مقدمة (٢)
التعريف بالسفود
كان السبب الأول الذي حدَا بنا إلى نشر مقالات «على السفود» في «العصور» أن نُرضي ضميرنا بأن نفسح المجال لعَلَم من أعلام الأدب وحُجة ثَبْتٍ من رجالات هذا العصر، أن يعبِّر عن رأيه في صراحة وجلاء في أديب امتاز بين الأدباء بشيء من الصَّلَف عُرف به، وبقَدْر غير قليل من الزهو بالنفس والإغراب في تقدير الذات، تلك الأشياء التي لا تسكن نفسًا إلا ويُطَلِّقها العلم ثلاثًا، ولا تحل بشخصية إلا وتنفر منها الرجولة نفورًا، ولا تغشى عقلًا إلا وتكون دليلًا على انحرافه وتفكك الثقة به.
ولقد أطلق علينا ذلك الأديب المفتون ألسنة من أعوانه حدادًا، كان يلقنهم ما يقولونه، فينقلون ما يلقى إليهم كأنه الحاكية المركبة تنطق من غير إرادة وعن غير فهم كما مُلئت به، فقد أرسل إلينا أحدهم نقدًا على كاتب «السفود» لم نتحاشَ من نشره لما فيها من بذاءة في القول وإسفاف في المناظرة فقط، بل لأنه تضمن نقدًا في مسألة إعرابية نحوية لو أننا نشرناه لكان المنقود العقاد لا كاتب «السفود». وهذا مقدار ما وصلت إليه عقلية أذناب العقاد الموحى إليهم منه بما يكتبون وما يقولون، وتلك نهاية ما بلغ علمهم باللغة والأدب، مُلْقًى به إليهم من زعيمهم الأكبر وصنمهم، المرموق منهم بعين الاحترام في الظاهر، والاحتقار الدفين في الباطن.
غير أن هنالك سببًا آخر حدَا بنا إلى نشر مقالات «السفود» الفذة على صفحات العصور، فإننا لن نُخرج العصور لتكون أداة مدح لمجرد المدح، أو أداة ذم لمجرد النفع المادي. تلك الطريقة التي اتبعتها الصحف في مصر إلى عهد قريب. ومن الأسف أنها طريقة لم يتورع عنها أكبر الصحف السيارة. فسمي النقد تقريظًا، وسُمي الاستجداء تقديرًا للأشخاص، وسُمي التمسُّح تقييمًا لذوي الفضل … وهكذا حتى اجتمع للصحافة قاموسها المعروف بين الذين يعرفون كيف يستغلون الصحافة.
فلما أصدرنا «العصور» عوَّلنا على أن نسمي النقد نقدًا، والتقدير تقديرًا، والتقييم تقييمًا، بكل ما تسع هذه الكلمات من المعاني المحدودة لا المعاني المؤولة تأويلًا صحفيًّا على الوجه الذي درج بين الصحافة ورجال الصحافة. بيد أننا بجانب هذا صممنا على أن نعطي الكُتَّاب أوسع فرصة للتعبير عن آرائهم والإفصاح عن ما تكنه صدورهم في حرية كاملة، ولو كان النقد موجهًا إلينا بالذات. فمن أراد منهم أن تكون «العصور» ميدانه في نقد أو دفاع، فإننا نرحب به ونعطيه أوسع فرصة ممكنة للتعبير عما يراه من رأي في أي موضوع من الموضوعات.
لهذا أردنا بنشر «السفود» أن نُرضي من أنفسنا نزعتها إلى تحرير النقد من عبادة الأشخاص، ذلك الداء المستعصي الذي كان سببًا في تأخر الشرق عن لحاق الأمم الأخرى في الحضارة.
وإن نحن قدمنا اليوم للسفود بهذه المقدمة الوجيزة، وقد هم أحد أدباء الناشرين بنشره، فإنما نقدم بها تعريفًا لما قصدنا من إذاعة هذه المقالات الانتقادية التي أعتقد بأنه لم يُنسج على منوالها في الأدب الحديث حتى الآن.
وعسى أن يكون «السفود» مدرسة تهذيب لمن أخذتهم كبرياء الوهم، ومثالًا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص، ووثنية الصحافة في عهدها البائد.