدَّثنا محمد بن أحمد، حدَّثنا الحسين بن صفوان، حدَّثنا عبد الله بن محمد، حدَّثنا محمد بن الحسين، حدَّثنا عُبيد الله بن محمد القرشي، حدَّثني محمد بن مسعر، عن رياح القيسي، قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذ سمعتُ امرأةً تقول: خُداه خُداه شيرين خُداه. قال: فاصطكَّت والله ركبتاي حتى سقطتُ. قالت: مولاي مولاي ما أحلاك مولاي.
تموت متضرِّعة
وبإسناده: حدَّثنا محمد بن الحسين وغير واحد قالوا: حدَّثنا وهب بن جرير، حدَّثني أبي، عن يعلى بن حكيم، عن سعد بن جبير، قال: ما رأيتُ أحدًا أرعى لحرمة هذا البيت ولا أحرَصَ عليه منكم يا أهلَ البصرة، لقد رأيت جاريةً منهم ذات ليلة تعلَّقت بأستار الكعبة وجعلت تدعو وتتضرَّع وتبكي حتى ماتت.
هجَره تنزيهًا لله ولنفسه
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، حدَّثنا علي بن أيوب القُمِّي، حدَّثنا المَرْزُباني، حدَّثني عمر بن يوسف الباقلاني، قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم: قلتُ لمحمد بن العلاء الدمشقي، وكان سيد الصوفية، وقد رأيته يُماشي غلامًا وضيئًا مدةً، ثمَّ فارقه: لِمَ هجرتَ ذلك الفتى الذي كنتُ أراه معك بعد أن كنتَ له مواصِلًا وإليه مائِلًا؟ قال: والله لقد فارقتُه عن غير قِلًى ولا مللٍ. قلت: ولمَ فعلت ذاك؟ قال: رأيت قلبي يدعوني إلى أمرٍ إذا خلوتُ به وقَرُب مني، لو أتيته لسقطتُ من عينِ الله تعالى، فهجرتُه لذلك تنزيهًا لله تعالى، ولنفسي عن مصارع الفتن، وإني لأرجو أن يُعقِبني سيِّدي من مفارقته ما أعقَبَ الصابرين عن مَحارمه عند صِدقِ الوفاء بأحسن الجزاء. ثمَّ بكى حتى رحِمته.
ألا أيها الواشي
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي الخلال رحمه الله، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى، أنبأنا أبو بكر محمد بن القاسم: أنشدني أبي لقيس بن الملوَّح:
دم العشاق غير حرام
ولي من أبيات:
حب السودان
أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي، وأبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، قالا: حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا عبد الرحمن بن سليمان، حدَّثني القحطبي، أخبرني بعض الرواة، قال: بَيْنا أنا يومًا على ركيٍّ قاعدٌ، وذلك في أشد ما يكون من الحَر، إذا أنا بجاريةٍ سوداء تحمل جرَّةً لها، فلما وصلت إلى الركيِّ وضعَتْ جرَّتها، ثمَّ تنفَّست الصُّعَدَاء وقالت:
وفي رواية أخرى: أي حَرٍّ من بعد هذا أضَرُّ؟ وملأت الجرَّة وانصرفت، فلم ألبث إلا يسيرًا حتى جاء أسود ومعه جرَّةٌ، فوضعها بحيثُ وضعت السوداء جرتها، فمرَّ به كلبٌ أسود فرمى إليه رغيفًا كان معه، وقال:
ابن المهدي والسوداء
وبإسناده: حدَّثنا محمد بن خلف، أخبرني عبد الرحمن بن سليمان، حدَّثني محمد بن جعفر، حدَّثني أحمد بن موسى، قال: دخلتُ على محمد بن عُبيد الله بن المهدي، وقد قعَد للشرب مع جواريه، فاحتشمتُ، فقال لي: لا تحتشم، ثمَّ قال لي: بالله! مَن ترى لي أعشقُ من هؤلاء؟ فنظرت إلى سوداءَ كانت فيهن، فقلت: هذه. فقام فقعد إلى جنبِها، فوالله ما برحتُ حتى بكى من عشقها.
كاد يخلع العذار
ولي من أثناء قصيدة مدحْتُ بها أحد بني منقذ:
صوت بأربعة آلاف دينار
أخبَرَنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي، وأبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، قالا: حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف المحولي، أخبرني أبو الفضل الكاتب، عن أبي محمد العامري، قال: قال إسماعيل بن جامع: كان أبي يَعظُني في الغناء ويُضيِّق، فهربتُ منه إلى أخوالي باليمن، فأنزلني خالي غرفة له مشرفة على نهرٍ في بستان، فإني لمشرفٌ منها إذ طلعت سوداء معها قربةٌ، فنزلت إلى المشرَعة، فجلست فوضعَت قِربتها وغنَّت:
وذرفت عيناها، فاستفزَّني ما لا قِوام لي به، ورجوتُ أن تردَّه فلم تفعل، وملأتِ القربة ونهضت، فنزلت أعدو وراءها، وقلت: يا جارية! بأبي أنت وأمي ردِّي الصوت! قالت: ما أشغلني عنك! قلت: بماذا؟ قالت: عليَّ خراجٌ كلَّ يوم درهمان. فأعطيتُها درهمين، فتغنَّت وجلست حتى أخذتُه وانصرفتُ، ولهوت يومي ذلك وكرهت أن أتغنَّى الصوت، فأصبحتُ وما أذكر منه حرفًا واحدًا، وإذا أنا بالسوداء قد طلعَت ففعلَت كفعلها الأول، إلا أنها غنَّت غير ذلك الصوت، فنهضتُ وعدوتُ في إثرِها. فقلت: الصوت قد ذهب عليَّ منه نغمةٌ. قالت: مثلك لا يذهب عليه نغمة، فتبيَّنْ بعضه ببعض. وأبت أن تُعيده إلا بدرهمَين. فأعطيتها ذلك، فأعادته فتذكَّرتُه، فقلت: حسبُكِ! قالت: كأنك تُكاثرُ فيه بأربعة دراهم، كأني والله بك، وقد أصبتَ به أربعة آلاف دينار.
قال ابن جامع: فبَينا أنا أغني الرشيد يومًا، وبين يدَيه أكياس في كلِّ كيس ألف دينار إذ قال لي: من أطربني فله كيس، فغنِّ لي الصوت. فغنيتُه فرمى لي بكيس، ثمَّ قال: أعِد! فأعدتُ، فرمى لي بكيس، وقال: أعِد. فأعدتُ، فرمى لي بكيس، فتبسَّمت، فقال: ما يُضحكك؟ قلت: يا أمير المؤمنين؛ لهذا الصوت حديثٌ أعجب منه. فحدَّثته الحديث فضحك، ورمى إليَّ الكيس الرابع، وقال: لا تُكذِّب قول السوداء. فرجعتُ بأربعة آلاف دينار.
يعتلُّ لرؤيتها
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي ثابت الحافظ بالشام، حدَّثنا علي بن أيوب القُمِّي، حدَّثنا محمد بن عمران، حدَّثنا عمر بن داود العماني، حدَّثني محمد بن علي بن الفضل المديني، حدَّثني الحسين بن علي المهلبي، مولًى لهم يعني الكرابيسي، أخبرني مسدَّد، حدَّثني عبد الوهاب في ما أحفظ أو غيره، قال: كان زياد بن مِخراق يجلس إلى إياس بن معاوية. قال: ففقَده يومين أو ثلاثة، فأرسل إليه فوجده عليلًا. قال: فأتاه، فقال: ما بك؟ فقال له زياد: علَّة أجدُها. قال له إياس: والله ما بك حُمَّى، وما بك علَّة أعرفُها، فأخبرني ما الذي تجد؟ فقال: يا أبا واثلة، تقدَّمتْ إليك امرأةٌ، فنظرتُ إليها في نقابها حين قامت من عندك، فوقعت في قلبي، فهذه العلة منها.
جرح تعزُّ مراهمه
ولي من أثناء القصيدة:
قتيل الهوى
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بالشام، حدَّثنا علي بن أيوب، حدَّثنا محمد بن عمران، أخبرني يوسف بن يحيى بن علي المنجم عن أبيه، حدَّثني محمد إدريس بن سليمان بن يحيى عن أبيه، قال: كان المؤمَّل بن جميل بن يحيى بن أبي حفصة شاعرًا غَزِلًا ظريفًا، وكان منقطعًا إلى جعفر بن سليمان بالمدينة، ثمَّ قدم العراق، فكان مع عبد الله بن مالك الخزاعي، فذكره للمهدي، فحظيَ عنده، وهو القائل:
قال: فسُمِّيَ قتيل الهوى، وهو القائل:
قال: وله أيضًا:
ميت يتكلم
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق بقراءتي عليه، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم بن بيان البزاز الزبيبي، حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدَّثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثني يحيى بن أيوب، أن فتًى كان يُعجَبُ به عُمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر: إنَّ هذا الفتى لَيُعجبني، وإنه انصرف ليلةً من صلاة العشاء فمثلت له امرأة بين يدَيه، فعرَّضت له بنفسها، ففُتن بها، ومضت فاتَّبعها حتى وقَف على بابها، فلما وقف بالباب أبصر وجُلِّيَ عنه، ومثلت له هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ، فخرَّ مغشيًّا عليه، فنظَرت إليه المرأة فإذا هو كالميت، فلم تزل هي وجاريةٌ لها تتعاونان عليه حتى ألقَتاه على باب داره.
وكان له أبٌ شيخٌ كبيرٌ يقعد لانصرافه كل ليلةٍ، فخرج فإذا هو به مُلقًى على باب الدار لما به، فاحتمَله فأدخله، فأفاق بعد ذلك، فسأله أبوه: ما الذي أصابك يا بني؟ قال: يا أبتِ لا تسألني. فلم يزَل به حتى أخبره وتلا الآية، وشهق شهقةً خرجت معها نفْسه، فدُفن. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فقال: ألا آذنتموني بموتِه؟ فذهب حتى وقَف على قبره، فنادى: يا فلان، ولمن خاف مقام ربه جنتان. فأجابه الفتى من داخل القبر: قد أعطانيهما ربي يا عمر.
وسواس خالد الكاتب
أخبرنا أبو غالب محمد بن أحمد بن بشران النحوي مكاتبةً، حدَّثنا ابن دينار، أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني، قال: كان خالد الكاتب، وهو خالد بن يزيد ويُكنى أبا القاسم، من أهل بغداد وأصله من خراسان، وكان أحد كُتَّاب الجيش، فوُسوِسَ في آخر عمره وقيل: إن السوداء غلبَت عليه، وقال قوم: بل كان يهوى جاريةً لبعض الملوك ببغداد فلم يَقدر عليها، وولاه محمد بن عبد الملك العطاء بالثغور، فخرج فسمع في طريقه منشدًا ينشد ومغنِّية تُغني:
فبكى حتى سقط على وجهِه مغشيًّا عليه، ثمَّ أفاق مُختلِطًا، واتصل ذلك حتى وُسوِس وبطَل.
قال: ولخالد مما غُنِّي به:
في تيه الحب
ولي من أثناء قصيدة:
أبو ريحانة والجارية السوداء
أخبرنا الشيخ أبو بكر أحمد بن علي الشروطي بالشام، أخبرنا رضوان بن عمرو الدِّينَوَرِي، قال: حدَّثنا الحسين بن جعفر العبدي، قال: حدَّثنا أبو قتيبة سالم بن الفضل الأدمي، حدَّثني محمد بن موسى الشامي، سمعتُ الأصمعي يقول: مررتُ بالبصرة بدار الزبير بن العوام، فإذا أنا بشيخٍ من ولد الزبير يُكنى أبا ريحانة على باب الزبير ما عليه إلا شملة تَسترُه، فسلمت عليه وجلست إليه أُحدِّثه. فبينا أنا كذلك إذ طلعت علينا جاريةٌ سوداء تحمل قِربة، فلما نظر إليها لم يَتمالك أن قام إليها، ثمَّ قال: يا سِتِّي جُمعة، غني لي صوتًا! فقالت: إن مواليَّ أعجلوني. قال: لا بدَّ من ذلك. قالت: أما والقربة على كتفي فلا. قال: فأنا أَحملها. فأخذ القربة فحمَلها على عنقه، واندفعت فغنَّت:
قال: فطرِبَ الشيخ، وصرَخ صرخةً وضرب بالقربة الأرض فشقَّها، فقامت الجارية تبكي وقالت: ما هذا جزائي منك يا أبا ريحانة، أسعفتُك بحاجتك وعرَّضتي لما أكره من مواليَّ؟ قال: لا تَغتمِّي، فإن المصيبة عليَّ دخلَت دونَك.
وأخذ بيدها واتَّبعته إلى السوق، فنزَع الشملة، ووضع يدًا من قُدام ويدًا من خلف، وباع الشملة، وابتاع بثمنها قربة، وقعَد على تلك الحال، ورجعتُ، فجلست عنده، فاجتاز به رجلٌ من الطالبية، فلما نظَر إليه وإلى حالته عرف قصته، فقال: يا أبا ريحانة! أحسبُك من الذين قال الله عز وجل فيهم: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ. فقال: لا يا ابن رسول الله، ولكني من الذين قال الله تعالى فيهم: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. فضحك منه العلوي، وأمر له بألف درهم وخلعة.
أتراك تعذب عبدك؟
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، إن لم يكن سماعًا فإجازةً، أخبرني سلامة بن عمر النصيبي، حدَّثنا أحمد بن جعفر أبو بكر، حدَّثنا العباس بن يوسف الشكلي، قال: قال سعيد بن جعفر الوراق، قال عنبسة الخواص: كان عُتبة الغلام يَزورني، فبات عندي ليلة، فقدَّمتُ له عشاءً فلم يأكله، فسمعته يقول: يا سيِّدي إن تُعذِّبني فإني لك محبٌّ، وإن ترحمني فإني لك محبٌّ.
فلما كان في آخر الليل شهق شهقة، وجعل يُحشرِجُ كحشرجة الموت. فلما أفاق قلت له: يا أبا عبد الله! ما كان حالك منذ الليلة؟ قال: فصرَخ، ثمَّ قال: يا عنبسة، ذِكر العَرض على الله عز وجل قطع أوصال المحبين، ثمَّ غُشيَ عليه، ثمَّ أفاق، فسمعته يقول: سيِّدي، أتراك تُعذب عبدك؟
لا محبوب إلا الله
وأخبرنا أبو بكر أيضًا، حدَّثني يحيى بن علي الطيب العجلي، سمعت عبد الله بن محمد الدامغاني يقول: سمعت الحسن بن علي بن يحيى بن سلام يقول: قيل ليحيى بن معاذ: يُروى عن رجل من أهل الخير قد كان أدرك الأوزاعي وسُفيان أنه سُئل: متى تقع الفراسة على الغائب؟ قال: إذا كان مُحِبًّا لما أحبَّ الله، مُبغِضًا لما أبغض الله، وقعَت فراسته على الغائب. فقال يحيى:
دمع وتسهاد
ولي من أبيات:
ليلى ومجنونها
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، أخبرنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا ابن المَرْزُبان، أخبرني أبو محمد البلخي، أخبرني عبد العزيز بن صالح عن أبيه، عن ابن دأب، حدَّثني رجلٌ من بني عامر يُقال له رياح بن حبيب، قال: كان في بني عامر من بني الحريش جاريةٌ من أجمل النساء، وأحسنهنَّ، لها عقل وأدب، يُقال لها ليلى ابنة مهدي بن رَبيعة بن الحُرَيش، فبلغ المجنون خبرُها وما هي عليه من الجمال والعقل. وكان صبًّا بمحادثة النساء، فعمد إلى أحسن ثيابه، فلبسها وتهيَّأ بأحسن هيئة، وركب ناقة له كريمة وأتاها. فلما جلس إليها وتحدَّث بين يديها أعجبته ووقعَت بقلبه. فظل يومه يُحدِّثُها وتُحدِّثه حتى أمسى، فانصرف. فبات بأطول ليلة من الليلة الأولى، وجهد أن يُغمِضَ فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
وأدامَ زيارتها، وترك إتيان كل من كان يأتيه فيتحدَّثُ إليه غيرها، وكان يأتيها كل يومٍ، فلا يزال عندها نهارَه أجمع حتى إذا أمسى انصرف.
وإنه خرج ذات يومٍ يُريدُ زيارتها، فلما قرُب من منزلها لقيتْه جاريةٌ عسراء، فتطيَّر من لقائها فأنشأ يقول:
ثمَّ صار إليها من غدٍ، فلم يزل عندها، فلما رأت ليلى ذلك منه وقع في قلبها مثل الذي وقع لها في قلبه، فجاء يومًا كما كان يجيء، فأقبل يُحدِّثُها، وجعلت هي تُعرِضُ عنه بوجهها وتُقبِلُ على غيره، كل ذلك تريدُ أن تَمتحنه، وتعلم ما لها في قلبه، فلما رأى ذلك منه اشتدَّ عليه، وجزع حتى عُرِفَ ذلك فيه، فلما خافت عليه أقبلت كالمشيرة إليه، فقالت:
فسُرِّيَ عنه وعلم ما في قلبها، وقالت له: إنما أردت أن أمتحنَك، والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأنا مُعطيةٌ الله عهدًا إن أنا جالستُ بعد يومي هذا رجلًا سواك حتى أذوق الموت، إلا أن أُكرَه على ذاك. قال: فانصرف في عشيته وهو أسرُّ الناس بما سمع منها، فأنشأ يقول:
زيارة الطيف
ولي من قصيدة:
جارية حاضرة الذهن
أخبرنا القاضيان أبو الحسن أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي، وأبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، قالا: حدَّثنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثني أبو عبد الله التميمي، حدَّثني أبو الوضاح الباهلي، عن أبي محمد اليزيدي، قال: قال عبد الله بن عمر بن عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير: خرجتُ أنا ويعقوب بن حميد بن كاسب قافلين من مكة، فلما كُنَّا بودَّان لقيتنا جاريةٌ من أهل وَدَّان، فقال لها يعقوب: يا جاريةُ! ما فعلت نُعْم؟ فقالت: سَل نُصَيبًا. فقال: قاتلك الله، ما رأيتُ كاليوم قطُّ أحدَّ ذِهنًا ولا أحضر جوابًا منكِ. وإنما أراد يعقوب قولَ نُصيب في نُعْم، وكانت تنزِل ودَّان:
صفراء السوداء
أخبرنا ابن التَّوَّزِي والتَّنُوخِي قالا: حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدَّثنا محمد بن خلف، قال: وذكر بعض الرواة عن العمري: كان أبو عبد الله الحبشاني يعشقُ صفراءً العلاقمية، وكانت سوداء، فاشتكى من حبها، وضنيَ حتى صار إلى حدِّ الموت، فقال بعض أهله لمولاها: لو وَجَّهت صفراء إلى أبي عبد الله الحبشاني فلعله يعقلُ إذا رآها؟ ففعل، فلما دخلت عليه صفراء قالت: كيف أصبحتَ يا أبا عبد الله؟ قال: بخير ما لم تَبرحي. قالت: ما تشتهي؟ قال: قربك. قالت: فما تشتكي؟ قال: حبَّك. قالت: أفتوصي بشيء؟ قال: نعم! أوصي بك إن قَبِلوا مني. فقالت: إنِّي أريد الانصراف. قال: فتَعَجَّلي ثوابَ الصلاة عليَّ. فقامت فانصرفت، فلما رآها مولِّيَة تنفَّس الصُّعَداء ومات من ساعته.
سمنون الكذَّاب
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بقراءتي عليه بالشام، سمعت أبا نعيم الحافظ يقول: سمنون هو ابنُ حمزةَ الخواص، أبو الحُسين، وقيل أبو بكر، بصري سكن بغداد ومات قبل الجُنيد، وسمَّى نفسه سمنون الكذَّاب بسبب أبياته التي قال فيها:
فحُصِرَ بولُه من ساعته فسمَّى نفسه سمنون الكذَّاب.
من شعر سمنون
أنبأنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي، وحدثنا الخطيب عنه، حدَّثنا أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري، أنشدني علي بن أحمد بن جعفر: أنشدني أبو فراس لسمنون:
وأخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، حدَّثنا الحسن بن أبي بكر، قال: ذكر أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهدُ أن سمنون المجنون أنشده:
مساكين أهل العشق
أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن الحسين وأبو القاسم علي بن المحسن بن علي قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف، أخبرني جعفر بن علي اليشكري، أخبرني الرياشي، أخبرني العتبي، قال: دخل نُصَيب على عبد العزيز بن مروان، فقال له: هل عشقتَ يا نُصَيب؟ قال: نعم! جعلني الله فداءك، ومن العشق أفلتَتْني إليك البادية. قال: ومَن عشقتَ؟ قال: جاريةً لبني مُدلِج، فأحدق بها الواشون، فكنتُ لا أقدرُ على كلامها إلا بعينٍ أو إشارةٍ، فأجلسُ على الطريق حتى تمرَّ بي فأراها، ففي ذلك أقول:
دعا باسم ليلى
أنبأنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ رحمه الله، حدَّثنا عبد الغني بن سعيد، حدَّثنا جعفر بن هارون بن زياد، قال: وحدثني هلال بن العلاء، حدَّثني عياض بن أحمد السلمي، قال: كنتُ أجلسُ إلى الأصمعي فما سمعته سُئل فقال حتى أنظر، أو ما أعرفه. قال: وسمعته يقول: كنت مع جعفر بن يحيى في زَورَق فسمع هاتِفًا يهتفُ باسم جاريةٍ، فقال: إن هذا الهاتف يهتفُ باسم جارية وافَق اسم جاريةٍ لي فارتاح قلبي، فأنشِدْني في ذا شيئًا، فأنشدته:
فأعطاني عشرة آلاف درهم.
المجنون في مكة
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءةً عليه، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف، قال: قال أبو عمرو الشيباني: لما ظهر من المجنون ما ظهر ورأى قومُه ما ابتُليَ به، اجتمعوا إلى أبيه وقالوا: يا هذا! قد ترى ما ابتُليَ به ابنُك، فلو خرجتَ به إلى مكة فعاذ ببيت الله الحرام وزار قبر رسول الله صلى الله عليه وآله، ودعا الله تعالى؛ رجونا أن يرجع عقله ويعافيه الله. فخرج أبوه حتى أتى به مكة، فجعل يطوف به ويدعو الله عز وجل له بالعافية، وهو يقول:
حتى إذا كان بمِنًى نادى منادٍ من بعض تلك الخيام: يا ليلى، فخرَّ قيسٌ مغشيًّا عليه، واجتمع الناس حوله، ونضَحُوا على وجهه الماء، وأبوه يبكي عند رأسه، ثمَّ أفاق وهو يقول:
الله يا سلَّام
ولي من غزل قصيدة أولها:
ومنها:
نأت دار من تهوى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، حدَّثنا أبو أحمد عُبيد الله بن أحمد الفقيه، حدَّثنا محمد بن يحيى الصولي أبو بكر، حدَّثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: هجرَ محمد بن إسحاق بن إبراهيم جاريةً له كان يُخرِجها معه إلى أسفارِه، وحدَثَ له خُروجٌ، فجعلت تُغنِّي وتبكي، وهو مُستمع:
قال: فدخل فترضَّاها وأخرجها معه.
قتله بالسحر
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا عبد الله بن محمد بن إبراهيم، حدَّثنا محمد بن خلف، قال: قال إسحاق بن منصور: حدَّثني جابر بن نوح قال: كنتُ بمدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جالسًا عند بعض أهل السوق، فمر بي شيخٌ حسن الوجه حسن الثياب، فقام إليه البائع فسلَّم عليه، وقال له: يا محمد! أسأل الله أن يُعظِّمَ أجرَك وأن يَربطَ على قلبك بالصبر. فقال الشيخ مُجيبًا له:
فقال البائع: أبشر يا أبا محمد، فإن الصبر معوَّل المؤمن، وإني لأرجو أن لا يَحرِمَك الله الأجر على مصيبتك.
فقلت له: مَن هذا الشيخ؟ فقال: رجلٌ مِنَّا من الأنصار من الخزرج. فقلت: وما قصته؟ قال: أُصيب بابنه، وكان به بارًّا قد كفاه جميع ما يَعنيه، وقام به، وميتَتُه أعجب ميتة. قلت: وما كان سبب ميتته، وما كان خبره؟ قال: أحبَّته امرأة من الأنصار، فأرسلت إليه تشكو حُبَّها وتسأله الزيارة، وتدعوه إلى الفاحشة. قال: وكانت ذات بعلٍ، فأرسل إليها:
فلما قرأت الأبيات كتبت إليه:
قال: فأفشى ذلك إلى صديقٍ له، فقال له: لو بعثتَ إليها بعض أهلك فوعظتَها وزجرتها رجوتُ أن تكُفَّ عنك. فقال: والله لا فعلتُ ولا صِرتُ في الدنيا حديثًا، ولَلعار في الدنيا خيرٌ من النار في الآخرة. وقال:
قال: وأمسك عنها، فأرسلت إليه: إمَّا أن تزورَني، وإمَّا أن أزورك. فأرسل إليها: اربعي أيتها المرأة على نفسك، ودعي عنك التسرُّع إلى هذا الأمر. قال: فلما أيسَت منه ذهبت إلى امرأة كانت تعمل السحر، فجعلَت لها الرغائب لتُهيجه. قال: فعملت لها فيه.
قال: فبينا هو ذاتَ ليلة جالسٌ مع أبيه إذ خطر ذكرُها بقلبه وهاج به أمرٌ لم يكن يعرفه، واختلط، فقام من بين يدي أبيه مُسرِعًا فصلَّى واستعاذ، وجعل يبكي والأمر يتزايد، فقال له أبوه: يا بُني ما قصتك؟ فقال: يا أبت! أدركني بقيدٍ؛ فما أرى إلا وقد غلبَ عليَّ. قال: فجعل أبوه يبكي ويقول: يا بُني حدِّثني بالقصة. فحدَّثه بقصته، فقام إليه فقيَّده وأدخله بيتًا، فجعل يَضطربُ ويخورُ كما يخورُ الثور. ثمَّ هدأ ساعة عند الباب، فإذا هو ميت، وإذا الدمُ يسيل من مِنخَرِه.
ميِّتان وامرأة حرَّى
قال: فلما خرج من حضرته قال لنا محمد بن عبد الله بن طاهر: أي شيء أفدنا مِن الشيخ؟ قلنا له: الأمير أعلم. فقال: قوله: أمست فتاةُ بني نهدٍ علانيةً؛ أي ظاهرة، وهذا حرفٌ لم أسمعه في كلام العرب قبل هذا.
أسود وسوداء
جبال الحب
نياق القرشي
بقاء العاشقين عجيب
أنبأنا الجوهري، أنشدنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، أنشدنا محمد بن عبد الله الكاتب: أنشدني محمد بن المَرْزُبان:
وفاة جميل
أخبرنا الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله، حدَّثنا أبو العباس أحمد بن منصور اليشكري، أخبرنا الصولي، حدَّثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدَّثنا محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: لما حضَرت الوفاة جميلًا بمصرَ قال: من يُعلِمُ بُثَينة؟ فقال رجل: أنا. فلما مات صار إلى حي بثينة فقال:
فسمعته بثينة، فخرجت مكشوفة تقول:
الهوى يُنسي الأكل
لا تقتليه
ولي من أثناء قصيدة أوَّلها:
شعر على تكَّة
شعر على عصابة
وأخبرنا علي بن عمر أيضًا، أخبرنا عمر بن حَيُّوَيْهِ، أخبرنا عبد الوهاب بن أبي حية، قال: نقشت غليلُ على عصابتها:
تضنُّ بتسليمة
ولي من قصيدة رجز أوَّلها:
أعشقُ من كثَيِّر عزَّة
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءةً عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا محمد بن خلف، أخبرني عبد الله بن محمد الطالقاني، أخبرني السري بن يحيى الأزدي، عن أبيه، عن المفضل بن الحسن المخزومي، قال: دخل كُثير عزَّة على عبد الملك بن مروان، فجعل يُنشده شعرَه في عزة وعيناه تذرفان، فقال له عبد الملك: قاتلَك الله يا كُثيِّر! هل رأيتَ أحدًا أعشق منك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، خرجتُ مرَّةً أسيرُ في البادية على بعيرٍ لي، فبينا أنا أسيرُ إذ رُفع إليَّ شخصٌ فأمَمتُه، فإذا رجلٌ قد نَصَب شَرَكًا للظباء، وقعد بعيدًا منه، فسلَّمت عليه فردَّ السلام، فقلت: ما أجلسكَ ها هنا؟ قال: نصبتُ شرَكًا للظباء فأنا أرصدها. قلت: إن قمت له لديك فصِدتُ أتُطعِمُني؟ قال: إي والله.
قال: فنزلتُ فعقلتُ ناقتي، وجلست أحدِّثه فإذا هو أحسنُ خلقِ الله حديثًا وأرقُّه وأغزله. قال: فما لبثنا أن وقعت ظبيةٌ في الشَّرَك، فوثب ووثبتُ معه فخلَّصها من الحبال، ثمَّ نظر في وجهها مليًّا، ثمَّ أطلَقها وأنشأ يقول:
ثمَّ أصلح شَرَكَه، وعدَونا إلى موضعنا، فقلت: والله لا أبرح حتى أعرِف أمْر هذا الرجل. فأقمنا باقيَ يومنا فلم يقع شيء، فلمَّا أمسينا قام إلى غارٍ قريبٍ من الموضع الذي كُنَّا فيه، وقمت معه فبِتنا به، فلما أصبح غدَا فنَصَب شَرَكه، فلم يلبث أن وقعت ظبيةٌ شبيهةٌ بأختها بالأمس، فوثب إليها ووثبتُ معه، فاستخرَجها من الشَّرَك ونظر في وجهها مليًّا ثمَّ أطلقها فمرَّت، وأنشأ يقول:
ثمَّ عُدنا إلى موضعنا فلم يقع يومَنا ذلك شيء، فلما أمسينا صِرنا إلى الغار فبِتْنا فيه، فلما أصبَحنا عدَل إلى شَرَكه، وغدوتُ معه، فنصبه، وقعدنا نتحدَّث وقد شغلني يا أمير المؤمنين حُسنُ حديثه عما أنا فيه من الجوع، فبِتْنا نتحدَّثُ إذ وقعت في الشَّرَك ظبيةٌ فوثَب إليها ووثبتُ معه، فاستخرجها من الشَّرَك، ثمَّ نظر في وجهها وأراد أن يُطلِقها، فقبضتُ على يده وقلت: ماذا تُريد أن تعمل؟ أقمتَ ثلاثًا كلما صِدت شيئًا أطلقته. قال: فنظر في وجهي وعيناه تذرفان وأنشأ يقول:
قال أبو بكر: وبيتٌ آخَرُ ذهب عليَّ، فرحمتُه والله يا أمير المؤمنين، فبكيتُ لبكائه ونسبتُه، فإذا هو قيس بن مُعاذٍ المجنون، فذاك والله أعشقُ مني يا أمير المؤمنين.
وشاية الطِّيب
ولي من ابتداء قصيدة:
أم سالم والغزال
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، رحمه الله، حدَّثنا محمد بن العباس، أخبرنا محمد بن خلف، حدَّثنا عمر بن شبة، حدَّثنا أبو غسان المديني، أخبرني عبد العزيز بن أبي ثابت، أخبرني رجل من التجار، قال: اشترى أبو زِبَّان الهرَمي ظبيًا من المصلَّى بدرهمَين ثمَّ أخذ بيدي، حتى إذا كُنَّا بالحرَّة أطلقه وقال: ما كان ليؤسَرَ شبه أم سالم، ثمَّ أنشأ يقول:
إبراهيم بن المهدي وجارية عمَّته
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي بقراءتي عليه في المسجد الحرام بين باب بني شيبة وباب النبي تجاه الكعبة، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن لال الهمذاني، أخبرنا أحمد بن حرب الجيلي عن بعض مشايخه، قال: اختفى إبراهيمُ بن المهدي زَمنَ المأمون عند بنت عصمة بنت أبي جعفر عند هربه من المأمون لشدَّة طلبه له، وكانت تُكرِمه غاية الكرامة، وتُلطِفُه بالطرائف، وتتفقَّده في أوقاته، ووكلت به جاريةً يُقال لها ملَك، وكانت قد أدَّبتها، وأنفقَت عليها الأموال، وكانت مغنِّيةً حاذقة راوية للأشعار، بارعة الجمال، حسنة القدِّ، عاقلة. وقد كانت طُلبت منها بخمسين ومائة ألف درهم، فكانت تَلي خدمة إبراهيم وتقوم على رأسه، وتتفقَّد أموره، فهويَها وكرِهَ أن يطلبها من عمَّته، وأن يفجَعَها بها، وتذمَّم من ذلك، فلمَّا اشتدَّ وجْدُه بها، وغَلَب حبُّها عليه، وسكرَ فهيَّجه السكْر أيضًا أخذ عُودًا وغنَّى بشعرٍ له فيها، وهي واقفةٌ على رأسه، والغناء له:
فسمعتِ الجاريةُ الشعر، وفطنت لمعناه لرقَّتها وظُرفِها، وكانت مولاتها تسألُها عن حالها وحاله في كل يوم، فأخبرتْها في ذلك اليوم بما في قلبه منها، وبما سمعت منه من الشعر والغناء، فقالت لها مولاتُها: اذهبي فقد وَهَبتُك له! فعادت إليه، فلمَّا رآها أعادَ الصوتَ، فأكبَّت عليه الجارية فقبَّلت رأسه، فقال لها: كُفِّي! فقالت: قد وهبتْني مولاتي لك، وأنا الرسول. فقال: أما الآن، فنعم.
موت المجنون في الوادي
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءةً عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا أحمد بن الهيثم القرشي، حدَّثني العباس بن هشام عن أبيه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، أن رجُلًا من أهل الشام كان له أدب، وأنه ذُكر له المجنون، وأُخبر بخبره، فأحَبَّ أن يراه، وأن يسمع من شعره، فخرج يريده حتى إذا صار إلى حيِّه سأل عنه، فأُخبر أنه لا يأوي إلى مكان، وأنه يكون مع الوَحش، قال: فكيف لي بالنظر إليه؟ قيل: إنه لا يقف لأحدٍ حتى يُكلِّمه إلا لدايةٍ له هي التي كانت ربَّته. فكلَّم دايته وسألها، فخرجَت معه تطلبه في مظانِّه التي كان يكون فيها في البرِّية، فطلبوه يومَه ذلك، فلم يقدروا عليه، ثمَّ غدوا في اليوم الثاني يَطلبونه. فبينا هم كذلك إذ أشرفوا على وادٍ كثير الحجارة، وإذا به في ذلك الوادي ميِّتٌ، فاحتمله الرجل ودايتُه حتى أتَيا به الحي، فغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه، فقال الرجل: قد كنتُ أقدرُ أن أسمع منه شيئًا من شعره ففاتَني ذلك، فأنشِدوني من شعره شيئًا أنصرف به. فأنشدوه أشياء كتبها، وانصرف.
لو بُلي البين ببين
أخبرنا الشيخ أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون قراءةً عليه، أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن أبي علي الأصبهاني، أخبرنا سعد بن الحسن الصوفي، أنبأنا عبد المؤمن، حدَّثنا الحسن بن أبي الفضل: أنشدنا هِبَةُ الله بن الحسن لنفسه:
غراب البين
وأخبرنا أحمد بن الحسن على أثره، أخبرنا محمد بن الحسن الأصبهاني، أنبأنا وليد بن معن المؤدِّب: أنشدنا أبي لأبي الحسن البرمكي:
امرأة على قبر ولدها
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي في ما أجاز لنا، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الرصافي، حدَّثنا أبو بكر أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة، حدَّثنا محمد بن موسى بن حماد، حدَّثني أبو عبد الله العدوي، حدَّثني الحسين، سمعتُ أبي يقول: سمعتُ مُصعبًا يقول: قرأتُ على لوحَين على قبرَين:
ورأيت امرأةً عند القبرَين وهي تقول: بأبي لم تُمتِّعك الدنيا من لذتها، ولم تساعدك الأقدار على ما تهوى، فأوقرتني كمدًا، فصرتُ مطيةً للأحزان، فليت شعري كيف وجدت مقيلك، وماذا قلت وقيل لك؟ ثمَّ قالت: استودعتُك مَن وَهَبك لي، ثمَّ سلبني أسَرَّ ما كنتُ بك.
فقلتُ لها: يا أمَّه! ارضَيْ بقضاء الله عز وجل، وسلِّمي لأمره! فقالت: هاه نعم! فجزاك الله خيرًا، لا حرمني الله أجرك ولا فتَنني بفراقك. فقلت لها: من هذا؟ فقالت: ابني، وهذه ابنة عمه، كان مُسمًّى بها وهي صغيرة، فليلةَ زُفَّت إليه أخذَها وجعٌ أتى على نفْسها فقضت فانصدع قلبُ ابني فلحقتْ روحُه روحَها، فدفنتُهما في ساعة واحدة. فقلت: فمَن كتب هذا على القبرَين. قالت: أنا. قلت: وكيف؟ قالت: كان كثيرًا ما يتمثَّل بهذين البيتَين فحفظتهما لكثرة تلاوته لهما. فقلت: ممن أنت؟ فقالت: فزارية. قلت: ومَن قائلهما؟ قالت: كريمٌ ابن كريمٍ، سخيٌّ ابن سخيٍّ، شجاعٌ ابن بطلٍ، صاحب رئاسة. قلت: مَن؟ قالت: مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن، يقولهما في امرأته حبيبة بنت أبي جُندب الأنصاري. ثمَّ قالت: وهو الذي يقول:
قال: فكتبتُها، ثمَّ قامت مولِّية فقالت: شغلتَني عما إليه قصدت لتسكين ما بي من الأحزان.
هذي الخدود
وأنشدت لأبي الحسن علي بن عبد الرحمن الصقلي، وقد لقيتُ المذكور بالإسكندرية منذ خمس وعشرين سنة، ابتداءَ قصيدة له:
المطبوع على الكرَم
قال: فقال أمير المؤمنين: فذاك حين تقول ماذا؟ فقال:
قال: فقال: يا غلام، عليَّ بسعيد بن خالد! فأُتي به، فقال: يا سعيد! أحقٌّ ما وصفك به موسى؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ فأعاد عليه، فقال: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين. قال: فما طوَّقك ذلك؟ قال: الكِلَفَ. قال: فما حمَّلَتْك الكِلَفُ؟ قال: دَين، والله يا أمير المؤمنين، ثلاثين ألف دينار. قال: قد أمرتُ لك بها وبمثلها وبمثلها وثلثِ مثلها.
فلقيتُ سعيد بن خالد بعد حين، فأخذتُ بعنان دابَّته فقلت: بأبي وأمي! ما فعل المالُ الذي أمر لك به سليمان أمير المؤمنين. قال: ما علمُكَ به؟ قال: كنتُ حاضرَ المجلس يومئذٍ. قال: والله ما استطعتُ أن أملكَ منه دينارًا ولا درهمًا. قال: فما اغتاله؟ قال: خَلَّةٌ من صديقٍ أو فاقةٌ من ذي رحم.
نقش الشعر على الخواتم
أنبأنا أبو الحسن علي بن عمر القزويني الزاهد، رحمه الله، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، أخبرنا عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية، قال: نقشت مُغنِّيةٌ على خاتمها:
قال: ونقشَت مغنية أخرى على خاتمها:
ونقشت أخرى على خاتمها:
ونقشت أخرى:
ونقشت أخرى:
ونقشت أخرى:
ونقشت أخرى:
ونقشت أخرى:
ونقشت أخرى:
قلب على شُعَل
أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، رحمه الله، لمحمد بن عون الكاتب:
صوني ما تبقَّى
ولي ابتداء قصيدة:
المغنيات ونقشهن الشعر
أخبرنا ابن القزويني، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا عبد الوهاب بن أبي حية، قال: نقشَت مُغنية على خاتمها:
ونقشت أخرى:
ونقشت مُذنبُ جارية الحسن بن علي على قميصٍ لها:
ونقشت أخرى:
ونقشت مخارق جاريةُ القطيني على جبينها:
لا فرَّج الله عني
وأخبرني أبو الحسن القزويني أيضًا إجازة، أخبرنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا عبد الوهاب بن أبي حية، قال: نقشَت شِبل وكانت تعشق ناشِئًا:
أعرابيٌّ حذاءَ الكعبة
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سعيد، حدَّثنا الحسين بن القاسم، حدَّثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدَّثني ابن بكار قال: وحكى العذريُّ، أخبرنا الحسن بن جعفر بن سليمان الضبعي، قال: كنتُ لا أكادُ أمرُّ في طريق ولا في حاجة إلا ومعي ألواحٌ، فحججتُ فرأيت أعرابيًّا تقدَّم حتى قام حذاء الكعبة، ثمَّ قال: تفهَّموا عني واحفظوا مقالتي. ثمَّ رفع صوته فقال:
فرآني وأنا أكتب ما يُنشد، ثمَّ قلت له: ويحك! هذا هو الخسران المُبين، أتفعل هذا في مثل هذا الموضع؟ قال: بل الخُسران المبين ما أنت فيه، أنا معذورٌ مسلوب العقل، جئت مُستجيرًا بربي لِما أجد من قلبي، وأنت تكتب بلايا العاشِقين مؤثِرًا لها في هذا الموضع، تنحَّ عني لا قدَّس الله روحك!
يموت بكل يوم
أخبرنا أبو محمد الجوهري، رحمه الله، قراءةً عليه، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العبَّاس بن حَيُّوَيْهِ الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف، أخبرني إسحاق بن محمد، حدَّثني أبو معاذ النميري، قال: لقيَ مجنونُ بني عامر الأحوَصَ بن محمد الأنصاري، فقال له: حدِّثني حديث عُروةَ بن حِزام! قال: فجعل الأحوصُ يُحدِّثه وهو يسمع، حتى فرغ من حديثه، فأنشأ المجنون يقول:
عفا الله عنها
وبإسناده قال: أنشدنا محمد بن خلف، أنشدني القحذمي للمجنون:
لا مات ولا عوفي
أخبرنا الأمير السيد أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله، حدَّثنا أحمد بن منصور اليشكري، حدَّثنا أبو بكر بن دُرَيْد، حدَّثنا الرياشي قال: قال: عركن بن الجميح الأسدي: كان لي صديقٌ من الحي، وكان شابًّا جميلًا يَعشقُ ابنة عمٍّ له، وكانت له مُحبة، وكانت هيبةُ عمه تمنعه أن يخطبها إليه، فحُجِبت عنه، فكان يأتيني فيشكو شوقه إليها، فما لبث أن مرِض عمه مرضًا أشفى منه، فكان الفتى يدخل عليه وابنته عند رأسه تُمرِّضُه، فيستشفي بالنظر إليها، ثمَّ يخرُجُ إليَّ مسرورًا جَذِلًا، إلى أن برأ عمه فأنشأ يقول:
فخُطبتِ الجارية، فزوَّجها أبوها غيرَه، فجاءني الفتى، فقال: ودِّعني وداعًا لا نتلاقى بعده! فناشدتُه فإذا الجزع قد حال دون فهمه، فقلت: فأين تذهب؟ فقال: أذهبُ ما وجدت أرضًا. ونهض فكان آخر العهد به، وقد التمسه عمُّه في آفاق البلاد فما قدر عليه، ولم يطُل عمرُ الجارية بعدَه.
الموت في الحب جميل
أنبأني أبو الحسن علي بن عمر الحزبي رحمه الله، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا عبد الوهاب بن أبي حية، قال: نقشت كُلثُم على فصِّ خاتمها: لا غفرَ مَن هجرَ. ونقشت خُلَيدةُ الحيرية: الموت في الحُبِّ جميل.
حبَّذا نجد
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءةً عليه، حدَّثنا محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان، قال: وذكر محمد بن حبيب عن هشام بن محمد الكلبي وغيث الباهلي وأبي عمرو الشيباني، عن أبي دأب، عن رياح، حدَّثني بعض المشايخ، قال: خرجتُ حاجًّا حتى إذا كنت بمِنى إذا جماعةٌ على جبل من تلك الجبال، فصعدتُ إليهم إذا معهم فتًى أبيض حسنُ الوجه، وقد علاه اصفرارٌ وبدنه ناحلٌ، وهم يمسكونه. قال: فسألتهم عنه، فقالوا: هذا قيس الذي يُقال له المجنون، خرج به أبوه لما بُليَ به، يستجيرُ له ببيت الله الحرام وقبر محمد عليه الصلاة والسلام، فلعلَّ الله يعافيه. قلت لهم: فما بالكم تمسكونه؟ قالوا: نخاف أن يجني على نفسه جنايةً تُتلفه. قال: وهو يقول: دعوني أتنسَّم صبا نجدٍ. فقال لي بعضهم: ليس يَعرِفُك، فلو شئتَ دنوت منه، فأخبَرتَه أنك قَدِمتَ من نجدٍ وأخبرتَه عنها. قلت: نعم، أفعل. فدنوتُ منه. فقالوا له: يا قيسُ، هذا رجلٌ قَدِمَ من نجدٍ. قال: فتنفَّس حتى ظننتُ أن كبده قد تصدَّعت، ثمَّ جعل يُسائلني عن موضع فموضعٍ ووادٍ فوادٍ، وأنا أخبره وهو يبكي، ثمَّ أنشأ يقول:
ظبية بشاة
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، أخبرنا محمد بن خلف، أخبرني أبو بكر العامري، عن عبد الله بن أبي كريم، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي بكر الوالبي، قال: ذكروا أن المجنون مرَّ برجلين قد صادا عنزًا من الظِّباء، فلما نظر إليها دمعت عيناه وقال: يا هذان! خلِّياها. فأبيا عليه، فقال: لكما مكانَها شاةٌ من غنمي. فقبِلا ذلك منه، ودفعاها إليه، فأطلقها ودفع إليهما الشاة وأنشأ يقول:
قتيلٌ لا يُودَي
ولي ابتداء قطعة:
سُكينة تنقد الشعراء
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي بقراءتي عليه في المسجد الحرام بين باب بني شيبة وباب النبي تجاه الكعبة، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن لال الهمذاني، حدَّثنا أحمد بن الحسين بن علي، حدَّثنا أبو الحسن حامد بن حماد بن المبارك، حدَّثنا إسحاق بن سيار، حدَّثنا الأصمعي عبد الملك بن قريب، عن أبيه، عن لبطة بن الفرزدق بن غالب، قال: اجتمعَ أبي وجَميلُ بن معمر العذري وجريرُ بن الخطفي ونُصَيب مولى عمر وكُثيِّر في موسم من المَواسم، فقال بعضهم لبعض: والله لقد اجتمعنا في هذا الموسم لأمرِ خيرٍ أو شرٍّ، وما ينبغي لنا أن نتفرَّق إلا وقد تتابع لنا في الناس شيءٌ نُذكَرُ به. فقال جرير: هل لكم في سُكَينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب نقصدها فنُسلِّم عليها؛ فلعلَّ ذلك يكون سببًا لبعض ما نُريد؟ فقالوا: امضوا بنا. فمضينا إلى منزلها، فقرعنا الباب فخرجت إلينا جاريةٌ لها بريعةٌ ظريفة، فأقرأها كلُّ رجلٍ منهم السلام باسمه ونسبه، فدخلت الجارية وعادت فبلَّغتهم سلامها، ثمَّ قالت: أيُّكم الذي يقول:
قال جرير: أنا قلته. قالت: فما أحسنتَ ولا أجملتَ، ولا صنعتَ صنيعَ الحُرِّ الكريم، لا سترَ الله عليك كما هتكتَ سترك وسترها، ما أنت بكَلِفٍ ولا شريفٍ حين رددتَها بعد هُدوء العين، وقد تجشَّمت إليك هول الليل، هلَّا قلت:
خذ هذه الخمسمائة درهم فاستعِن بها في سفرك.
ثمَّ انصرفت إلى مولاتها وقد أفحمتنا، وكلُّ واحد من الباقين يتوقَّع ما يُخجِلُه، ثمَّ خرجت فقالت: أيُّكم الذي يقول:
فقال أبي؛ يعني الفرزدق: أنا قلته. قالت: ما وُفِّقتَ ولا أصبتَ، أما أيست بتعريضِك عن عودة عندك محمودة؟ خذ هذه الستَّمائة فاستعن بها. ثمَّ انصرفت إلى مولاتها، ثمَّ عادت فقالت: أيُّكم الذي يقول:
فقال نُصيب: أنا قلته. فقالت: أغزلت وأحسنتَ وكَرُمت، إلا أنك صبوت إلى الصِّغار وتركت الناهضات بأحمالها. خذ هذه السبعمائة درهم فاستعن بها.
ثمَّ انصرفت إلى مولاتها، ثمَّ عادت فقالت: أيُّكم الذي يقول:
قال كُثَيِّر: أنا قلته. قالت: أغزلت وأحسنت. خذ هذه الثمانمائة درهم فاستعن بها.
ثمَّ انصرفت إلى مولاتها، وخرجت فقالت: أيُّكم يقول:
فقال جميل: أنا قلته. قالت: أغزلت وكرُمتَ وعَفَفتَ. ادخل.
قال: لما دخلتُ سلَّمت، فقالت لي سُكينة: أنت الذي جعلتَ قتيلنا شهيدًا وحديثنا بَشاشة، وأفضل أيامك يوم تنوبُ فيه عنَّا وتُدافع، ولم تتعدَّ ذلك إلى قبيحٍ. خذ هذه الألف درهم وابسُط لنا العذر، أنتَ أشعَرُهم.
سُكينة والفرزدق
فقال: والله لئن آذنتِني لأُسمعنَّكِ من شعري ما هو أحسن من هذا. فقالت: أقيموه. فخرج، فلما كان من الغد عاد إليها فقالت: يا فرزدق! مَن أشعَرُ الناس؟ قال: أنا. قالت: ليس كما قلت؛ أشعر منك الذي يقول:
قال: والله لئن أذِنتِ لي لأُسمِعنَّك من شعري ما هو أحسن من هذا. فأمرت به فأُخرِج، فلما كان الغد غدَا عليها وحوْلها جَوارٍ مولَّدات عن يمينها وعن شمالها كأنهنَّ التماثيل، فنظر الفرزدق واحدة منهن كأنها ظبيةٌ أدْماءُ، فمات عِشقًا لها وجنونًا بها، فقالت: يا فرزدق! مَن أشعَرُ الناس؟ قال: أنا. قالت: ليس كذلك؛ أشعر منك الذي يقول:
فقال: يا ابنةَ رسول الله! إن لي عليك حقًّا عظيمًا لمُوالاتي لك ولآبائك، وإني سِرْتُ إليك من مكة قاصدًا لك إرادة التسليم عليك، فلقيتُ في مدخلي إليك من التكذيب لي والتعنيف، ومنعكِ إيَّاي أن أُسمِعَك من شعري ما قطع ظهري وعِيلَ صبري به، والمنايا تغدو وتَرُوح، ولا أدري لعلِّي لا أُفارق المدينة حتى أموت، فإذا مُتُّ فمُرِي من يدفنني في دِرعِ هذه الجارية. وأومأ إلى الجارية التي كَلِف بها. فضحكت سُكينة حتى كادت تَخرُج من بُرْدِها، ثمَّ أمرت له بألف درهم وكُسًى وطيبٍ وبالجارية بجميع آلتِها، وقالت: يا أبا فراس! إنما أنت واحدٌ مِنَّا أهل البيت، لا يسؤك ما جرى، خُذ ما أمَرْنا لك به بارك الله لك فيه، وأحسِن إلى الجارية وأكرِمْ صُحبتها. وأمرت الجواري فدفعنَ في ظهورهما. فقال الفرزدق: فلم أزل والله أرى البركة بدعائها في نفسي وأهلي ومالي.
سُكينة وقُبلة عزَّة
وبإسناده، حدَّثنا حامد بن حماد، حدَّثنا إسحاق بن سيار، حدَّثنا الأصمعي، حدَّثنا سفيان بن عُيَيْنة، قال: دخَلَت عزةٌ على سُكينة بنت الحسين بن علي ذات يوم، فقالت: يا عزَّةُ، أرأيتُك إن سألتك عن شيءٍ هل تَصدُقينَني؟ قالت: نعم! قالت: مَن عنَى كُثَيِّرٌ بقوله:
فتحايت، وقالت: فداؤك أبي! إن رأيتِ أن تُعفيني. فقالت: لا أُعفيك بل أعزِمُ عليك. قالت: كنتُ وعدتُه بقُبلة. قالت: أنجزيها له وعليَّ إثمُها.
شهادة قبل عيان
أنشدني أبو محمد الحسن بن محمد الخلال من حفظه، ولم يسمِّ القائل:
في أثواب العفاف
ولي من نسيب قصيدةٍ مدحتُ بها أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله، أولها:
ليلى المريضة
وأخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا محمد بن العباس، أخبرنا محمد بن خلف، قال: قال رباح بن حبيب: حدَّثني بعض بني عامر أن رجلًا أتى يومًا بعد تزويج ليلى وذهاب عقل قيس فسأل عن المجنون، فقيل له: ما تُريدُ منه؟ فقال: أريد أن أنظرَ إليه وأخبره بخبرٍ. فقيل له: أخبرنا نحن بما عندك، فإنه لا يفهم منك ما تقول. قال: دلُّوني عليه على كلِّ حال.
قال: فبعثوا معه برجل، فلم يزل يَطلبه حتى وجده، فقال له الرجل: أتُحبُّ ليلى؟ قال: نعم! قال: فما يُغني حبُّك عنها وهي مريضةٌ لا تأتيها ولا تسأل عنها؟ قال: فشهق شهقةً ظننتُ أن روحه قد فارقت بدنه، ثمَّ رفع رأسها وهو يقول:
خشوع المذنب المتنصِّل
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن العلاف الواعظ بقراءتي عليه، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين الواعظ، حدَّثنا جعفر بن محمد الصوفي، حدَّثنا أحمد بن محمد بن مسروق، حدَّثنا القاسم بن الحسن، حدَّثنا محمد بن سلام، حدَّثنا خلاد بن يزيد الأرقط، حدَّثني مغلس بن بكر الأسدي، قال: كان في بني أسدٍ شابٌّ لا يكادُ يُكلِّم أحدًا كأنه معتوه، فسمعتُه يُنشد أبياتًا، فعلمت أنه مشغول عن كلام الناس ببثِّه، فسمعته يقول:
فدنوت منه ورفقت به، وسألته أن يُخبرَني بقصته فأبى، وقال: إليك عني، اشتغل بنفسك، فإن لك فيها شغلًا، ولم يُعلِم أحدًا حاله حتى قَضى.
الحب يتنفَّس ويتكلَّم
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، أنبأنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان: أنشدنا عبد الله بن شبيب لبعضهم:
عبرى مولَّهة
وأخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، حدَّثنا محمد بن الحسن بن دُرَيْد، حدَّثنا الرياشي، حدَّثنا الأصمعي، قال: مررتُ أنا وصاحب لي بجاريةٍ عند قبرٍ لم أر أحسن ولا أجمل منها، وعليها ثيابٌ نظيفةٌ وحليٌّ كثير، وهي تبكي على القبر، فلم نزل نتعجَّبُ من جمالها وزينَتِها وحزنها، فقلت: يا هذه! علامَ هذا الحزن الشديد؟ فبكت، ثمَّ أنشأت تقول:
فعجبنا منها ومن ظرفها وجمالها، واستحيينا منها، فتقدَّمنا قليلًا ثمَّ جلسنا نسمع ما تقول ولا ترانا ولا تعلم بنا، فسمعناها تقول:
فلم نزل قُعودًا حتى انصرفت واتَّبعناها حتى عرفنا موضِعها ومن هيَ، فلما خرجتُ إلى هارون الرشيد قال لي: يا أصمعي! ما أعجبُ ما رأيت بالبصرة؟ فأخبرته خبرَها، فكتب إلى صاحب البصرة أن يُمهِرَها عشرة آلاف، وتُجهَّزَ وتُحملَ إليه، فحُمِلت إلى هارون وقد سَقِمَت حُزنًا على الميت، فلما وصلت إلى المداين ماتت، فقلَّما ذكرها هارون إلا دمعت عيناه.
شنٌّ بالٍ
حزن شديد
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التَّنُوخِي قراءةً عليه، أخبرنا أبو عمر محمد العباس بن حَيُّوَيْهِ الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف، قال: روى هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، قال: استعمل مروان بن الحكم رجلًا من قريش يُقال له: محمد بن عبد الرحمن، على صَدقاتِ كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فسمع بخبر المجنون، فأمر أن يُؤتى به فسأله عن حاله، فأخبره وأنشده شعره، فأُعجِبَ به وقال له: الزمني، ووعَده أن يعمل له في أمر ليلى، فكان يأتيه في بعض الأوقات فيَتحدَّثُ عنده.
وكان لبني عامر مجتمع يجتمعون إليه في كلِّ سنة مرة، فيأكلون ويشربون يومهم، وكان الوالي يخرُجُ إليهم فيكون معهم في ذلك المجتمع لئلا يكون بينهم شرٌّ أو قتلٌ، فحضر ذلك اليوم، فقال المجنون للوالي: أتأذنُ لي في الخروج معك إلى هذا المجتمع؟ فقال له: نعم. فقيل له: إنما سألك أن يخرُج معك ليرى ليلى، وقد استعدى أهلُها عليه، فأهدر السلطان دمه إن أتاهم، فلما سمع ذلك منَعه من الخروج معه، وأمر له بقلائص من قلائصَ الصدقة، فأبى أن يقبلها، وقال:
شوق ووجد
أخبرنا التَّنُوخِي، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، حدَّثنا محمد بن خلف، قال: وأنشدني أبو علي البلدي الشاعر للمجنون:
المجنون وولي الصدقات
وأخبرنا أبو القاسم علي بن أبي علي، حدَّثنا محمد بن العباس، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثني محمد بن إسحاق، حدَّثني ابن عائشة عن أبيه، قال: وُلِّي نوفل بن مُساحق صدقات كعب بن ربيعة، فنزل بمجمعٍ من تلك المجامع، فرأيت قيس بن مُعاذ المجنون وهو يلعب بالتراب، فدنا منه فكلَّمه، وجعل يجيبه بخلاف ما يسأله عنه، فقال له رجلٌ من أهله: إن أردتَ أن يكلِّمك كلامًا صحيحًا فاذكر له ليلى. فقال له نوفل: أتُحبُّ ليلى؟ قال: نعم! قال: فحدِّثني حديثك معها! قال: فجعل ينشده شعره فيها ويقول:
وأنشد أيضًا:
وأنشد أيضًا:
فلما رأى نوفل ذلك منه أدخله بيتًا وقيَّده وقال: أُعالجه. فأكل لحم ذراعَيه وكفيه، فحلَّه وأخرجه، فكان يأوي مع الوحوش، وكانت له دايةٌ ربَّته صغيرًا، فكان لا يألف غيرها ولا يقربُ منه أحد سواها، فكانت تَخرُجُ في طلبه في البادية وتحملُ له الخبزَ والماء، فرُبَّما أكل بعضه ورُبَّما لم يأكل، فلم يزل على ذلك حتى مات.
دية فاسق
وجدت بخط أبي عمر بن حَيُّوَيْهِ، ونقلته من كتابه، حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدَّثني محمد بن سلمة الواسطي، حدَّثنا يزيد بن هارون، حدَّثنا شعبة بن الحجاج عن الحكم، أن رجُلًا كان يدخل على امرأة رَجُلٍ من جيرانه، فنهاه زوجُها عن الدخول عليها، وأشهد عليه فلم يَنتهِ، ثمَّ رآه بعد ذلك في بيته فقتله، فرُفعَ إلى مُصعَب بن الزبير، فقال: لولا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودى مثل هذا ما وديته. ثمَّ وَداه.
أبو عيشونة الشاعر
أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن علي الوراق، رحمه الله، بقراءتي عليه، حدَّثنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون، حدَّثنا أبو بكر محمد بن القاسم إملاءً، حدَّثنا أبي، حدَّثنا محمد بن محمد بن عجلان بسر من رأى، قال: خرجتُ مرَّة من المِرار إلى مدينة السلام، فدعاني صديقٌ لي ينزلُ الدور، فأقمت عنده، ثمَّ انصرفت إلى منزلي في ليلةٍ مقمرةٍ، فبينما أنا أنزِلُ شارع دار الرقيق رأيت شيخًا قصيرًا أصلع مُتَّشِحًا بإزارٍ أحمر، وبيده سِكِّينٌ خوصِيَّة، وهو يقول:
فقلت له: أحسنت. فقصد إليَّ وقال لي: لبيك: أتُريد رقيقةً؟ قلت: نعم! فقال:
ثمَّ انثنى عني ناحية، وهو يقول:
مجنون بين قبرين
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، رحمه الله، بقراءتي عليه، حدَّثنا أبو الفتح يوسف بن عمر القواس الزاهد، حدَّثنا محمد بن عمرو البختري الرزاز إملاءً، أنبأني محمد بن معاوية الزيادي، قال: رأيتُ مجنونًا يختلفُ بين قبرَين، وهو يقول:
قاتل أبيه
حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر المؤدِّب من لفظه وكتابه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إدريس رحمه الله: أنَّ أبا عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن الناصر، وهو المعروف بالمُطلَق من بني أُمية، كان يعشق جارية كان أبوه قد ربَّاها معه، وذكرها له، ثمَّ بدا له، فاستأثر بها وخلا معها، فيُقال: إنه اشتدَّت غيرتُه لذلك وانتضى سيفًا وتغفَّل أباه في بعض خلواته ليلًا فقتَله، وعُثر على ذلك، فحبسه المنصور محمد بن أبي عامر سنين، وقال في السجن أشعارًا رائقةً، ثمَّ أُطلق فلُقِّبَ بالمُطلَق. ويُقال إنه من ذلك اعتراه الجنون وكان يُصرَع.
ماني الموسوس والماجنة
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الحسن البصري بِتِنِّيس رحمه الله، حدَّثنا محمد بن الحسين البغدادي، حدَّثنا محمد بن الحسن بن الفضل، حدَّثني ابن الأنباري أبو بكر، حدَّثني محمد بن المَرْزُبان، حدَّثني أبو حفص عمر بن علي، قال: كنتُ عند بعض إخواني، فبَينا نحنُ على شرابنا وقينةٌ تُغنِّينا إذ استأذن ماني الموسوس فدخل، فأُتي بطعمٍ فأكل، وسقيناه فشرب، فحانت من بعضنا التفاتةٌ، فبصر به وقد أخرج رُقعة من جيبه فقرأها، ثمَّ طواها وقبَّلها ووضعها على عينه، ثمَّ ردَّها إلى جيبه، فقلنا: إن لهذه الرقعة لشأنًا. فلاطفناه فأخذناها، فإذا هي رُقعةٌ من ماجنةٍ من مواجن الكرخِ، قد كتبَت إليه تصف شغفها به، وأنها على حال التلف، وتُطالبه بالجواب، فلما طلب الرقعة في جيبه فلم يجدها هاج وقام، وقال: أين رُقعتي؟ فلم نزل نُسكته حتى جلس، فأنشأ يقول:
ثمَّ هاج، وقام، وحلف أن لا يجلس.
غريب يبسط عذره
وجدت بخطي في مجموع عتيق يقول: حدَّثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يزيد الوراق، حدَّثني عمي، قال: سافرتُ في طلب العلم والحديث، فلم أدع بخرَاسان بلدًا إلا دخلتُه، فلما أن دخلنا سمرقند رأيت بلدًا حسنًا أعجبني، وتمنَّيت أن يكون مُقامي فيه بقية عمري، وأقمنا فيه أيَّامًا، وعاشرتُ من أهله جماعةً، فحدثني بعضهم قال: ورد إلينا فتًى من أهل بغداد حسن الوجه، ولم يزل مُقيمًا عندنا دهرًا، وكان أديبًا، ثمَّ إنه أثرى وحَسُنت حاله، فارتحل مع الحاج إلى العراق، وكان هويَ فتًى من أولاد الفقهاء وله معه مواقفُ وأقاصيص، وله فيه أيضًا أشعارٌ كثيرة يحفظها أهل البلد، فخرج يومًا معه إلى البستان للنزهة، وأقاما يومهُما، فخرجتُ في غد ذلك اليوم واجتزتُ بالبستان فدخلته، فإني لأطوِّفُه إذ قرأت على حائطِ مجلسٍ مكتوبًا فيه:
وتحته مكتوبٌ: الغريب يَبسط العذر بالقولِ والفعل لاطِّراحه المراقبة وأمنِه في هفواته من المعاتبة.
الشيطان واستراق السمع من السماء
تصرعه الجنِّيَّة
فقلت: يا سوداء! ما علامة المُحبِّ؟ وإذا رجلٌ قد صُرِع بالقرب منها، فنظرت إليَّ وإلى الرجل وقالت: يا بطَّال! علامة المُحب الصادق لله في حبِّه أن يقول لهذا المجنون: قُم فيقوم. فإذا الرجل قد قام، وإذا الجنية تقول لها على لسانه: وحقِّ صدِقِ حُبِّك لربِّك لا رجعتُ إليه أبدًا.
الجنِّي العاشق
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، رحمه الله، بقراءتي عليه، حدَّثنا أبو الحسن أحمد بن عمران الجندي، حدَّثنا عبد الله بن سليمان، حدَّثنا الوليد بن طلحة، حدَّثنا ابن وهب عن عمر بن محمد عن سالم، يعني ابن عبد الله بن عمر، أخبرني واقد أخي، أن جِنيًّا عَشِقَ جاريةً لا أعلمُه إلا قال: منهم أو من آلِ عمر، قال: وإذا في دارهم ديك. قال: فكلَّما جاءها صاح الديك فهرَب، فتمثَّل في صورة إنسان، ثمَّ خرج حتى لقيَ شيطانًا من الإنس، فقال: اذهب فاشترِ لي ديكَ بني فلان بأي ثمنٍ كان، فأتني به في مكان كذا، فذهب الرجلُ فأغلى لهم في الديك فباعوه. فلما رآه الديك صاح، فهرب وهو يقول: اخنقْه، فخنقه حتى صُرِع الديك، فجاءه فحكَّ رأسه، فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى صُرِعتِ الجارية.
مس الإنسي كمس الجني
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي رحمه الله، سمعتُ أبا الحسن الجهضمي الهمذاني بمكة يقول في المسجد الحرام: سمعتُ الخالدي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: إذا تمكَّن الذِّكر في القلب، وقويَ سلطانه فلا يأمنه العدوُّ، ويُصرعُ به كما يُصرَعُ الإنسي إذا مسَّه الجني، فتمرُّ به الجن فيقولون: ما بالُ هذا؟ فيقال مسَّه الإنسي.
عفا الله عن ليلى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءةً عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف، قال: وقال العمري عن عطاء بن مصعب: خرج المجنون مع قومٍ في سَفرٍ، فبَينا هم يسيرون إذا اتَّسَعَت لهم طريقٌ إلى الماء الذي كانت عليه ليلى، فقال المجنون لأصحابه: إن رأيتم أن تحطُّوا وترعوا وتنتظروني حتى آتي الماء؟ فأبَوا عليه وعذلوه، فقال لهم: أنشُدُكم الله لو أن رجُلًا صَحِبكم وتحرَّم بكم فأضلَ بعيره، أكنتم مُقيمين عليه يومًا حتى يطلبَ بعيرَه؟ قالا: نعم! قال: فوالله لليلى أعظمُ حُرمةً من البعير. وأنشأ يقول:
قال: فأقاموا عليه حتى مضى ورجع.
الحب المجرم
ذكر أبو بكر محمد بن الحسن بن دُرَيْد، أخبرنا الفضل بن محمد العلاف، قال: لما قدم بُغا ببني نُمير أسرى كنتُ كثيرًا ما أصيرُ إليهم، فلا أعدم أن ألقى منهم الفصيح. فجئتهم ذات يوم في صبيحة ليلة قد كانوا مُطروا فيها، وإذا شابٌّ جميلٌ قد نَهَكَه المرضُ وليس به حراكٌ وهو يُنشدُ:
فقلت: يا فتى! إن في دون ما بك ما يَشغَلُ عن قول الشعر. قال: أجل، ولكن البرق أنطقني. ثمَّ اضطجع فمات، فما يُتَّهم عليه إلا الحُبُّ.
عبد الملك والغلام العاشق
فغنَّت، فخرج الغلام بجميع ما كان عليه من الثياب تخريقًا. ثمَّ قال له عبد الملك: مُرها تُغنِّك الصوت الثاني! فقال: غنِّيني بشعرِ جميلٍ:
قال: فغنَّته الجارية، فسقط الغلام مغشيًّا عليه ساعةً، ثمَّ أفاق، فقال له عبد الملك: مُرْها فلتُغنِّك الصوت الثالث! فقال: يا جارية، غنِّيني بشعر قيس بن الملوَّح المجنون:
فغنَّته الجارية، فطرح الغلام نفسه من المُستشرَفِ فلم يصل إلى الأرض حتى تقطعَّ، فقال عبد الملك: ويحه لقد عجَّل على نفسه، ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل. وأمر، فأُخرجت الجارية من قصره، ثمَّ سأل عن الغلام، فقالوا: غريبٌ لا يُعرَفُ إلا أنه منذ ثلاثٍ يُنادي في الأسواق ويده على رأسه:
تصافح الأكف والخدود
أنبأنا القاضي أبو الحسين بن المهتدي، أنشدنا أبو الفضل محمد بن الحسين بن الفضل بن المأمون، أخبرنا أبو بكر بن الأنباري: أنشدني إبراهيم بن عبد الله الورَّاق لمحمد بن أمية، وأنشدنيها أبي لغيره من المحدِّثين:
قال: وفي رواية أبي رحمه الله:
مخافة الواشي
وبالإسناد أخبرنا أبو بكر، أنبأنا أبي: أنشدنا أحمد بن عبيد:
فراق أم تلاق؟
أخبرنا الأمين العدل أبو الفضل أحمد بن الحسن قراءةً عليه، حدَّثنا أبو الحسين محمد بن الحسن الأصبهاني، سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد بن إسحاق الشاهد يقول: ودَّعت أبا عبد الله نِفْطوَيْهِ، فقال لي: إلى أين؟ فقلت: إلى العراق. فقال: وأيُّ العراق؟ قلت: الأهواز. فأنشدني:
جناية السبع على عاشقين
ذكر أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، ونقلته من خطه، أن أبا بكر محمد بن خلف حدَّثهم: حدَّثني أبو أحمد عبد الله محمد الطالقاني، حدَّثني محمد بن الحارث الرازي، أخبرني أحمد بن عمر الزهري، حدَّثني عمي عن أبيه، قال: خرجتُ في نشدان ضالَّة لي، فأواني المبيتُ إلى خيمة أعرابي، فقلت: هل من قِرًى؟ فقال لي: انزِل! فنزلتُ، فثنى لي وسادةً وأقبل عليَّ يُحدِّثُني، ثمَّ أتاني بقِرًى فأكلت.
فبَينا أنا بين النائم واليقظان إذا بفتاة قد أقبلت لم أرَ مثلها جمالًا وحُسنًا، فجلست وجعلت تُحدِّثُ الأعرابي ويُحدِّثُها ليس غير ذلك حتى طلع الفجر، ثمَّ انصرفت. فقلت: والله لا أبرح موضعي هذا حتى أعرف خبر الجارية والأعرابي.
قال: فمضَيتُ في طلب ضالتي يومًا، ثمَّ أتيته عند الليل، فأتى بقِرًى، فبينا أنا بين النائم واليقظان وقد أبطأت الجارية عن وقتها قلقَ الأعرابي، فكان يذهب ويجيء وهو يقول:
ثمَّ أتاني فأنبهني، ثمَّ قال لي: إن خِلَّتي التي رأيتَ بالأمس قد أبطأت عليَّ، وبيني وبينها غيضةٌ، ولستُ آمن السبع عليها، فانظر ما ها هنا حتى أعلم عِلمَها. ثمَّ مضى فأبطأ قليلًا، ثمَّ جاء بها يحملها، وإذا السبع قد أصابها، فوضعها بين يديَّ ثمَّ أخذ سيفه ومضى، فلم أشعر إلا وقد جاء بالأسد يجرُّه مقتولًا. ثمَّ أنشأ يقول:
ثمَّ أقبل عليَّ فقال: هذه ابنة عمي، كانت من أحب الناس إليَّ، فمنعني أبوها أن أتزوجها، فزوَّجها رجلًا من أهل هذه الأبيات، فخرجتُ من مالي كله ورضيتُ بالمقام ها هنا على ما ترى، فكانت إذا وجدت خلوةً أو غفلة من زوجها أتتْني، فحدَّثتني وحدَّثتُها كما رأيت ليس شيء غيره، وقد آليت على نفسي أن لا أعيش بعدها، فأسألك بالحرمةِ التي جرَت بيني وبينك إذا أنا مُتُّ فلفِّفني وإياها في هذا الثوب، وادفنَّا في مكاننا هذا، واكتُب على قبرِنا هذا الشعر:
ثمَّ اتَّكأ على سيفه فخرج من ظهره، فسقط ميِّتًا. فللففتُهما في الثوب وحفرت لهما، فدفنتهما في قبرٍ واحدٍ وكتبت عليه كما أمرني.
في الدنيا وفي الآخرة
قال ابن المَرْزُبان: وحدثني سعيد بن يحيى القرشي، حدَّثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحاق، عن أبيه عن أشياخ من الأنصار، قالوا: أُتيَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُحُدٍ بعبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح قتيلَين، فقال: ادفنوهما في قبر واحد، فإنهما كانا متصافيين في الدنيا.
مات على الجبل
قال: وذكر أبو الحسن المدايني عن محمد بن صالح الثقفي، أن بعض الأعراب عشقَ جاريةً من حيِّه، فكان يتحدَّثُ إليها، فلما علم أهلُها بمكانه ومجلسه منها تحمَّلوا بها، فتبعَهم ينظر إليهم، ففُطنَ به، فلما علم أنه قد فُطن به انصرف وهو يقول:
قال: ثمَّ وقف على جبلٍ ينظر إليهم ماضيين، فلما غابوا عن عينه خرَّ ميِّتًا.
ليلى الغريبة
ذكر أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ ونقلته من خطه، أن أبا بكر محمد بن خلف حدَّثهم: أخبرني عبد الله بن أبي عبد الله القرشي، قال: وجدتُ في كتاب بعض أهل العلم أن الهيثم بن عدي حدَّثهم عن رجل من بني نهد، قال: كان رجلٌ مِنَّا يُقال له مُرة تزوَّج ابنة عمٍّ له جميلة يُقال لها ليلى، وكان مُستهامًا بها، فضُربَ عليه البَعثُ إلى خُراسان فكره فراقها، واشتدَّ عليه، ولم يجد من ذلك بُدًّا، فقال لها: أكره أن أُخلِّفَك وقلبي مُتعلِّق بك. قالت: اصنع ما شئت. فمرَّ براذان وبها رجل من قومه له شرفٌ وسؤددٌ، فذكر حاله، وأمر امرأته وقال: أُخلِّفها عند عيالك وأهلك حتى أَقدمَ. قال: نعم! فأخلوا لها منزِلًا، فقرأ ثمَّ تعجَّل، فلما صار براذان جلس قريبًا من القصر الذي كانت فيه امرأته حتى يُمسي، وكره أن يدخل نهارًا. فخرجت جارية من القصر فقال لها: ما فعلت المرأة التي خلفتها عندكم؟ قالت: أما ترى ذلك القبر الجديد؟ قال: بلى! قالت: فإن ذلك قبرها. فلم يُصدِّق حتى خرجت أخرى، فسألها فقالت له مثل ذلك، فأتى القبر فجعل يبكي ويتمرَّغُ عليها ويرثيها، فقال:
ولم يزل يبكي حتى مات فدُفن إلى جنبها.
يسائلني عن علتي وهو علتي
أخبرنا أبو محمد أحمد بن علي بن الحسن بن الحسين بن أبي عثمان فيما أجاز لنا، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى القرشي، حدَّثنا أبو بكر بن الأنباري، حدَّثنا محمد بن المَرْزُبان، حدَّثنا محمد بن هارون المقري، حدَّثنا سعيد بن عبد الله بن راشد، قال: علقتْ فتاةٌ من العرب فتًى من قومها، وكان الفتى عاقِلًا فاضِلًا، فجعلَت تُكثر التردد إليه تسأله عن أمور النساء، وما في قلبها إلا النظر إليه واستماع كلامه، فلما طال ذلك عليها مَرضت وتغيَّرت، واحتالت في أن خلا لها وجهُه وقتًا، فتعرَّضت له ببعض الأمر فصرفها ودفعها عنه، فتزايَد بها المرض حتى سقطت على الفراش، فقالت له أمه: إن فلانة قد مرضت ولها علينا حق. قال: فعُوديها وقولي لها: يقول لك ما خبرُك؟ فصارت إليها أمه، فقالت لها: ما بك؟ قالت: وجعٌ في فؤادي هو أصل عِلَّتي. قالت: فإن ابني يقول لك ما علَّتُك؟ فتنفَّست الصُّعَدَاء وقالت:
فانصرفت أمه إليه فأخبرته وقالت له: قد كنتُ أحبُّ أن نسألها المصير إلينا لنقضي حقَّها ونَلي خدمتها. قال: فسليها ذلك. قالت: قد أردتُ أن أفعله ولكن أحببتُ أن يكون عن رأيك. فمضت إليها، فذكرَت لها ذلك عنه، فبكت وقَبِلت، ثمَّ أنشأت تقول:
فألحَّت عليها فأبت، وترامت العلَّة بها، وتزايد المرض حتى ماتت.
أين الشفاء من السقم
أخبرنا القاضي الشريف أبو الحسين بن المهتدي إن لم يكن سماعًا فإجازةً، أخبرنا الشريف أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل الهاشمي، أنبأنا أبو بكر بن الأنباري، قال: أنشدنا محمد بن المَرْزُبان:
قوت النفس
وبالإسناد: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري لأحمد بن يحيى:
المتصبر الجاهد
قال: وزادَنا أبو الحسن بن البراء:
على قبر ابن سُريج
فلما أتى عليها نزل صاحبه فعقر ناقته، وهو رجلٌ من جُذام، يُقال له عُبيد الله بن المنتشر، فاندفع يتغنَّى عند الخلوات:
قال ابن أبي دباكل: فوالله ما أتم منها ثالثًا حتى غشيَ على صاحبه ومضى غير معرِّج عليه، حتى إذا فرغ جعل ينضح الماء في وجهه ويقول: أنت أبدًا منصوبٌ على نفسك من كلفاتِ ما ترى. فلما أفاق قَرَّبَ إليه الفرس، فلما علاه استخرج الجُذامي من خُرْجٍ على البغل قدحًا وإداوة، فجعل في القدح تُرابًا من تُرابِ القبر، وصب عليه ماء، ثمَّ قال: هاك! فاشرَب، هذه السلوة، فشرِبَ، ثمَّ جَعلَ الجُذاميُّ مثل ذلك لنفسه، ثمَّ نزل على البغل وأردفني فخرجنا، لا والله ما يُعرِّجان ولا يُعرِّضان بذكر شيءٍ مما كانا فيه، ولا أرى في وُجوههما مما كنتُ أرى قبلُ شيئًا.
قال: فلما اشتمل علينا أبطحُ مكة مَدَّ يَدَهُ إليَّ بشيءٍ، وإذا عشرون دينارًا، فوالله ما جلستُ حتى ذهبت ببعيري، واحتملت أداة الراحلتين، فبِعتُهما بثلاثين دينارًا.
قاتل الله الأعرابي ما أبصره!
فسألت عنه، فقيل: ذو الرُّمَّة. فأصابتْني بعد ذلك مصائب، فكنت أبكي وأجِدُ لذلك راحة. فقلت: قاتل الله الأعرابي ما كان أبصره!
لسان كتوم ودمع نموم
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال، رحمه الله، بقراءتي عليه، سمعت أحمد بن محمد بن عروة يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: كان الجُنَيد يقول:
الشعر حسن وقبيح
ومما وجدته بغير سند في مجموعات بعض أهل العلم، قال: وقف شيخٌ من العَرَبِ على مِسعَر بن كُدام وهو يصلي، فأطال، فلما فرغ قال له الأعرابي: خذ من الصلاة كفيلًا! فتبسَّم وقال له: يا شيخ! خذ فيما يُجدي عليك، كم تعدُّ من سنيك؟ قال: مائة وبضع عشرة سنة. فقال له: في بعضها ما يكفي واعظًا، فاعمل لنفسك. فأنشأ الأعرابي يقول:
فقال له مسعر: أُفٍّ لك من شيخ! فقال: والله ما بأخيك حَرَاكٌ منذ أربعين سنة، لكنه بحرٌ يجيشُ من زَبَده. فضحكَ مسعرٌ وقال: إنَّ الشِّعْرَ كَلامٌ، فَحسنُهُ حَسَنٌ، وقُبْحُهُ قَبِيحٌ.
عديني وامطُلي
أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المُحسن التَّنُوخِي، رحمه الله، للشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الطاهر أبي أحمد الحسين بن موسى المُسوي:
البين صعب على الأحباب
وأخبرَنا القاضي، أنشدنا الثقة بحضرة المرتضى:
قتلها الجوى
ذكر أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ ونقلته من خطه، حدَّثنا أبو بكر محمد بن خلف، أخبرني أبو العلاء القيسي، حدَّثنا أبو عبد الرحمن العائشي، أخبرني أبو منيع عبدٌ لآل الحارث بن عبيد، قال: رأيت شيخًا من كَلْبٍ قاعدًا على رأس هضبة، فملتُ إليه، فإذا هو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: رحمةٌ لجاريةٍ مِنَّا كانت تحبُّ ابن عمٍّ لها، وكان أهلُها بأعلى وادٍ بكلب، فتزوَّجها رجلٌ من أهل الكوفة، فنقلها إلى الكوفة، فقتَلها الجوى وبلغ منها الشوقُ، فأوت في علية لها فغنَّت بهذا الشعر:
ثمَّ قُبضَت مكانها.
غراب البَيْن ناقة أو جمل
أخبرنا أبو إسحاق الحبال في ما أذن لنا في روايته، أخبرنا أبو الفرج محمد بن عمر الصدفي، حدَّثنا أبو الفتح بن سنحت، حدَّثنا أبو عبد الله الحكيمي: أنشدني عون عن أبيه لأبي الشيص:
الدنو الفاضح
وبإسناده قال: وأنشدنا لنفسه:
الحَرَّاث الشاعر
أنبأنا أبو بكر الخطيب إن لم يكن حدَّثنا، أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد بن إبراهيم قراءةً عليه، حدَّثنا أبو الحسن علي بن الحسن الرازي، حدَّثنا أبو علي الحسين بن علي الكوكبي الكاتب، حدَّثنا أبو العباس المبرد، قال: قال لي الجاحظ: أنشدني أكَّارٌ بالمصيصة لنفسه:
لم يطُل ليلي
وبإسناده أنشدنا أبو علي لبشار:
عقوبة الغراب
أخبرنا أبو إسحاق الحبال، رحمه الله، فيما أجاز لنا، أخبرنا أبو الفرج محمد بن عمر الصدفي، أخبرنا أبو علي الحسين بن علي بن محمد بن رحيم، أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن زوزان، حدَّثنا أبو زيد، أخبرنا إبراهيم بن الأزهر عن عبد الله بن محمد، قال: مررتُ في بعض سكك البصرة، فسمعتُ استغاثة جاريةٍ تُضرَبُ، فتيممَّت الأبواب حتى وقفتُ على الباب الذي يَخرُجُ منه الصوت، فقلت: يا أهل الدار! أما تتَّقون الله؟ علامَ تضربون جاريتكم؟ فقيل لي: ادخُل. فدخلت، فإذا امرأةٌ كأن عنقها إبريقُ فضة جالسة على منصَّة، وبين يديها غرابٌ مشدودٌ، وفي يدها عصًا تَضربه بها. قال: فكلما ضربت الغراب صاحت الجارية، فقلت: ما شأنُ هذا الغراب؟ فقال لي: أما سمعت قول قيس بن ذَريح حيثُ يقول:
ألا وقع كما أمره؟ فقلت: إن هذا الغراب ليس هو ذاك الغراب. فقالت: نأخذ البريء بالسقيم حتى نَظفر بحاجتنا.
موت عروة بن حزام
حدَّث أبو القاسم منصور بن جعفر بن محمد الصيرفي، حدَّثنا عبد الله بن جعفر عن المبرد، أخبرني مسعود بن بشر الأنصاري، قال: وليتُ صدقات عذرة، فصرت إلى بلدهم، فإذا بشيءٍ يختلجُ تحت ثوب، فأقبلت فكشفت عنه، فإذا رجلٌ لا يُرى منه إلا رأسه، فقلت: ويحك! ما بك؟ فقال:
قال: ثمَّ تنفَّس حتى ملأ ثوبه الذي كان فيه، ثمَّ خمد، فنظرت فإذا هو قد مات. فلم أرمْ حتى أصلحتُ من شأنه وصلَّيتُ عليه، فقال لي رجلٌ: أتدري من هذا؟ قلت: لا! قال: هذا عروة بن حزام.
عيش غضٍّ وزمان مطاوع
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ بدمشق، أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا الجريري، حدَّثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: كنتُ عند ثعلبٍ جالسًا، فجاءه محمد بن داود الأصبهاني، فقال له: أها هنا شيءٌ من صَبوَتك؟ فأنشده:
فتوى في الحب
وأخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو نعيم الحافظ، حدَّثنا سليمان بن أحمد الطبراني، أخبرني بعض أصحابنا، قال: كتب بعضُ أهلِ الأدب إلى أبي بكر بن داود الفقيه الأصبهاني:
فأجابه ابن داود:
أبو العتاهية يعاتب عُتبة
أخبرنا القاضي الشريف أبو الحسين بن المهتدي، رحمه الله، إجازةً، حدَّثنا الشريف أبو الفضل بن المأمون، حدَّثنا أبو بكر بن الأنباري، أنشدنا محمد بن المَرْزُبان: أنشدني الحسن بن صالح الأسدي لأبي العتاهية:
وفيها أبيات اختصرتها.
يا حبذا بلدًا حلَّته
أخبرنا أبو القاسم عُبيد الله بن عمر بن شاهين، حدَّثني أبي، حدَّثنا محمد بن الحسن بن دُرَيْد الأزدي: حدَّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه يعني الأصمعي لنائل بن أبي حليمة أحد بني بَزوَان من بني أسد:
قتيلهن شهيد
ووجدت على ظهر جزء من شاهدَين هذين البيتين:
عاشق لي أو لمن؟
أنبأنا الرئيس أبو علي محمد بن وشاح الكاتب، أخبرنا المعافى بن زكريا الجريري إجازةً، حدَّثنا محمد بن محمد بن يحيى الصولي، حدَّثنا عون بن محمد الكندي، قال: خرجتُ مع محمد بن أبي أمية إلى ناحية الجسر ببغداد، فرأى فتًى من أولاد الكتَّاب جميلًا، فمازحه، فغضبَ وهدَّده، فطلب من غلامه دواته وكتب من وقته:
ثمَّ دَفَعَ الرقعة إليه، فاعتذر وحلَف أنه لم يعرفه.
أبو العتاهية وعتبة
أخبرنا القاضي أبو الحسين بن المهتدي، رحمه الله، إجازةً إن لم يكن سماعًا، حدَّثنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل الهاشمي، أنشدنا أبو بكر بن الأنباري، حدَّثني محمد بن المَرْزُبان، حدَّثني إسحاق بن محمد، حدَّثنا محمد بن سلام، قال: قَدِمَ أبو العتاهية من الكوفة إلى بغداد، وهو خاملُ الذكرِ لا يُعرَف، فمدح المهديَّ بشعر، فلم يجد من يُوصِلُه إليه، فكان يطلب سببًا يشتهرُ به، ويُعرَفُ من جهته فيُوصِّله إلى المهدي، فاجتازت به يومًا عُتبةُ راكبةً مع عدة من جواريها وحَشَمِها، فكلَّمها واستوقفها، فلم تكلِّمه ولم تقف عليه، وأمرت غلمانها بتنحيَتِه، فأنشأ يقول:
البيت يعرفُهن لو يتكلم
وبإسناده: أنشدني أبي وأبو الحسن بن البر لعُمَر بن أبي ربيعة:
الحب لا يعلق إلا الكرام
أخبرنا القاضي أبو الحسين بن المُهتدي فيما أجاز لنا، حدَّثنا الشريف أبو الفضل محمد بن الحسين بن الفضل الهاشمي، حدَّثنا أبو بكر بن الأنباري، حدَّثني أبي، حدَّثنا الحسن بن عبد الرحمن، حدَّثنا محمد بن أبي أيوب: اجتمع أبو نواس والعبَّاس بن الأحنَف، فاستنشَد أبو نواس العبَّاس، فأنشده:
ومرَّ في أبيات كثيرة أول كل بيت سيِّدتي سيِّدتي، فقال أبو نواس: لقد خضَعت هذه المرأة خضوعًا ظننتُ معه أنك تموت قبل تمام القصيدة.
يزيد بن معاوية وعمارة المغنية
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، إن لم يكن سماعًا فإجازةً، حدَّثنا المعافى بن زكريا الجريري، حدَّثنا أبو النضر العقيلي، حدَّثني عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم، عن أبي بكر العجلي، عن جماعة من مشايخ قريش من أهل المدينة، قالوا: كانت عند عبد الله بن جعفر جارية مُغنِّية يُقال لها عُمارة، وكان يجدُ بها وجدًا شديدًا، وكان لها منه مكانٌ لم يكن لأحد من جواريه، فلمَّا وفد عبد الله بن جعفر على معاوية خرج بها معه فزاره يَزيد ذات يوم، فأخرَجها إليه، فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه، فأخذه عليها ما لا يملكه، وجعل لا يمنعه من أن يبوح بما يَجِدُ بها إلا مكانُ أبيه مع يأسه من الظفر بها، فلم يزل يُكاتمُ الناس أمرها إلى أن مات معاوية، وأفضى الأمر إليه، فاستشار بعض من قَدِمَ عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها، وكيف الحيلة فيها، فقيل له: إن أمر عبد الله بن جعفر لا يُرام، ومنزلته من الخاصة والعامة ومنك ما قد علمت، وأنت لا تستجيزُ إكراهه، وهو لا يبيعها بشيءٍ أبدًا، وليس يُغني في هذا إلا الحيلة.
فقال: انظُروا لي رَجُلًا عراقيًّا له أدَبٌ وظرْفٌ ومعرفةٌ. فطلبوه فأتوه به، فلما دخل رأى بيانًا وحلاوةً وفهمًا، فقال يزيد: إنِّي دعوتك لأمرٍ إن ظفرتَ به فهو حظ آخر الدهر ويدٌ أكافئك عليها إن شاء الله. ثمَّ أخبره بأمره، فقال له: عبد الله بن جعفر ليس يُرام ما في قلبه إلا بالخديعة، ولن يقدر أحدٌ على ما سألت، فأرجو أن أكونَه، والقوة بالله، فأعني بالمال. قال: خذ ما أحببت.
فأخذ من طُرَفِ الشام وثياب مصر، واشترى متاعًا للتجارة من رقيقٍ ودواب وغير ذلك، ثمَّ شخص إلى المدينة، فأناخ بعَرصَةِ عبد الله بن جعفر، واكترى منزلًا إلى جانبه، ثمَّ توسَّل إليه وقال: إنِّي رجلٌ من أهل العرَاق قدمتُ بتجارةٍ وأحببتُ أن أكون في عز جوارِك وكنفِك إلى أن أبيعَ ما جئتُ به، فبعث عبد الله بن جعفر إلى قهرَمانه أن أكرِم الرجل، ووَسِّع عليه في نزوله.
فأمر عبد الله بقبضِ هديته وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مرَّ بالعراقي في منزله، فقام إليه وقبَّل يده، واستكثر منه، فرأى أدبًا وظرْفًا وفصاحةً، فأُعجِبَ به وسُرَّ بنزُوله عليه، فجعل العراقي في كل يومٍ يبعثُ إلى عبد الله بُلطَفٍ تُطرِفُه، فقال عبد الله: جزى اللهُ ضيفَنا هذا خيرًا، فقد ملأَنا شكرًا، وما نقدرُ على مكافأته.
فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله، ودعا بعُمارَةَ في جواريه، فلما طاب لهما المجلس وسمع غناء عمارة تعجَّب وجعل يَزيدُ في عجبه، فلما رأى ذلك عبد الله سُرَّ به إلى أن قال له: هل رأيتَ مثل عُمارَة! قال: لا والله يا سيِّدي، ما رأيتُ مثلها، وما تصلُحُ إلا لك، وما ظننتُ أن يكونَ في الدنيا مثل هذه الجارية حسن وجه وحسنُ عمل. قال: فكم تُساوي عندك؟ قال: ما لها ثمنٌ إلا الخلافة. قال: تقول هذا لتُزيِّن لي رأيًا فيها وتَجتلب سُروري. قال له: يا سيِّدي، والله إنِّي لأُحب سرورك، وما قلت لك إلا الجد، وبعدُ؛ فإني تاجرٌ أجمع الدرهم إلى الدرهم طلبًا للربح، ولو أعطيتَها بعشرة آلاف دينار لأخذتُها. فقال له عبد الله: عشرة آلاف؟ قال: نعم! ولم يكن في ذلك الزمان جاريةٌ تُعرفُ بهذا الثمن. فقال له عبد الله: أنا أبيعُكها بعشرة آلاف. قال: قد أخذتُها. قال: هي لك. قال: قد وجب البيع. وانصرف العراقي.
فلما أصبح عبد الله لم يَشعر إلا بالمال قد جيء به، فقيل لعبد الله: قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار. وقال: هذا ثمن عُمارة، فردَّها، وكتب إليه: إنما كنتُ أمزح معك، ومما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها. فقال له: جُعلت فداءك! إن الجد والهزل في البيع سواء. فقال له عبد الله: ويحك! ما أعلم جاريةً تُساوي ما بذلت، ولو كنتُ بائعها من أحد لآثرتُك، ولكني كنت مازِحًا، وما أبيعها بملك الدنيا لحُرمتها بي وموضعها من قلبي. فقال العرابي: إن كنتَ مازحًا فإني كنتُ جادًّا، وما اطَّلَعتُ على ما في نفسك، وقد ملكت الجارية وبعثت إليك بثمنها، وليست تحلُّ لك، وما لي من أخذها من بُدٍّ. فمانَعه إيَّاها، فقال له: ليست لي بيِّنة، ولكن أستحلِفُك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله ومنبره.
فلما رأى عبد الله الجد قال: بئس الضيفُ أنت، ما طرَقنا طارِقٌ ولا نزل بنا نازِلٌ أعظم بليَّة منك، أتُحلِّفني فيقول الناس: اضطهد عبد الله ضيفَه وقهره وألجأه إلى أن استحلفَه؟ أما والله ليعلمنَّ الله عز وجل أني سأُبليه في هذا الأمر الصبر وحسن العزاء.
ثمَّ أمر قَهرَمانه بقبض المال منه وبتجهيز الجارية بما يُشبهُها من الخدم والثياب والطيب، فجُهِّزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، وقال: هذا لك ولك عِوَضُها مما ألطفتنا، والله المستعان.
فقبض العراقي الجارية وخرج بها، فلما برز من المدينة قال لها: يا عُمارة! إنِّي والله ما ملكتُكِ قطُّ ولا أنت لي، ولا مثلي يشتري جاريةً بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأَقدُمَ على ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلبه أحبَّ الناس إليه لنفسي، ولكني دسيسٌ من يزيد بن معاوية، وأنتِ له وفي طلبك بعثَ بي، فاستَتري مني، وإن داخلني الشيطان في أمرك أو تاقت نفسي إليك فامتنعي.
ثمَّ مضى بها حتى ورَد دمشق، فتلقَّاه الناس بجنازة يزيد، وقد استُخلف ابنه معاوية بن يزيد، فأقام الرجل أيَّامًا ثمَّ تلطف للدخول عليه فشرح له القصة، ويُروى أنه لم يكن أحد من بني أمية يُعدَل بمعاوية بن يزيد في زمانه نُبلًا ونُسكًا، فلما أخبره قال: هي لك وكل ما دفَعه إليك من أمرها فهو لك، وارحل من يومك، فلا أسمع بخبرك في شيء من بلاد الشام.
فرحل العراقي ثمَّ قال للجارية: إنِّي قلت لك ما قلت حين خرجتُ بك من المدينة، فأخبرتك أنك ليزيد، وقد صرتِ لي، وأنا أشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر، وإني قد رددتُك عليه، فاستتري مني.
ثمَّ خرج بها حتى قدم المدينة، فنزل قريبًا من عبد الله، فدخل عليه بعض خدمه فقال له: هذا العراقي ضيفُك الذي صنَع بنا ما صنع، وقد نزل العرصة لا حيَّاه الله. فقال عبد الله: مَه! أنزلوا الرجل وأكرموه.
فلما استقر بعث إلى عبد الله: جُعلت فداءك! إن رأيت أن تأذن لي أذنة خفيفةً لأُشافهَك بشيء فعلت. فأذن له، فلما دخل سلَّم عليه وقبَّل يده، فقرَّبه عبد الله، ثمَّ اقتص عليه القصة، حتى إذا فرغ قال: قد والله وهبتُها لك قبل أن أراها وأضع يدي عليها، فهي لك ومردودةٌ عليك، وقد علم الله تعالى أني ما رأيتُ لها وجهًا إلا عندك. فبعث إليها، فجاءت وجاء بما جهَّزها به موفَّرًا، فلما نظرت إلى عبد الله خرَّت مغشيًّا عليها، وأهوى إليها عبد الله فضمَّها إليه.
وخرج العراقي وتصايح أهل الدار: عُمارة عُمارة. فجعل عبد الله يقول ودموعه تجري: أحُلمٌ هذا، أحَقٌّ هذا؟ ما أُصدِّق بهذا. فقال له العراقي: جُعلت فداءك! قد ردَّها عليك إيثارُك الوفاء وصبرُك على الحق وانقيادك له. فقال عبد الله: الحمد لله، اللهم إنك تعلم أني تصبَّرتُ عنها وآثرت الوفاء وأسلمتُ لأمرِك، فرددتَها عليَّ بمنك، فلك الحمد! ثمَّ قال: يا أخا العراق، ما في الأرض أعظمُ منَّةً منك، وسيجازيك الله تعالى.
وأقام العراقي أيَّامًا، وباع عبد الله غنمًا له بثلاثة عشر ألف دينار، وقال لقهرمانه: احملها إليه، وقل له: اعذر، وعلم أني لو وَصَلتُك بكل ما أملك لرأيتك أهلًا لأكثر منه. فرحل العراقي محمودًا وافر العرض والمال.
سُكينة وعروة بن أذينة
وأخبرنا محمد، حدَّثنا المعافى، حدَّثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدَّثنا محمد بن يحيى النحوي، حدَّثنا عُبيد الله بن شبيب عن عمر بن عثمان، قال: مرَّت سُكينة بعُروَة بن أُذينة، وكان تنسَّك، فقالت له: يا أبا عامر! ألست القائل:
أولست القائل:
ثمَّ قالت: هؤلاء أحرارٌ إن كان هذا خرَج من قلبٍ سليمٍ.
رُقية حِميَرِيَّة
وجدت بخطِّ شيخي أبي عبد الله الحسين بن الحسن الأنماطي في مجموع له بخطِّه، قال: وحكى بعضُهم عن شيخ من أهل اليَمَن أنه وجد في كتابه بالمُسند — وهي لغةُ حِميَر — كلامًا كانت حِميَر كلامًا تَرقي به العاشق فيَسلون. وهو:
قال: فحدَّثتُ بهذا الحديث كاهنةً كانت هناك، فلما كان من غدِ ذلك اليوم لقيتَني فقالت: إنِّي رأيتُ البارحة الشعرَ يحتاجُ أن يُقلَبَ كلامه وحروفه حتى يسلو به العاشق. قلت: فكيف يُقلب كلامه؟ قالت: يقول: مَرْوعًا بالفراق فؤادك تركَتْ صنيعًا إليك سلمى. أحسنَتْ ما.
أمثلُ هذا يبتغي وصلنا؟
أخبرنا أحمد بن علي الوراق بصور، حدَّثنا أبو الحسن علي بن الحسين بن أحمد التغلبي بدمشق، حدَّثنا عبد الرحمن بن عمر بن نصر، حدَّثنا الزجاجي، حدَّثنا الأخفش، حدَّثني أبي عن أبيه، قال: خرجتُ إلى سُرَّ مَن رأى في بعض حاجاتي، فصحِبَني رجلٌ في الطريق، فقال: ألا أُنشِدُك شيئًا من شعري؟ قلتُ: بلى. فأنشدني:
فقلت: مَن أنت؟ قال: أنا القِصافي الشاعر.
الأخوات الثلاث وكتابهن
وقالت الوسطى:
وقالت الصغرى:
وفي أسفل الكتاب مكتوب: رحم الله امرأً نظر في كتابنا، وقضى بالحق بيننا، ولم يَجُر في القضية.
قال: فأخذَ الكتاب فتًى، فكتب في أسفله:
عمر وجميل وبثينة
ثمَّ استنشده جميل، فأنشده قافيته التي أولها:
حتى بلغ إلى قوله:
فصاح جميل واستحيا، وقال: لا والله، ما أُحسنُ أن أقول مثل هذا. فقال له عمر: اذهب بنا إلى بُثينة لنتحدَّث عندها! فقال له: إن الأمير قد أهدر دمي متى جئتُها. قال: دلني على أبياتها! فدلَّه، ومضى حتى وقف على الأبيات، وتأنَّس، وتعرَّف. ثمَّ قال: يا جاريةُ، أنا عمر بن أبي ربيعة، فأعلمي بُثينة مكاني! فأعلمتْها، فخرجت إليه فقالت: لا والله يا عمر! ما أنا من نسائك اللاتي تَزْعُمُ أن قد قتَلهنَّ الوجدُ بك. قال: وإذا امرأة طوالةٌ أدماءُ حسناءُ، فقال لها عمر: فأين قولُ جميل:
فقالت له: لو استمدَّ جميلٌ منك ما أفلح، وقد قيل: اشدُد البعير مع الفرس إن تعلم جُرأته وإلا تعلَم من خَلَقَه.
العجوز وبنتها الجميلة
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي، حدَّثنا أبو القاسم إسماعيل بن سعيد بن سُوَيْد المعدل، حدَّثنا علي أبو الحسين بن القاسم الكوكبي، حدَّثنا أبو أمية الغلابي، أخبرني محمد بن أفلح السلوسي، أخبرني سوادة بن الحسين، قال: خرجتُ أنا وصاحبٌ لي نبغي ضالَّةً لنا، فألجأنا الحرُّ إلى أخبيةٍ، فدنونا من خِباءٍ منها، فإذا عجوزٌ بفنائه، فسلَّمنا، فردَّت السلام. ثمَّ جلسنا نتناشَد الأشعار، فقالت العجوز: هل فيكم من يروي لذي الرُّمَّة شيئًا؟ قلنا: نعم! قالت: قاتله الله حيث يقول:
قال: فأقبلتُ على صاحبي مُتعجِّبًا من حالها، فقالت: مِمَّ تعجَبُ؟ فقلت: من جمالك. قالت: فوالله لو رأيت بنيَّةً لي رأيتَ ما لم يخطُر على قلبك من حسن امرأة. قلت: فأرينيها! قالت: إنه يَقبحُ ذلك. قلت: إنما نريدُ أن نستتم الحديث، ولعلنا أن لا نلتقي أبدًا.
قال: فأشارت إلى جانب الخباء، فسفرَت منه جاريةٌ كأنها الشمس، فبُهتنا ننظر إليها ثمَّ أسبلت الستر، فكان آخر العهد بها.
أحيا الناس جميعًا
أنبأنا الشيخ الصالح أبو طالب محمد بن علي بن الفتح، أخبرنا أبو الحسين محمد بن أخي ميمي، حدَّثنا جعفر الخالدي، حدَّثنا أحمد بن محمد بن مسروق، حدَّثنا محمد الحسين البرجلاني، حدَّثني أشرس بن النعمان، حدَّثني الجزري، حدَّثني موسى بن علقمة المكي، قال: كان عندنا ها هنا بمكة نخَّاسٌ، وكانت له جارية، وكان يُوصَفُ من جمالها وكمالها أمرٌ عجيبٌ، وكان يُخرِجُها أيام الموسم، فتُبذلُ فيها الرغائب فيَمتنع من بيعها، ويطلب الزيادة في ثمنها، فما زال كذلك حينًا، وتسامَع بها أهل الأمصار، فكانوا يحجُّون عمدًا للنظر إليها.
قال: وكان عندنا فتًى من النُّسَّاك قد نزَع إلينا من بلده، وكان مجاوِرًا عندنا، فرأى الجارية يومًا في أيام العرضِ لها، فوقعَت في نفسه، وكان يجيء أيام العرض فينظر إليها وينصرف. فلما حُجِبَت أحزنه ذلك وأمرضه مرضًا شديد، فجعَل يذوب جسمه ويَنحل، واعتزل الناس، فكان يُقاسي البلاء طول السنة إلى أيام الموسم، فإذا خرَجت الجارية إلى العرض خَرَجَ، فنظر إليها فسكن ما به حتى تُحجَبَ. فبقيَ على ذلك سنين يَنحلُ ويَذبُلُ، وصار كالخِلال من شدة الوله وطول السقم.
قال: فدخلتُ عليه يومًا، ولم أزل به وأُلح عليه إلى أن حدَّثني بحديثه وما يُقاسيه، وسأل أن لا أُذيع عليه ذلك ولا يَسمع به أحدٌ. فرحمتُه لما يُقاسي وما صار إليه، فدخلتُ إلى مولى الجارية ولم أزل أُحادِثه إلى أن خرجتُ إليه بحديث الفتى وما يقاسي وما صار إليه، وأنه على حالة الموت. فقال: قُم بنا إليه حتى أشاهده وأنظر حاله.
فقمنا جميعًا فدخلنا عليه، فلما دخل مولى الجارية ورآه وشاهَده وشاهد ما هو عليه لم يتمالك أن رجع إلى داره، فأخرَج ثيابًا حسنة سَرِيَّة وقال: أصلحوا فلانة، ولبِّسوها هذه الثياب، واصنعوا بها ما تَصنعون لها أيام الموسم. ففعلوا بها ذلك، فأخذ بيدها وأخرجها إلى السوق، ونادى في الناس، فاجتمعوا، فقال: معاشر الناس! اشهدوا أني قد وهبتُ جاريتي فلانة لهذا وما عليها ابتغاء ما عند الله. ثمَّ قال للفتى: تسلَّم هذه الجارية فهي هَديَّةٌ مني إليك بما عليها. فجعل الناس يَعذُلونه ويقولون: ويحك! ما صنعت؟ قد بُذِلَ لك فيها الرغائب، فلم تبعها ووهبتَها لهذا؟ فقال: إليكم عني، فإني قد أحييتُ كل من على وجه الأرض، قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.
تضحية محمودة
حدَّثنا الخطيب بدمشق، أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، حدَّثنا محمد بن يعقوب الضبي، سمعت أمي تقول: سمعتُ مريم امرأة أبي عثمان تقول: صادفتُ من أبي عثمان خلوَةً فاغتنمتُها، فقلت: يا أبا عثمان! أي عملِك أرجى عندك؟ فقال: يا مريم! لما ترعرعتُ وأنا بالري، وكانوا يريدونني على التزويج فأمتنع، جاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان! قد أحببتُك حُبًّا ذهب بنومي وقراري، وأنا أسألُكَ بمُقلِّب القُلوب، وأتوسل إليك به أن تتزوَّج بي. قلت: ألك والدٌ؟ قالت: نعم، فلان الخياط في موضع كذا وكذا. فراسلتُ أباها أن يُزوِّجها إياي، ففرح بذلك وأحضر الشهود، فتزَّوجتُ بها، فلما دخلتُ بها وجدتها عوراء عرجاء مشوَّهة الخلق، فقلت: اللهمَّ لك الحمد على ما قدَّرته لي.
فكان أهل بيتي يلومونني على ذلك فأزيدها بِرًّا وإكرامًا، إلى أن صارت بحيثُ لا تدعُني أَخرُج من عندها، فتركت حضور المجلس إيثارًا لرضاها وحفظًا لقلبها. ثمَّ بقيتُ معها على هذه الحال خمس عشرة سنة، وكأني في بعض أوقاتي على الجمر، وأنا لا أبدي لها شيئًا من ذلك إلى أن ماتَت، فما شيءٌ أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي.
ابن داود وابن سريج والظهار
يكتب إلى روحه
أخبرنا الأزجي، حدَّثنا علي بن عبد الله: كتب الحسين بن منصور إلى أحمد بن عطاء، أطال الله لي حياتك، وأعدمني وفاتك على أحسن ما جرى به قدر أو نطق به خبر، مع ما أن لك في قلبي من لواعج أسرار محبَّتك وأفانين ذخائر مودَّتك ما لا يُترجمه كتابٌ ولا يُحصيه حِسابٌ ولا يُفنيه عِتابٌ. وفي ذلك أقول:
الفتى الحج والجارية المكية
وجدت بخط أبي عمر بن حَيُّوَيْهِ يقول: حدَّثنا أبو بكر محمد بن المَرْزُبان، أخبرني أبو جعفر أحمد بن الحارث، حدَّثنا أبو الحسن المدايني عن بعض رجاله، قال: حجَّ ابن أبي العَنبس الثقفي، فجاور ومعه ابنُ ابنِه، وإلى جانبهم قومٌ من آل أبي الحكم مجاورون. وكان الفتى يجلسُ مجلسًا يُشرِفُ منه على جاريةٍ، فعَشِقها، فأرسل إليها فأجابته، فكان يأتيها يتحدَّثُ إليها. فلما أراد جَدُّه الرحيل جعل الفتى يبكي، فقال له جَدُّه: ما يُبكيك يا بنيَّ، لعلك ذكرتَ مصر؟ وكانوا من أهل مصر. فقال: نعم! وأنشأ يقول:
قال: وارتحلوا. فلما خرجوا عن أبيات مكة أنشأ يقول:
ثمَّ إن الفتى اعتل، واشتدت علته، فلما وردوا أطراف الشام ماتَ فدفنه جده، ووجد عليه وَجدًا شديدًا، وقال يرثيه:
عاشق أخت زوجته
ذكر أبو عمر محمد بن العباس، ونقلته من خطه، أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، أخبرني أبو بكر العامري، أخبرني رياح بن قطيب بن زيد الأسدي، ابن أخت قريبة أم البهلول، ابنة أباق الدبيرية الأسدية، أخت الركاض بن أباق الدبيري الشاعر، عن قريبة قالت: كان لعبد المخبل — وهو كعب بن مالك، وقال غير قريبة: هو كعب بن عبد الله من بني لأي بن شاس بن أنف الناقة، وهو مِن أهل الحجاز — ابنة عمٍّ له يُقال لها أم عمرو، وكانت أحب الناس إليه، فخلا بها ذات يوم، فنظر إليها وهي واضعةٌ ثيابها، فقال لها: يا أم عمرو! هل تَرَين أن أحدًا من النساء أحسنُ منك؟ قالت: نعم! أختي ميلاءُ أحسنُ مني. قال: فكيف لي بأن تُرينيها؟ قالت: إن علمتْ بك لم تخرُج إليك، ولكن تَختبئ في الستر وأبعث إليها.
قال: ففعلَت، وأرسلَت إليها، وهو في الستر، وجاءت ميلاء، فلما نظر إليها عشقها وترك أختها امرأته، وعارَضها من مكان لا تَحتسبه، فشكا إليها حُبَّها، وأعلمها أنه قد رآها. فقالت: والله يا ابن عم! ما وجدت بي من شيء إلا قد وجدتُ منك مثله. وظنَّت أمُّ عمرو امرأته أنه قد عشِق أختها فتبعتهما وهما لا يدريان حتى رأتهما قاعدَين جميعًا، فمضت تقصد إخوتها وكانوا سبعة، فقالت: إمَّا أن تُزوِّجوا كعبًا ميلاء، وإمَّا أن تغيِّبوها عني. فلما بلغه أن ذلك قد بلَغ إخوتها هرَب، فرمى بنفسه نحو الشام وترك الحجاز. وقال وهو بالشام:
فروى هذا البيت رجلٌ من أهل الشام. ثمَّ خرج يريد مكة، فمر على أم عمرو وأختها ميلاء، وقد ضلَّ الطريق، فسلَّم عليهما، وسألهما عن الطريق. فقالت أم عمرو: يا ميلاء! صفي له الطريق، فذكر الرجل لما سمعها تقول يا ميلاء:
فتمثَّل به فعرفت الشعر، فقالت: يا عبد الله! مِن أين أنت؟ قال: أنا رجلٌ من أهل الشام. فقالت: فمِن أين رويتَ هذا الشعر؟ قال: رويته عن أعرابي بالشام. قالت: أو تدري ما اسمه؟ قال: اسمه كعب. قال: فأقسمَتا عليه أن لا يبرح حتى يراك إخوتنا فيكرموك، ويدلُّوك على الطريق فقد أنعمتَ علينا. فقال: إنِّي لأروي له شعرًا آخر، فما أدري أتعرِفانه أم لا؟ فقالتا: نسألك بالله إلا أسمعتنا إياه؟ قال: سمعته يقول:
قال: فنزل الرجل وحطَّ رحله، حتى جاءت إخوتُهُما فأخبَرَتاهم الخبر، وكانتا مُهتمتَين بكعب؛ وذلك أنه كان ابن عمِّهم وكان ظريفًا شاعرًا، فأكرموا الرجل ودلُّوه على الطريق، وخرجوا فطلبوا كعبًا بالشام فوجدوه، فأقبلوا به، حتى إذا صار إلى بلدهم نزل كعب في بيتٍ ناحيةً من الحي، فرأى ناسًا قد اجتَمعوا عند البيوت، فقال كعب لغلام قائم، وكان قد ترك بنيًّا له صغيرًا: يا غلامُ من أبوك؟ قال: أبي كعب. قال: فعلامَ يجتمعُ هذا الناس؟ وأحس فؤادُ كعب بشرٍّ. قال: يجتمعون على خالتي ميلاء، ماتت الساعة. قال: فزفر زفرةً خرَّ منه ميِّتًا، فدُفن إلى جانب قبرِها.
يقتل حبيبته وينتحر
فلما كانت الليلة القابلة أتاها، وهي في مثل حالها، فقالت له مثل مقالتها الأولى وردَّ هو عليها مثل قولها، وقال: لك الله عليَّ إن أمكنتِني من شفتَيك أرتشفُهما أن أنصرف، ثمَّ لا أعود إليك. فأمكنتْه من شفتيها ثمَّ انصرف، ووقع في نفسها مثل النار، ونَذِرَ به الحيُّ، فقالوا: ما لهذا الفاسق في هذا الحي ذاهبًا وجائيًا؟ انهضوا بنا حتى نُخرِجه، فأرسلت إليه أن القوم يأتونك الليلة، فالحذر. فلما أمسى خرج ناحيةً عن الحي فقعد على مرقبٍ له ومعه قوسُه وأسهُمُه، وكان أحد الرماة، وأصاب الحيَّ من النهار مطرٌ فلهوا عنه، فلما كان في آخر الليل ذهب السحاب وطلع القمر، فخرجت تُريده، وقد أصابه الندى، فنشرت شعرها وكانت معها جاريةٌ من الحي، فقالت: هل لك في عباس، وهو اسمه، فخرجتا تمشيان فنظر إليهما وهو على المرقب، فظنَّ أنهما ممن يَطلُبه، فرمى بسهمه فما أخطأ قلب الجارية ففلقه، وصاحت الجارية التي كانت معها وانحدر من المرقب الذي كان عليه، فإذا هو بالجارية متضمِّخة بدمها، فقال عند ذلك وهو يبكي:
المأمون وذات القلم
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي، حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن عمران المَرْزُباني، حدَّثنا محمد بن عبد الله البصري، حدَّثنا الغلابي محمد بن زكريا، حدَّثنا مهدي بن سابق، قال: رأى المأمون في يد جارية له قلمًا، وكان ذا شغفٍ بها، واسمُها مُنصِفُ، فقال:
ميت الحب شهيد
قال الجوهري: وأنشدني محمد بن محمد الصائغ:
عصيان العذَّال سنة
ولي من أثناء قصيدة مدحتُ بها ببغداد:
عمر والمرأة المتلعِّجة
أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا أبو بكر بن الأنباري، حدَّثني أبي، حدَّثنا أحمد بن الربيع الخزاز، حدَّثني يونس بن بكير الشيباني، حدَّثني أبو إسحاق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس، وكان قد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: ما زلتُ أسمع حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج ذات ليلة يطوفُ بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيرًا، إذ مرَّ بامرأة من نساء العرب مُغلِقة عليها بابها، وهي تقول:
ثمَّ تنفَّست الصُّعَدَاء وقالت: لهانَ على عُمر بن الخطاب وحشتي، وغيبة زوجي عني. وعمر واقفٌ يَستمع قولها، فقال لها: يرحمك الله، يرحمك الله! ثمَّ وجَّه إليها بكسوة ونفقة، وكتب في أن يَقدم عليها زوجها.
سادلة البرقع
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ الأصبهاني بأصفهان، حدَّثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، حدَّثنا أبو عبد الرحمن النسائي، حدَّثنا محمد بن علي بن حرب المروزي، أخبرنا أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن شيطا المقري، رحمه الله، حدَّثنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد، حدَّثنا الكوكبي، أخبرنا أبو العيناء، أخبرني الجماز عن الأصمعي، قال: نظر أعرابي إلى أعرابية عليها برقعٌ، فقال لها: ارفعي البرقع أنظر نظرةً! فقالت: لا والله، دون أن يبيضَّ القارُ. فأنشأ يقول:
ميعاد السلو
أخبرنا محمد بن الحسين، أخبرنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا ابن دُرَيْد، حدَّثنا عبد الرحمن عن عمه، سمعت جعفر بن سليمان يقول: ما سمعتُ بأشعر من القائل:
فقلت: أشعر منه الأحوص حيث يقول:
رجل في ثوب امرأة
أنبأنا محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا، حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدَّثنا عبد الله بن محمد القرشي، حدَّثنا محمد بن صالح الحسني، حدَّثني أبي عن نمير بن قحيف الهلالي، قال: كان في بني هلال فتًى يُقال له بِشر، ويُعرف بالأشتر، وكان سيدا حسن الوجه شديد القلب سخيَّ النفس، وكان مُعجَبًا بجاريةٍ من قومه تُسمَّى جيداء، وكانت الجارية بارعة، فاشتُهر أمره وأمرها ووقع الشر بينه وبين أهلها، حتى قُتِلَت بينهم القتلى وكثرت الجراحات، ثمَّ افترقوا على أن لا ينزل أحدٌ منهم بقربِ الآخر.
فلما طال على الأشتر البلاء والهجر جاءني ذات يوم، فقال: يا نُميرُ! هل فيك من خيرٍ؟ قلت: عندي كُلُّ ما أحببت. قال: أَسعدني على زيارة جيداء، فقد ذهب الشوقُ إليها بروحي، وتنغَّصت عليَّ حياتي. قلتُ: بالحب والكرامة، فانهض إذا شئت.
فركبَ وركبتُ معه، فسِرنا يومنا وليلتنا حتى إذا كان قريبًا من مغرب الشمس نظرنا إلى منازلهم، ودخلنا شعبًا خفيًّا، فأنخنا راحلتَينا وَجِلَين، فجلس هو عند الراحلتَين، وقال: يا نمير! اذهَب بأبي أنت وأمي، فادخل الحي واذكر لمن لقيَك أنك طالبٌ ضالَّةً، ولا تُعرِّض بذكري بين شفةٍ ولسانٍ، فإن لقيتَ جاريتها فلانة الراعية فأَقرِئها مني السلام، وسلها عن الخبر، وأعلمها بمكاني.
فخرجتُ لا أُعذَرُ في أمري حتى لقيتُ الجارية، فأبلغتُها الرسالة وأعلمتها بمكانه، وسألتها عن الخبر، فقالت: بلى والله، مُشدَّدٌ عليها، متحفَّظٌ منها؛ وعلى ذلك فموعدكما الليلة عند تلك الشجرات اللواتي عند أعقاب البيوت.
فانصرفتُ إلى صاحبي، فأخبرته الخبر، ثمَّ نهضنا نقود راحلتينا حتى جاء الموعد، فلم نلبث إلا قليلًا إذا جيداءُ قد جاءت تمشي حتى دنت مِنَّا، فوثب إليها الأشتر فصافحها وسلَّم عليها، وقمتُ موليًّا عنهما، فقالا: إنَّا نقسم عليك إلا ما رجعت، فوالله ما بيننا ريبةٌ ولا قبيحٌ نخلو به دونك. فانصرفتُ راجعًا إليهما حتى جلست معهما، فتحدَّثا ساعةً ثمَّ أرادت الانصراف، فقال الأشتر: أما فيكِ حيلةٌ يا جيداء فنتحدث ليلتَنا، ويشكو بعضنا إلى بعض؟ قالت: والله ما إلى ذلك من سبيل إلا أن نعود إلى الشر الذي تعلَم. قال لها الأشتر: لا بدَّ من ذلك، ولو وقعَت السماء على الأرض. فقالت: هل في صديقك هذا من خير أو فيه مساعدة لنا؟ قال: الخير كله. قالت: يا فتى! هل فيك من خير؟ قلت: سلي ما بدا لك، فإني مُنتَهٍ إلى مرادك، ولو كان في ذلك ذهاب روحي.
فقامت فنزعت ثيابها فخلعتْها عليَّ، فلبستُها ثمَّ قالت: اذهب إلى بيتي فادخُل في خبائي، فإن زَوجي سيأتيك بعد ساعة أو ساعتين، فيطلُبُ منك القدح ليَحلب فيه الإبل، فلا تُعطه إياه حتى يُطيلَ طلبه، ثمَّ ارمِ به رميًا ولا تُعطه إياه من يدك، فإني كذا كنت أفعل به، فيذهب فيَحلب، ثمَّ يأتيك عند فراغه من الحلب والقدح ملآن لبنًا، فيقول: هاكِ غبوقك، فلا تأخذ منه حتى تُطيل نكدًا عليه، ثمَّ خذه أو دعه حتى يَضعه، ثمَّ لست تراه حتى تُصبح إن شاء الله.
قال: فذهبتُ، ففعلت ما أمرتني به، حتى إذا جاء القدح الذي فيه اللبن أمرني أن آخذه فلم آخذه حتى طال نكدي، ثمَّ أهويتُ لآخذه وأهوى ليضعه، واختلفت يدي ويده، فانكفأ القدح، واندفق ما فيه. فقال: إن هذا طَمَاحٌ مُفرِطٌ. وضرب بيده إلى مقدم البيت، فاستخرج منه سوطًا مفتولًا كمَتنِ الثعبان المطوق، ثمَّ دخل عليَّ فهتك الستر عني وقبض بشعري، وأتبع ذلك السوط مَتني، فضرَبني تمام ثلاثين. ثمَّ جاءت أمه وإخوته وأختٌ له فانتزعوني من يده، ولا والله ما أقلعوا حتى زايلتْني روحي، وهممتُ أن أوجِرَه السكين وإن كان فيه الموت.
فلما خرجوا عني وهو معهم شددتُ ستري وقعدتُ كما كنتُ، فلم ألبث إلا قليلًا حتى دخلت أمُّ جيداء عليَّ تُكلِّمني وهي تحسبني ابنتَها، فاتقيتُها بالسكات والبكي، وتغطَّيت بثوبي دونها. فقالت: يا بنية! اتقي الله ربَّك ولا تُعرِّضي لمكروهٍ زوجك فذاك أولى بك، فأمَّا الأشتر، فلا أشترَ لك آخر الدهر.
ثمَّ خرَجتْ من عندي، وقالت: سأُرْسِل إليك أختك تؤنسك، وتبيت عندك الليلة. فلبثتُ غير ما كثير، فإذا الجاريةُ قد جاءت فجعلت تبكي وتدعو على مَن ضربني، وجعلتُ لا أكلِّمها، ثمَّ اضطجعت إلى جانبي، فلما استمكَنتُ منها شددتُ بيدي على فيها، وقلت: يا هذه! تلك أختك مع الأشتر، وقد قُطع ظهري الليلة في سببِها. وأنت أولى بالستر عليها، فاختاري لنفسك ولها، فوالله لئن تكلَّمتِ بكلمة لأصيحنَّ بجُهدي حتى تكون الفضيحة شاملةً. ثمَّ رفعتُ يدي عنها، فاهتزَّت الجارية كما تهتزُّ القصبة من الزرع، ثمَّ بات معي منها أملحُ رفيقً رافقتُه، وأعفُّه وأحسنُه حديثًا، فلم تزل تتحدَّث، وتضحك مني ومما بُليتُ به من الضرب حتى برق النور، إذا جيداء قد دخلَت علينا من آخر البيت، فلما رأتنا ارتاعت وفزِعت، وقالت: ويلك! من هذا عندك؟ قلت: أختك. قالت: وما السبب؟ قلت: هي تُخبُرك، ولعمر الله إنها لعالمة بما نزَل بي.
وأخذتُ ثيابي منها، ومضيتُ إلى صاحبي، فركبنا ونحن خائفان، فلما سُرِّيَ عنَّا روعُنا حدثتُه ما أصابني، وكشفت عن ظهري، فإذا فيه ما غرس الله من ضربةٍ إلى جانب أخرى، كل ضرب تُخرج الدم وحدها. فلما رآني الأشتر قال: لقد عظُمتْ صنيعتُك ووَجَبَ شكرُك، إذ خاطرت بنفسك، فبلَّغني الله مكافأتك.
شامة مشئومة
فأخذها عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان معها من الجوهر ما لا يُدرى ما هو، ومعها دِرعُ يواقيت وجوهر منسوجٌ بالذهب، فأخذ ما كان معها وخلَّى سبيلها، فقالت في الظلمة: أي دابةٍ تحتي؟ قيل لها: دَهمَاءُ، في الظُّلمة. فقالت: نجوتُ.
قال: فأقبلوا على عبد الله بن علي، فقالوا: ما صنعتَ؟ أدنى ما يكونُ يبعثُ أبو جعفر إليها، فتُخبرُه بما أخذتَ منها فيأخذه منك، اقتُلها. فبعث في إثرها، وأضاء الصبح، وإذا تحتها بغلةٌ شهباء وَرْدَة، فلحقها الرسول، فقالت: مَه! فقال: أُمِرنا بقتلك. قالت: هذا أهونُ عليَّ، فنزلت فشدَّت درعها من تحت قدمَيها وكمَّيها.
صاحب يساوي الخلافة
أخبرنا أبو علي بن محمد الحسين الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكيب، حدَّثنا الفضل بن العباس أبو الفضل الربعي، حدَّثنا إبراهيم بن عيسى الهاشمي، وقال: قال عَلُّوَيه: أمرني المأمون وأصحابي أن نغدوَ إليه لنَصطبِح، فغدوتُ، فلقيَني عبد الله بن إسماعيل صاحب المراكب، فقال: يا أيها الرجل الظالم المُتعدِّي! أما ترحَمُ ولا تَرِقَّ ولا تستحي من عَرِيب؟ هي هائمة بك.
قال علويه: وكانت عريبُ أحسن الناس وجهًا، وأظرف الناس، وأحسن غناءً مني ومن صاحبي مُخارِق. فقلت له: مُر حتى أجيء معك. فحين دخلنا قلت له: استوثق من الأبواب، فإني أعرف الناس بفُضول الحجاب. فأمر بالأبواب فأُغلِقت ودخلتُ، فإذا عريب جالسةٌ على كرسي، وبين يديها ثلاثُ قدورٍ زُجاج. فلما رأتني قامت إليَّ، فعانقَتْني وقبَّلتني وأدخلت لسانها في فمي.
قالت: ما تشتهي تأكل؟ قلت: قِدرًا من هذه القدور. فأفرغت قدرًا منها بيني وبينها، فأكلنا. ثمَّ دعت بالنبيذ، فصبَّت رِطلًا فشربت نصفه وسقتني نصفه، فما زلنا نشرب حتى سكرنا. ثمَّ قالت: يا أبا الحسن! أخرجتُ البارحة شعرًا لأبي العتاهية فاخترتُ منه شيئًا. قلت: ما هو؟ قالت:
فصيرناه مجلِسَنا. فقالت: بقيَ فيه شيء، فأصلحْه! قلت: ما فيه شيء. قالت: بلى، في موضع كذا. فقلت: أنتِ أعلم. فصحَّحناه جميعًا، ثمَّ جاء الحُجاب وكسروا الباب واستُخرجت، فأُدخلت على المأمون، فأقبلت أرقص من أقصى الصحن وأصفِّق بيدي، وأغني الصوت، فسمع وسمعوا ما لم يَعرفوه فاستطرفوه، فقال المأمون: ادنُ يا عَلُّويه! فدنوت، فقال: ردَّ الصوت! فرددتُه سبع مرات، فقال: أنت الذي تشتاق إلى ظلِّ صاحبٍ يروقُ ويصفو إن كدرتَ عليه؟ فقلت: نعم! خذ مني الخلافة، وأعطني هذا الصاحب بدَلها.
وسألني عن خبري فأخبرته، فقال: قاتَلَها الله، فهي أجلُّ أبزارٍ من أبازير الدنيا.
امرأة على كتف أعرابي
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، حدَّثنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حدَّثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، حدَّثنا بشر بن موسى، حدَّثنا عمران بن أبي ليلى، حدَّثنا حبان بن علي عن مجالد عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: كنتُ أطوفُ مع عمر بن الخطاب حول الكعبة، وكفِّي في كفِّه، فإذا أعرابي على كتفه امرأةٌ مثل المَهاةِ وهو يقول:
كيد النساء
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التَّوَّزِي، حدَّثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، حدَّثنا الكوكبي قال: حدَّثنا أحمد بن عبيد النحوي، حدَّثنا محمد زبار عن الشرقي بن قطامي، قال: كان عمرو بن قُميَّة البكري من أحب الناس إلى مَرثَد بن قيس بن ثعلبة، وكان يجمع بينه وبين امرأته على طعامه، وكان إصبع قدمِ عمرو الوسطى والتي تليها مُلصقتَين، فخرج مرثد ذات يوم يَضربُ بالقداح، فأرسلتِ امرأتُه إلى عمرو أن عمَّك يدعوك، فجاء به من وراء البيوت، فلما دخل عليها لم يجد عمَّه وأنكر شأنها، فأرادتْه على نفسِه، فقال لها: لقد جئتِ بأمرٍ عظيمٍ. فقالت: أما لتفعلنَّ أو لأسوءنك. فقال: للمساءة ما دعوتِني. ثمَّ قام فخرج، وأمرت بجفنةٍ فكُفِئت على أثرِ قدمه، فلما رجع مرثد وجدها مُتغضِّبة، فقال: ما شأنك؟ قالت: رجلٌ قريب القرابة منك جاءَني يَسومني نفسي. قال: من هو؟ قالت: أما أنا فلا أُسمِّيه، وهذا أثر قدمِه. فعرف مرثد أثر عمرو، فأعرض عنه وعرف عمرٌو من أين أُتي، فقال في ذلك:
النخلة العاشقة
المهدي ونخلتا حلوان
وأخبرنا محمد بن علي التَّوَّزِي، أخبرنا أبو عُبيد الله، أخبرنا أبو بكر الجرجاني، حدَّثنا الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن أبي محمد القيسي، عن أبي سمير عبد الله بن أبي أيوب، قال: لما خرج المهدي، فصار بعقبة حُلوان، استطاب الموضع، فتغدَّى ودعا بحَسَنَة، فقال لها: أما ترين طيبَ هذا الموضع، فغنِّيني. فأخذت محكَّة كانت في يده وأوقَعت بها على مِخَدَّةٍ وغنَّته:
فقال: أحسنت! لقد هممتُ بقطع هاتين النخلتَين، يعني نخلتي حُلوان. فقالت: أُعيذُكَ بالله أن تكون النحس. قال: وما ذاك؟ قالت: قول الشاعر فيهما:
فقال: لا أقطعُهما أبدًا، ووكَّل بهما من يحفظهما.
الأشتر وجيداء
أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي علي قراءة عليه، حدَّثني أبي، أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين بن الأصفهاني، حدَّثني جعفر بن قدامة، حدَّثني أبو العيناء، قال: كنت أجالسُ محمد بن صالح بن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب، وكان حُملَ إلى المتوكِّلُ أسيرًا، فحبسه مدة ثمَّ أطلقه، وكان أعرابيًّا فصيحًا مُحرِمًا، فحدثني قال: حدثني نُمير بن قحيف الهلالي، وكان حسن الوجه حييًّا، قال: كان مِنَّا فتًى يُقال له بِشر بن عبد الله، ويُعرف بالأشتر، وكان يهوى جاريةً من قومه يُقال لها جيداء، وكانت ذات زوج، وشاخ خبره في حبِّها، فمُنع منها وضُيِّق عليه. وذكر قصة الأشتر مع جيداء على نحو ما في الخبر الذي قبل هذا الجزء، فكرهتُ إعادتها لأن المعنى واحد.
ماتت حُزنًا على المأمون
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدَّثنا أبو محمد عبد الله بن مالك النحوي، حدَّثنا يحيى بن أبي حماد الموكبي، عن أبيه، قال: وُصِفَت للمأمون جاريةٌ بكلِّ ما تُوصَفُ امرأةٌ من الكمال والجمال، فبعَث في شرائها، فأُتي بها وقتَ خروجه إلى بلاد الروم، فلما هم ليَلبسَ درعه خطرَت بباله، فأمر فخرجَت إليه، فلما نظر إليها أُعجِبَ بها وأُعجِبَت به، فقالت: ما هذا؟ قال: أُريد الخروج إلى بلاد الروم. قالت: قتلتْني والله يا سيِّدي، وحَدَرَت دموعها على خدها كنِظام اللؤلؤ، وأنشأت تقول:
فضمَّها المأمون إلى صدره وأنشأ مُتمثِّلًا يقول:
ثمَّ قال لخادمِه: يا مسرور! احتفظ بها وأكرم محلَّها، وأصلح لها كل ما تحتاج إليه من المقاصير والخدم والجواري إلى وقتِ رجوعي. فكان كما قال الأخطل:
ثمَّ خرَج، فلم يزل الخادم يتعاهدُها ويصلح ما أمر به، فاعتلَّت عِلَّة شديدةً أشفق عليها منها، وورَد نعيُ المأمون، فلما بلَغها ذلك تنفَّست الصُّعَدَاء وتُوُفِّيَت. وكانت مما قالت وهي تجود بنفسها:
القاضي المدنف
فقال له طقطق: فديتُك إن كانت قد وَقَعت في قلبِك طلَّقتُها. فقال له البرتي: تُهددها بالطلاق، وقد قال الله عز وجل: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا، وإن ها هنا ألفًا ممن يتزوَّجها. فقال طقطق: فإني والله ما قضيتُ وطَري منها، وأنا طقطق لستُ بزيد.
فأقبل البرتي على المرأة، فقال: يا حبيبتي! ما أدري كيف كان صبرُك على مباضَعة هذا البغيض. ثمَّ أنشأ يقول:
فقام طقطق، وتعلَّق به وصيفٌ غلام البرتي، فصاح به: دعهُ يذهب عنَّا إلى سقر. ثمَّ قال لها: إن لم يَصِر لكِ إلى ما تريدين، فصيري إلى امرأة وصيفٍ حتى تُعلِمني وأضعه في الحبس.
وكتب صاحب الخبر ما كان، فعلق به البرتي، وصانَعه على خمسمائة دينار على أن لا يرفع الخبر بعينِه، ولكن يكتب أن عجوزًا خاصمت زوجها، فاستغاثَت بالقاضي، فقال لها: ما أصنع يا حبيبتي! هو حكمٌ ولا بدَّ أن أقضي بالحق.
وانصرف البرتي مُتيَّمًا، فما زال مُدنَفًا يبكي ويهيم فوق السطوح ويقول الشعر، فكان مما يقوله:
وغير ذلك من شعر لا وزن له ولا رويَّ، إلا أنه ارعوى ورجع.
بماذا أكفر
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بصور، أنبأني أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد الناجي الأندلسي: حدَّثني خالي القاضي أبو شاكر عبد الواحد بن محمد بن موهب بن محمد التجبي لعبد الله بن الفرج الجياني، وهو أخو سعيد وأحمد ابني الفرج:
كل يومين حجة واعتمار
وأخبرنا محمد، حدَّثنا المعافى، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا مسلم بن عبد الله بن مسلم بن جندب، عن أبيه، قال: أنشد ابن أبي عتيق سعيد بن المسيب قول عُمر بن أبي ربيعة:
فقال: لقد كلفتَ المُسلمين شططًا. فقال: يا أبا محمد! في نفس الجمل شيءٌ غير ما في نفس سائقه.
ليس للغدور وفاء
أُكنِّي بغيرك وأعنيك
وأخبرنا التَّنُوخِي قال: نقلتُ من خط أبي إسحاق الصابي:
مرضى تبعث المرض
ولي من أثناء قصيدة:
شعرٌ على حائط
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن محمد بن عفير الأنصاري، قال: قال أبو علي صديقنا: حدثني بعض أهل المعرفة أنه بينا هو في بعض بلاد الشام نزل في دارٍ من دورِها، فوجد على بعض حيطانها مكتوبًا:
قال: فسأل عنه، فأُخبر أن بعض العُمَّال نزل هذه الدار، وقد أصاب ثلاثين ألف دينار، فعَلِقَ غُلامًا، فأنفق ذلك المال كله عليه.
قال: فبَينا أنا جالسٌ إذ مرَّ بنا ذلك الغلام. قال: فما رأيتُ غلامًا أحسن منه حُسنًا وجمالًا.
جرير والحجاج وأمامة
فقال الحجاج: إنه والله ما بها ذاك، ولكن بها بغضُ وجهك، وهو أهلٌ لذاك. خذها بيدها جرها! فلما سمعتْ ذلك منه خلَّت العِمامة وخرجتُ بها، فكنَّيتها أمَّ حكيم، وجعلتُها تقوم على عُمَّالي وتُعطيهم نفقاتهم بقرية يُقال له الفنة من قرى الوشم.
قال طلحة: فأخبرني الزبير، قال: قال محمد بن أيوب: وسمعتُ حَبَجيًّا بن نوح يقول: كانت والله مُباركة.
عائشة بنت طلحة وغراب قيس بن ذريح
أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم العجلي البزاز المعروف بالمراجلي بسر من رأى، حدَّثنا محمد بن يونس الكديمي، حدَّثنا يحيى بن عمر الليثي، حدَّثنا الهيثم بن عُدي، حدَّثنا المجالد عن الشعبي، قال: مرَّ بي مُصعب بن الزبير وأنا في المسجد، فقال: يا شعبي، قم! فقمتُ، فوضع يده في يدي وانطلق حتى دخل القصر، فقصرت، فقال: ادخُل يا شعبي! فدخل حجرةً، فقصرت، فقال: ادخل يا شعبي! فدخل بيتًا، فقصرتُ، فقال: ادخل. فدخلت، فإذا امرأةٌ في حَجَلة، فقال: أتدري من هذه؟ فقلت: نعم! هذه سيدة نساء المسلمين، هذه عائشة بنت طلحة بن عُبيد الله. فقال: هذه ليلى، وتمثَّل:
ثمَّ قال لي: يا شعبي! إنها اشتهت عليَّ حديثَك، فحادِثها. فخرَج وتركها. قال: فجعلتُ أُنشدها وتُنشدني، وأحدِّثها وتحدِّثُني حتى أنشدتها قول قيس بن ذريح:
قال: فلقد رأيتها وفي يدها غُراب تنتف ريشه، وتَضربه بقضيب وتقول: يا مشئوم.
أبو السائب يضرب الغراب
وحدَّثنا المعافى قال: قال محمد بن مزيد الخزاعي، حدَّثنا الزبير، قال: قال الخليل بن سعيد: مررتُ بسوقِ الطير، فإذا بالناس قد اجتمعوا يركبُ بعضُهم بعضًا، فاطَّلَعت فإذا أبو السائب قابضًا على غرابٍ يُباعُ، قد أخذ طرف ردائه، وهو يقول للغراب: يقول لك ابن ذريح:
ثمَّ لا تقع، ويَضربه بردائه والغراب يصيح.
السوداء وغراب البين
وحدَّثنا المعافى، حدَّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، حدَّثنا ميمون بن المزرع، قال: كنت آتي أبا إسحاق الزيادي، فأتيتُه مرة، فمرَّت به أمةٌ سوداء شوهاء، فقال لها: يا عُنَيزَة أسمعيني، مرَّ بالبين غرابٌ فنعب. فقالت: لا والله أو تَهَبَ لي قطيعةً، فأخرَجَ صريرةً من جيبه، فناولها قطيعةً أرِيتَ أن فيها ثلاث حبات، فوضعت الجرة عن ظهرها، وقعدت عليها، ثمَّ رفعت عقيرتها:
قال أبو بكر: فأحسنت.
الذنب ذنبي لا ذنب الغراب
قال أبو الفرج المعافى: وحدَّثني محمد بن الحسن بن مقسم: أنشدني أحمد بن يحيى لأحمد بن مية، وهو أحد الظرفاء:
المعتصم والمأمون والغلام التركي
أجز، فقال:
وفطِنَ المعتصم، فعضَّ شفته على أحمد. فقال أحمد للمأمون: والله لئن يعلم أمير المؤمنين لأقعنَّ معه في ما أكره. فدعاه، فأخبره الخبر، وأنشده الشعر، فضحك المعتصم، وقال: كثَّر الله في غلمان أمير المؤمنين مثله.
المأمون والعشق
وأخبرنا أحمد بن علي الوكيل، حدَّثنا المَرْزُباني الصولي، حدَّثنا عون بن محمد الكندي، سمعت موسى بن عيسى يقول: سمعت أحمد بن يوسف يقول: كان المأمون يُحبُّ أن يعشق ويعمل أشعارًا في العشق، فلم يكن يقعُ له في العشق ولا يستمر له ما يريد، وكانت عنده جاريةٌ اشتريتُها له، وكانت تُسمِّيني أبي، وكان يُباثُّني حديثها وأمرها، وربما شكاها إليَّ، فقال: فعلت بنتُك كذا وكذا، وله أشعارٌ فيها:
الوليد بن يزيد والفتاة النصرانية
أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا محمد بن الحسن بن دُرَيْد، أخبرنا أبو حاتم، أخبرنا العتبي، قال: نظر الوليد بن يزيد إلى جارية نصرانية من أهيَئ النساء يُقال لها سُفرى، فجُنَّ بها وجعل يراسلها وهي تأبى، حتى بلَغه أن عيدًا للنصارى قد قرُبَ، وأنها ستخرج فيه.
وكان في موضع العيد بستان حسَنٌ، وكانت النساء يدخُلنَه، فصانع الوليدُ صاحب البستان أن يُدخِلَه فينظر إليها. فتابَعه، وحضر الوليد وقد تقشَّف وغيَّر حِليَتَه، ودخلت سُفرى البستان، فجعلت تمشي حتى انتهت إليه، فقال لصاحب البستان: من هذا؟ فقال: رجلٌ مُصابٌ. فجعلت تُمازحه وتُضاحكه حتى اشتفى من النظر إليها، ومن حديثها، فقيل لها: ويلك، أتدرين من ذاك الرجل؟ قالت: لا! فقيل لها: الوليد بن يزيد، وإنما تقشَّف حتى ينظر إليك. فجُنَّت به بعد ذلك، وكانت عليه أحرص منه عليها. فقال الوليد في ذلك:
قال القاضي أبو الفرج المعافى: لم يبلُغ مُدرك الشيباني هذا الحد من الخلاعة، إذا قال في عمرو النصراني:
فلما ظهر أمره وعلمه الناس قال:
جور الهوى
ولي من جملة قصيدة عملتها بِتِنِّيس، وأنا أستغفر الله وأستقيله:
وفي هذه القطعة:
مدرك الشيباني وعمرو النصراني
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي رحمه الله، سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، حدَّثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري، قال: أنشدنا أبو القاسم مُدرك بن محمد الشيباني لنفسه في عمرو النصراني، قال القاضي أبو الفرج: وقد رأيتُ عَمرًا، وبقيَ حتى ابيضَّ رأسه:
قضاة لا يقبلون الرُّشى
قال ابن السراج: ولي من قطعة:
إبراهيم بن المهدي والجارية
أخبرنا أبو علي الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا المظفر بن يحيى بن أحمد الشرابي، حدَّثنا أبو العباس المرثدي، حدَّثنا طلحة بن عبد الله الطلحي.
قال المعافى: ومما يُضارِع بعض ما تضمَّنته هذه الأبيات من جهة ما أنشدناه إبراهيم بن عرفة لنفسه:
الطائفة في البيت الحرام
أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدَّثني أبي، حدَّثنا عامر بن عمران أبو عكرمة الضبي عن سليمان بن أبي شيخ، قال: بينا عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يطوف بالبيت إذ رأى امرأةً تطوفُ وتُنشدُ:
قال القاضي: وفي غير هذه الرواية يَليه بيتٌ آخر، وهو:
فقال عبد الله للمرأة: يا أمة الله! مثل هذا الكلام في مثل هذا الموقف؟ فقالت: يا فتًى، ألستَ ظريفًا؟ فقال: بلى! قالت: ألستَ راويةً للشعر؟ قال: بلى! قالت: أفلم تسمع الشاعر يقول:
سباق العاشقين
ولي أبيات مفردة مما نظمته ببغداد:
ندوب اللواحظ
ولي أيضًا في مفردة:
الشيخ المتصابي١٢٨
أخبرنا محمد بن الحسين، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا محمد بن الحسن بن دُرَيْد، أخبرنا الرياشي عن محمد بن سلام عن أبيه، حدَّثني شيخ بن بني ضبة، قال: رأيتُ أعرابيًّا كبير السن كثير المزاح، بيده محجَنٌ، وهو يجرُّ رجلَيه حتى وقَف على مِسعَر بن كِدام وهو يُصلي، فأطال الصلاة والأعرابيٌّ واقفٌ، فلما أعيا قعد. حتى إذا فرغ مِسعَر من صلاته سلَّم الأعرابيُّ عليه، وقال له: خذ من الصلاة كفيلًا! فتبسَّم مِسعر، وقال: عليك بما يُجدي عليك نفعه يا شيخ، كما تعد؟ فقال: مائة وبضع عشرة سنة. قال: في بعضِها كفى واعظًا، فاعمل لنفسك. فقال:
فقال مسعر: أُفٍّ لك! فقال: والله ما بأخيكَ حركةٌ منذ أربعين سنة، ولكن بحرٌ يجيش ويرمي زَبَدَه. فضحك مِسعر، وقال: إن الشعر كلامٌ حسنه حسن، وقبيحُه قبيح.
نور مُتجسِّم
قال: وحدثنا المعافى، حدثنا يزيد بن الحسن البزاز، حدثني خالد الكاتب، قال: دخلتُ على أبي عباد أبي الرغل بن أبي عباد، وعنده أحمد بن يحيى وابن الأعرابي، فرفع مجلسي، فقال له ابن الأعرابي: مَن هذا الفتى الذي أراك ترفع من قدره؟ فقال: أوَ ما تعرفه؟ قال: اللهمَّ لا! قال: هذا خالد الكاتب الذي يقول الشعر. قال: فأنشدني من قولك شيئًا. فأنشده:
فصاح ابن الأعرابي، وقال: كفرتَ يا خالد! هذه صفة الخالق ليست صفة المخلوق، فأنشدني ما قلت غير هذا. فأنشدته:
حتى أتيت على قولي:
فصاح ابن الأعرابي وقال: إنَّكَ لفَطِن، وفوق ما وُصِفتَ به.
بيت شعر بثلاثمائة دينار
قال: وحدثنا المعافى، حدَّثنا أحمد بن جعفر بن موسى البرمكي، قال: قال خالد الكاتب: وقف عليَّ رَجلٌ بعد العشاء مُتلفِّعٌ برداءٍ عَدنيٍّ أسود ومعه غلامٌ معه صُرَّة، فقال لي: أنت خالد؟ قلت: نعم! قال: أنت الذي تقول:
قلت: نعم! قال: يا غلام، ادفع إليه الذي معك! فقلت: وما هذا؟ قال: ثلاثمائة دينار. قلت: والله لا أقبلها أو أعرِفَك. قال: أنا إبراهيم بن المهدي.
صرعة المحب١٢٩
قال: وحدثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدَّثني محمد بن المَرْزُبان، حدَّثنا زكريا بن موسى، حدَّثنا شعيب بن السكن عن يونس النحوي، قال: لما اختلَط عقل قيس المجنون وامتنع من الطعام والشراب مضت أمُّه إلى ليلى فقالت لها: يا هذه! قد لحق ابني بسببِك ما قد علمت، فلو صرتِ معي إليه رجوت أن يثوب إليه ويرجع عقله إذا عايَنَك. فقالت: أمَّا نهارًا فلا أقدر على ذلك لأني لا آمن الحي على نفسي، ولكن أمضي معك ليلًا.
فلما كان الليل صارت إليه فقالت له: يا قيس! إن أمك تزعم أن عقلَك ذهب بسببي، وأن الذي لحقك أنا أصله. ففتح عينَيه، فنظر إليها وأنشأ يقول:
جنون القلب
ولي ابتداء قصيدة مدحت بها عين الدولة ابن أبي عقيل بالشام، أولها:
أنفاس تذيب الحديد
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال، حدَّثنا محمد بن أحمد بن الصلت، حدَّثنا أبو بكر محمد بن القاسم، حدَّثني أبي: أنشَدني أبو عكرة الضبي:
لو يدوم التلاقي
وبإسناده أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: أنشدني محمد بن المَرْزُبان لابن أبي عمار المكي:
حمام الشعب
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثني محمد بن القاسم: أنشدني أبي لبعض الأعراب:
في وجهه شافع
وأخبرنا أبو علي الجازري، حدَّثنا المعافى، حدَّثنا محمد بن يحيى الصولي، حدَّثنا علي بن يحيى، قال: كنتُ واقفًا بين يدي المعتضد وهو مقطِّبٌ، فأقبل بدر، فلما رآه من بعيدٍ تبسَّم وأنشد:
ثمَّ قال لي: لمن هذا؟ فقلت: يقوله الحكم بن كثير المازني البصري. قال: أنشِدْني باقي الشعر. قلت:
قال الصولي: فأخذ هذا المعنى أحمد بن يحيى بن العراق الكوفي، فقال: بدا وكأنه قمر. وأنشد البيتَين.
لم يُفرِّق بين المحبين
أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، حدَّثني أبي قال: روى أبو رَوق الهراني عن الرياشي أن بعض أهل البصرة اشترى صبيَّة فأحسن تأديبها وتعليمها، وأحبَّها كل المحبة، وأنفق عليها حتى أملق، ومسه الضرُّ الشديد، فقالت الجارية: إنِّي لأرثي لك يا مولاي مما أرى بك من سوء الحال، فلو بعتَني واتَّسعتَ بثمني، فلعلَّ الله أن يصنع لك وأقع أنا بحيث يَحسن حالي، فيكون ذلك أصلح لكل واحدٍ مِنَّا.
قال: فحمَلها إلى السوق، فعُرضت على عمر بن عُبيد الله بن مَعمر التيمي، وهو أمير البصرة يومئذٍ، فأعجبَتْه، فاشتراها بمائة ألف درهم. فلما قبض المولى الثمن وأراد الانصراف، استعبر كلُّ واحد منهما لصاحبه باكيًا، وأنشأت الجارية تقول:
واشتدَّ بكاء المولى، ثمَّ أنشأ يقول:
فقال له ابن معمر: قد شئتُ، خُذها ولك المال. فانصِرفا راشدَين، فوالله لا كنتُ سببًا لفرقة محبِّين.
مالك يفتي في الحب
وأخبرنا محمد، حدَّثنا المعافى، حدَّثنا محمد بن أحمد الحكيمي، حدَّثنا أبو إبراهيم الزهري، حدَّثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدَّثني معن بن عيسى، قال: دخل ابن سرحون السلمي على مالك بن أنس، وأنا عنده، فقال له: يا أبا عبد الله! إنِّي قد قلتُ أبياتًا وذكرتك فيها. قال: اجعلني في حلٍّ. قال: أُحبُّ أن تسمعها. قال: لا حاجة لي بذلك. فقال: بلى! قال: هاتِ! فأنشد:
فضحك مالك، وسُري عنه، وقال: لا! إن شاء الله. وكان ظنَّ أنه هجاه.
في النساء جمال وفي الفتيان عفة
أخبرنا محمد بن الحسين، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا جعفر بن محمد بن نصير الخواص، حدَّثنا أبو العباس بن مسروق، حدَّثنا عبد الله بن شبيب، حدَّثنا محمد بن عبد الصمد البكري، حدَّثنا ابن عُيَيْنة، قال: قال سعيد بن عُقبة الهمداني لأعرابي: مَن أنت؟ قال: مِن قوم إذا عشقوا ماتوا. قالوا: عُذريٌّ ورب الكعبة. قال: فقلت: وممَّ ذاك؟ قال: في نسائنا صباحةٌ، وفي فتياننا عِفَّةٌ.
ذو الرُّمَّة ومي١٣٥
أخبرنا محمد بن الحسين إجازةً إن لم يكن سماعًا، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا إبراهيم بن عبد الله الأزدي، ومحمد بن القاسم الأنباري، قالا: حدَّثنا أحمد بن يحيى عن أبي زيد، حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم، حدَّثني أبو صالح الفزاري، قال: ذُكر ذو الرُّمَّة في مجلس فيه عِدَّةٌ من الأعراب، فقال عصمة بن مالك: شيخٌ منهم قد أتى لي مائة سنة، فقال: كان مِن أظرف الناس.
قال: كان آدم خفيف العارضين، حسن المنظر، حلو المنطق، وكان إذا أنشد بربر وحبس صوته، وإذا واجهك لم تسأم حديثه وكلامه.
وكان له إخوةٌ يقولون الشعر، منهم: مسعودٌ وهمامٌ وخِرواشٌ، فكانوا يقولون القصيدة فيزيد فيها الأبيات فيغلب عليها، فتذهب له. فأتى يومًا، فقال لي: يا عصمةُ! إن مَيَّة مِنقَريةٌ، وبنو مِنقَرَ أخبثُ حيٍّ، وأبصر بأثر وأعلمه بطريق، فهل عندك من ناقةٍ نزدارُ عليها مية؟ فقلت: نعم، عندي الجؤذر. قال: عليَّ بها.
حتى بلغت إلى قوله:
فقالت ظريفة ممن حضر: فليُجلِ الآن! فنظرتُ إليها حتى أتيتُ على القصيدة إلى قوله:
فقالت الظريفة منهن: قتلتْه قُتلت. فقالت مي: ما أصحَّه وهنيئًا له! فتنفَّس ذو الرُّمَّة نفسًا كاد من حرِّه يطير شعر وجهه، ومضيتُ في الشعر حتى أتيت على قوله:
فقالت الظريفة: قتلتِه، قتلك الله. فقالت مي: خَفْ عواقب الله يا غيلان! ثمَّ أتيت على الشعر حتى انتهيت إلى قولي:
فقالت تلك الظريفة: ها هذه، وهذا القول، قد راجعتْك وقد واجهتها، فمن لك أن يَنضو الدرع سالبه؟ فالتفتت إليها مية، فقالت: قاتلَكِ الله ما أعظم ما تجيئين به! فتحدَّثنا ساعة ثمَّ قالت الظريفة: إن لهذَين شأنًا، فقُمن بنا! فقُمن وقمتُ معهنَّ، فجلستُ بحيث أراهُما، فجعلَت تقول له: كذبتَ. فلبث طويلًا ثمَّ أتاني ومعه قارورةٌ في دُهنٌ، فقال: هذا دهن طيِّبٍ أتحفتنا به ميَّة، وهذه قلادة للجؤذُر، والله لا أخرجتُها من يدي أبدًا. فكان يختلف إليها، حتى إذا انقضى الربيع ودعا الناس الصيف أتاني فقال: يا عصمة! قد رحلت مي، فلم يبقَ إلا الآثار، فاذهب بنا ننظر إلى آثارهم، فخرجنا حتى انتهينا، فوقف وقال:
فقلت له: ما بالك؟ فقال لي: يا عصمة! إنِّي لجَلْدٌ، وإن كان منِّي ما ترى. وكان آخر العهد به.
أجمل الحائيات الغزلية
والخبر على لفظ أبي عبد الله، قال: وحدثت عن أبي عدي قال: سمعتُ ذا الرُّمَّة يقول: بلغتُ نصفَ عمرِ الهَرَم أربعين سنة، وقال ذو الرُّمَّة:
قال القاضي المعافى: وهذه مِن قصائد ذي الرُّمَّة الطوال المشهورة المستحسنة، وأولها:
ومنها:
فهذه من أحسن الحائيات على هذه الروي، ونظيرها كلمة ابن مقبل التي أولها:
وقول جرير:
ومثله:
وذُكر في خبر ذي الرُّمَّة بهذا الإسناد إخوة ذي الرُّمَّة، فقيل منهم: مسعودٌ وهمَّامٌ وخرواشٌ، فأمَّا مسعود فمن مشهوري إخوته، وإياه عنى ذو الرُّمَّة بقوله:
ومنهم هشام: وهو الذي استشهد سيبويه في الإضمار في ليس بقوله، فقال: قال هشام بن عُقبة أخو ذي الرُّمَّة:
ومنهم أوفى، وهو الذي عناه بعض إخوته في شعرٍ رثى فيه ذا الرُّمَّة أخاهما:
وذكره ذو الرُّمَّة فقال:
شعاف القلب وشغافه
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي، أخبرنا أبو عُبيد الله محمد بن عمران المَرْزُباني: أنشدنا إبراهيم بن محمد بن عرَفة النحوي لجرير بن الخطفي:
قال أبو عُبيد الله قوله: يشعف يُقال: شعفه أي بلغ منه رأس قلبه، وشعافُ كل شيء أعلاه، وأمَّا قوله عز وجل: قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا، فإن الشغاف دم القلب؛ أي بلغ الحب إلى ذلك المكان. قال النابغة الذبياني:
وقوله يتقوف: أي يتتبَّع، وهو القائف، ومنه قول: إنَّا نقوف الآثار.
دعاء الحبيب على حبيبه
حدَّثنا أحمد بن علي بن ثابت من لفظه بدمشق، أخبرني أحمد بن أبي جعفر القطيعي، حدَّثني إسحاق بن إبراهيم بن أحمد الطبري، حدَّثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد، حدَّثنا أبو غالب ابن بنت معاوية بن عمرو، حدَّثني جدي معاوية بن عمرو، حدَّثنا زائدة عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر، قال: قال رسول الله: سألتُ الله عز وجل أن لا يستجيب دعاء حبيبٍ على حبيبه.
المهدي وأنسب بيتٍ
أخبرنا التَّنُوخِي، أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصفهاني، أخبرني الجرمي ابن أبي العلاء، حدَّثنا الزبير بن بكار، حدَّثني خلف بن وضاح أن عبد الأعلى بن عبد الله بن صفوان الجمحي قال: حملتُ دينًا بعسكر المهدي، فركب المهدي يومًا بين أبي عُبيد الله وعمر بن بزيع، وأنا وراءه، في موكبه على بِرذَونٍ قَطُوفٍ، فقال: ما أنسب بيتٍ قالته العرب؟ قال أبو عبيد الله: قول امرئ القيس:
قال: هذا أعرابي قح. فقال عمر بن بزيع: قول كُثيِّر يا أمير المؤمنين:
فقال: ما هذا بشيء، وما له يريد أن ينسى ذكرها حتى تمثَّل له؟ فقل: عندي حاجتك يا أمير المؤمنين! قال: الحَقْ بي. قلت: لا لحاق لي، ليس ذلك في دابتي. قال: احمِلوه على دابَّةٍ. قلت: هذا أول الفتح، فحُمِلتُ على دابَّةٍ، فلحقتُه، فقال: ما عندك؟ قلت: قول الأحوص:
فقال: أحسنت! حاجتك؟ قلت: عليَّ دَين. فقال: اقضوا دينه. فقُضي ديني.
أم البنين ووضَّاح اليمن
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثني أبي، حدَّثنا أبو أحمد الختلي، حدَّثنا أبو حفص يعني النسائي، حدَّثنا محمد بن حيان بن صدقة عن محمد بن أبي السري عن هشام بن محمد بن السائب، قال: كانت عند يزيد بن عبد الملك بن مروان أم البنين بنتُ فلان، وكان لها من قلبه موضع، فقُدم عليه من ناحية مصر بجوهر له قدر وقيمة، فدعا خَصيًّا له، فقال: اذهب بهذا إلى أم البنين، وقل لها: أُتيتُ به الساعة فبعثتُ به إليك. فأتاها الخادم فوجد عندها وضَّاح اليمن، وكان من أجمل العرب، وأحسنِه وجهًا، فعشقته أم البنين، فأدخلتْهُ عليها، فكان يكون عندها، فإذا أحسَّت بدخول يزيد بن عبد الملك عليها أدخلته في صندوق من صناديقِها، فلما رأت الغلام قد أقبل أدخلتْه الصندوق، فرآه الغلام، ورأى الصندوق الذي دخل فيه، فوضع الجوهر بين يدَيها وأبلغها رسالة يزيد، ثمَّ قال: يا سيِّدتي، هبي لي منه لؤلؤةً! قالت: لا ولا كرامة، فغضبَ وجاء إلى مولاه، فقال: يا أمير المؤمنين إنِّي دخلتُ عليها وعندها رَجلٌ، فلما رأتْني أدخلته صُندوقًا، وهو في الصندوق الذي من صِفَتِه كذا وكذا، وهو الثالث أو الرابع. فقال له يزيد: كذَبتَ يا عدو الله! جئوا عنقه. فوجئ في عنقه ونحَّوه عنه.
قال: فأمهل قليلًا ثمَّ قام، فلبس نعله ودخل على أم البنين، وهي تمتشط في خزانتها، فجاء حتى جلس على الصندوق الذي وصَف له الخادم، فقال لها: يا أم البنين! ما أحب إليك هذا البيت! قالت: يا أمير المؤمنين، أدخُله لحاجتي وفيه خزائني فما أردت من شيء أخذته من قُرب. قال: فما في هذه الصناديق التي أراها؟ قالت: حليي وأثاثي. قال: فهبي لي منها صندوقًا. قالت: كلها يا أمير المؤمنين لك. قال: لا أريد إلا واحِدًا، ولك عليَّ أن أُعطيكِ زنتَه وزِنَةَ ما فيه ذهبًا. قالت: فخذ ما شئت. قال: هذا الذي تحتي. قالت: يا أمير المؤمنين، عدِّ عن هذا وخذ غيره، فإن لي فيه شيئًا يقعُ بمحبتي. قال: ما أريد غيره. قالت: هو لك.
قال: فأخذه ودعا الفرَّاشين فحملوا الصندوق، فمضى به إلى مجلسه فجلس ولم يَفتحه، ولم ينظر ما فيه، فلما جنَّه الليل دعا غلامًا له أعجميًّا فقال له: استأجر أُجراء غُرَباء ليسوا من أهل المِصرِ.
قال: فجاءه بهم وأمرَهم، فحفروا له حُفيرة في مجلسه، حتى بلغوا الماء، ثمَّ قال: قدَّموا لي الصندوق. فأُلقي في الحفيرة، ثمَّ وضع فمه على شفيره، فقال: يا هذا! قد بلَغنا عنك خبر، فإن يكُ حقًّا فقد قطَعنا أثره، وإن يكُ باطلًا فإنما دفنَّا خشبًا.
ثمَّ أهالوا عليه التراب حتى استوى. قال: فلم يُر وضَّاح اليمن حتى الساعة.
قال: فلا والله، ما بانَ لها في وجهه ولا في خلائقه شيءٌ حتى فرَّق الموت بينهما.
وجه كالسيف الصقيل
دلَّ المطاع على المطيع
أخبرنا القاضي أبو القاسم التَّنُوخِي، قرأتُ على أبي عمر بن حَيُّوَيْهِ: أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة لنفسه:
شعر لمحمد بن أبي أمية
وأخبرنا ابن حَيُّوَيْهِ، أنبأنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: أنشدنا إبراهيم بن عبد الله الورَّاق لمحمد بن أبي أمية:
وفتيان صدقٍ
وأخبرنا التَّنُوخِي، أخبرنا ابن حَيُّوَيْهِ، أنبأنا عُبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر: أنشدنا البحتري:
بنت تخون أباها
أخبرنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الضراب بمصر، حدَّثنا أبي رحمه الله، حدَّثنا أحمد بن مروان، حدَّثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة، قال: قرأتُ في سَير العجم أن أردَشير لما استوثَقَ له أمرُه وأقرَّ له بالطاعة ملوك الطوائف حاصر ملك السريانية، وكان متحصِّنًا في مدينة يُقال لها الحِضْر، بإزاء مسكن من برِّية الثرثار، وهي برِّيَّة سنجار، والعرب تُسمي ذلك الملك الشاطرون، فحاصرَه فلم يقدر على فتحِها حتى رَقَت بنت الملك على الحصن يومًا، فرأَت أردشير فهويَتْه، فنزلت وأخذت نُشَّابة، وكتبَتْ عليها: إن أنتَ ضمنتَ لي أن تتزوَّجني دللتُك على موضعٍ تُفتَحُ به المدينة بأيسر الحيلة وأخفِّ المؤونة، ثمَّ رمت بالنشابة نحو أردشير، فقرأها وأخذ نُشَّابةً، فكتب إليها: لك الوفاء بما سألتني. ثمَّ ألقاها إليها، فدلته على الموضع، فأرسل إليها فافتتَحها، فدخل وأهل المدينة غارُّون لا يشعرون، فقتل الملك وأكثر القتل فيها وتزوجها.
فبينما هي ذات ليلة على فراشه أنكرَت مكانها، حتى سَهِرَت أكثر ليلِها، فقال لها: ما لكِ؟ قالت: أنكرتُ فراشي. فنظروا تحت الفراش فإذا تحت المجلس طاقة آسٍ قد أثَّرت في جلدها، فتعجَّب من رقَّة بشرتها، فقال لها: ما كان أبوك يَغذوك؟ قالت: كان أكثر غذائي عنده الشهد والمُخ والزُّبد. فقال لها: ما أحدٌ بالغٌ بك في الحِباء والكرامة مبلغ أبيك، وإذا كان جزاؤه عندك على جُهد إحسانه مع لُطف قرابته وعِظَم حَقِّه إساءتك إليه، فما أنا بآمنَ مثل ذلك منكِ. ثمَّ أمر بأن تُعقد قُرُونُها بذنب فرسٍ شديدِ الجري، جموحً، ثمَّ يُجرى. ففُعل ذلك بها حتى تساقطَت عُضوًا عُضوًا، وهو الذي يقول فيه أبو داود الأيادي:
العاشق المظلوم
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، حدَّثنا أبي، حدَّثنا أبو بكر محمد بن بكر البسطامي، حدَّثنا ابن دُرَيْد، حدَّثنا أحمد بن عيسى العكلي، عن ابن أبي خالد عن الهيثم بن عدي، قال: كان لعمرو بن دُوَيرة السَّحْمي أخٌ قد كَلِفَ بابنةِ عمٍّ له كلفًا شديدًا، وكان أبوها يكره ذلك ويأباه، فشكا إلى خالد بن عبد الله القَسري وهو أمير العراق أنه يسيء جواره، فحبَسه، فسُئل خالدٌ في أمرِ الفتى فأطلقه، فلبث الفتى مُدَّة كافًّا عن ابنة عمِّه، ثمَّ زاد ما في قلبه وغلَب عليه الحب، فحمل نفسه على أن تسوَّر الجِدار إليها، وحصل معها الفتى، فأحسَّ به أبوها فقبض عليه، وأتى به خالد بن عبد الله القسري وادَّعى عليه السَّرَق، وأتاه بجماعة يَشهدون أنهم وجدوه في منزله ليلًا، وقد دخل دخول السُّرَّاق، فسأل خالدٌ الفتى، فاعترَف بأنه دخل ليَسرِق، ليدفع بذلك الفضيحة عن ابنة عمِّه، مع أنه لم يَسرق شيئًا، فأراد خالد أن يقطعه، فرفع عمرو أخوه إلى خالد رُقعةً فيها:
وأرسل خالدٌ مولًى له يسأل عن الخبر، ويتجسَّسُ عن جلية الأمر، فأتاه بتصحيح ما قال عمرو في شعره، فأحضر الجارية وأخذ بتزويجها من الفتى، فامتنع أبوها وقال: ليس هو بكفؤٍ لها. قال: بلى! والله إنه لكفؤٌ لها إذ بذلَ يدَه عنها، ولئن لم تزوِّجها لأزوِّجنَّه إياها وأنت كاره. فزوَّجه وساق خالدٌ المهر عنه من ماله، فكان يُسمَّى العاشق إلى أن مات.
يُطلِّق زوجتيه
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، حدَّثنا أبو سعيد الحسن بن جعفر بن الوضاح السمسار، حدَّثنا أبو بكر محمد بن يحيى المروزي، حدَّثنا عاصم، حدَّثنا المسعودي عن الحسن بن سعد عن أبيه، قال: كان تحت الحسن بن علي عليهما السلام امرأتان تميمية وجُعفية، فطلَّقهما جميعًا، فبعثَني إليهما وقال: أَخبِرهما فلتعتدا، وأخبرني بما تقولان، ومتِّع كلَّ واحدة بعشرة آلاف وكذا وكذا من العسل والسمن. فأتيتُ الجُعفية، فقلت: اعتدِّي. فتنفَّست الصُّعَدَاء ثمَّ قالت: متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مُفرِّقٍ. وأمَّا التميمية، فلم تدرِ ما معنى اعتدِّي حتى قالت لها النساء، وأخبره بقول الجُعفية، فنكتَ في الأرض ثمَّ قال: لو كنتُ مراجعًا امرأة لراجعتُها.
أموت وأحيا
أخبرنا علي بن المحسن، أنشدنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن الأخباري، أنشدنا ابن دُرَيْد، أنشدنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه لامرأة بدوية:
جميل والبنات العذريات
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه، حدَّثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري، حدَّثنا محمد بن داود بن سليمان النيسابوري، حدَّثنا علي بن الصباح، حدَّثني أبو المنذر، حدَّثني شيخ من أهل وادي القرى، قال: لما استعدى آل بُثينة مروان بن الحكم على جميل وطلبه ربعي بن دَجاجة العبدي صاحب تيماء، هرب إلى أقاصي بلادهم، فأتى رجلًا من بني عُذرة شريفًا، وله بناتٌ سبع كأنهن البدور جمالًا، وقال: يا بناتي، تحلَّين بجيِّدِ حليكنَّ، والبسن جَيِّدَ ثيابكن، ثمَّ تعرَّضن لجميل فإني أنفَسُ على مثل هذا من قومي.
وكان جميلٌ إذا رآهنَّ أعرض بوجهه فلا ينظر إليهن، ففعلن ذلك مِرارًا، فلما علم ما أريد بهن أنشأ يقول:
قال: فقال لهنَّ أبوهن: ارجعن، فوالله لا يُفلح هذا أبدًا.
المحبوس وابنة الوالي
أخبرنا عبد الواحد بن الحسين المقري إن لم يكن سماعًا فإجازةً، حدَّثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، حدَّثنا أبو علي الكوكبي، حدَّثنا ابن أبي الدنيا، حدَّثنا محمد بن زيد العتبي، أخبرني جدي الحسن بن زيد، قال: وَليَنا والٍ بديار مصر، فوجد على بعض عُمَّاله، فحبسه وقيَّده، فأشرفت عليه ابنة الوالي، فهويَتْه، فكتبَت إليه:
فأجابها الفتى:
فكتبت إليه:
فأجابها الفتى:
فذاع الشعر، وبلغ الخبر الوالي، فدعا به فزوَّجه إياها ودفعها إليه.
الدموع ألسنة القلوب
أخبرنا أبو الغنائم محمد بن علي بن علي الدجاجي إجازة، حدَّثنا إسماعيل بن سويد، حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدَّثنا أحمد بن زهير، أخبرنا محمد بن سلام، قال: قلتُ لصديقٍ لي: إن كنتَ تُحسن إنشاد الغزل فأنشدني أبياتًا تشوي القلب رِقَّةً أكتُب بها إلى رجلٍ مُستَهترٍ بجاريةٍ له، فأنشأ يقول:
فخشيتُ أن أكتب بها إلى صديقي، فتُوافق منه بعض ما أعرف، فيموت عشقًا قلبه.
الطيف المحتشم
ولي من أثناء قطعة:
شعر يزيد بن الطثرية
أنبأنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال رحمه الله، أخبرنا أحمد بن محمد بن الصلت، حدَّثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: أنشدني أبي ليزيد بن الطَّثريَّة، والطَّثرُ عند العرب: الخصبُ وكثرةُ اللبن:
أنفاس تذيب الحديد
وبإسناده، حدَّثنا أبو بكر بن الأنباري، حدَّثني أبي: أنشدنا أبو علي بن الضبي:
زعم الدموع
وبإسناده أخبرنا ابن الأنباري: أنشدنا عبد الله بن لقيط:
حديث يَشفي الملسوع
الشافعي وامرأته
أخبرنا أبو الحسين علي بن عبد الوهاب السكري قراءةً عليه رحمه الله، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا أبو طالب أحمد بن الحسين بن علي، حدَّثني أحمد بن أصرم المزني من ولد عُبيد الله بن مغفل، حدَّثني محمد بن عبد الله الفارسي، قال: قال الشافعي: كانت لي امرأةٌ، وكنتُ أحبها، فكنتُ إذا دخلتُ عليها أنشأت أقول:
قال: فترد هي عليَّ:
هلال مكلل بشموس
حدَّثنا الخطيب، أخبرنا الرزاز، أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني، حدَّثني عمي، حدَّثني أحمد بن المَرْزُبان، قال: كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قد هَويَ جاريةً نصرانيةً، رآها في دير مار جرجس في بعض أعياد النصارى، فكان لا يُفارق البِيَعَ شَغَفًا بها، فخرج في عيد مار جرجس إلى بيعة تُعرف بدير مار جرجس، فوجدها في بستان إلى جانب البيعة، وقد كان قبل ذلك يُراسلُها ويُعلِمُها محبَّته لها، فلا تقدر على مواصلته ولا لقائه إلا على ظهر الطريق، فلما ظفر بها الْتوَتْ عليه، وأبت بعض الإباء، ثمَّ ظهَرت له، وجلست معه مع نُسوَةٍ كانت تأنس بهنَّ، فأكلوا وشربوا، وأقام معها أسبوعًا، ثمَّ انصرف في يوم خميسٍ، وقال في ذلك:
كما أكون يكون؟
أنبأنا القاضي الشريف أبو الحسين بن المهتدي رحمه الله، حدَّثنا طالب بن عثمان الأزدي، حدَّثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: الحجون موضع بمكة أنشدني أبي فيه:
قمر نام في قمر
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا أبو عبد الله أحمد بن أبي محمد القرشي، قال: كان بعض الظرفاء يتعشَّق جاريةً لبعض المغنِّيات، فدعاها يومًا، فأقامت عنده وأتى الليل، فشُغل ببعض أموره، فصعدت الجارية، فنامت فوق سطح له في القمر، فلما فرغ من أمره صعد فرآها نائمة، فاستحسنَ وجهها، فجعل مرَّةً ينظر إليها ومرَّةً ينظر إلى القمر، وأنشأ يقول:
المعصفر بالدم
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الجوهري، حدَّثنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، أنبأنا الصولي: أنشدنا ابن المعتز لنفسه:
يغار منك عليك
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي رحمه الله: حدَّثنا أبو منصور علي بن محمد الباخرزي الفقيه بنيسابور لبعضهم:
الجارية الحنون
ذكر أبو منصور بائي بن جعفر بن بائي الجيلي قاضي ربع الوراقين ببغداد، ولم أسمعه منه، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عمران الجندي، حدَّثنا جعفر الخالدي، حدَّثنا ابن مسروق، حدَّثنا عمر بن شبة، حدَّثنا سلم بن عمر، قال: اعترض ابن أبي دؤاد جاريةً، فأعجبته، فقال:
فأجابته:
الرشيد والجارية المولعة بخلافه
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا أحمد بن علي المروزي الجوهري إملاءً من حفظه، أخبرني أبو العباس أحمد النيسابوري، أن هارون الرشيد كتب هذه الأبيات إلى جارية له كان يحبُّها، وكانت تُبغِضه:
ووجدت له في هذه القطعة بيتًا أول وبيتًا أخيرًا، فأمَّا الأول فهو:
وأمَّا البيت الأخير فهو:
عاشق زوجة أخيه
وأخبرنا محمد بن الحسين، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا محمد بن مخلد بن حفص العطار، حدَّثنا إبراهيم بن راشد بن سليمان الآدمي، حدَّثنا عبد الله بن عثمان الثقفي، حدَّثنا المفضل بن فضالة مولى عمر بن الخطاب عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني، قال: كان في الجاهلية أخَوان من حيٍّ يُدعَون بني كُنَّه، أحدهما متزوِّج، والآخرُ عَزبٌ، فقُضي أن المتزوج خرجَ في بعض ما يَخرج الناس فيه، وبقيَ الآخر مع امرأة أخيه، فخرجت ذات يوم حاسرةً، فرآها أحسنَ الناس وجهًا وثغرًا، فلما علمت أن قد رآها ولوَلتْ وصاحَت وغطَّت بمعصمها وجهها. قال القاضي: المعصم موضع السوار، فزاده ذلك فتنة، فحمل الشوق على بدنه حتى لم يَبقَ إلا رأسه وعيناه تدوران فيه.
قال القاضي: البيتُ الأول من هذه الأبيات مُضطرب، وأرى بعض من رواه كسره، وأخلَّ ببنائه ونظمه لأنه لم يكن له علم بوزن الشعر وترتيبه.
فقال الرجل: هذه دور قومنا، فليت شعري مَن؟ فقال الحارث: ليس فيه مُستَمتَعٌ غير اليوم، ولكن أغدو عليكم من الغد. ففعل به كفِعله بالأمس، فانتشى يُغني سُكرًا، واسمُ امرأة أخيه رَيَّا، فقال:
فقال الرجل لمن حضره: أُشهدكم أنها طالقٌ ثلاثًا، ليرجع إلى أخي فؤادُه، فإن المرأة توجد والأخ لا يوجد. فجاء الناس يقولون له: هنيئًا لك أبا فلان، فإن فلانًا قد نزل لك عن فلانة. فقال لمَن حضر: أشهدُكم أنها عليَّ مثل أمي إن تزوجتُها.
قال عبد الله بن عثمان: قال المفضل: قال ابن سيرين: قال عُبيدة السلماني: ما أدري أي الرجلين أكرم الأول أم الآخَر!
وقف على العلل
أنبأنا أبو الغنائم محمد بن علي بن علي الدجاجي رحمه الله، حدَّثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، أخبرنا أبو علي الحسين بن القاسم بن جعفر، حدَّثنا أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب، حدَّثنا الزبير بن أبي بكر، حدَّثنا عمر بن أبي المؤملي، عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر البسطامي: أنشدني عبد الله المديني أبياتًا في الغزل، وكان مشغوفًا بجاريةٍ:
أخذنا بأطراف الأحاديث
وبإسناده حدَّثنا الحسين بن القاسم، حدَّثنا أحمد بن زهير، حدَّثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي، حدَّثنا خالي إبراهيم بن محمد السهمي، قال: كان عبد الرحمن بن خارجة إذا ودَّع البيت ركب راحلته ورفع عقيرته وأنشأ يقول:
الدموع الشاهدة
ولي من أثناء قصيدة:
ملاءة العِفَّة
ولي أيضًا من أثناء قصيدة:
المملوك المالك
فقال له جعفر بن يحيى: إن أبا العتاهية محبوسٌ بلا جُرم، وهو أقدَرُ الناس على أن يأتي بشيء مليح. قال: وجِّه البيتَين إليه، وقل له أجِزهما بما يُشابههما. فلما قرأهما أبو العتاهية كتب تحتهما:
فلما قرأ الأبيات استحسنها الرشيد وأمر بإطلاقه وصِلَته، وقال: صدق والله، أحضروه. فحضر، قال: أجِز بيتي! فقال: الآن طاب القول وأطاع الفكر. وأنشد:
فقال الرشيد: جئتَ والله بما في نفسي. وأطلقه وزاد في صلته.
فتوى في الحب١٥٥
حدَّثنا أحمد بن علي الحافظ بدمشق من لفظه، حدَّثنا أبو نعيم الحافظ بأصفهان، حدَّثنا سليمان بن أحمد الطبراني، أخبرني بعض أصحابنا، قال: كتَب بعض أهل الأدب إلى أبي بكر بن داود الأصبهاني الفقيه:
فأجابه ابن داود:
ليلى الحارثية
أخبرنا أبو القاسم عُبيد الله بن عمر بن أحمد المرورذي، حدَّثني أبي، حدَّثنا الحسين بن أحمد بن صدقة، حدَّثنا أحمد بن أبي خيثمة، حدَّثنا أبو معمر، قال: أملى علينا سفيان بن عُيَينة عن يحيى بن يحيى الغساني، قال: سمعتُ عُروةَ يحدِّثُ أن عبد الرحمن بن أبي بكر خرج في نفرٍ من قريش إلى الشام يَمتارون، فمرُّوا بامرأة يُقال لها ليلى، فراعه جمالُها، وقد وقَع منها في نفسه شيء، فرجع وهو يشبِّبُ ويقول:
زاده مصعب بيتَين ليس من حديث ابن عُيَيْنة:
ثمَّ رجع إلى حديث سفيان، قال: فلما كان زمن عمر بن الخطاب افتتح خالد بن الوليد الشام، فصارت إليه.
عبد الملك والغلام العاشق
أنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، حدَّثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني، حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدَّثنا الكديمي أبو العباس، حدَّثنا السليمي عن محمد بن نافع مولاهم عن أبي ريحانة أحد حجاب عبد الملك بن مروان، قال: كان عبد الملك يجلس في كل أسبوع يومين جلوسًا عامًّا، فبينا هو جالس في مُستشرَفٍ له، وقد أُدخِلت عليه القِصص، إذ وقعت في يده قِصَّةٌ غير مُترجمة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته فلانة تُغنيني ثلاثة أصوات، ثمَّ يُنفذ فيَّ ما شاء من حُكمه، فعل.
فخرَج الغلام من جميع ما كان عليه من الثياب تمزيقًا. ثمَّ قال له عبد الملك: مُرها تُغنِّك الصوت الثاني! فقال: غنِّيني بشعر جميل:
فغنَّته الجارية. فسقط مغشيًّا عليه ساعة، ثمَّ أفاق، فقال له عبد الملك: مُرها فلتُغنِّك الصوت الثالث! فقال: يا جارية، غنِّيني بشعر قيس بن الملوَّح المجنون:
فغنَّته. فطرح الغلام نفسه من المُستشرف، فلم يصل إلى الأرض حتى تقطع، فقال عبد الملك: ويحه، لقد عجَّل على نفسه، ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل. وأمر فأُخرجت الجارية عن قصره، ثمَّ سأل عن الغلام، فقالوا: غريبٌ لا يُعرَفُ، إلا أنه منذ ثلاثٍ ينادي في الأسواق ويده على أم رأسه:
الطائفة في البيت الحرام
قال: قلت: يا هذه تُنشدين هذا حول بيت الله الحرام؟ فقالت: إليك عني يا شيخ، لا يُرهقك الحب، فإنه يَكمن في القلب ككمون النار في حَجَرِها، إن قدحته أورى، وإن كتمته توارى، ثمَّ ولَّت نحو زمزم، وهي تقول:
العود الصليب
أنبأنا الرئيس أبو علي بن وشاح الكاتب، أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا، حدَّثنا علي بن سليمان الأخفش، حدَّثنا محمد بن مريد، قال: حدثت بعض أصحاب ابن عباس، فقال: إنِّي وابن عباس بفناء الكعبة وهو في جماعة، فإذا بفِتيان يحملون بينهم فتًى حتى وضعوه بين يدَي ابن عباس، فقالوا: استشفِ له! فكشفوا عنه، فإذا وجهٌ حُلْوٌ، وعُودٌ صلِيبٌ، وجسمٌ ناحِلٌ، فقال له: ما يؤلُمك؟ فقال:
فقال ابن عباس: أرأيتم وجهًا أعتق أو عودًا أصلب أو منطِقًا أفصح من هذا؟ قتيل الحب، لا عقلٌ ولا قَوَد! فما سمعنا ابن عباس دعا بشيءٍ إلى أن أمسى إلا بالعافية مما أصاب الفتى.
نظرت إليها
وأنبأنا ابن وشاح، أخبرنا القاضي المعافى بن زكريا، حدَّثنا أبو طالب الكاتب علي بن محمد بن الجهم، حدَّثنا عمر يَعني ابن شبة، حدثني أبو يحيى، قال: أنشدت عبد الملك بن عبد العزيز:
قال أبو يحيى: فقلت له: قالها رجل من بني قشير. فقال: أحسَنَ والله. فقلت: أنا قُلتُها في طريقي إليك. قال: قد والله عرفتُ فيها الضعف حين أنشدتني.
روح مُعذَّبة بالحياة
قال أبو الفرج الببغاء: وقد كان القاضي أبو القاسم التَّنُوخِي أنشدنا جميع شعره أو أكثره، ولا أعلم هذه القطعة فيما أنشدنا أهي له أم لا، وهي:
الأعرابي البصير
أخبرنا عُبيد الله بن عمر بن أحمد بن شاهين الواعظ، حدَّثنا أبي، حدَّثنا عمر بن الحسن، حدَّثنا ابن أبي الدنيا، حدَّثنا علي بن الجعد، سمعتُ أبا بكر بن عياش يقول: كنت في زمن الشباب إذا أصابتْني مُصيبة، تجلَّدتُ ودفعتُ البُكا بالبصر، وكان ذلك يؤذيني ويؤلمني، حتى رأيتُ أعرابيًّا بالكناسة واقفًا على نجيبٍ وهو يُنشد:
فأصابتْني بعد ذلك مصائب فكنتُ أبكي، فأجد لذلك راحةً. فقلت: قاتَل الله الأعرابي، ما كان أُبصره!
الصوفي المتواجد
أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، أخبَرَني أبي، حدَّثني أبو الطيب محمد بن أحمد بن عبد المؤمن أحد الصوفية من أهل سر من رأى، قال: رأيتُ ببغداد صوفيًّا أعور، يُعرَف بأبي الفتح، في مجلس أبي عبد الله بن البهلول، فقرأ بألحانٍ قراءةً حسنة، وصبيٌّ يقرأ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ. فقال الصوفي: بلى! بلى! دفعاتٍ وأُغميَ عليه طول المجلس، وتفرَّق الناس عن الموضع، وكان الاجتماع في صحن دار كنت أنزِلُها، فلم يكن الصوفي أفاق فتركتُه مكانه، فما أفاق إلى أن قرُبَ العصر، ثمَّ قام. فلما كان من بعد أيام سألت عنه فعرفتُ أنه حضر عند جاريةٍ في الكرخ تقول بالقضيب، فسمعتُها تقول الأبيات التي فيها:
فتواجد وصاح، ودقَّ صدره إلى أن أُغميَ عليه فسقط. فلما انقضى المجلس حرَّكوه فوجدوه ميِّتًا، فغسَّلوه ودفنوه. واستفاض الخبر بهذا وشاع، وأخبرني به فئام من الناس، والأبيات لعبد الصمد بن المعذَّل:
الأصمعي والجواري
أخبرنا الخطيب، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي بنيسابور، حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفار الأصبهاني، حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد النيسابوري ببغداد، حدَّثنا محمد بن حبيب، سمعتُ علي بن عثام يقول: سمعتُ الأصمعي يقول: مررتُ بالبادية على رأس بئر، وإذا على رأسه جَوارٍ، وإذا واحدة فيهن كأنها البدر، فوقع عليَّ الرعدةٌ، وقلت لها:
قال: فرفعت رأسَها وقالت لي: اخسأ. فوقع في قلبي مثل جمر الغضا، فانصرفتُ عنها وأنا حزين. قال: ثمَّ رجعت إلى رأس البئر، وإذا هي هناك، فقالت:
فانطلقت معها إلى أبيها، فتزوجتُها، فابني عليٌّ منها.
الهوى دعوى من الناس
أخبرنا الخطيب، أنبأنا أحمد بن الحسين الواعظ، حدَّثنا أبو الفرج الورثاني الصوفي، أخبرني محمد بن عبد العزيز الصوفي، قال أحمد بن الحسين وقد رأيته ولم أسمع منه: أنشدني أبو علي الروذباري:
آخر الرمق
أخبرني الخطيب: أنبأني أبو طالب يحيى بن علي بن الطيب الدسكري بحلوان للروذباري:
القباح غوالٍ وإن رَخُصْن
أنبأنا أبو الغنائم محمد بن علي بن علي، حدَّثنا إسماعيل بن سويد، حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدَّثنا أحمد بن زهير، حدَّثنا أحمد بن إسماعيل بن حذافة، أخبرنا الأصمعي، حدَّثني الحسن الوصيف حاجب المهدي، قال: كُنَّا بزيالة، وإذا أعرابي يقول: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك! إنِّي عاشِقٌ. قال: وكان يحبُّ ذكر العُشاق والعشق، فدعا بالأعرابي، فلما دخل عليه قال: سلامٌ عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. ثمَّ قعد، فقال له: ما اسمُك؟ فقال: أبو مياس. قال: يا أبا مياس! من عشيقتُك؟ قال: ابنة عمي، وقد أبى أبوها أن يُزوِّجَنيها. قال: لعله أكثر منك مالًا؟ قال: لا! قال: فما القصة؟ قال: أدنِ مني رأسَك.
قال: فجعل المهدي يَضحكُ وأصغى إليه رأسه، فقال: إنِّي هجينٌ. قال: ليس يضرُّك ذاك، إخوة أمير المؤمنين وولده أكثرُهم هُجُنٌ، يا غلام عليَّ بعمه.
قال: فأُتي به، فإذا أشبه خلقِ الله بأبي مياس، كأنهما باقلاةٌ فُلِقَت. فقال المهدي: ما لك لا تُزوِّج أبا مياس وله هذا اللسان والأدب وقرابتُه منك؟ قال: إنه هجين. قال: فإخوة أمير المؤمنين وولدُه أكثرُهم هُجُنٌ، فليس هذا مما يُنقِصُه، زوِّجها منه، فقد أصدقتُها عنه عشرة آلاف درهم. قال: قد فعلتُ. فأمر له بعشرين ألف درهم، فخرج أبو مياس وهو يقول:
معشوق ينفق على عاشق
حدَّثنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ من لفظه بالشام، أنبأنا أبو سعد الماليني، حدَّثنا الحسن بن إبراهيم الليثي، حدَّثني الحسين بن القاسم، قال: كان محمد بن داود يميل إلى محمد بن جامع الصيدلاني، وبسببه عمل كتاب الزهرة، وقال في أوله: وما تُنكر من تغيُّر الزمان وأنت أحد مغيِّريه، ومن جفاء الإخوان وأنت المقدَّم فيه، ومن عجيب ما يأتي به الزمان ظالمٌ يتظلَّم، وغابنٌ يتندَّم، ومطاعٌ يستظهر، وغالبٌ يستنصر.
قال الحسين: وبلغنا أن محمد بن جامع دخل الحمام، وأصلح من وجهه وأخذ المرآة فنظر إلى وجهه، فغطاه وركب إلى محمد بن داود، فلما رآه مغطَّى الوجه خافَ أن يكون قد لحقته آفةٌ، فقال: ما الخبر؟ فقال: رأيتُ وجهي الساعة في المرآة فغطَّيته، وأحببتُ أن لا يراه أحدٌ قبلَك. فغُشيَ على محمد بن داود.
قال الليثي: وحدَّثني محمد بن إبراهيم بن سكرة القاضي، قال: كان محمد بن جامع يُنفقُ على محمد بن داود، وما أعرفُ فيم مضى من الزمان معشوقًا يُنفقُ على عاشق إلا هو.
صبر يوم
حدَّثنا أحمد بن علي الوراق بالشام، أخبرني أبو القاسم الأزهري، حدَّثني أبو العباس محمد بن جعفر بن عبد العزيز بن المتوكِّل الهاشمي: أنشدنا الصولي:
قال الخطيب: قال لي الأزهري: رأيتُ هذا الشيخ في دكان أبي سعيد الوراق، وأنشدني من حفظه أبياتًا عَلِقتُها عنه، وذكر لي أنه رواها عن الصولي وغيره.
من توفَّاك يُحييك
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا الجريري، قال: استشرفَ بعض المُترَفين إلى طريقة الصوفية والاختلاط بهم وملابستهم، فشاور في هذا بعض مشيختِهم، فردَّه عما تشوَّف إليه من هذا، وحذَّره التعرُّض له، فأبت نفسه إلا ما جذبته الدعاوى إليه، وعطفتْه الخواطر عليه، فمال إلى فريقٍ من هذه الطائفة، فعلق بهم واتصل بجملتهم، ثمَّ صَحِبَ جماعةً منهم متوجِّهةً إلى الحج فعجز في بعض الطريق عن مُسايرتهم، وقصَّرَ عن اللحاق بهم، فمضوا وتخلَّف عنهم، واستند إلى بعض الأميال إرادة الاستراحة من الإعياء والكلال. فمرَّ به الشيخ الذي كلمه في ما حصل فيه قبل أن يتسنَّمه، فنهاه عنه وحذَّره منه، فقال هذا الشيخ مخاطبًا له:
فقال له الفتى: ما أصنع الآن؟ فقال له:
بشار يصف مجلس غناء
أخبرنا الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدَّثنا العباس بن الفضل الربعي، حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: كان بالبصرة لرجل من آل سليمان بن عليَّ جاريةٌ، وكانت حسناء بارعة الظرف والجمال، وكان بشَّار بن برد صديقًا لمولاها ومداحًا له، فحضرَ مجلسَه، والجاريةُ تغنِّيهم، فشربَ مولاها وسكر ونام، ونهض للانصراف من كان بالحضرة، فقالت الجارية لبشار: أُحِبُّ أن تَذكُرَ مَجلِسَنا هذا في قصيدة وتُرسِلَها إليَّ على أن لا تذكُر فيها اسمي ولا اسم سيِّدي. فقال بشار، وبعَث بها مع رسوله إليها:
الفضل بن يحيى وخشف
أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا محمد بن يحيى الصولي، حدَّثنا عون بن محمد، حدَّثني إدريس بن بدر أخو الجهم بن بدر، قال: كان أبي منقطِعًا إلى الفضل بن يحيى، فكان معه يومًا في موكبه، فقال أبي: فرأيتُ من الفضل حَيرَة وجَولة، ففطن أني قد استبنتُ ما كان منه، فقال: عرِّفني يا بدرُ كيف قال المجنون وداعٍ دعا، فأنشدته:
قال: هذه والله قِصَّتي، كنت أهوى جاريةً يُقالُ لها خِشفُ، ثمَّ ملكتُها فقرُبت من قلبي، فسمعتُ الساعة صائحًا يصيحُ: يا خِشفُ، فكان مني ما رأيت، ونالني مثل ما قال المجنون.
معاوية في مجلسٍ له
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا محمد بن الحسن بن دُرَيْد، حدَّثنا أبو حاتم عن العتبي عن أبيه، قال: ابتنى معاوية بالأبطح مجلسًا، فجلس عليه، ومعه ابنةُ قَرظة، فإذا هو بجماعة على رِحالٍ لهم، وإذا بشابٍّ منهم قد رفَع عقيرته يتغنَّى:
قال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر. قالوا: خلُّوا له الطريق، فليذهب. ثمَّ إذا هو بجماعة فيهم غلام يُغنِّي:
قال: مَن هذا؟ قالوا: عمر بن أبي ربيعة. قال: خلُّوا له الطريق، فليذهب. قال: ثمَّ إذا بجماعة، وإذا رجلٌ منهم يسأل ويقول: رَميتُ قبل أن أحلِقَ، وحَلَقتُ قبلَ أن أرمي، لا شيء أشكلتُ في مسائل الحج. فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمر. فالتفتَ إلى بنت قرظة، فقال: هذا وأبيكِ الشرفُ لا ما نحنُ فيه.
شعر سارت به الركبان
حدَّثنا أحمد بن علي الوراق بدمشق من لفظه، أخبرنا أبو عبد الرحمن إسماعيل بن أحمد الحيري بنيسابور، حدَّثنا أبو نصر بن أبي عبد الله الشيرازي، حدَّثني أبو الحسين محمد بن الحسين الطاهري البصري من حفظه، قال: حدَّثني أبو الحسن محمد بن الحسين بن الصياح الداودي البغدادي الكاتب بالرملة، حدَّثنا القاضي أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الأزدي ببغداد، قال: كنتُ أُساير محمد بن داود علي ببغداد، فأُذاكِرُهُ بشيءٍ من شعره، وهو:
فقال محمد بن داود: كيف السبيلُ إلى استرجاع هذا؟ فقال القاضي أبو عمر: هيهات، سارت به الركبان.
من يَهب ولَده؟
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا القاضي المعافى بن زكريا، حدَّثنا أحمد بن جعفر البرمكي جحظة، حدَّثني خالد الكاتب، قال: قال لي علي بن الجهم، هَبْ لي بيتك، وهو:
قال: فقلت له: أرأيتَ أحدًا يَهبُ ولده؟
المحبَّان الوفيَّان
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن، حدَّثني أبي، حدَّثنا عُبيد الله بن محمد الهروي، حدَّثني أبي، حدَّثني صديق لي ثقة: إنه كان ببغداد رجلٌ من أولاد النعم، ورث مالًا جليلًا، وكان يعشق قينة، فأنفق عليها مالًا كثيرًا ثمَّ اشتراها، وكانت تُحبه كما يحبُّها، فلم يزل يُنفِقُ ماله عليها إلى أن أفلسَ، فقالت له الجارية: يا هذا قد بَقينا كما ترى، فلو طلبتَ معاشًا؟
قال: وكان الفتى لشدَّة حُبِّه الجارية وإحضاره الأستاذات ليَزيدوها في صنعتها قد تعلَّم الضرب والغناء، فخرج صالح الضرب والحذق فيهما، فشاور بعض معارفه، فقال: ما أعرفُ لك معاشًا أصلحَ من أن تُغَنِّي للناس، وتَحمل جاريتك إليهم، فتأخذ على هذا الكثير، ويطيب عيشُك، فأنفَ من ذلك وعاد إليها فأخبرَها بما أُشيرَ به عليه، وأعلمها أن الموت أسهلُ عنده من هذا.
فصبرَت معه على الشدة مدة، ثمَّ قالت له: قد رأيتُ لك رأيًا. قال: قولي! قالت: تبيعني، فإنه يَحصلُ لك من ثمني ما إن أردتَ أن تتجرَ به، أو تُنفقه في ضيعة عِشتَ عيشًا صالحًا، وتخلَّصت من هذه الشدة وأحصلُ أنا في نَعمة، فإن مثلي لا يشتريها إلا ذو نعمة. إن رأيت هذا، فافعل.
فدخلتُ مسجدًا، وجعلتُ أبكي وأُفكِّر في ما أعمل، فغلبتْني عيني، فتركت الكيس تحت رأسي، فانتبهتُ فِزِعًا، فإذا شاب قد أخذ الكيس وهو يعدو، فقمتُ لأعدو وراءه، فإذا رجلي مشدودةٌ بخيط قُنب في وتد مضروب في أرض المسجد، فلما تخلَّصتُ من ذلك حتى غاب الرجلُ عن عيني، فبكيتُ ولطمتُ ونالني أمرُ أشد من الأمر الأول، وقلت: فارقتُ مَن أحبُّ لأستغني بثمنه عن الصدقة، فقد صرتُ الآن فقيرًا ومفارِقًا.
فجئتُ إلى دجلة، فلففتُ وجهي بإزار كان على رأسي، ولم أكُن أُحسن العوم، فرميت نفسي في الماء لأغرَقَ، فظنَّ الحاضُرون أن ذلك لِغَلطٍ وقعَ عليَّ، فطرح قومٌ نفوسَهم خَلفي فأخرَجوني، فسألوني عن أمري، فأخبرتُهم، فمن بين راحمٍ ومُستجهلٍ إلى أن خلا بي شيخٌ منهم، فأخذ يَعِظُني، ويقول: ما هذا؟ ذهب مالُك فكان ماذا حتى تُتلف نفسَك، أو ما علمتَ أن فاعل هذا في نار جهنَّم! ولستَ أوَّل من افتقر بعد غِنى، فلا تفعل، وثِق بالله تعالى. أين منزلُك؟ قم معي إليه.
فما فارقني حتى حمَلَني إلى مَنزلي وأدخَلني إليه، وما زال يؤنسُني ويعظني إلى أن رأى مني السكون، فشكَرتُه، وانصرَف، فكِدتُ أقتلُ نفسي لشدة وحشتي للجارية، وأَظلمَ منزلي في وجهي، وذكرتُ النار والآخرة، فخرجتُ من بيتي هاربًا إلى بعض أصدقائي القدماء، فأخبرتُه خبري، فبكى رِقَّةً لي، وأعطاني خمسين درهَمًا، وقال: اقبل رأيي! اخرج الساعة من بغداد، واجعل هذه نفقة إلى حيثُ تجد قلبَك مُساعدك على قصده، وأنت من أولاد الكُتَّاب، وخطُّك جَيِّدٌ وأدبك صالح، فاقصد بعض العُمَّار واطرَح نفسك عليه، فأقل ما في الأمر أن يصرفَك في شُغلٍ أو يَجعلك مُحرِّرًا بين يديه وتعيش أنت معه، ولعلَّ الله أن يصنع لك.
فلما كان بعد شهر رأى الرجل دَخله زائدًا وخرجه ناقصًا، فحمدني، وكنتُ معه إلى أن حال الحول، وقد بان له الصلاح في أمره، فدعاني إلى أن أتزوَّج بابنته ويُشاركني في الدكان، ففعلتُ، ودخلتُ بزوجتي، ولزمت الدكان والحال تقوى، إلا أني في خلال ذلك مُنكسرَ النفس، مَيِّتُ النشاط، ظاهرُ الحزن، وكان البقال رُبَّما شربَ فيَجذبني إلى مساعدته، فأمتنع وأظهرُ أن سبب ذلك حزنٌ على موتى لي.
وأصلح لي طعامًا وشرابًا، وسلَّم إليَّ غُلامًا وسفينةً، فخرجت وأكلت في السفينة، وبدأت أشرَبُ حتى وصلت إلى الأُبُلَّة، وأبصرت الناس، وابتدءوا يَنصرفون وانصرفت، فإذا أنا بالزلال بعينه في أوساط الناس سائرًا في نهر الأبُلَّة، فتأمَّلته، فإذا بأصحابي على سطحه، ومعهم عدَّة مغنيَّات، فحين رأيتُهم لم أتمالَك فرحًا، فصِرت إليهم، فحين رأوني عَرَفوني وكبَّروا وأخذوني إليهم، وقالوا: ويحَك أنتَ حي! وعانَقوني، وفرحوا بي وسألوني عن قصتي، فأخبرتهم بها على أتم شرح، فقالوا: إنَّا لما فقدناك في الحال، وقع لنا أنك سكرت، ووقعت في الماء فغرقت، ولم نشكَّ في هذا. فمزَّقتِ الجارية ثيابها، وكسرَت عودها، وجزَّت شعرها، وبكت ولطمت، فما منعناها من شيءٍ من هذا، ووردنا البصرة، فقلنا لها: ما تحبِّين أن نعمل لك؟ فقد كُنَّا وعدنا مولاكِ بوعد تمنعُنا المروءةُ من استخدامك معه في حال فقده أو سماع غنائك. فقالت: ما تُمكِّنوني من القوت اليسير، ولُبس الثياب السود، وأن أعمل قبرًا في بيتٍ من الدار وأجلس عنده وأتوب من الغناء، فمكنَّاها من ذلك، فهي جالسة عنده إلى الآن.
وأخذوني معهم، فحينَ دخلتُ الدار ورأيتُها بتلك الصورة، ورأتْني شهقَت شهقةً عظيمة، ما شككت في تلفها، واعتنقنا، فما افترقنا ساعةً طويلةً، ثمَّ قال لي مولاها: قد وهبتُها لك. فقلت: بل تُعتقُها، وتُزوِّجني منها كما وعدتني. ففعل ذلك ودفع إلينا ثيابًا كثيرةً وفُرشًا وقماشًا، وحمل إليَّ خمسمائة دينار، وقال: هذا مقدار ما أردتُ أن أجريه عليك في كلِّ شهر، منذ أول يوم دخولي البصرة، وقد اجتمع هذا لهذه المدة، فخذه، والجائزة لك مُستأنَفةٌ في كل شهر، وشيءٌ آخر لكُسوتك وكُسوة الجارية، والشرطُ في المنادمة وسَماع الجارية من وراء ستارة باقٍ عليك، وقد وهبتُ لك الدار الفلانية.
قال: فجئتُ إليها، فإذا بذلك الفرش والقماش الذي أعطانيه فيها، والجارية، فجئتُ إلى البقَّال فحدَّثته حديثي وطلَّقتُ ابنتَه، ووفيتُها صداقَها، وأقمتُ على تلك الحال مع الهاشمي سَنتَين، فصَلُحت حالي، وصرتُ ربَّ ضيعة ونعمة، وعادت حالي، وعدتُ إلى قريب مما كنت عليه، فأنا أعيش كذلك إلى الآن مع جاريتي.
الجارية الحميراء وابن جامع
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين إن لم يكن سَماعًا فإجازةً، حدَّثنا المعافى بن زكريا أبو النضر العُقيلي، حدَّثنا يعقوب بن نعيم الكاتب، حدَّثني محمد بن ضو التيمي، سمعت إسماعيل بن جامع السهمي يقول: ضمَّني الدهرُ ضمًّا شديدًا بمكة، فانتقلتُ منها بعيالي إلى المدينة، فأصبحتُ يومًا ولا أملك إلا ثلاثة دراهم، فخرجتُ وهي في كُمِّي، فإذا بجاريةٍ حُمَيراءَ على رَقبَتها جَرَّة تريد الركي، وتمشي بين يدي، وتترنَّم بصوتٍ شجيٍّ تقول فيه:
فوالله ما دار لي منه حرفٌ واحدٌ، فقلت لها: يا جارية! ما أدري أوجهُك أحسن أم صوتُك أم جِرمُك، فلو شئتِ أعدتِه عليَّ. فقالت: حُبَّا وكرامةً. ثمَّ أسندت ظهرها إلى جدار كان بالقرب منها، ورفعَت إحدى رجلَيها فوضَعتها على ركبتِها، وحطَّت الجرَّة على ساقِها، واندفعت تُغنِّي بأحسن صوت، فوالله ما دار لي منه حرف واحد، فقلت: لقد أحسَنتِ وتفضَّلتِ، فلو شئت أعدتِه مرة أخرى.
فقطَّبت وكلَحت، وقالت: ما أعجب هذا! أحدكم يَجيء إلى الجارية عليها ضريبةٌ، فيقول لها: أعيدي مرَّةً بعد أخرى، فضربتُ يدي إلى ثلاثة دراهم ودفعتُها إليها، وقلت لها: أقيمي بهذا وجهَك اليوم إلى أن نلتقي. فأخذتها المُتكرِّهة وقالت: الآن تريد أن تأخذ عني صوتًا أحسبُك تأخذ عليه ألف دينار وألف دينار وألف دينار. ثمَّ اندفعت تغنِّي، وأعملتُ فكري في غنائها، فدار لي الصوت وفهمتُه، وانصرفت به مسرورًا. وذكر باقي الخبر.
قال ابن السراج: وقد ذكرت هذا الخبر بتمامه في أثناء كتابي هذا؛ فلذلك ما استوعبتُه هاهنا.
مأساة بشر وهند
فأجابها الفتى يقول:
فأجابته الفتاة تقول:
قال، فأجابها الفتى:
فأجابته الفتاة وهي تقول:
قال: فلما قرأ بِشرٌ هذه الأبيات غضب غضبًا شديدًا، وحلف لا يمرُّ بباب هندٍ ولا يقرأ لها كتابًا، فلم امتنع كتبت إليه تقول:
فلما لج بشرٌ وترك الممر ببابها، أرسلت إليها بوصيفة لها فأنشدتْه هذه الأبيات، فقال للوصيفة: لأمرٍ ما لا أمرُّ. فلما جاءت الوصيفة أخبرتها بقول بِشر، فكتبت وهي تقول:
فلما لج بشرٌ وترك الممر ببابها اشتدَّ عليها ذلك، ومرضت مرضًا شديدً، فبعث زوجُها إلى الأطباء، فقالت: لا تبعث إليَّ طبيبًا، فإني عرفتُ دائي، قهرني جِنِّي في مُغتَسَلي، فقال لي: تحوَّلي عن هذه الدار، فليس لكِ في جوارنا خير.
فقال لها زوجها: فما أهوَنَ هذا. فقالت: إنِّي رأيتُ في منامي أن أسكن بطحاء تُراب. قال: اسكني بنا حيثُ شئتِ. فاتَّخذت دارًا على طريق بشر، فجعَلت تنظر إليه كُلَّ غداةٍ إذا غدا إلى رسول الله ﷺ حتى برأت من مرضها، وعادت إلى حُسنِها، فقال لها زوجُها: إنِّي لأرجو أن يكون لك عند الله خيرٌ لما رأيتِ في منامِكِ أن اسكني بطحاء تراب، فأكثري من الدعاء.
وكانت مع هندٍ في الدار عجوزٌ، فأفشَتْ إليها أمرَها، وشكت ما ابتُليت به، وأخبرتها أنها خائفة إن علم بشر بمكانها أن يَترك الممر في طريقه، ويأخذ طريقًا آخر. فقالت لها العجوز: لا تخافي، فإني أعلم لك أمرَ الفتى كلِّه، وإن شئتِ أقعدتُك معه ولا يشعرُ بمكانك. قالت: ليت ذاك قد كان.
فقعَدت العجوز على باب الدار، فلما أقبل بشرٌ قالت له العجوز: يا فتى! هل لك أن تكتب لي كتابًا إلى ابنٍ لي بالعراق؟ قال بشر: نعم! فقعد يكتب، والعجوز تُملي عليه وهندٌ تسمع كلامهما، فلما فرغ بشر قالت العجوز لبشر: يا فتى! إنِّي لأظُنُّكَ مَسحورًا. قال بشر: وما أعلمكِ بذلك؟ قالت له: ما قلُتُ لك حتى علمت، فما الذي تتَّهم؟ قال لها: إنِّي كنتُ أمرُّ على جُهينة، وإن قومًا منهم كانوا يُرسلون إليَّ ويدعونني إلى أنفُسهم، ولست آمنُهم أن يكونوا قد أضمروا لي شرًّا. قالت له العجوز: انصرف عني اليوم حتى أنظر في أمرك.
فلما انصرف دخلت إلى هند فقالت: هل سمعتِ ما قال؟ قالت: نعم! قالت: أبشري، فإني أراه فتًى حدَثًا لا عهدَ له بالنساء، ومتى ما أتى وزيَّنتُك هنيئة وطيَّبتُك، وأدخلتُك عليه، غلبتْ شهوتُه وهواه دينه، فانظري أيَّ يوم يخرج زوجُك إلى القرية، فأخبريني.
فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العجوز وهند، فأحضرهما، فأقرَّتا بين يديه، فقال: الحمدُ لله الذي جعلَ من أمتي نظير يوسف الصِّدِّيق. ثمَّ قال لهند: استغفري لذنبك. وأدَّب العجوز، وقال لها: أنتِ رأسُ الخطيئة. فرجع بِشرٌ إلى منزِله وهندٌ إلى منزلها، فهاجَ بِشرًا حبُّ هند، فسكَت حتى إذا قضت عدَّتها بعث إليها يخطُبُها، فقالت: والله لا يَتزوَّجني وهو قد فضحَنني عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثمَّ مرض من حُبِّها، وعاد إليها الرسول، فقال: إنه مريض، وإنك إن لم تفعلي ليموتن. فقالت: أماتَه الله، فطال ما أمرَضَني.
قال: ومرض بِشرٌ فاشتدَّ مرضُه، وبلغَ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقبلوا إليه يعودونه، فقال بعضهم: أنا أرجو أن يُعذِّبَ الله هندًا، وأنشأ يقول:
قال: فشهق شهقةً فمات رحمه الله، وأقامت عليه أخته مأتَمًا، فقامت تندُبُه، فجاءت هند، وأخته تقول:
قال: فلما سمعتْ هند صرَخت صرخةً ووقعت ميِّتةً رحمهما الله وذُهِبَ بها فدُفِنَت مع بِشر، فلما مضت أيام جاءت العجوز إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، أنا رأس الخطيئة كما قلت، أنا التي كنتُ سبب الأمر، وقد خشيتُ أن لا تكون لي توبةٌ. فقال النبي ﷺ: «استغفري لذنبك وتوبي، فإن الله تعالى يقبلُ التوبةَ النصوح.»
آخر حديثهما رحمهما الله.
الحبيب المتبدِّل
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدَّثنا محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا محمد بن خلف، قال: أنشدني أبو بكر العامري، أنشدني غيث الباهلي، أنشدتني قريبةُ أم البُهلُول لبَيهس بن مُكْنِف بن أعيا بن ظَريف:
غايات الوصال
وبإسناده أخبرنا محمد بن خلف، قال: أنشدتُ للحكم بن قنبر:
البين مضر للمشغوف
وبإسناده أخبرنا محمد بن خلف، حدَّثني أبو العباس محمد بن يعقوب، حدَّثني أبو عبد الرحمن الغلابي، قال: قال إسحاق: جاء رجلٌ من التجَّار بقَينة يعرضها على الرشيد، وأمر بإدخالها مقصورةً لتُهيَّأ فيها، فدخل الفضل بن الربيع ليعترضها، ويُخبر أميرَ المؤمنين، فأخذت العود وأصلحته، وجعلت تنظرُ في وَجه مولاها وعيناها تذرفان، وغنَّت:
أخبر الفضل بن الربيع الرشيد الخبر، فأمر بردِّها على مولاها، وأمرَ له بعشرة آلاف درهم.
ما أعفَّ وأمجد
أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم، حدَّثنا محمد بن خلف، قال: أنشدتُ لجميل بن عبد الله بن مَعمر:
موهوب للمنايا
وبإسناده قال: أنشدتُ لأعرابي:
الفَتول الخثعميَّة وحلف الفضول
عفة ووجه صبيح
أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم البصري، حدَّثنا محمد بن خلف: أنشدتُ لبعض الأعراب:
صدق الواشون
وبالإسناد قال أنشدت لقيس بن الملوَّح:
كذا ذكر والصواب:
سواء في الهوى
في المجالسات حدث أبو القاسم منصور بن جعفر الصيرفي، حدَّثني أحمد بن عبد الله المحرر، أخبرني بعض أصحابنا، أخبرني صديق لي من أهل المدينة، قال: كان لنا عبد أسود يستقي الماء، فهويَ جاريةً لبعض المدنيين سوداء، وكان يواصلها سِرًّا مِنَّا، فلم يزالا كذلك حتى اشتهر أمرُهما، وظهر فشكى مولى الجارية الغلام إلى أبي، فضَربَه وحبسَه وقيَّده، فمكث أيَّامًا على هذه الحال ثمَّ دخلتُ إليه فقلتُ له: ويلك! قد فضحتَنا وشهَّرتنا بحبِّك لهذه السوداء، وتعرَّضت فيها للمكروه، فهل تجدُ بك مثلَ وَجدِك بها؟ فبكى، وأنشأ يقول:
قال: فخبرتُ بذلك أبي، فحلف أنه لا يَبيتُ أو يجمع بينهما، فاشتراها له أبي باثني عشر دينارًا وزوَّجها منه.
قتيل لا قود له ولا دية١٨١
أنبأنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري، حدَّثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد بن متويه البلخي، حدَّثنا أحمد بن إسماعيل الكرابيسي، حدَّثنا معبد بن فرقد البلخي، حدَّثنا سليمان بن أبي عبد الرحمن، عن مجالد بن عبد الرحمن الأندلسي، عن عطاء أن عكرمة قال: كُنَّا عند ابن عباس في آخر أيام العشر في المسجد الحرام، إذ أقبل فتيانٌ يحملون فتًى حتى وضعوه بين يدي ابن عباس، فقالوا: استشفِ الله له تُؤجَر.
فقال لهم: ما به؟ فأنشأ الفتى يقول:
قال ابن عباس: والله ما رأيتُ وجهًا أعتَقَ، ولا لسانًا أذلَقَ، ولا عودًا أصلَبَ من هذا. هذا والله قتيلُ الحبُّ والهوى، لا قَوَدَ له ولا دِيَّة.
الدمع المبتذل
وأنبأنا القاضي أبو الطيب، سمعت أبا جعفر الموسائي العلوي يقول: حدَّثني محمد بن أحمد بن الرصافي، قال: قال لي عبد الملك بن محمد: إنِّي خرجتُ من البصرة أريد الحج، فإذا أنا بفتًى نِضْوٍ قد نَهَكَه السقام، يقفُ على مَحمَلٍ مَحمَلٍ، وهودجٍ هودجٍ، ويطَّلِعُ فيه، فتعجَّبت منه ومن فعله، فقال:
فلم أزل أقف عليه حتى جاء إلى المنزل، فاستند إلى جدار ثمَّ قال:
قال: ثمَّ تنفَّسَ الصُّعَدَاء، وشهقَ شهقةً، فحرَّكته فإذا هو ميت.
يقتل من يحبُّه
أنبأنا القاضي أبو الطيب، سمعت أبا القاسم بن متويه يقول: رَشقَ الجُماني العلوي غُلامًا له وكان يحبُّه فقتله، وقال فيه:
هذا مليح
أخبرنا أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب بالشام، أنبأنا أبو الفرج التميمي: أنشدنا أبو الحسن السلامي لنفسه:
الشاهد الغائب
أنبأنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي، حدَّثنا أبو أحمد عُبيد الله بن محمد بن أبي مسلم، حدَّثنا أبو بكر الصولي، قال: كُنَّا يومًا عند تَغلِبَ، فأقبلَ محمد بن داود الأصفهاني، فسلَّم عليه أبو العبَّاس، ثمَّ قال له: أها هنا شيءٌ من صُيُودك؟ فأنشده:
السُّقم المسروق
قال: وأنشدني أبو بكر الضولي:
حياة الكلام وموت النظر
قال: وعَلِقَها، فقال: فزوِّجيني نفسك. فقالت: شأنك وأوليائي! فأتاهم، فخاف أن لا يزوِّجوه للعداوة التي بينهم، فانتَسَبَ عُذريًّا فزوَّجوه. فأقام معها زمانًا ثمَّ علم به أهلها، فقالوا: يا هذا، والله إنكَ لكفؤٌ كريم، ولكنَّا نكرَهُ أن تنكحَ مِنَّا وأنت حربُنا، فخلِّ عن صاحبتَنا. وقد كان تزايدَ وَجدُه بها لما رأى من موافقتها وحُسنها، وكانت تُهالِكه عند الجماع، فطلَّقها وقال:
الأخوات الثلاث وكتابهن١٨٦
أخبرنا أبو الغنائم محمد بن علي بن علي في ما أجاز لنا، حدَّثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، حدَّثنا الحسين بن القاسم، حدَّثنا أحمد بن زهير، حدَّثنا الزبير بن بكار، حدَّثني عمٌّ لي قال: ذكرَ لي رجلٌ من أهل المدينة أن رجلًا خرَجَ حاجًّا، فبينا هو قد نزَل تحت سَرْحة في بعض الطريق، بين مكة والمدينة، إذا هو بكتابٍ مُعلَّقٍ في السرحة مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أيها الحاج القاصدُ ببيتَ الله، إن ثلاث أخواتٍ فتياتٍ خلَون يومًا، فبُحن بهواهنَ، وذكرنَ أشجانهن، فقالت الكبرى منهن:
وقالت الوسطى:
وقالت الصغرى:
وفي أسفل الكتاب: رحم الله من نظر في كتابنا هذا وقضى بيننا بالحقِّ، ولم يَجُر في القضية. فقال: فأخذ الكتابَ فتًى وكتب في أسفله:
غريبان وجارية
أخبرنا أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن شيطا وأبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التَّوَّزِي، قالا: حدَّثنا أبو القاسم بن سُوَيْد العدل، حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدَّثنا محرز بن علي الكاتب، أخبرني بعض أصحابنا من الكتاب، قال: دخلتُ البصرة أنا وصديقٌ لي، فرأيتُ جارية قد خرجت من بعض الدور كأنها فِلقَةُ قمر، فقلتُ لصاحبي: لو مِلتَ بنا إليها فاستسقَيناها ماءً؟ ففعل. فقلنا لها: جعلنا الله فداءك، اسقينا ماءً. فقالت: نعم، وكرامة! فدخلت وأخرجت كوز ماءٍ، وهي تقول:
المضل إبله والجارية الموجعة القلب
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، حدَّثنا إبراهيم بن محمد الطائفي، حدَّثني صقر بن محمد مولى قريش، حدَّثنا الأصمعي، قال: سمعتُ رجلًا من بني تميم يقول: أضلَلتُ إبلًا لي، فخرجتُ في طلبهن، فمررتُ بجارية أعشى نورُها بصري، فوقفتُ بها، فقالت: ما حاجتُك؟ قلت: إبلٌ لي أضلَلتُها، فهل عندكِ شيء من عِلمها؟ قالت: أفلا أدلُّك على من عنده عِلمُهنَّ؟ قلتُ: بلى! قالت: الذي أعطاكهن هو الذي أخذهنَّ، فاطلبهن منَّ طريق التيقُّن لا من طريق الاختيار. ثمَّ تبسَّمت، وتنفَّست الصُّعَدَاء، ثمَّ بكت وأطالت البكاء، وأنشأت تقول:
فقلت: عندما رأيتُ من جمالها وحسن وجهِها وفصاحتها وشدة جزعها: هل لكِ من بعلٍ لا تُذم خلائقه وتؤمنُ بوائقُه؟ فأطرقت مليًّا ثمَّ أنشأت تقول:
دَعْه ليوم البعث
لحَّام بني إسرائيل والجارية
أخبرنا أحمد، حدَّثنا محمد، حدَّثنا عبد الله، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا أحمد بن حرب، حدَّثنا الوليد بن مسلم، حدَّثنا مرحوم بن عبد العزيز، حدَّثنا أبو عمران الجوني، قال: كان لحَّام بني إسرائيل لا يتورَّعُ من شيءٍ، فجُهِدَ أهلُ بيت من بني إسرائيل فأرسلوا إليه جارية منهم تسأله، فمضت إليه وقالت: يا لحَّام بني إسرائيل، أعطِنا لحمًا! فقال: لا! أو تمكِّنيني من نفسك. فرجعت، فجُهِدوا جُهدًا شديدًا، فرجعَت إليه، فقالت: يا لحَّام بني إسرائيل، أعطِنا! فقال: لا! أو تمكِّنيني من نفسك. فرجعت، فجُهدوا جُهدًا شديدًا، فأرسلوها إليه، فقالت: يا لحَّام بني إسرائيل، أعطِنا. فقال: لا! أو تمكِّنيني من نفسك. قالت: دونَك.
قال: فأوحى الله عز وجل إلى نبي بني إسرائيل أن كتاب لحَّام بني إسرائيل أصبح في كتاب أهل الجنة، فأتاه النبي عليه السلام فقال: يا لحَّام! أما علمتَ بأن كتابك أصبح في كتاب أهل الجنة؟
راهبة لا تشارك في المعصية
أخبرنا أحمد بن علي، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، حدَّثنا محمد بن خلف القاضي، حدَّثنا أبو بكر القرشي، حدَّثنا أحمد بن العباس النمري، حدَّثنا أبو عثمان التميمي، قال: مرَّ رجل براهبةٍ من أجمل النساء فافتُتِن بها، فتلطَّف في الصعود إليها، فأرادها على نفسها فأبت عليه، وقالت: لا تَغترَّ بما ترى، فليس وراءه شيء. فأبى حتى غلبها على نفسها، وكانت إلى جانبها مَجمرةُ لبان، فوضعت يدَها فيها حتى احترقت، فقال لها بعد أن قضى حاجته منها، ما دعاكِ إلى ما صنعتِ؟ قالت: إنَّك لما قهرتَني على نفسي خِفتُ أن أشركك في اللذة فأُشاركك في المعصية، ففعلت ذاك لذلك. فقال الرجل: والله لا أعصي الله أبدًا. وتاب مما كان عليه.
يقلع عينه
وبإسناده: حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا أبو بكر القرشي، حدَّثني محمد بن الحسين، حدَّثني الصلت بن حكيم، حدَّثني موسى بن صالح أبو هارون، قال: نظرَ رجلٌ من عُبَّاد بني إسرائيل إلى امرأة جميلة نظرة شهوة، فعَمد إلى عينه فقلعها.
اللهو البريء
أخبرنا أحمد بن علي، حدَّثنا محمد بن أحمد، حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم، حدَّثنا محمد بن خلف، قال: وأنشدني عبد الله بن شبيب لبعض المدنيين:
شادن من بني الرهبان
ولي من أثناء قصيدة:
وهي طويلة.
اليد المسموطة
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت إن لم يكن حدَّثنا، حدَّثنا القاضي أبو القاسم هبة الله بن الحسين الرحبي، حدَّثنا علي بن أحمد المهلبي، أخبرنا أبو العباس بن عطاء، قال: كان يَحضر حلقتي شابٌّ حسن الوجه يخبئ يده. قال: فوقَع لي أن الرجل قد قُطِعت يده على حالٍ من الأحوال، قال: فجاءني يوم جمعة، وقد جاءت السماء بالبركات، ولم يجئني في ذلك اليوم أحد، فطالبتْني نفسي بمخاطبته، فدفعتُها مرارًا كثيرة إلى أن غلبَ عليَّ كلامُه، فكلَّمته فقلتُ له: يا فتى ما بال يدِك تُخبئها، لِمَ لا تُخرجها، فإن كان بها علَّة دعوتُ الله تعالى لك بالعافية، فما سببها؟ فأخرجها، فرأيت فيها شبيهًا بالشلل، فقلت: يا فتى، ما أصاب يدك؟ قال: حديثي طويل. قلت: ما سألتك إلا وأحبُّ أن أسمعه.
فقال لي الغلام: أنا فلان بن فلان، خلَّف لي أبي ثلاثين ألف دينار، فعلقتْ نفسي بجارية من القيان، فأنفقتُ عليها جملة، ثمَّ أشاروا عليَّ بشرائها، فاشتريتُها بستة آلاف دينار، فلما حصلَت عندي وملكتُها قالت: لِمَ اشتريتَني، وما في الأرض أبغضُ إليَّ منك، وإني لأرى نظري إليك عقوبةً، فاستَرِدَّ مالك، فلا مُتعة لك بي مع بُغضي لك. قال: فبذلتُ لها كل ما يَبذله الناس، فما ازدادت إلى عُتُوًّا، فهممت بردِّها، فقالت لي داية لي: دعها تموتُ ولا تموتُ أنت.
قال: فاعتلزَتْ في بيت، ولم تأكُل ولم تشرب، وإنما كانت تبكي وتتضرَّع حتى ضَعُفَ الصوت، وأحسَسْنا منها بالموت، وما مضى يوم إلا وأنا أجيءُ إليها وأبذُلُ لها الرغائب، وما ينفعُ ذلك ولا تزدادُ إلا بُغضًا لي.
قال أبو العباس: فصُعِقتُ صعقةً، وقلت: يا بأبي هذا في طلب المعشوق، أقبلَ عليك، فنالك هذا كله.
التفاح بدل الجِمار١٩٣
أخبرنا أحمد بن علي التَّوَّزِي، حدَّثنا إسماعيل بن سويد، حدَّثنا أبو علي الكوكبي، أخبرني ابن الأصقع، قال: قال لي بعضهم: رأيتُ ببغداد في وقت الحجِّ فتًى ومعه تفَّاحٌ مُغلَّفٌ، فانتهى إلى سورٍ فوقفَ تحتَه، فاطَّلع عليه جوارٍ كأنَّهُنَّ المها، فأقبل يَرميهنَّ بذاك التفَّاح، فقلن: ألم تكن مُعتزمًا على الحج؟ فقال:
مدرك الشيباني وعمرو النصراني١٩٤
أخبرنا القاضي أبو عبد الله القضاعي إجازةً، أخبرنا أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرزاد النحيرمي بقراءتي عليه، أخبرنا جعفر بن شاذان القُمِّي أبو القاسم، قال: كان عمرو بن يوحنا النصراني يسكن في دار الروم ببغداد، في الجانب الشرقي، وكان من أحسن الناس صورةً وأجملهم خَلقًا، وكان مُدرك بن علي الشيباني يهواه، وكان من أفاضل أهل الأدب، وكان له مجلس يَجتمعُ إليه الأحداث لا غَير، فإن حَضرَه شيخٌ أو كهلٌ قال له: إنه ليَقبحُ بمثلك أن يختلط بالأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله.
وكان عمرو بن يوحنا ممَّن يَحضر مجلسه، فعشقه مُدرك، وهام به، فجاء عمرو يومًا إلى المجلس، فكتب مُدرك رقعةً وطرَحها في حجره، فقرأها فإذا فيها:
فقرأ الأبيات، ووقَف عليها من كان في المجلس، وقرءوها واستحيا عمرو من ذلك، فانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مُدرِك، فترك مجلِسَه، ولزم دار الروم، وجعل يتَّبع عمرًا حيثُ سلك، وقال فيه قصيدة مزدوجة عجيبة، وله أيضًا في عمرو أشعارٌ كثيرةٌ، ثمَّ اعترى مُدرِكًا الوسواس وسُلَّ جسمُه، وذهبَ عقلُه، وانقطَعَ عن إخوانه، ولزم الفراش، فحضَرَه جماعةٌ فقال لهم: ألستُ صديقكم القديم العِشرة لكم، فما فيكم أحد يُسعدني بالنظر إلى وجه عمرو؟ فمضوا بأجمعهم إليه. وقالوا له: إن كان قتلُ هذا الفتى دينًا، فإنَّ إحياءه لَمروءة. قال: وما فعل؟ قالوا: قد صار إلى حالٍ ما نحسبُك تلحقُه، فلبسَ ثيابَه، ونهضَ معهم، فلمَّا دخلوا عليه سلَّم عليه عمرو، وأخذ بيده، وقال: كيف تجدك يا سيِّدي؟ فنظرَ إليه وأُغمي عليه ساعة، ثمَّ أفاق وفتح عينيه، وهو يقول:
ثمَّ شهق شهقَةً فارَقَ الدنيا بها حتى دفنوه.
كلانا أسير الهوى
ولي من أثناء قصيدة كتبت بها إلى بعض أهل العلم:
أي قولٍ أحسنُ؟
أخبرنا أحمد بن علي الوراق بدمشق، حدَّثنا الحسين بن محمد أخو الخلال، حدَّثنا إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الشطي بجرجان، حدَّثنا أبو علي أحمد بن الحسين بن شعبة، حدَّثنا أحمد بن جعفر الهاشمي، حدَّثنا محمد بن عبد الله الكاتب، قال: كنتُ يومًا عند محمد بن يزيد المبرد، فأنشد:
ثمَّ قال: ما أظنُّ الشعراء قالت أحسن من هذا. قلت: ولا قول الآخر؟ قالت: هيه! قلت: الذي يقول:
قال: ولا هذا. قلت: ولا خالد الكاتب:
قال: ولا هذا. قلت: أنتَ إذا هويتَ الشيء مِلتَ إليه، ولم تعدِل إلى غيرِه. قال: لا! ولكنه الحق، فأتيتُ ثعلبًا، فأخبرتُه، فقال ثعلب ألا أنشدته:
قال: فأتيتُ إبراهيم بن إسحاق الحربي، فأخبرته فقال: ألا أنشدته:
قال: فرجعت إلى المبرد، فقال: أستغفر الله إلا هذين البيتَين، يعني بيتَي إبراهيم.
شهود ثقات
وأخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان، حدَّثنا محبوب بن محمد النرديجي قاضي شروان، أنبأنا أبو سعيد الحسن بن زكريا العدوي ببغداد: أنشَدَني إبراهيم الحربي:
قال إبراهيم: هؤلاء شهود ثقات.
ود ووفاء حتى الموت
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدَّثنا محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا محمد بن خلف، أخبرني أبو بكر، حدَّثنا الزبير بن بكار عن مولًى لعلي بن أبي طالب — عليه السلام — قال وكان راوية: إن فتًى من قريش من أهل المدينة هويَ جاريةً منهم، فاشتد وجدُ كلِّ واحدٍ منهما بصاحبه، ثمَّ بلغه عنها أنها تبدَّلت، فشكا ذلك إلى أخٍ له، فكان يستريحُ إليه، وكانت الجاريةُ قد خرجت مع صواحِبَ لها تتبدَّى، فقال له صاحبه: الرأي أن تتلقَّاها فتُعلمَها ذلك، فإن كانت قد فعلَت كان اعتزالُك عنها، وإن كانت لم تَفعَل لم تعجل عليها بقطيعة.
قال: فخرجنا حتى أتينا القصر الذي هي فيه، وأرسَل إليها: إنِّي أُريدُ أن أُكلِّمَك، فأرسلت إليه: إنِّي لا أقدر نهارًا، ولكن موعدُك الليلة من وراء القصر. فلقيَها لموعدها، فشكا إليها وذكر شدَّة وجده بها وما هو فيه، فقالت: قد أكثرتَ عليَّ، وما أدري بما أُجيبُك، إلا أن مَثَلَي ومَثَلك ما قال جميل:
ثمَّ افترقا وقد خرج ما كان في قلوبهما، فلم يَزالا على الوفاء والود حتى ماتا.
الهموم الغالبة
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي، أخبرنا أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، أنبأنا أبو بكر بن الأنباري، أنشدنا إبراهيم بن عبد الله الورَّاق لمحمد بن أمية:
العاصمان الحياء والكرم
حدَّثنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، أنبأنا محمد بن أحمد بن فارس، أخبرنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، حدَّثنا محمد بن خلف: أنشدتُ لبعضهم:
وفاء أعرابية لزوجها
فوقعت بقلبي، فقلتُ لها: هل لك زوجٌ يُعِفُّك ويُغنيك الله بسعيه وكدِّه؟ قالت: هيهات، ما أنا إذن من العرب، ولم أفِ له! فعلمتُ أنَّ زوجها تُوفي وآلت أن لا تتزوج بعده، فتركتها.
لا خير في ناقض العهد
أخبرنا الحسن بن علي، حدَّثنا محمد بن العباس، أخبرنا محمد بن خلف: أنشدني رجلٌ من قريش لبعضهم:
أم الضحاك وأرق الهم
وبإسناده حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثني قاسم بن الحسن، أخبرني العمري، أخبرني الهيثم بن عدي، قال: كانت أم الضحاك المُحاربية تحت رجل من بني ضَبَّة يُقال له زيد، وكان لها مُحِبًّا، فسلا عنها، وتزوَّج عليها، وكانت على غاية المحبة له فحجَّت، فبينا هي تطوف بالكعبة إذ رأت زيدًا، فلم تَملِك نفسَها أن قَبَضت على ثوبه، وقالت: أنتَ هو؟ قال: نعم! حيَّاكِ اللهُ، فمَهْ! فأنشأت تقول:
حب على غير ريبة
قال محمد بن خلف: وأنشدَني بعض أهل الأدب لأعرابي:
عاشق ومعشوق
وقالت: وأنشدت أيضًا لغيره:
مراودة الرسول
ساء ظن المحب
عاشق عفيف
أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم البصري، حدَّثنا محمد بن خلف: أنشدتُ لأبي عبد الرحمن العلوي:
عمر ونصر بن حجاج
وأخبرنا أحمد بن علي، حدَّثنا محمد، حدَّثنا عبد الله، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا عبد الله بن عبيد، أخبرني محمد بن عبد الله، حدَّثني أبو محمد عبد الله بن أبي عبد الله، حدَّثني محمد بن سعيد القرشي، أخبرني محمد بن جهم بن عثمان بن أبي جهمة، وكان جهمة على ساقة غنائم خيبر يوم افتتحها النبي ﷺ قال: أخبرني أبي عن جدي قال: بينما عمرُ بن الخطاب يطوفُ ذات ليلة في سكة من سِكَك المدينة، إذ سمع امرأة وهي تهتف من خِدرها وتقول:
قال: فقال عمر رحمة الله عليه: ألا أرى معي في المصر رجلًا تهتفُ به العواتِقُ في خدورهنَّ؟ عليَّ بنصر بن حجَّاج! فأُتي به، فإذا هو أحسنُ الناس وجهًا وشعرًا، فقال: عليَّ بالحجَّام. فجزَّ شعره، فخرجت له وجنتان كأنهما شِقَّتا قمر، فقال: أعتم. فاعتم، ففتَن الناس، فقال عمر: والله لا تُساكنني ببلدٍ أنا فيه. قال: ولِم ذاك يا أمير المؤمنين! قال: هو ما قلتُ لك. فسيَّره إلى البصرة، وخشيَتِ المرأة التي سَمَع منها عمرُ ما سمع أن يَبدُرَ إليها عمرُ بشيء، فدسَّت إليه أبياتًا تقول فيها:
قال: فبعث إليه عمر: قد بلغني عنك خبرٌ، وإني لم أُخرجه من أجلك، ولكن بلَغني أنه يدخلُ على النساء، ولستُ آمنُهنَّ.
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين سلامٌ عليك! أما بعدُ، فلعمري يا أمير المؤمنين، لئن سيَّرتني أو حَرمتَني وما نلتَ من عليك بحرامٍ.
فقال عمر لما قرأ الكاتب: أما ولي سلطانٌ فلا، فما رجَع إلى المدينة إلا بعد وفاة عمر، وله خبرٌ طويلٌ ليس هذا موضعه، ويُقال إن هذه المُتمنية أم الحجاج.
الله شاهد
وبإسناده: حدَّثنا محمد بن خلف، أخبرني بعض أهل الأدب، عن عثمان عن عمر، حدَّثني عبد الله بن صالح، حدَّثني بلال بن مرة، قال: بلغني أن أعرابيًّا خلا بجارية من قومه، فراوَدها عن نفسها، فقالت: ويحك! والله إن كان ما تدعوني إليه حلالًا، لقد كان قبيحًا. قال: وكيف ذاك؟ قالت: والشاهد الله. قال: فلم يُعاودها.
رداء من الصون والعفاف
ولي من نسيب قصيدةٍ من أولها:
وهي طويلة اقتصرت على ما ذكرته.
نصيب وزينب
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم، حدَّثنا محمد بن خلف المحولي، حدَّثنا عبد الله بن عمرو وأحمد بن حرب، حدَّثنا بنان هو ابن أبي بكر، حدَّثني محمد بن المؤمل بن طالوت الوادي، حدَّثني أبي عن الضحاك بن عثمان الحزامي، قال: خرَجتُ في آخر الحج، فنزلت بخيمةٍ بالأبواء على امرأةٍ، فأعجبني ما رأيتُ من حُسنِها، فتمثَّلتُ بقول نُصيب:
قال: فلما سمعتْني أتمثَّل بالأبيات، قالت: يا فتى! أتعرفُ قائل هذا الشعر؟ قلت: نعم! ذاك نُصَيب. قالت: نعم، هو ذاك، أفتعرفُ زينب؟ قلت: لا! قالت: أنا والله زينب. قلت: فحيَّاك الله. قالت: أما إن اليومَ موعدُه من عند أمير المؤمنين، خرَج إليه عام أول، ووعَدني هذا اليوم، ولعلَّك لا تبرح حتى تراه.
قال: فما برحتُ من مجلسي، وإذا أنا براكب يَزول مع السراب، فقال: ترى خَبَبَ ذاك الراكب؟ إنِّي أحسبُه إيَّاه.
فقمتُ إلى راحلتي أشدُّ عليها، فقال لي: على رِسْلِكَ! أنا معك. فجلست حتى نَهض، ونَهضتُ معه، فتسايرنا ساعة، ثمَّ التفت إليَّ فقال: قلتَ في نفسك محبَّان التقيا بعد طول تناءٍ، فلا بدَّ أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة. قلت: نعم! قد كان ذاك. قال: فلا وربِّ هذه البَنيَّة التي إليها نَعمَدُ ما جلستُ منها مجلسًا قط أقرَبَ من مجلسي الذي رأيتَ، ولا كان بيننا مكروه قط.
العاشق المتكتم
وأخبرنا أحمد بن علي، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم البصري، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثني أبو موسى عيسى بن جعفر الكاتب، حدَّثني محمد بن سعيد، حدَّثني إسحاق بن جعفر الفارسي: سمعتُ عمر بن عبد الرحمن يحكي عن بعض العمريين، قال: بينا أنا يومًا في منزلي إذ دخل عليَّ خادمٌ لي، فقال لي: رجلٌ بالباب معه كتاب. فقلتُ له: أدخله، أو خذ كتابه. قال: فأخذتُ الكتاب منه، فإذا فيه هذه الأبيات:
فلما قرأتُ الأبيات قلت: عاشق. فقلت للخادم: أَدخله. فخرج إليه الخادم بالخبر فلم يجده، فقلت: أخطأتُ، فما الحيلة؟ فارتبتُ في أمره، وجعَل الفكر يتردد في قلبي، فدعوت جواريَّ كُلُّهنَّ ممن يَخرجُ منهن ومن لا يخرُج، فجمعتُهن ثمَّ قلت: أخبرنني الآن قصة هذا الكتاب.
قال: فجعل يَحلفن، وقلن: يا سيِّدنا ما نعرف لهذا الكتاب سببًا، وإنه لباطلٌ. ثمَّ قلن: من جاء بهذا الكتاب؟ فقلتُ: قد فاتَني. وما أردتُ بهذا القول لأني ضننتُ عليه بمَن يَهوى منكن، فمن عرفَت منكنَّ أمرَ هذا الرجل فهي له، فلتذهب إليه متى شاءت، وتأخذ كتابي إليه.
قال: فكتبتُ إليه كتابًا أشكره على فعله وأسأله عن حاله، وعما يقصده، ووضعتُ الكتاب في موضع من الدار، وقلت: من عرف شيئًا فليأخذه. فمكث الكتابُ في موضعه حينًا لا يأخذه أحدٌ، ولا أرى للرجل أثرًا، فاغتممتُ غمًّا شديدًا، ثمَّ قلت: لعله من بعض فتياننا. ثمَّ قلت: إن هذا الفتى قد أخبَرَ عن نفسه بالورَع، وقد قنع ممن يحبُّه بالنظر. فدبَّرتُ عليه، فحجبتُ جواريَّ من الخروج.
قال: فما كان إلا يومٌ وبعضُ آخر حتى دخل الخادم ومعه كتاب، فقلتُ له: ما هذا؟ قال: أرسل به إليك فلان. وذكر بعض أصدقائي، فأخذتُ الكتاب ففضضته، فإذا فيه هذه الأبيات:
قال: قلت لا أدري ما أحتالُ في أمر هذا الرجل، وقلت للخادم: لا يأتيك أحدُ بكتاب إلا قبضتَ عليه حتى تُدخِله إليَّ، ولم أعرف له بعد ذلك خبرًا.
قال: فبينا أنا أطوف بالكعبة، إذا أنا بفتًى قد أقبلَ نحوي، وجعل يطوفُ إلى جنبي ويلاحظني، وقد صار مثل العود. قال: فلما قضيتُ طوافي خرجتُ واتبعني، قال: يا هذا! أتَعرِفُني؟ قلت: ما أُنكرُك لسوء. قال: أنا صاحب الكتابين.
قال: فما تمالكتُ أن قبَّلت رأسه وبين عينَيه وقلت: بأبي أنت وأمي، والله لقد شغلتَ عليَّ قلبي، وأطلت غمِّي لشدة كتمانك لأمرك، فهل لك فيما سألت وطبت؟
قال: بارك الله لك وأقرَّ عينك، وإنما أتيتُك مُستحلًّا من نظرٍ كنت أنظرُه على غير حُكم الكتاب والسنة، والهوى داعٍ إلى كل بلاء، وأستغفر الله.
فقلت: يا حبيبي، أتحبُّ أن تصير معي إلى المنزل، فآنس بك وتجري الحُرمة بيني وبينك.
قال: ليس إلى ذلك سبيل، فاعذر وأَجب إلى ما سألتك.
فقلت: يا حبيبي! غَفَرَ الله لك ذنبك، وقد وهبتُها لك ومعها مائة دينار تعيش بها، ولك في كل سنة كذا وكذا.
قال: بارك الله لك فيها، فلولا عهودٌ عاهدت الله تعالى بها وأشياء وكَّدتُها على نفسي لم يكن شيء في الدنيا أحبَّ إليَّ من هذا الذي تَعرِضُه عليَّ، ولكن ليس إليه سبيل، والدنيا فانيةٌ منقطعة.
قال: قلتُ له: فأمَّا إذ أبيت أن تصير إلى ما دعَوتُك إليه، فأَخبرني من هي من جواريَّ حتى أُكرِمها لك ما بقيتُ.
فقال: ما كنتُ لأسمِّيها لأحدٍ أبدًا. ثمَّ سلَّم عليَّ، ومضى فما رأيته بعد ذلك.
كتمان ما في القلب
وبه قال: أخبرني محمد بن خلف: أنشدني عليُّ بن صالح المعري:
لا خير في ناقض العهد
قال: وأنشدَت لغيره: «لا خير في من هواه ممذوق»، وهي ثلاثة أبيات: قد ذكرتها سابقًا، وكتبتُ بعدها ها هنا قال ابن المرزُبان: وأنشدت العباس بن الأحنف:
وللعباس أيضًا: «زعم الرسول بأنني راودته»، وهما بيتان ذُكِرا من قبل، وبعدَهما: وله أيضًا «إن جهد البلاء»، وهي ثلاثة أبياتٍ هنالك، فتركت إعادة هذا كله.
طريد العشق
حدث أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، ونقلته من خطه، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا أبو بكر العامري، قال: قال علي بن صالح عن ابن دأب، قال: كان من حديث جارِكُرْز الرَّبابي، والرَّباب بنو عبد مناة، أن أباه كان رجلًا من طابخة، يُقال له حُباب، وكان شجاعًا فاتكًا، وأنه قتَل رجلًا من بني حُباب بن هُبَل بن كَلب بن وبرة، فرَهَنَهم بالدية امرأته وابنه حيَّة، وهو صغير، وخرج حُباب في جمع الدية فهلك، وبقيت امرأته وابنه في يدي كلب، وشبَّ ابنه حيَّةُ، فشب أحسن فتًى في العرب وأوضأهم، فعَلِقَ جاريةً من جواري الحي وعَلِقَته، وفسدت به فسادًا شديدًا، حتى جلس نسوة من كلب ذات ليلة يَلعبن ويَتذاكرن الشراب، ففَطِنَّ به، وسمعت بذلك كلب، وكان قد عَلِقَ فتاةً منهم، فطلبته كلب فخرج هاربًا، فأدركه أخوها، فرماه حيَّةُ فقتَله، وانطلق فلحق بقومٍ من بِلقَين، فاستجار بهم فأجاروه، فعاث في نسائهم، وعلقتْه امرأةٌ منهم، فطلبته بِلقَين فأعجزهم، وهرب حتى أتى أمه ليلًا، فقالت: ويلك! إن القوم قاتِلوك. فقال: والله ما أجِدُ مذهبًا.
قال: فلما بلغ عدي بن أوس الخبر، وأُنشد الشعر، أمر به فرُبط، ثمَّ أُخرجَ إلى خارج البيوت فقُتل.
أعوذ بالله من الحرام
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا حسين بن الضحاك اليشكري، حدَّثني محمد بن عبد الله الخراساني، حدَّثني إبراهيم بن العباس، حدَّثني إسحاق بن عبد الله بن شرحبيل، حدَّثني سلم بن عبد الرحمن، قال: كان عندنا بالمدينة فتًى من أهل الأدب والدين، وكان له جمال، فعلقتْه امرأة من أهل المدينة من قُرَيش، فأرادت كلامه فاستحيَت منه، فكتبت إليه:
قال: فلما أتاه الكتابُ أظهرَ تعجُّبًا، وكان في غفلة عن ذلك، فكتَب إليها: وصل إليَّ كتابُكِ، وفهمتُ ما سألتِ، فعلى أيِّ وجهٍ يكون وصالُنا. وصل فراقٍ أم وَصلَ اتِّفاقٍ؟ فإن كان وَصلَ فراق، فلا حاجةَ لنا فيه، وإن كان وصلَ اتفاقٍ، فذاك الذي نريد.
قال: فأرسلت إليه: معاذَ الله من وصل فرقةٍ يدعو إلى حسرة، وما سألتُك إلا الحق، وإني أعوذ بالله من فعل الحرام.
قال: ففكَّر في نفسه، فقال: هذه امرأةٌ لها شرفٌ وقدْرٌ، ومع هذا يسار، وليس يخطئني ما أَحذره من قول الناس.
قال: فأرسل إليها: يا هذه، قد فكَّرت في هذا الأمر وتدبَّرتُه، فلم أرَ الذي أخافُ من عاقبته يُخطئني، وإني أكرَهُ أن أتعرَّض لقالةِ الناس وكلامهم، وكتب إليها:
قال: فأمسكت عنه فلم تعاوده.
الفتى المتعبد والمفتونة به
وأخبرنا أحمد بن علي، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثني أبو محمد جعفر بن الفضل عن محمد بن المعافى، عن عبد الواحد بن زياد الإفريقي، حدَّثني أبي، قال: سمعتُ شيخًا من أهل العلم يقول: كان عندنا فتًى متعبِّد، حسَنُ السِّيرَة، فأحبَّته جارية من قومه، وجعلَت تُكاتِمُ أمرَها مخافة العيب، فمكثت بذلك حينًا، فلمَّا بلغَ الحبُّ منها أرسلت إليه بكتاب وضمَّنته هذه الأبيات:
قال: فأقبلَتْ به امرأة فقال: ما هذا؟ قالت: كتابٌ أرسلَني به إليك إنسان. قال: سمِّيه! قالت: إذا قرأتَه سمَّيتُ لك صاحبه، فرمى به إليها، وأنكَره إنكارًا شديدًا. فقالت له: ما يمنعك من قراءته؟ قال: هذا كتابٌ قد أنكره قلبي، فلم تزل به حتى قرأه، فرفع رأسه إليها، فقال: هذا الذي كنتُ أحذر وأخافُ، ثمَّ دفعه إليها. فقالت: أمَا له جوابٌ؟ قال: بلى! قالت: وما هو؟ قال: تقولين لها: إنه يعلمُ السرَّ وأخفى، الله لا إله إلا هو، له الأسماء الحُسنى. قالت: لا غير؟ قال: في هذا كفاية.
فمضَت إليها، فأخبرتها بما جرى بينهما، فكتبت إليه:
فلما وصل إليه الكتاب قال: ما هذا؟ قالت: تقرؤه. فأبى، فلم تزل تَلطُفُ به حتى فتَحَه، فقرأه ثمَّ رمى به إليها. فقالت: ما له جواب؟ قال: بلى! قالت: ما هو؟ قال: قولي لها: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ.
فصارت إليها، فأخبرتها بما جرى بينهما، فكتبت إليه:
قال: فجاءت بالكتاب إليه، فأخذه وقال لها: اجلسي. ففتحه، وقرأه عن آخره، وكتب إليها كتابًا كان هذا الشعر آخره:
فلما قرأت الكتاب أمسكَت وقالت: إنه لقبيحٌ بالحُرَّة المسلمة العارفة مواضعَ الفتنة كثرةُ التعرَّض للفِتن. ولم تعاوده.
لا صبر على الفراق
ذكر أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ ونقلته من خطه، حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان، أخبرني أبو بكر العامري، حدَّثنا دعبل بن علي الخزاعي، قال: كان بالكوفة رجلٌ من بني أسد عَشقَ جارية لبعض أهل الكوفة، فتعاظَم أمرُه وأمرُها، فكان يقول فيها الشعر، وذكر بعض أهل الكوفة أنه مات من حُبِّها، وصنعوا له كتابًا في ذلك مثل كتاب جميل وبُثينة، وعفراء وعُروة، وكُثيِّر وعزَّة، فباعها مولاها لرجل من أهل بغداد من الهاشميِّين، فيُروى أنه مات حينَ أُخرِجت من الكوفة، وأنَّها لما بلغها موتُه ماتت أسفًا عليه، فمن شِعره فيها عند فراقها:
العاشق البكَّاء
قال: وحدثني حاتم بن محمد، أخبرني عبد الرحمن بن صالح، قال: قيل للنَّضر بن زياد المهلبي: هل كان عندكم بالبصرة أحدٌ شُهرَ بالعشق، كما شُهِرَ من نسمعُ به من سائر الأمصار؟ قال: نعم! كان عندنا فتًى من النسَّاك، له فضل وعلم وأدب، فجعل يذوب ويتغيَّر ويَصفر، لا يُعرَفُ له خبر، فعاتَبه أهلُه وإخوانُه في أمره، وقالوا: لو تداويتَ وشربتَ الدواء، فإن العلاج مباركٌ، وما أنزل الله تعالى داءً إلا وله دواء، فلما أكثروا عليه قال:
قال: ثمَّ سكَت، فعُوتِب، فلم يُجب بشيء، وكان بعدَما بدا هذا القول منه، لا يُكلِّمه أحدٌ مِمَّن يعرفه في شيء من الأشياء إلا بكى، ولا يستفيقُ من البكى، فلم يزل على ذلك حتى ماتَ كمدًا.
قال: فأنا أدركتُ بعضَ من كان يُنسَبُ إليه من وَلده أو وَلَد وَلَده يُنسَبون إلى البكَّاء.
العاقلة الصائنة لدينها
أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدَّثنا محمد بن أحمد بن فارس عن عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، حدَّثنا محمد بن خلف القاضي، حدَّثنا إسحاق بن منصور، حدَّثني أبي، حدَّثني أبو العباس التيمي المؤدب، حدَّثني أبو جعفر محمد بن عبد الله بن يزيد، حدَّثني أمي، وكانت من عذرة، عن أبيها أنها سمعته يحدِّث إخوانًا له قال: أحببتُ جاريةً من العرب، وكانت ذات عقلٍ وأدب، فما زلتُ أحتالُ في أمرها حتى اجتمعتُ معها في ليلةٍ مظلمة شديدة السواد في موضعٍ خالٍ، فحادثتُها ساعةً.
ثمَّ دَعَتني نفسي إليها، فقلت: يا هذه! قد طال شوقي إليكِ، فقالت: وأنا كذلك. فقلت لها: وقد عسُرَ اللِّقاءُ. قالت: نحنُ كذلك. قلت: هذا الليلُ قد ذهبَ، والصبحُ قد قَرُبَ. قالت: وهكذا تَفنى الشهوات وتنقطعُ اللَّذَّات. قلت لها: لو أدنيتني منكِ؟ فقالت: هيهاتَ هيهاتَ، إنِّي أخافُ العقوبة من الله تعالى. قلتُ لها: فما الذي دعاكِ إلى الحضور معي في هذا المكان؟ قالت: شِقوتي وبلائي. قلت: فمتى أراكِ؟ قالت: ما أراني أنساك، وأمَّا الاجتماعُ معك فما أراه يكون.
قال: ثمَّ تولَّت من بين يدي، فاستحييتُ مما سمعتُ منها، فرجعتُ، وقد خرجَ من قلبي ما كنتُ أجد من حبِّها، ثمَّ أنشأتُ أقول:
قال: فلم أرَ امرأةً كانت أصوَنَ منها لدينها ولا أعقل.
حبٌّ يدعو إلى التقى
أخبرنا أحمد بن علي، حدَّثنا محمد بن أحمد، حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم، حدَّثنا محمد بن خلف: أنشدَني صالح بن يعقوب المديني، وأخبرني أن أباه أخبره بهذا الشعر، وذكر أنه أنشده لامرأة من أهل الأُبُلَّة كانت متقشِّفة، وكان لها خبر مع رجل من النُّسَّاك من أهل الأُبُلَّة، ولم يحفظ الخبر كله صالح، إلا أنه أخبرني بهذا الكلام، وأنشدني هذا الشعر:
سيد العشاق
ومما وجدته بخط أبي عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان، حدَّثنا أبو بكر العامري، حدَّثني أبو عبد الله القرشي، حدَّثنا الدمشقي عن الزبير، حدَّثني مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: عشق رجلٌ من ولد سعيد بن العاص جاريةً مغنِّيَة بالمدينة، فهامَ بها دهرًا وهو لا يُعلمها بذلك، ثمَّ إنه ضَجرَ، فقال: والله لأبوحَنَّ لها، فأتاها عشيَّةً، فلما خرجَت إليه، قال لها: بأبي أنتِ أتغنِّيني:
قالت: نعم! وأغنِّي أحسنَ منه، ثمَّ غنَّت:
فاتصل ما بينهما بعُمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، فابتاعها له وأهداها إليه، فمكثت عنده سنة ثمَّ ماتت، فبقيَ مولاها شهرًا أو أقل، ثمَّ مات كمدًا عليها، فقال أبو السائب المخزومي: حمزةُ سيد الشهداء وهذا سيد العشاق، فامضوا حتى ننحرَ على قبره سبعينَ نحرة كما كبَّر النبي صلى الله عليه وآله على عمِّه حمزة سبعين تكبيرة.
موت الأحوص وجاريته بشرة
حدَّث أبو عمر بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا أبو بكر بن المَرْزُبان، حدَّثني العباس بن الفضل الأسدي، حدَّثني محمد بن زياد الأعرابي، قال: خرَج الأحوَصُ بن محمد إلى دمشق، ومعه جارية له يُقال لها بِشرَة، وكان شديدَ الإعجابِ بها، لا يكادُ أن يصيرَ عنها، وكانت هي أيضًا له من المحبَّة على أكثر من ذلك، فاشتكى الأحوصُ، واشتدَّت علَّته وحضرَتهُ الوفاة، فأخذت رأسه فوَضعته في حجرِها وجعلت تبكي، فقطرَ من دموعها على خدِّه، فرَفعَ رأسه إليها، فقال:
ثمَّ مات من يومه، فجزعت عليه بِشرَةُ جزعًا شديدًا ولم تزَل تبكي وتَندبُه إلى أن شهقت شهقةً فماتت، فدُفِنَت إلى جانب قبره.
أجر الشهادة
أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن عطية المكي، حدَّثنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور القواس الزاهد، حدَّثنا الحنبلي أبو بكر، حدَّثني مسبح بن حاتم العكلي، حدَّثني ابن عائشة، قال: كُنَّا على باب عبد الواحد بن زياد، ومعنا أبو نواس، فخرج الشيخ، فقال: سلُوا يا فتيانُ! فسألنا، حتى بقيَ أبو نواس، فقال: سَل يا فتى. فقال:
فقال: يا خبيث! والله لا حدَّثتُك حديثًا، وأنا أعرفك.
ليلى ومجنونها
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي بقراءتي عليه، قلت له: أخبركم أبو عمر محمد بن العباس، حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان، أخبرني أبو محمد البلخي، أخبرني عبد العزيز بن صالح عن أبيه عن ابن دأب، حدَّثني رجلٌ من بني عامر يُقال له رباح بن حبيب، قال: كان في بني عامر من بني الحُرَيش جارية من أجمل النساء وأحسنهن لها عقلٌ وأدب، يُقال لها ليلى ابنةُ مهدي بن ربيعة بن الحُريش، فبلغَ المجنونَ خبرُها، وما هي عليه من الجمال والعقل، وكان صبًّا بمحادثة النساء، فعمد إلى أحسن ثيابه، فلبسها وتهيَّأ بأحسن هيئة، وركبَ ناقةً له كريمةً، وأتاها، فلما جلس إليها، وتحدَّث بين يديها أعجبَته ووقعت بقلبه، فظلَّ يومه يُحدِّثُها وتُحدِّثُه، حتى أمسى وانصرف إلى أهله، فباتَ بأطول ليلة، حتى إذا أصبحَ مضى إليها فلم يزَل عندها حتى أمسى، ثمَّ انصرَفَ، فبات بأطولِ ليلةٍ من ليلته الأولى، وجَهَد أن يُغمضَ، فلم يقدر على ذلك، وأنشأ يقول:
وأدام زيارتها، وترك إتيانَ كُلَّ من كان يأتيه فيتحدَّث إليه بغيرها، وكان يأتيها كُلَّ يومٍ، فلا يزالُ عندها نهاره أجمعَ، حتى إذا أمسى انصرَفَ، وإنه خرج ذات يومٍ يريدُ زيارَتَها، فلما قرُبَ من منزِلِها لَقيتْه جارية حاسرَةٌ عسراء، فتطيَّر من لقائها، فأنشأ يقول:
ثمَّ صار إليها في غدٍ، فلم يزَل عندها، فلما رأت ليلى ذلك منه، وقعَ في قلبها مثلُ الذي وقعَ لها في قلبه، فجاءها يومًا كما كان يجيء، فأقبل يحدِّثُها وجعلت هي تُعرِضُ عنه بوجهها، وتُقبلُ على غيرِه تُريدُ أن تَمتحنه، وتعلمَ ما لها في قلبه، فلمَّا رأى ذلك منها اشتدَّ عليه وجزَع، حتى عُرفَ ذلك فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمُشيرة إليه فقالت:
فسُرِّيَ عنه، وعلم ما في قلبها، وقالت له: إنَّما أردتُ أن أمتحنَك، والذي لك عندي أكثرُ من الذي لي عندك، وأنا مُعطيةٌ الله عهدًا إن أنا جالستُ بعد يومي هذا رجلًا سواك حتى أذوقَ الموت، إلا أن أكرَهَ على ذلك.
قال: فانصرَفَ في عشيَّته وهو أسرُّ الناس بما سمعَ منها، فأنشأ يقول:
إهدار دم المجنون وزواج ليلى
وأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التَّنُوخِي أيضًا بقراءتي عليه، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا محمد بن خلف، قال: قال أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي إن قيس بن المُلوَّح، وهو مجنون، لما نسبَ بليلى وشُهِرَ بحُبِّها اجتمعَ إليه أهلُها، فمنعوه من محادثَتِها وزيارتها وتهدَّدوه بالقتل، وكان يأتي امرأةً من بني هلال ناكحًا في بني الحُريش، وكان زوجُها قد مات، وخلَّف عليها صبية صغارًا، فكان المجنون إذا أراد زيارة ليلى جاء إلى هذه المرأة فأقام عندها وبعثَ بها إلى ليلى، فعرَّفت له خبرَها وعرَّفتها خبرَه، فعلمَ أهلُ ليلى بذلك فنهوها أن يدخل قيسٌ إليها، فجاء قيسٌ كعادته، فأخبرته المرأة الخبر وقالت: يا قيس! أنا امرأةٌ غريبةٌ من القوم ومعي صبية، وقد نهَوني أن أُووِيَك، وأنا خائفة أن أَلقى منهم مكروهًا، فأحبُّ أن لا تجيء إليَّ ها هنا. فأنشأ يقول:
قال: وترك الجلوس إلى الهِلالية، وكان يترقَّبُ غفلات الحي في الليل، فلما كثر ذلك منه خرَجَ أبو ليلى، ومعه نفرٌ من قومه، إلى مروان بن الحكم، فشكوا إليه ما نالهم من قيس، وما قد شهرَهم به، وسألوه الكتاب إلى عامله عليهم بمنعه من كلام ليلى وبخَطبه إليهم، فكتبَ لهم مروان كتابًا إلى عامله يأمرُه فيه أن يُحضِرَ قيسًا ويتقدَّم إليه في ترك زيارة ليلى، فإن أصابه أهلُها عندهم، فقد أهدرَ دمَه.
فلمَّا ورَد الكتابُ على عامله بعثَ إلى قيس وأبيه وأهل بيته، فجمعهم، وقرأ عليهم كتاب مروان، وقال لقيس: اتَّقِ الله في نفسِك، لا يذهب دمُك هدرًا. فانصرَف قيس وهو يقول:
فلمَّا أيِسَ منها وعلم أن لا سبيلَ إليها صار شبيهًا بالتائه العقل، وأحب الخلوة وحديث النفس، وتزايد الأمرُ به حتى ذهبَ عقلُه ولعب بالحصا والتراب، ولم يكن يعرفُ شيئًا إلا ذكرَها وقول الشعر فيها، وبلغها هي ما صار إليه قيس، فجزعت أيضًا لفِراقه وضَنيت ضنًّا شديدًا.
وإن أهل ليلى خرَجوا حُجَّاجًا وهي معهم، حتى إذا كانوا بالطَّواف رآها رجلٌ من ثقيفِ وكان غنيًّا كثير المال، فأُعجب بها على تغيُّرها وسقمها، فسأل عنها، فأُخبرَ من هي، فأتى أباها، فخطبها إليه وأرغبه في المَهْر، فزوَّجه إيَّاها، وبلغ الخبرُ قيسًا، فأنشأ يقول:
مات أبوها فتزوَّجها
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءةً عليه، حدَّثنا محمد بن العباس بن حَيُّوَيْهِ، حدَّثنا محمد بن خلف بن المَرْزُبان، أخبرني أبو محمد المروزي، حدَّثني العمري عن لقيط بن بكير المحاربي، قال: كان رجلٌ من كلب عاشقًا لابنة عمٍّ له، وكانت هي له كذلك، وكان الفتى مُقِلًّا، فخطَبها إلى عمِّه، فأبى وسأله مالًا كثيرًا، فلما رأتِ الجارية شدَّة أبيها على ابن عمِّها، أرسلت إليه أن اخرُج فاطلُب الرزق، ولك عليَّ أن أصبِرَ عامين على أن تَحلِفَ لي وتُوَثقَ لي أنك إن أصبت مالًا، لا تتزوَّجُ إلى أن يَبلُغَك موتي. فحلف لها، وحلفت له، فخرَج الفتى، فرزقه الله مالًا، فبلغَ الجارية أنه قد تزوَّج. فكتبت إليه:
فكتب إليها:
فكتبت إليه:
فكتب إليها:
فكتبت إليه:
فكتب إليها:
فكتبت إليه:
فكتب إليها:
فقدم وقد مات أبوها، فتزوجها.
الصابر والشاكر في الجنة
وأخبرنا الحسن بن علي المقنعي، حدَّثنا محمد بن العباس الخزاز، حدَّثنا محمد بن خلف المحولي، حدَّثنا محمد بن عمر، حدَّثنا محمد بن صالح النطاح عن محمد بن أبي رجاء، أخبرني رجلٌ من أهل الكوفة، قال: تزوَّج عِمرانُ بن حِطَّان امرأة من الخوارج، وكانت من أجمل النساء، وأحسنهنَّ عقلًا، وكان عِمران بن حِطَّان من أسمج الناس وأقبحِهم وجهًا، فقالت له يومًا: إنِّي نظرتُ في أمري وأمرِك، فإذا أنا وأنتَ في الجنة. قال: وكيف؟ قالت: إنِّي أُعطيتُ مثلَك فصبرتُ، وأعطيتَ مثلي فشكرتَ، فالصابر والشاكر في الجنة.
قال: فمات عنها عمران، فخطَبها سُويد بن منحوف، فأبت أن تتزوَّجه، وكان في وجهها خال كان عِمران يَستحسنه ويُقبِّله، فشدَّت عليه فقطَعَته وقالت: والله لا ينظُر إليه أحدٌ بعد عمران. وما تزوَّجت حتى ماتت.
البطة العاشقة
حُلم أبي العتاهية
أنبأنا أبو حنيفة الملحمي، وحدثني الخطيب عنه، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدَّثنا عسل بن ذكوان، حدَّثنا ذماد عن حماد بن شقيق، قال: قال أبو سلمة الغنوي: قلت لأبي العتاهية: ما الذي صرَفك عن الغزَل إلى قول الزهد؟ قال: إذن والله أُخبرُك أني قلتُ:
فرأيتُ في المنام تلك الليلة، كأن آتيًا أتاني فقال: ما أصبتَ أحدًا تُدخِله بينَك وبينَ عُتبة يَحكم لك عليها بالمعصية إلا الله عز وجل؟ فانتبهتُ مذعورًا، وتُبتُ إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل.
الصوفي وحيلته للتقبيل
أنبأنا التَّنُوخِي علي بن المحسن، أخبرنا أبو بكر بن شاذان، حدَّثني نفطَويه، حدَّثني إدريس بن إدريس، قال: حضرتُ بمصرَ قومًا من الصوفية، وعندهم غلامٌ أمرَدُ يُغنِّيهم، فغلب على رجلٍ منهم أمرُه، فلم يدرِ ما يصنعُ، فقال: يا هذا! قل لا إله إلا الله! فقال: لا إله إلا الله. فقال: أُقَبِّلُ الفم الذي قال لا إله إلا الله.
الرشيد والأعرابي
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدَّثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا أبو النضر العقيلي، حدَّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: بينا أنا جالس مع الرشيد على المائدة، إذ دخلَ الحاجب، فأعلمه أن بالباب أعرابيًّا عنده نصيحة، فأمر بإحضاره، فلما دخل أمرَه بالجلوس على المائدة ففعل، وكان له فصاحة وصباحة، فلمَّا تمَّ الغداء ورُفعت المائدة وجيء بالطست، غسلَ يده، ثمَّ أمر بالشراب فأُحضِر، فقال: يا أمير المؤمنين ما حالتي في اللِّباس؟ فاستملحَ هارونُ ذلك من فِعلِه، فأمر بثيابٍ حسنة، فطُرحَت عليه. وقال له: يا أعرابي من أينَ جئتَ؟ قال: من الكوفة. قال: أعربيٌّ أم مولى؟ قال: عربيٌّ. قال: فما الذي قصد بك إلينا وما نصيحتُك؟ قال: قصد بي إليك قلَّةُ المال وكثرةُ العيال، وأمَّا نصيحتي، فإني علمتُ أني لا أصلُ إليك إلا بها. قال: فأخذ إسحاق العودَ، فغنَّى صوتًا يشتهيه الرشيد ويطربُ عليه، وهو:
فقال الرشيد كالمازح: كيف ترى هذا يا أعرابي؟ قال: بئسَ والله ما غنَّى. فغضب من ذلك هاون وصعُبَ عليه. قال إسحاق: وسُقط في يدي. فقال هارون: وَيلَك يا أعرابي! هل يكونُ شيءٌ أحسن من هذا؟ قال: نعم يا أميرَ المؤمنين! قولي حينَ أقول:
قال: فاستملحَ هارون ذلك منه، وأمر إسحاقَ أن يُغنِّيَه به شهرًا لا يقطعُه عنه، وأمر للأعرابي بعشرة آلاف درهم.
الفضل بن يحيى يودِّع أصحابه
حدَّثنا المعافى، حدَّثنا الصولي محمد بن يحيى، حدَّثنا أحمد بن يحيى، قال: لما خرَجَ الفضل بن يحيَى إلى خُراسان ودَّع أصحابه، ثمَّ قال:
صخر العُقَيلي وزوجته وابنة عمه ليلى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدَّثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدَّثنا محمد بن خلف المحولي، حدَّثنا أبو محمد التميمي عن المدائني عن أبي زكريا العجلاني، أن رجلًا من بني عُقيل كان يُسمَّى صخرًا، وكانت له ابنةُ عمٍّ تُدعى ليلى، وكان بينهما وُدٌّ شديد، وحُبٌّ مبرِّحٌ، ولم يكن واحدٌ منها يفترُ عن صاحبه ساعة ولا يومًا، وكان لهما مكان يلتقيان فيه، ولليلى جارية تُبلغُ صخرًا رسائلها، وتبلغها عنه وتسعى بينهما، حتى طال ذلك منهما، وكانا يتحدَّثان في كلِّ ليلة، ثمَّ ينصرفان إلى منازلهما.
ثمَّ إن أبا صخر زوج صخرًا امرأةً من الأزد وصخرٌ لذلك كاره مخافة أن تَصرِمَه ليلى، فلما بلغَ ليلى خبرُه، قطعَتهُ وتركت إتيانَ المكان الذي كانا يلتقيان فيه، فمرضَ صخرٌ مرضًا شديدًا، وكان قد أفشى سرَّه إلى ابن عمٍّ له، وكانوا يقولون: قد سَحَرَتهُ ليلى لما كان يصنعُ بنفسه. فكان ابن عمِّه يَحمله إلى ذلك المكان الذي كانا يلتقيان فيه، فلا يزالُ يبكي على آثارها وعَهدِها حتى يُصبحَ، وابن عمه يُسعِفُه ثمَّ يَرُدُّه.
وكانت ليلى أشدَّ وجدًا به، وحُبًّا له منه لها، فأرسلت جاريتَها إليه، وقالت: اذهبي إلى مكاننا، فانظري هل ترينَ صخرًا هنالك، فإذا رأيتِه فقولي له:
قال: فانطلقت الجارية، فإذا هي بصخر فأبلغته قولها: فوجدته كالشَّنِّ البالي قد هلك حُزنًا ووجدًا، فقال لها: يا حسنُ أحسني بي فعلًا، وأبيني لي عذرًا، وسلي لي غَفرًا وصُلحًا، فوالله ما ملكتُ أمري، وقولي لها:
فقالت له حُسن: يا صخر! إن كنتَ تزعُمُ أنك كارِهٌ تزويجَ أبيك إيَّاك، فاجعل أمرَ امرأتك بيدي لأُعلِمَ ليلى أنَّك لها مُحِبٌّ ولغيرِها قالٍ، وأنك كنتَ مُكرَهًا. فقال: لا! ولكن قد جعلتُ ذلك في يد ابنة عمِّي.
فانصرَفت إليها فأخبرتْها بما دارَ بينهما، وقالت: قد جعلَ الأمر إليكِ، وما عليه عتبٌ فطلِّقيها منه. قالت ليلى: هذا قبيح، ولكن عِديه الليلة إلى موضع مُتحدَّثِنا، ثمَّ أُطلِّقُ إن جَعَلَ أمرَها إليك، فإنه لم يكن ليَردَّك بحضرَتي.
فمضت الجارية، فأخذت موعده، فاجتمعا وتشاكيا وتعاتَبا، ثمَّ قالت له الجارية: اجعَل أمرَ أهلِك إليَّ، فوالله إن ليلى لأفضلُ بني عُقيلٍ نسبًا وأكرَمُهم أبًا وحسبًا، وإنها لأشدُّ لك حُبًّا، فقال صخر: فأمرُها في يدك. قالت: فهي طالقٌ منك ثلاثًا، فأظهرَت ليلى من ذلك جزعًا، وأن الذي فعلت جاريتُها شقَّ عليها. فتراجَعا إلى ما كانا عليه من اللقاء ولم يُظهر صخرٌ طلاق امرأته حتى قال له أبوه: يا صخر، ألا تَبني بأهلك؟ قال له: وكيف أبني بها وقد بانت مني عِصمتُها في يمينٍ حلفت بها؟! فأعلم أبوه أهل المرأة، وقالت المرأة تهجو ليلى وقومَها:
قال: وهَجَتها ليلى، وتقاوَلتا حتى شاع خبرُهما، فأجمعوا على تزويج ليلى من صخر، لِما انكشفَ لهم من وجد كلِّ واحدٍ منهما بصاحبه، فزوَّجوها من صخر، فعاشا على أنعمِ حالٍ وأحسن مودة.
تفي لزوجها بعد موته
وأخبرنا الحسن بن علي، حدَّثنا محمد بن العباس، حدَّثنا محمد بن خلف، أخبرني أبو صالح الأزدي، عن إبراهيم بن عبد الواحد الزيدي، أخبرني البهلول بن عامر، حدَّثني سعيد بن عبد العزيز التَّنُوخِي، قال: كان الحسن بن سابور رجلًا له عقل ودين، فأُعجبَ بفتاةٍ من الحيِّ ذات عقلٍ ودين، قال: فأرسل إليها بهذه الأبيات:
فلما وصَلَ الرسولُ إليها عذَلَته، وقالت: ما هذا؟ أوَيُكتَبُ إلى النساء بمثلِ هذا؟! وكتبت إليه كتابًا تُضَعِّفُ من رأيه وتُوبِّخُه وتأمُره بالكفِّ عن ذلك، وفيه:
وكان موسِرًا، فضمن لها أنه يدفعُ إليها ماله. فقالت للرسول: لا حاجة لي في ذلك ولا إليه سبيل. قال: وكيف ذاك؟ قالت: ويحك إنِّي كنتُ عاهدتُ ابن عمِّي إن ماتَ أن لا أتزوَّجَ بعدَه؛ وذلك أنه نظرَ إليَّ يومًا نظرَةً أنكرتُها ودمَعت عيناه، وأنشأ يقول:
قالت: فقلت له: كأنَّك تُعرِّضُ بي؟ فقال: ومَن في العالم أخشى عليه هذا غيرُك؟ قالت: فأجبته، فقلت:
قالت: فقال لي: أوَتَفينَ بهذا لي؟ قالت: فقلت: إي والله لا أخونُك أبدًا، وحاشاك من قولك! فأنشأ يقول:
قالت: فرضيتُ بذلك منه ورضيَ به منِّي، فعاجَلَته أقدارُ الله تعالى، فصار إليه، وما كنتُ لأنقُضَ عهده أبدًا، فقل لصاحبك أن يُقبِلَ على شأنه ويدعَ ذِكرَ ما لا يتم ولا يكونُ. قال: فرجعتُ إليه، فأخبرته ما قالت، وحدَّثته بالقصة فأمسك عنها.
أفِقْ أو لا تُفِق
ولي من ابتداء قصيدة:
لو صدق الهوى
ولي أيضًا من أثناء قصيدة أوَّلها:
ومنها: