عباس محمود العقاد١
يقول «جول لُمَتْر» الناقد الفرنسي المعروف: «ولا أكاد أفرغ من كتاب أقرؤه حتى يذهب بي الانفعال مذهبه حزنًا وفرحًا، وقد أضطرب من شدة السرور وكأنما خالطني ذلك في اللحم والدم».
احذِف هذا الشعور النبيل القائم على الفهم والحق وعلى القلب والعقل، وضَعْ في مكانه ألأمَ شعور وأخزاه، يخرج لك «عباس العقاد» الجلف الحقود المغرور قائلًا «لا أكاد أفرغ من قراءة كلمة طيبة لأحد من خلق الله حتى أمتلئ حقدًا وغمًّا، وأراني أشعلت النار في لحمي ودمي».
إن لم يقل هذا المغرور ذلك بيانًا وكلامًا، فقد نطقتْ به أفعاله في أَلْأَمِ لغة وأخس طبيعة، وهو دائب منذ عشرين سنة لا يعمل إلا بهذه القاعدة، ولا تعمل فيه إلا هذه القاعدة، وكان يظن أن الناس يهابونه لمكان ما في نفسه من نفسه، ولكنه لما طُرد أخيرًا من جريدة البلاغ رأى حيطان الشوارع نفسها تكاد تشتمه، وأيقن أنه أهون وأسقط من أن يعبأ به أحد من الأدباء، وعَلِم أن الاحترام كان لمنزلة جريدة البلاغ لا لمنزلته هو.
وماذا كان يعمل في جريدة البلاغ؟ ولماذا أُخرج منها؟ كانوا يحتاجون إلى سفيه أحمق يُسافه عنهم جريًا على القاعدة الحكيمة القائلة «إن الكريم لا يحسن به أن يكون سفيهًا، فيجب أن يتخذ له من يُسافِه عنه إذا شُتم»، فلم يَرَوْا أكفأ من العقاد وقاحةَ وجهٍ وبذاءة لسان وموت ضمير، وحمقًا أكبر من الحمق الإنساني، ولؤم نفسٍ بقدر مجموع كل ذلك، سفيه مكرم بحكم السياسية!!
وما تقول في كاتب يناقش الدكتور هيكل رئيس تحرير «السياسة»، ذلك النابغة الذكي والإنسان الرقيق، فيكتب عنه في صدر جريدة البلاغ «كتب الولد المسطول»!!! ويناقش الأستاذ خليل بك ثابت رئيس تحرير «المقطم»، وهو كاتب سياسي محنَّكٌ دقيق الفكر متَّسع متفنِّن، وقد زعم في بعض المسائل أنها مسألة اقتصادية، فيقول له العقاد في صدر البلاغ: «اقتصادية ماذا يا مغفل!!!»
ثم وماذا تقول في كاتب لم يشتهر إلا بمنزلة «البلاغ» في الأمة، ولم يعش إلا منه، ثم يتطاول بلسانه على صاحب البلاغة نفسه — كما نشرت جريدة الأخبار — حتى يضطره إلى مثل الكلمة التي قيلت في السماء لإبليس (اخرجْ منها …)؟
ولكن هل لهذا العقاد قيمة حقيقةً؟ وهل يخشاه أحد من الأدباء كما يظن هو أو كما يخيل إلى بعض الناس في خارج مصر؟
هذه هي منزلة الرجل يعالنه بها أديب من أكبر الأدباء. وماذا تظنه فعل حين سمع هذا؟ قال له دمُه في داخل ضميره: صحيح صحيح!! فسكت ثم قام، وكاد الباب يبصق في وجهه نيابة عن الأديب المعتدى عليه وعلى أخلاقه الكريمة.
الأمر كله وهم وخداع، كالحمار يلبس جلد الأسد … فلما رأى القراء هذا العقاد لا يكتب إلا سبابًا وحقدًا ولؤمًا وتطاولًا على الناس ودعاوى فارغة وتضليلًا وإيهامًا بإيراد آراء الفلاسفة وزعمه مناقشتها، ظنوا من تتابع كل هذا ما لا بد أن يظنه الضعفاء ويتأثروا به من عمل التكرار. وقد قيل إن الذئب إذا واثب إنسانًا ضلل حواسه، فجعل يثب بغاية السرعة أمامه وخلفه ويمينه وشماله وفوقه، ليخيل إليه من تتابع هذه الحركة السريعة أنه ذئاب كثيرة لا ذئب واحد، وبعبارة أخرى ليدير أمام عينيه «فِلْم» ذئاب سنماتوغرافيا كاذبًا لا حقيقة له، وهكذا يفعل هذا الذئب الأدبي العقاد.
ومن أين كل هذا؟ وما سببه؟ نحن لا نجري إلا على أحداث قواعد النقد، وهذه القواعد تقضي بأن الأفكار راجعة إلى أحوال عصبية، وأن ما في داخل الإنسان هو الذي يصنع ما في خارجه، وكذلك الكاتب في كتابته، فأنت لا تصل إلى حقيقتها إلا بعد أن تقف على حقيقة مشاعره وأخلاقه وطباعه وأصله وفصله، هي وحدها تفسيره وتفسير ما يكتب وما يعمل.
على هذا الأصل يجب أن يعرف الناس هذا المخلوق المسمى العقاد … وإذا صح ما كتبته عنه جريدة «الأخبار» وعن منبته — فإن من يصح فيه مثل ذلك — يظل العالم كله في نظره كالشارع الذي يلقى فيه لقيط، المكان والسكان والعالم وأهله في ناحية، واللقيط وحده في الناحية الأخرى، فهو يكره الوجود من أجل نفسه، ويكره نفسه من أجل الوجود، والمنفعة المادية وحدها هي دنياه وأهله وناسه.
سل الأطباء ما الذي يؤثر في الجنين أشد تأثير، ويخرجه شرسًا حقودًا لئيمًا بالغريزة إذا خرج كذلك؟ إنهم يجيبونك إن المنبت مصنع الطباع والأخلاق، فكل ما صُنع في «معمل» جاء من مواده، ولن يفلح فيه بعد ذلك أدب ولا تهذيب ولا علم ما لم يكن في المعمل أُدِّبَ وهُذِّبَ.
لو كان العقاد يرضى أن يقال عنه إنه مترجم لأنصف نفسه وأراحها، ولكنه يزعم — في وقاحة — أن لا عبقري غيره. فإذا ذهبت تقرأ كتبه رأيت أحسن ما يكتبه هو أحسن ما يسرقه، وهذا أمر كالمجمع عليه، ومع ذلك لا يريد اللص إلا أن يُعَدَّ من أرباب الأملاك!!!
تأمل أسماء كتبه «ساعات بين الكتب»، «مراجعات من الأدب والفنون»، «مطالعات في الكتب والحياة» ما هذا؟ هل هي إلا اللصوصية الأدبية تسمي نفسها من حيث لا يشعر اللص؟
وإذا ذهب كل إنسان يقرأ الكتب التي تُعَدُّ بالملايين ويلخص كل كتاب في مقالة أو مقالات، فهل يعجز عن هذا العمل أحد؟ وهل يكون كلُّ الناس عباقرة لأنهم قرءوا وفهموا وسرقوا ولخَّصوا؟ لقد هانت العبقرية، وأصبح خمسة آلاف من طلبة البكالوريا في هذه السنة وحدها خمسة آلاف عبقري أنجبتهم مصر في عام واحد …
هو من جهة اللغة والبيان ساقط، لا يكابَر في هذا، أمسِك عليه هذه المقدمة أولًا ثم خذ منه نتيجتها، نتيجتها عند نفسه أنه شاعر كاتب عبقري!! وهَبْهُ نزل عليه الوحي، فما قيمة ذلك إذا كان لا يجيء إلا في أسلوب سخيف؟
للعربية سرها في تركيبها وبيانها، فإذا أهملناه صارت العربية (كلام جرائد) يصلح لشيء ولا يصلح لشيء آخر، يصلح ليقرأ اليوم ويُلقى، ولا يمكن أن يصلح للغد والاحتفاظ به ليكون ثروة للغة والبيان.
- الأول: بعض أبيات حسنة لا بأس بها.
- والثاني: ألوف من الأبيات السخيفة المخزية التي لا قيمة لها، لا في المعنى ولا في الفن ولا في البيان، فعلام يدلُّك هذا؟ يدلك بلا شك أن الأبيات الحسنة مسروقة جاءت من قريحة أخرى وطبيعة غير هذه الذي تعصف بالغبار والأقذار، فإن الشاعر القوي لا بد أن يتسق كلامه في الجملة على حذو الألفاظ ومقابلة المعاني، وإذا نزل بعض كلامه لعارضٍ ما، لم ينزل إلا طبقة واحدة أو ما دونها. أما العقاد فيتدحرج!! من مائة درجة عندما يسمو — أعني عندما يسرق — في بيت أو بيتين!
نحن نفتح الآن ديوان بهذا السخيف كما يتفق، ونُخرج لك ما نصادفه. وكن واثقًا أنك لن تفتح صفحة دون أن تقع على سخافات كثيرة. انظر قوله صفحة ٢٠: «لسان الجمال»:
وإذا كان للجمال في هذا الحبيب «لسان»، فلا يعقل أن يكون اللسان في غير فم، فإن هذا يحضر صورة هذا، خصوصًا بعد ما قال: «أسمعه»، وإذن صار الحبيب حيوانًا عجيبًا في ظاهر أعضائه أعضاء أخرى، وما معنى قوله: «أسمعه في كل يوم»؟ إذا كان لسان الجمال ناطقًا أبدًا، فالصواب «في كل حين» أو «في كل وقت»، وإذا كان أخرس لا ينطق إلا مرة في اليوم، فيكون تعبيره حينئذٍ صحيحًا، وهذا غير ما يريد المتشاعر، وغير ما هو حق المعنى.
هل تريد الآن أن تعرف أصل هذا المعنى على أدق وأجمل ما يأتي في الشعر؟ انظر قول العباس بن الأحنف:
فقلب المتشاعر المعنى، وجعل الذي يغالبه «لسان الجمال»، وبذلك سقط الشعر، لأن ابن الأحنف أراد أن الحبيبة هي غالبة على إرادته، فيجره لسانه إلى اسمها إذا أراد أن يدعه إلى اسم امرأة غيرها. والعقاد جعل لسان الجمال «يدعوه» فقط لا يجره جرًّا إذا أراد الحبيب أن يبعده عنه.
وقد عبَّر أبو تمام أحسن تعبير عن هذا المعنى بقوله:
وتأمل قوله: «يغنيها تودد وجهها»، فهي كلمة بالعقاد وكل شعره.
نحن نعبث بهذا المتشاعر، ونفسح له مهربًا كمهرب الفأر بين أظافر الهر، لا يرسله يمينًا إلا ليضربه شمالًا، وإنما سرق المتشاعر من قول القائل:
بجانب هذه القطعة قطعة أخرى معربة عن شكسبير، يقول في البيت الثالث منها:
فما هذه اللام في «ليسمع»؟ لام عقادية ولا شك، أي سخافة وتخليط، إن هذه اللام لا تأتي إلا زيادة في التوكيد، وهنا «كأن» للتشبيه لا للتوكيد، أي لم يسمع، بل كأنه، فلا توكيد في الكلام، ولا محل لتلك اللام مطلقًا إلا أنها من جهل المتشاعر.
ويقول في هذه القطعة:
فسَّر «تعرقه» بقوله: «عرق اللحم كشطه وأبقى العظام»، فإذا كان هكذا فمعنى البيت (تكشط اللحم وتُبقي العظام إلا العظام!!!) أهذا بيان أم هذيان؟ وتفتح صفحة ٣٠، فإذا قطعة في العُقاب الهَرِم يقول فيها:
يريد بالكاسر مثل قول الجرائد التي يتعلم فيها: «حيوان كاسر وأسد كاسر»، وهو خطأ، لأن هذه الكلمة لا تُقال إلا للطائر حين يكسر جناحيه للوقوع. ويقول بعد هذا البيت:
قال في الشرح: «التدويم تحويم الطائر في الفضاء، والشماريخ القلال، والمعنى أن خاصة (كذا) الطيران سُلبت من جناحيه فأصبحتا (كذا) هما والجبال سواء». ما الذي فهمت أيها القارئ من هذا الشرح ومن سخافة النظم؟ يريد المتشاعر أن جناحي العقاب الهرم جمدَا فلا يطيران، فلو هما طارَا لطارت في الجو شماريخ جبل رضوى، وقام جبل يَلَمْلم يطير. فانظر أي اضطراب وأي حمق وأي سخافة؟ ولماذا رضوى ويلملم دون هملايا والألب؟ وهل يجمد ويتحجر الجناح في هرم الطائر فيشبه بالجبل الراسخ! أم يضعف ويدق؟
ويقول:
بغاث الطير ضعافها وما لا يصيد منها، ومنه قولهم: «إن البغاث بأرضنا يَستنسر»، يريدون أن البغاث — مع كونه ذليلًا عاجزًا — لو نزل بأرضنا لا نقلب نسرًا. فأية قيمة (للمهابة) التي تفر منها ضعاف الطير؟ أوليس المعنى الطبيعي الشعري هو القائل:
وفي صفحة ٣٢ «الليل والبحر» يقول:
هنا تظهر سخافة هذا العقاد بأجلى مظاهرها، فكلامه لئيم، وأسلوبه لئيم، وسرقاته لئيمة، يريد أنك ما دمت لا ترى وجه حر من الناس، فالظلام خير من النور. ألا ما ألأمها ما ألأمها!! ألا يغور هذا المتشاعر في الأرض وهو يعرف أنه يسرق الأم سرقة من قول القائل:
هل عرفت الآن سخف العقاد ولؤم شعره وركاكة بيانه المتهدِّم، وأنه يمشي في الشعر على رجلين من الخشب!!
وفي صفحة ٣٧ يزعم المتشاعر أنه يعارض ابن الرومي، ولعمري لو بصق ابن الرومي لغرق العقاد في بصقته. يقول:
من أي لغة جاء ﺑ «شغلان»؟ من قول العامة: «عاملها شغلانة» …
ومن مضحكات هذه القصيدة:
إذن هذا الحبيب أشجار مختلفة. أما تشبيهه قدَّه بالغصن فخطأ في رأي المتشاعر، ويجب أن يشبه قده بالحقل!!! أليس هذا الخلط أسقط ما يمكن أن تعثر عليه في أسخف الشعر وفي أحط الأزمنة؟ ولكن العقاد مجدد! «مجدد إيه وهباب إيه؟» … انظر الأصل الذي سرق منه لابن الرومي:
ولو كان في طبع المتنبي الغزل لأبدع واستوفى المعنى، ولكنه في الغزل ضعيف جدًّا، يقلد غيره.
ويقول العقاد:
يعني إيه؟ الغصَّان من به غُصَّة، وهي ما يعترض في الحلق فيُساخ بالماء. فما معنى أن يكون الغريق غصان؟ الظاهر أن ذلك العامي المتشاعر ظن أنه الغصان معناه الظمآن، والغريق لا يسأل هل أنت ظمآن، لأن الماء يملأ حلقه وجوفه.
وانظر قول البحتري حين لاح له مثل هذا المعنى:
انظر الفرق بين الشاعر الحقيقي مثل البحتري، والمتشاعر الدعي الغبي مثل العقاد الذي يقول:
الحق أن الذي يقرأ هذه القصيدة ثم يقول: إن العقاد شاعر وإنه يعرف العربية لا يكون إلا مغفلًا من أشد المغفلين، وزعم ناظمها أنه شاعر، وإثباتها في ديوانه هو الدليل على أنه مغفل. ودليل آخر على أنه مغفل قوله:
لا نشير إلى إلحاد هذا الدعي الزنيم، فهو يباهي به تقليدًا لبعض علماء أوروبا، ولكنه لما كان يدعي لنفسه أنه شاعر فذ فكأنه في رأي نفسه إله!!! أغيثوه بطبيب مستشفى المجانين أيها الناس. ومن هذه القصيدة الحمقاء:
يعني في الأصل، وهذا رد من العقاد على «داروين»!!! ولعله ما نبهه إلى هذا المعنى إلا أنه هو كالثعبان في أذاه وطوله، ولو كانت القافية حاءً لقال إنه (تمساح!!!).
وتفتح الآن صفحة ٦٠، فنراه يقول يصف امرأة في حمام البحر:
هذا دليل جديد على جهل الرجل بالعروض، فإن آخر الشطر الأول من البيت الثاني عروض حذاء مضمرة، والإضمار مع الحذذ لا يقع إلا في الضرب، أي في آخر البيت، ومعنى هذا أنه لا يجوز أن يقول في هذا الوزن: (إلى بطن) بسكون الطاء، بل يجب أن يكون في مكان الطاء حرف متحرك.
وفي صفحة ٦٥:
ومع سخافة المعنى عدَّى «أجَّل» إلى مفعولين، وهو لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. ونقلب الآن صفحة ١٠٥ «ضيق الأمل»:
انظر غباوة اللص لتعرف أنه لص، وقابل هذا البيت بقول القائل:
بربك أليس هذا هو الشعر؟ وكلام العقاد هو الهذيان؟ أعرفت الآن أن هذا السخيف لص يسرق من الجوهري ويبيع في سوق «الكانتو»!!!؟