الفصل الأول
قبل الشيطان
قبل شيوع صورة الشيطان كانت بديهة الإنسان تملأ العالم بأشتات لا تحصى من الأرواح والأطياف.
وكان من هذه الأرواح والأطياف ما يخفى ولا يظهر لأحد، ومنها ما يخفى على أناس ويظهر لآخرين بالرقى والعزائم، ومنها ما يتلبس أحيانًا بالأجسام ويظهر لكل مَنْ لقيه في مأواه.
ولم يكن الإنسان يقسم هذه الأرواح إلى ذات خير وذات شر؛ لأنه لم يميز بين الخير والشر إلا بعد معرفته بصورة الشيطان كما تقدم.
وإنما كانت هذه الأرواح تنقسم عنده إلى أرواح مصادقة أو أرواح معادية، وإلى أرواح نافعة أو أرواح ضارة، وإلى أرواح سهلة أو أرواح عصية، فلا فارق بينها عنده غير درجة الصلح والعداوة، أو درجة الفائدة والأذى، وأما طبيعة الخير وطبيعة الشر فقد جاءت بعد مراحل كثيرة في طريق الإيمان بالأرواح.
والاختلاف بين الشر والضرر بعيد.
فالشر لا يصدر منه خير بإرادته، ولكن الضرر قد يصيب أناسًا ولا يصيب آخرين، وقد يأتي من عمل ولا يأتي من عمل غيره، وقد يكون الضار بهذا نافعًا لذاك، فليست هناك طبيعة تسوقه إلى الشر في جميع الأحوال، بل هناك أحوال متعددة، وأعمال منوعة، وشأن الأرواح في ذلك شأن الناس من حوله بين قوم من قبيلة وقوم من أعدائها، أو بين قوم من خاصته في القبيلة، وقوم ينفر منهم وينفرون منه لأسباب عارضة أو باقية لا ترجع إلى أصالة في الطباع.
وقد يصح تشبيه عالم الأرواح عنده بعالَم الغاب أو عالم السباع والحيوان.
فالغاب فيها النمر والثعبان، وفيها البلبل والعصفور، ومن حيوانها ما يأمنه ولا يخشاه، وقد يتألفه ويستخدمه في مصالحه ويشركه في مسكنه، وقد يكون عنده الكلب الأنيس، وفي الخلاء الكلب المستوحش العقور، وقد يكون عنده الحصان الداجن، وفي الخلاء الحصان الجامح الذي لا نفع منه ولا ضرر، وجملة الفوارق بينها مسألة أحوال وأحيان، أو أحوال رياضية واستعصاء.
وهكذا كان عالم الأرواح في الهمجية الأولى: كان عالم فائدة وضرر، أو عالم هوادة واستعصاء، أو عالم صداقة وعداوة، فأما عالم الخير الأصيل أو عالم الشر الأصيل فلا تتمثل له صورة في بديهة الإنسان قبل انقسام الطبائع، وتباين الأقيسة والموازين بين الأعمال والأخلاق.
ويدل على أصالة الإيمان بالأرواح في بديهة الإنسان أنها وجدت في كل سلالة بشرية من السلالات التي نشأت في القارات المتقاربة، فتعلم بعضها من بعض في مسائل الدنيا والدين، أو من السلالات التي وجدت في الأمريكتين منعزلة منذ أدهار لا تعرف لها بداءة، فهي لم تتعلم تلك العقائد من غيرها، ولم ترجع بها إلى مصدر معروف في العالم القديم.
ووجدت هذه العقيدة على أكثرها في الجزر الأسترالية المتباعدة، كما وجدت عند حوض الأمازون في أمريكا الجنوبية، أو وجدت في أفريقية الجنوبية أو الشرقية التي يقال إنها مهد الجنس البشري قبل سائر القارات، ويقال مع ذلك إنها تلقت أفواج المهاجرين من الجنس القفقازي قبل فجر التاريخ.
والمهم في هذا الشيوع أنه أصيل في البداهة الإنسانية، وأنه لم يكن من تدجيل الكهان والسحرة كما يخطر لِمَنْ يسهل عليهم أن يفسروا كل شيء بالدجل والخداع.
ويكاد الشبه بين الأرواح في القارات المتباعدة أن يكون أقرب من الشبه بين الآدميين أنفسهم في تلك القارات، فالكائن الروحي في الجزر الأسترالية أشبه بالكائن الروحي في أمريكا الجنوبية من الأمريكيين الأصلاء والأستراليين الأصلاء، وليس بين روح وروح في الأقطار المتنائية ذلك الاختلاف الذي يعتري الألوان والأشكال من فعل الجو والتربة والماء والهواء، فإنك قد تنقل الأسترالي من الجزر إلى أمريكا الجنوبية فيشعر فيها بالغربة، ويريبه من قومها ما يريبه من الغرباء، ولكنك إذا نقلت روحًا من هناك إلى هنا أو من هنا إلى هناك لم تجده على غرابة في عالم الأرواح، ولم تكن بينه وبين العالم الذي انتقل إليه فجوة من الجنس واللون واللغة أبعد من الفجوة التي بينه وبين سائر الأرواح في وطنه الأصيل، وإنها لظاهرة جديرة بالتنبه لها والتوقف عندها في علم المقارنة بين الأديان؛ لأنها قد تفضي بنا إلى الوقوف على سليقة دينية شديدة التقارب بين الأجناس والأقوام، وليس مصدرها من الخيال وحده؛ لأن مخلوقات الخيال وحده بعيدة الفوارق بين أساطير الأمم في الإقليم الواحد، فضلًا عن شتى الأقاليم.
وقد كتب الرحالون والبحَّاثون عن القبائل الفطرية التي وجدوها في القارات الخمس خلال رحلاتهم إليها منذ أوائل القرن الثامن عشر، الذي نشأت فيه علوم المقابلة بين العقائد والسلالات، فإذا قدرنا أنها تغيرت مع الزمن منذ النشأة الأولى قبل عشرات الألوف من السنين، ورأينا بعد هذا التغيير مقدار التشابه بينها في العصر الحاضر، كان هذا التشابه حقًّا أجدر شيء من الباحثين بالالتفات إليه؛ لأنه دليل على أن وحدة السليقة الدينية أقرب جدًّا من وحدة القريحة والخيال؛ إذ ليست أساطير الفنون على درجة من التشابه تقارب ذلك التشابه بين الأرواح والأطياف في الأديان والمعتقدات.
إن الدين أعمق في كيان الإنسان من الخيال الذي يولد الأساطير، ويخلق أشباح الفنون، وقد يكون التقارب بين الأصلاء من الأفريقيين والأمريكيين والأوروبيين والأستراليين ملحوظًا في تقارب الأوصاف بين الأرواح والأطياف؛ حيث لا يلحظ التقارب بين المصنوعات اليدوية نفسها من الأدوات وآنية الفخار، وهي المصنوعات التي تقاس بها طبقات العصور، ويحسبها الكثيرون على مثال واحد في كل عصر من العصور الحجرية، أو عصور المرعى، أو العصور النحاسية، ولكنها على كونها محسوسة يحكمها النظر واللمس، وتوحي بها المنفعة والحاجة المتكررة، لم تبلغ من التقارب والتشابه ما قد بلغته ملامح الأرواح والأطياف.
وقد تخصص لكل إقليم من أقاليم القارات رحالون مستقلون في دراساتهم للأحياء، وتنقيبهم عن الآثار، فيكتب عن الجزر الأسترالية أناس غير الذين يكتبون عن القارة الأفريقية، ويكتب عن سهوب آسيا الشمالية طائفة غير هؤلاء، فهم لا ينقلون بعضهم من بعض، ولا يرجع بعضهم إلى بعض في تسجيل المشاهدات وإثبات الكشوف التاريخية، ولكنهم يعرفون المشابهة بين العقائد حين يرجعون إلى المقارنة والمقابلة، ويستخلصون منها ما يستخلصون من وحدة الأصول.
ولهذه المشابهات يقرأ القارئ عن «أرواح» إقليم من الأقاليم فلا يضيره كثيرًا أن يخطئ فيحسبها أرواح إقليم آخر؛ لأنها بمثابة النبات الذي يصح زرعه على طول السنة في جميع الأرضين، فيزرع في هذا الموسم أو ذاك، وفي هذه البقعة أو تلك، بغير اختلاف كبير في طريقة الفلاحة والحصاد.
إلى أن يقول: وفي الآجام المتشابكة العميقة تسكن الأرواح والأطياف ذوات الخطر والأذى … وحيوانات الغاب — أو سكان الأرض — كثير منها حرام على هذه القبيلة أو تلك … فإذا قتل أحدها وجبت الترضية له، أو يظل في مطاردة القاتل طيفًا لا يفر منه.»
ثم يقول: وطيف آخر من الأطياف الخطرة يدعى «مات تابريرا» يظهر في المدن ولا يظهر كالأطياف الأخرى في الغابات والأنهار … وأصل الاعتقاد فيه على ما يظهر منقول من الديار الأوروبية.»
وقد يخشى القوم هناك أطيافًا أخرى لها علاقة بأرواح الموتى يتخيلونها دائمًا في صورة العجائز القباح، وقد يشيرون إلى عجوز حية معروفة فيقولون عنها: إنها قد أصبحت واحدة من تلك الأطياف ذات العلاقة بالموتى، وإنها تعاشرهم بقوة السحر وحيل التعاويذ.
وأفضل المراجع التي يعتمد عليها في فهم العقائد البدائية تلك الرحلات التي يكتبها طائفة من العلماء عاشوا بين القبائل، واختلطوا بها في جميع أطوار معيشتها، فعرفوا عاداتها بالمعاشرة على فطرتها، ولم يعرفوها بالسؤال والتحقيق على منوال الرحالين الذين يذهبون إليها لدراسة علم الأناس، أو تطبيقه عليها.
ومن هؤلاء العلماء الذين عاشوا زمنًا بين القبائل في أفريقية الوسطى الطبيب المشهور «ألبيرت شويتزر»، صاحب جائزة نوبل منذ خمس سنوات، ويؤخذ من مذكراته أن أخوف المحظورات عندها هي التي ترتبط بأهم المراحل في حياة الإنسان؛ وهي: الولادة والمراهقة والموت، فقبل الولادة تطيف الأرواح بالأب وتلقنه في الرؤيا أو الإيحاء أسماء الأشياء التي ينبغي للوليد أن يتجنبها في حياته، وإلا أصابه الأذى من الأرواح المطيفة بالمكان، وعند المراهقة يحاط الصبية بالمراسم والعبادات التي تفرضها كل بيئة على حسبها. وأشق ما عاناه الطبيب من عادات القوم حذرهم من مقاربة أجساد الموتى، وهو محتاج في مستشفاه على الدوام إلى حمل هذه الأجساد ومواراتها.
ويؤخذ من مشاهدات هذا الطبيب في جواره أن المحظورات خاصة وعامة، فمنها ما يحرم على إنسان واحد ولا يحرم على غيره، حسبما جاءه الوحي من أبيه أو كاهنه، ومنها ما يعم القبيلة جميعًا ولا يُستثنى فيه أحد منها، ويقول الطبيب: إن بعض المنذورين لهذه المحرمات قد يأتي شفاؤهم من الوهم الذي غلب عليهم بعد إنذارهم بتحريم بعض المطاعم، واجتناب بعض الأدوات، فاجترءوا على مخالفة المحظور وسلموا من العاقبة، ولكنهم تخلصوا من عقيدة بعيدة، ورسخ في أخلادهم أن الروح الذي أطلقهم من عقال المحظور أقوى من الروح الذي حظره عليهم، فهو لا يستطيع أن يتعقبهم بالأذى وإن خالفوه جهرة؛ لأنهم دخلوا في حماية روح آخر أقوى وأعظم وأحْرى بالمبالاة والاتباع.
•••
ويرى جلكمان أن المراسم والشعائر حلت بين القبائل الأفريقية محل الصلوات المكتوبة والفرائض المسجلة؛ لانعدام الكتابة في تلك القبائل، فكل علاقة لها شعائرها ومراسمها، وكل حركة تتحركها القبيلة كلها أو بعض أفرادها طلبًا للصيد، أو انتجاعًا للمرعى، أو زحفًا للغارة على عدوها تتطلب منها الزلفى إلى بعض الأرواح، والحذر من بعض الأرواح الأخرى، وتلجئها إلى اتخاذ المراسم والشعائر المتوارثة في أجدادها.
وكل ما يصيب الإنسان فهو من كيد روح، أو دسيسة ساحر، أو من عالم «وراء الطبيعة» على الإجمال؛ فإذا وطئ فيل إنسانًا فقتله، فالأفريقي يفهم أن قوة الفيل أكبر من قوة الإنسان ولهذا استطاع قتله، ولكنه يسأل بعد ذلك: لماذا كان هذا الإنسان هو المقتول ولم يكن إنسانًا غيره؟ أليس هناك سر يرجع إلى تدبير ساحر، أو نقمة روح غاضب، أو مشيئة كائن مما وراء الطبيعة؟ وهكذا تلتقي الأسباب الطبيعية المعروفة بالأسباب المجهولة مما وراء الطبيعة، ولا يحس الإنسان السلامة من الكائنات المحجوبة بحال من الأحوال.
•••
وقد حاول الرحالون والباحثون في الأجناس البشرية أن يرجعوا بالاعتقاد في الأرواح إلى مصدر مفهوم، فلم يتفقوا على مصدر واحد، ولم يصلوا إلى قول متفق عليه يصلح لتفسير كل حالة، وتعليل كل عقيدة.
فمنهم مَنْ يرجع بعقيدة الأرواح إلى الأطياف التي يراها الهمجي في منامه، وإلى الأحلام التي يرى فيها أنه انتقل إلى مكان بعيد وهو لم يبرح مرقده في بيته، فيخيل إليه أن الأطياف تتحرك في الظلام، وتترك الأجساد إذا هدأت حركتها لتجول هنا وهناك حيث تشاء، وأن الذي يحدث في حالة النوم يحدث في حالة الموت، فيسكن الجسد ويبلى، ويتحرك الروح الذي فارقه بفراق الحياة.
ومنهم مَنْ يرجع بهذه العقيدة إلى طبيعة الاستحياء، أي إلى الطبيعة التي تخيل إلى الهمجي أن الأشياء ذات حياة مثله، فيعاملها كما يعامل الأحياء، ويرضى عنها أو يغضب عليها كالطفل الذي يضرب الأرض إذا صدمته حين يسقط عليها، أو يشعر بالراحة حين نضرب الأرض أمامه ونعاقبها بجريرة سقوطه عليها، وإصابته من صدمتها.
وتتمكن هذه العقيدة في خيال الهمجي مع نقص اللغة، وخلطه بين الحقيقة والمجاز في تعبيراتها، فإذا سمع أن الأرض ولدت عيون الماء، وأن أباها انحدر من سحاب السماء لم تزل هذه الصورة تتجسم مع الزمن حتى تنشأ منها أسرة لها أب وأم وأبناء، ولها مشيئة يلقاها بالتوسل والرجاء، أو بالسخط والإعراض.
ومنهم مَنْ يرجع بعقيدة الأرواح إلى عبادة الأسلاف بعد الموت، وقد يحدث أن يُسَمَّى السلف باسم حيوان كالأسد أو النمر أو الثعلب أو النسر أو الصقر، فيحسب أبناؤه مع طول الزمن أنهم تحدروا من ذلك الحيوان، ويجعلون له قداسة مرعية توجب عليهم أن يُحرِّموا قتله، وأن يتوقعوا الضرر والسقم إذا قتله أحد منهم أو من غيرهم ولم يأخذوا بثأره.
ويكاد علماء الأجناس والعادات البشرية أن يجمعوا على إيمان القبائل الفطرية بإله واحد أكبر من هذه الأرواح المتعددة، وأخفى منها في ظواهر الطبيعة.
وقد تقدم من كلام جلكمان أن القبائل في أفريقية الشرقية تؤمن بالإله نيامبي، الذي ارتقى إلى السماء حيرة من كيد الناس وشطارتهم وأفانين احتيالهم، وهذه العقيدة على الأرجح من بقايا عبادة الأسلاف التي يختلط فيها التاريخ بالخرافة، وأصلها على هذا الظن متصل بوحدة القبائل في جدها الأعلى، فهو ربها جميعًا حيثما اختلفت أربابها، وتعددت الأرواح المسيطرة عليها، وقد جردوه من القدرة، وتركوا له صفة العلم والدراية كأنه الأب الشيخ الذي اعتزل العمل والقتال فلا طاقة له بمنع العداوة بين ذريته من القبائل المختلفة.
ويتفق الرحالون كذلك على إيمان الأقزام الأفريقيين برب فوق الأرباب، تشترك فيه القبائل وإن تعذر عليها الوفاق فيما بينها. ولم يجد علماء الأجناس قبيلة فطرية بلغت من ارتقاء الإدراك أن تؤمن بالتوحيد على صورته المثلى، ولكنها تقترب من هذه الصورة كلما ارتقت من فوضى العقيدة إلى مرتبة أعلى وأجمع من مراتب النظام.
•••
وليس الهمجي جبانًا؛ فإن الجبن بين الأخطار المحدقة به أضرُّ به من الشجاعة، وقد عودته مواجهة السباع والحياة أن يواجهها علانية، وأن يصارعها وينصب لها الأحابيل، ويستخدم السلاح المستطاع فيما يُعييه أن يتغلب عليه بالمصارعة، ولكنه بين الأرواح والأطياف أمام خطر مستور لا يدري من أين يأتيه، ولا تكون الغلبة عليه بقوة البدن والسلاح، ولعله لا يريد أن يتغلب عليه؛ لأنه عنده في حكم الأب أو الرئيس المطاع، ورياضته بالحيلة أولى من التصدي له بالأسلحة والفخاخ.
ولا بد من مواجهة تلك الأرواح والأطياف بما يكف غضبها، ويدفع أذاها، ويستجلب رضاها.
ولا بد مما ليس منه بد في النهاية، فأما السكوت عنها فلا يطاق، وأما الصراع معها فلا يجدي فيه البأس، ولا تصلح له الشجاعة، فكانت حيلة السحر هي الحيلة التي انتهى إليها، ولم يكن له بد منها بحال.
وتخصص السحرة لرياضة هذه القوى التي لا ترضى بالأيدي والهراوات أو الحراب.
وظهرت البداهة الإنسانية في هذا التخصص كما تظهر عند الاضطرار إليها في توزيع جمع الأعمال.
فلم يكن السحرة المتخصصون لرياضة الأرواح والأطياف أناسًا ممتلئين بالحياة، صالحين للكر والفر والصيد، واقتناء النسوة، وإنجاب الأولاد، بل كانوا على نقيض ذلك أمساخًا عزلتهم الحياة، أو انعزلوا بعد اليأس من مجاراتها في مطالبها، ولاح بينهم وبين عالم الخفاء شبه مناسب يعقد بينهما العلاقات الغامضة، ويقرب لهما وسائل التفاهم، ويوقع في النفوس أثرًا واحدًا من التوجس والتساؤل والريب فيما وراء الظواهر والمألوفات.
ولا تنفصل وظيفة الكاهن ووظيفة الساحر في مبدأ الأمر، فالكاهن الذي يقوم بمراسم العبادة، هو الساحر الذي يدفع أذى الأرواح والأطياف ويستجلب رضاها، ويسخرها في المآرب التي يختارها، ثم ينفصلان شيئًا فشيئًا، فيصبح عمل الكاهن غير عمل الساحر، أو يجمع الرجل الواحد بين الوظيفتين، ولكنهم يقصدونه لكهانته في أغراض معلومة، ويقصدونه لسحره في غير تلك الأغراض.
والغالب أن السحر يراد لمصلحة خاصة أو لإلحاق الضرر ببعض الأعداء، ويعمد فيه الساحر إلى الوسائل الخبيثة، ولا يكون عامًّا شامل النفع في جميع الأحوال، وتستخدم فيه أرواح منقطعة للأذى والضرر تعودت أن تتآمر على النكاية والنقمة، وأن تستجيب لِمَنْ يؤدي لها الأجر، ويتقدم لها بمراسم الشعوذة والأعمال الخفية.
ويلاحظ أن الكاهن قد يكون رئيسًا للقوم وكاهنًا يؤمهم في الصلاة والعبادة في وقت واحد، ولكن الساحر لا يصل إلى هذه المكانة إلا أن يكون السحر عملًا مضافًا إلى الكهانة، أو فرعًا من فروعها التي لا ترتقي إلى مرتبة الصدارة.
ويلاحظ كذلك أن السحرة مشوهون أو مصابون بالآفات، وأن أدوار النساء العجائز بينهم شائعة غير مهملة، وكلهم بين رجال ونساء غير أهل لحياة القوة والصلابة والمتعة والظهور، وكأنما السحر لديهم عوض عن نصيب مفقود.
وليست الكهانة على الجملة من هذا القبيل، فإن الكاهن قد يكون من أقدر الناس على الجد والوجاهة والمتعة بالرغد والملذات.
ويسبق إلى الظن أن السحر والكهانة كلها خداع في خداع من تلفيق السحرة والكهان، ولكنه ظن خاطئ غير معقول؛ لأن السحرة والكهان على اتصافهم بالذكاء والدهاء قد نشئوا بين أقوام توارثوا العقائد، واحتفظوا بكثير من العادات التي توهموا أنها كانت نافعة لِمَنْ قبلهم وأنها تنفعهم اليوم إذا أحاطوا بعلمها وحذقوا تجاربها، وربما لام الساحر نفسه إذا قصر في بلوغ ما يطلبونه منه، واجتهد في علاج ذلك القصور بتكرار التجربة أو سؤال الأقدمين الذين سبقوه في الصناعة، وهو بطبيعة عمله لا يستغني عن الخداع والتلبيس في معاملة قومه، ولكنه لم يكن قط خادعًا في كل شيء، ولا يزال خادعًا مخدوعًا في جوهر السحر كله، وهو الإيمان بفعل الطلاسم وقوة الأرواح.
وكلما انفرجت المسافة بين وظيفة الدين ووظيفة السحر ترقى الإنسان الفطري من فوضى الأرواح والأرباب، ونبذ التسوية بينها، وتعوَّد التفرقة بينها فيما يطلبه منها؛ فمنها ما يقصده للنفع كما يقصده جميع أبناء القبيلة، ومنها ما يقصده ليتواطأ معه على الإجرام والنكاية كأنه بعض الشطار الذين يعيشون اليوم بتأجير أنفسهم للنكاية والعدوان.
ويحدث في هذا الطور من التمييز بين الأرواح والأطياف أن تعرف بأسماء، وتوسم بملامح، وتتلبس «بشخصيات»، وتتخصص كل «شخصية» منها لرسالة تتجرد لها، وتقدر عليها حيث لا يقدر سواها.
وفي هذا الطور أو هذه المرحلة يتهيأ الذهن للتمييز بين عمل الإله وعمل الشيطان.
أنواع ودرجات في الحرام والمحظور
تكاد المحرمات في القبائل البدائية أن تربي على المباحات والمحللات؛ لأن المحرمات تشمل القداسة والنجاسة والعصيان والاحتقار والاستقذار، فهناك أمور محرمة لأنها عظيمة مبجلة، وأمور محرمة لأنها نجسة أو مشئومة، وأمور محرمة لأن إتيانها عصيان لرب معبود أو روح قدير، وأمور محرمة لأنها تُحتقر وتُعاف.
وعدد هذه المحرمات في جملتها كثير يكاد يشمل كل عمل يزاوله الإنسان الفطري، بل ربما كان المباح نفسه داخلًا في التحريم على وجه من الوجوه؛ لأنه لا يباح إلا بصلوات وشعائر يعرفها الخبراء، ولا تعم معرفتها كل أحد؛ كالصيد والزرع والحصاد وما شابهها من أعمال الجماعة أو الفرد؛ فإن الخوف من الإقدام عليها بغير صلواتها ورسومها يجعلها في حساب المحظورات.
وقد ترقى الإنسان وترقت معه اللغة، ولم تزل في تعبيراته آثار للتقابل بين القداسة والنجاسة في الممنوعات، فكلمة الحرمة في اللغة العربية تدل على الشيء العزيز العظيم الذي يُصان ويُحمى بالأرواح والأموال، وقد يشمل الحرام كل إثم يُعاب أو يُعاف.
وكلمة المنيع أو الممنوع تدل على القوة والرعاية، كما تدل على الرذيلة التي يجب على المرء أن يمتنع عنها ولا يقترب منها.
وكلمة القديسين والقديسات كانت تطلق عند البابليين والكنعانيين على الذكور والإناث الذين ينصبون أنفسهم للبغاء في حرم الربة «عشتروت» أو السارية، وقد ترجمت هذه الكلمة في كتب العهد القديم بكلمة المأبونين والزانيات، وهي في الأصل من القديس أو المقدس، ويقال عن الربة نفسها: إنها كانت خليلة الأرباب ولدت منهم سبعين إلهًا «إيليم».
وفي القبائل البدائية ثلاثة أنواع من المحرمات المقدسة؛ وهي: «الطوطم»، والوثن أو التعويذة، والتابو أو الحرام الممنوع.
والمحظور التابي أقل درجة من الطواطم والأوثان؛ لأنه قد يتفرق ويتخصص فيكون حرامًا عند بعض الناس حلالًا لغيرهم في البيئة الواحدة، بل قد يكون مستحبًّا مطلوبًا لمئات من الناس ولا تحريم فيه على غير آحاد معدودين. وقد روى الدكتور شويتزر ضروبًا من هذه المحظورات لا مرجع لها غير التحكم من بعض الأرواح المزعومة التي تكشف عن إرادتها قبل وضع الجنين، فتخبر أباه في الرؤيا باسم «التابو» الممنوع على الوليد.
فمن هذه المحظورات أكل بعض الطلح أو البذور، ومنها ضرب الوليد على ظهره، ومنها حمل المكنسة أو بعض الآنية. ولا تكذب النبوءات في شأن «التابو»، بل يصدقها القوم كل التصديق حتى لتقبل عقولهم أن الوليد يولد ذكرًا ثم يتحول إلى أنثى إذا خولفت نبوءة أو علامة مرصودة، ويفعل الوهم هنا فعله القاتل الذي لا تجدي فيه النصيحة ولا الإقناع، ففي ناحية «سمكينا» رأى الطبيب صبيًّا في مدرسة البعثة أنبأه رفاقه أنه أكل من إناء طبخ فيه الطلح قبل ذلك ولم يغسل، وكان الطلح محظورًا على الصبي بنبوءة آبائه، فلم يكد الصبي يسمع الخبر حتى تشنجت عضلاته ولزمه التشنج إلى أن مات بعد ساعات.
وتحيط هذه التابوات كثيرًا بعلاقات الجنسين وبلوغ سن المراهقة في الذكور والإناث، فيندر بين قبائل الأرض البدائية أن ترى قبيلة خلت من مراسم المراهقة ومحظوراتها الكثيرة، فتعزل الفتاة ولا تكلم أحدًا غير أمها، أو لا تكلمها إلا بصوت خفيض، ويؤخذ الصبي بعيدًا من بيته ليغسل في العيون المقدسة من روائح الأنوثة التي لصقت به من مصاحبة أمه، ويجري له الكهان أو كبراء السن شعائر الفطام، ومنها في بعض قبائل الهنود الحمر أن يفارق أمه زمنًا، أو يدخل الكوخ وهي مستلقية على بابه فيطأ على بطنها علامة الانفصال في موضع حمله حيث اختلط بجوف الأنثى وهو جنين.
وتدل الشعائر الموروثة منذ القدم على جهل مطبق بأسرار الجنس والولادة، وربما تبين من تلك الشعائر أنهم ينوطون نسبة الابن إلى أبيه بالمراسم والشعائر، ولا يعتقدون أن مجرد الاتصال بين ذكر وأنثى يحقق الولادة والنسبة إلى الآباء؛ ففي بعض القبائل يفرض العرف على الرجل أن يقدم زوجته لضيفه الغريب، ولا يمنعه ذلك أن يَنسبَ أبناءها جميعًا إليه؛ لأنه هو الذي جرت بينه وبينها مراسم الزواج.
•••
وتتفق جميع المحرمات البدائية على تفنيد مذهب المؤرخين الذين يقولون عن الديانات ومحرماتها ومباحاتها إنها حيطة اجتماعية، تهتدي إليها بديهة المجتمع لمنع الجرائم ومعاقبة المجرمين، وحماية الأبرياء من عدوان المجرم والإجرام؛ فكل هذه المحرمات إنما ترجع إلى شيء واحد؛ وهو إغضاب رب أو روح، وتخطي الحدود التي تمنعها الأرباب أو الأرواح، ولها كلها علاقة بعالم الخفايا والأسرار وما نسميه اليوم بعالم ما وراء المادة؛ لأنه لا ينحصر في المحسوسات المادية.
وأما الجرائم وعقوباتها فهي أعمال مفهومة مقصودة ترجع إلى الأسباب الطبيعية التي يحيط بها علم الإنسان كما تحيط بها إرادته، وهي تعالج بالقصاص المقدر وبالثأر والانتقام وأداء الغرامة والدية، بل يستمد الثأر قوته أحيانًا من عالم الروح، كما يقال عن روح القتيل في قبائل الجاهلية العربية إنها لا تزال هائمة مقيدة بجانب القتيل تنادي العابرين بها: «اسقوني اسقوني»، حتى يؤخذ بالثأر فتشعر بالري وتستريح، فليست المحرمات الدينية هي التي تتوقف على مطالب القصاص وقوانين الجزاء، بل هذه المطالب هي التي تتوقف أحيانًا على عالم الأسرار والأرواح.
وقد ثبت من أطوار المحرمات في القبائل عامة أنها تتقدم مع تقدم الإنسان في ثلاثة أدوار متشابهة.
فالطور الأول أن تترقى من الحدود المحلية إلى حدود عالمية أو كونية تشمل السماوات والأرضين، فبعد الرب الذي يسيطر على ينبوع ماء، أو شجرة في غابة، أو بقعة في جهة من جهات الإقليم، يترقى الإنسان إلى فهم الرب الذي يسيطر على السحب والأنهار وأفلاك السماء، وكلما أدرك القوانين التي تربط الطبيعة بنظام واحد ترقى إدراكه لقدرة الرب الذي يملك زمامها، ويصلي له المصلون لإجرائها في مجراها المطلوب، وتحويلها عن المجرى الذي يحذرون عقباه.
ويقترن بهذا الطور، أو يأتي بعده، طور التمييز الواضح بين عمل الدين والعبادة، وعمل السحر والطلاسم السحرية، فلا يستطيع الساحر ما يستطيعه الكاهن، ولا يُقصَد الكهان عامة فيما يُقصَد فيه السحرة عامة، وربما تولى الوظيفتين رجل واحد، ولكنه وهو كاهن إنما يتوسل إلى الآلهة ويتحرى رضاها بالصلوات التي يحسنها دون غيره، أما وهو ساحر فهو يسخر الأرواح أو يعاملها على أساس التواطؤ والتعاون على العمل الكريه، الذي ينفر منه المشتركون فيه ولا يجهرون بسره عن رضًى واختيار.
وكلما اتضح التمييز بين العبادة والسحر اقترب الإنسان من الطور الآخر الذي يستقل فيه بمشيئته بين الوظيفتين.
ففي الحياة البدائية يظل الإنسان رهينًا بمشيئة الأرواح التي تنفع وتضر، وتنطوي على الصداقة أو على العداء، وكلها في رأيه تعمل ما يحلو لها، ولا يحق لأحد أن يحاسبها عليه، ولكنه كلما ترقى في التمييز بينها ملك الميزان الذي يزن به أعمالها وأقدارها، فيدين بعضها ويحمد بعضها، ويعرف منها مرءوسين ورؤساء يحق لهم أن يشرفوا عليها ويحاسبوها على أعمالها، وأحس في طويته أن يطيع بعضها ضرورة وغصبًا، ويطيع بعضها حبًّا واختيارًا؛ لأنه أهل للطاعة والرجاء.
ومن هنا تصبح الأرواح نفسها مطيعة أو عاصية، وماضية على السنن القويم أو منحرفة عن هذا السنن إلى الخطة العوجاء التي ينكرها كبار الأرباب.
ومتى أتيح للإنسان مقياس يقيس به الأرواح والأرباب، ويقيس به أعمالها وحقوقها، فهو إذن أهل للمشيئة والتبعة، وأهل للتمييز بين الخير والشر، وبين سلطان الإله وسلطان الشيطان.
أنواع الشيطنة
ما هي أنواع الشيطنة في العالم؟
سؤال غريب، ولكنه يبدو طبيعيًّا، بل ضروريًّا إذا وضع في صيغة أخرى فسألنا: ما هو موقف الشر بالنسبة إلى القوة الكونية الكبرى؟
وهنا أيضًا نتبين أن فكرة الشيطان أعمق جدًّا مما يخطر للمتعجل الذي يحسب أنه يحل كل مشكلة بكلمة الوهم أو التلفيق، أو يحل كل مشكلة بإحالتها إلى جهل الأقدمين وضلالهم في الحس والتفكير.
فهناك صور للشيطنة بمقدار ما في الذهن البشري من فكرة عن الشر في هذا الكون: هل الشر قوة أصيلة؟ هل هو قوة إيجابية عاملة؟ هل هو قوة سلبية؟ هل هو عدم الخير؟ هل هو نقص الخير؟ هل هو عقبة في طريق الخير؟ هل هو عقبة تريد وتعمل ما تريد؟ هل هو عقبة لا إرادة لها، ولكنها تضاعف جهود الخير وتستدعيه إلى مزيد من الحركة والثبات؟
كل فكرة عن الشر يمكن أن تخطر على الذهن البشري قد تمثلت في صورة من صور الشيطان، وهذا سبب من الأسباب الكثيرة التي تدعو المفكر الذي يحترم عقله أن يفهم الصور الدينية على حقيقتها، وحقيقتها أنها لغة حية تصور الوجود الحقيقي تصويرًا صادقًا على أسلوبها الذي يستحق الفهم والتعمق، والنظر إلى ما وراء الظواهر والألفاظ.
كان الشر أرواحًا ضارة متفرقة في اعتقاد الإنسان على الفطرة الهمجية، فلما أصبح مسألة كونية عامة تمثلت صورته في حدودها الكونية على شكل معقول، وسبقت المذاهب الفلسفية بمراحل بعيدة في هذا المضمار.
كان الشر في تقدير الديانة المجوسية القديمة قوة فعالة معادلة لقوة الخير: كان في الوجود خير وشر كما فيه نهار وليل، وكان الليل حقيقة قائمة بذاتها، ولم يكن مجرد غياب النهار.
كان الليل ضد النهار كما كان النهار ضد الليل، فإذا غاب النهار فهناك ليل، وإذا غاب الليل فهناك نهار.
كان للنور دولة وللظلام دولة، وكان لهذه جنود ولتلك جنود، فهما قوتان متقابلتان متعادلتان أو كالمتعادلتين، ولكل منهما وجود قائم قابل لأن ينفرد بنفسه في معزل من القوة الأخرى؛ فلا يتوقف وجود الشر على وجود الخير، ولا يتوقف وجود الخير على وجود الشر، بل كلاهما موجود بحقه وبقدرته وبعمله كما يوجد الضدان الصالحان للحياة وللبقاء.
كان الظلام يصنع مخلوقاته كما كان للنور مخلوقاته التي يصنعها، وكل منها حسن في نظر نفسه، محمود بمقياسه لا يبالي مقياس غيره ولا يتمناه.
ثم تراجحت الكفتان فرجحت كفة النور على كفة الظلام، وظل المعسكران متقابلين، ولكن إلى حين ينتهي آخر الأمر بهزيمة الظلام وغلبة النور، ثم يبقى الظلام شيئًا يلوذ به أنصاره فيختفون فيه ولا يظهرون للأبصار، وإنما هزيمتهم اختفاء، وليست بالفناء ولا بالزوال.
وعظم التفاوت بين القوتين شيئًا فشيئًا حتى أصبحت قوة الشر كقوة الأمير التابع مع السلطان المتبوع، فهو يستطيع شيئًا إلى جانب سلطانه، ولكنه لا يستطيع جميع الأشياء، ولا طاقة له على طول المدى أن يجاريه في كل شيء.
ومن إلهين متعادلين تحول الخير والشر إلى إله كبير وإله صغير، وقد تظل الحرب بينهما سجالًا؛ فينتصر الإله الصغير وينهزم الإله الكبير، وقد يئول الأمر بينهما إلى معركة حاسمة، أو يظل العراك بينهما سجالًا إلى أن تزول الأرض والسماء.
ثم آمن الناس بإله واحد هو الخالق المبدع القائم بذاته، لا وجود معه للشر إلا بمشيئته وتقديره، فلا يقوم الشر في هذه الدنيا بذاته مستقلًّا عن الله.
وفي هذه الصورة ظهر الشيطان في ديانات الأمم الكبرى، ثم ظهر في الديانات الكتابية بمختلف الأسماء، وكلها تدل على التعطيل والتشويه والإفساد، ولا تدل على الخلق والتكوين … كلها قوة سالبة ناقصة، وليست بقوة موجبة كاملة تبتدئ بمشيئتها عملًا من الأعمال.
هذه القوة الشيطانية تحول الخير عن موضعه، أو تملي للنقص في عيوبه، أو تقف في طريق الكمال عقبة تصد الساعين إليه، أو تزيف «العملة» الإلهية فتجعل الزائف منها كالصحيح في رأي المضلل المخدوع.
ولكنها في جميع أحوالها قوة سالبة، وليست بالقوة الموجبة الموجدة بأية حال.
وقد يتمرد الشر على الخير ويعصيه.
وقد يخرج الشيطان على أمر الله، وقد يشوه الخلق وينتقصه، ويستر محاسنه، ويبدي عوراته، ويحول دون رضوان الله على مخلوقاته، ولكنه يعمل تابعًا ولا يعمل مستقلًّا في كون من الأكوان غير الكون الذي خلقه الله.
وفي هذه المراحل جميعًا يدل اسم الشيطان على موقفه من القوة الكونية الكبرى، فهو المتمرد، أو هو «الضد»، أو هو الواشي النمام، أو هو الساعي بالفتنة والمغري بالفساد والموغر للصدور.
وما من اسم للشيطان بين هذه الأسماء إلا وهو يحمل في دلالته معنى الإفساد والمنع والتشويه، فليست له قدرة على الخلق والإنشاء إلى جانب قدرة الله.
•••
ولما تقررت المقاييس الإلهية في الأخلاق والأعمال تقررت المقاييس الشيطانية تبعًا لها وبالنسبة إليها، فكان الجديد فيها أنها معالم شخصية ذات ملامح معلومة لا ترتسم اعتباطًا في الواقع أو في الخيال.
وقد عالج الشُّرَّاح الدينيون أن يلخصوا «الشيطنة» في صفة واحدة تجمع عنصرها، ويقوم بها كيانها، فذكروا الكبرياء، وذكروا العصيان، وذكروا الحسد، وذكروا الكراهية، وذكروا الباطل والخداع. وكلها صفات لا تحسب من لوازم الشيطان إلا بعد علم بوجود الإله المتصرف في المقادير والأكوان.
فالكبرياء افتئات على مقام الإله، والعصيان خروج على شريعته، والحسد إنكار لنعمته واعتراض على تقديره، والكراهية صفة قد يتصف بها الأبرار حينًا بعد حين إذا كانت الكراهية لهذا العمل البغيض، أو لذلك المخلوق الذميم، ولكنها إذا كانت قوام الطبيعة كلها فهي صفة هادمة غاشمة تناقض الصفة الإلهية في الصميم، وهي الحب ولوازمه من البر والإنعام. أما الباطل والخداع فهما نقيض الحق ونقيض الاستقامة، ونقيض الخلق على الصدق والسواء.
على أن الأرواح الأولى في جاهلية الإنسان قد تطورت في اتجاه آخر مع هذا الاتجاه في مجال الخير والشر، وعالم النفس الإنسانية بما يعرض له من صلاح وفساد.
ذلك الاتجاه الآخر هو تطورها فيما يتعلق بقوى الطبيعة وظواهر السماوات والأرضين.
فهنا أرواح من الجان الخفي لها عمل غير علاج النفس الإنسانية وفسادها، ولها قدرة خاضعة لسلطان الإله وَمَنْ يصطفيه من عباده، وينسب إليها كل مجهود عظيم تقصر عنه طاقة الإنسان.
وليست قدرتها هذه لأنها تعلمت ما لم يتعلمه الإنسان، ولا لأنها ذات عقول أكبر من عقله وأصلح منه للفهم والتفكير.
ولكنها قدرة تأتيها من عالم الأسرار الذي تعيش فيه، فهي تسخر القوى الطبيعية لأنها تعيش بين أسرارها، وتحسب منها أو في حكمها، وإذا فطنت للمعنى الدقيق الذي لم يفطن له الإنسان، فإنما تأتي فطنتها كذلك من اطلاعها على الدقائق والخفايا، ونفاذها إلى العالم الذي يطرقه حس الإنسان ولا يتسلل إليه عقله.
وهذه هي شياطين الفنون والصناعات، تبني الصروح، وترفع الصخور، وتنهض بالأثقال التي تعيا بها كواهل الإنسان وتنوء تحتها أدواته وصناعاته، وتدخل في ثنايا الخفاء فتُلهِم الشاعر ما يدِقُّ عن سائر بني آدم من غير الشعراء، ولا جرم يكون لهؤلاء الشعراء وأمثالهم من أصحاب الفنون حال كمس الجان وغيبوبة المخبولين؛ لأنهم يخاطبون الجان ويفقهون عنها، ويلحنون منها أسرار لغاها وإشارات وحيها.
وتلك هي أنواع الشيطنة من جانبيها: في اتجاه الضمير، وفي اتجاه الذهن والقريحة.
في اتجاه الضمير ترتبط «الشيطنة» بالصلاح والفساد، والخير والشر، ومساعي الإنسان نحو الكمال والرشاد.
وفي اتجاه الذهن والقريحة ترتبط «الشيطنة» بالأسرار والبواطن، وبالوحي الخفي وغرائب العبارة، سواء كانت عبارة لغة أو عبارة شكل وإشارة.
وسيكون لكل نوع من هذه الأنواع نصيبه فيما يلي من الصفحات.