«مفتاح نفسه» وقُفل نفسه١
يسرنا أن يكون الأدباء والكتاب قد أخذ كل منهم يحاذر جهده أن يكون هو المغفل الذي يشهد للعقاد بأنه أديب أو شاعر أو كاتب، بعد أن مزقنا الإعلانات الكبيرة الملونة التي كانت ملصقة على هذا الحائط!! وبعد أن أريناهم الحائط نفسه طينًا وحجرًا، لا أصباغًا ولا ألوانًا، وما هو إلا الحائط وما هو إلا العقاد.
ما من أديب الآن يجسر أن يظن في هذا العقاد — إذا أبعد في حسن الظن — إلا أنه كاتب جرائد يحسن صناعته ويستجمع آلاتها من الاطلاع المتنوع والترجمة ثم … ثم الصفاقة والمكابرة والكذب السياسي، ثم الدجل العالي الصحافي الشرقي!! وانتهى.
أما العقاد الذي كان تحت الإعلانات!! فهيهات هيهات … وقد كان أوَّل نَحْسِه طرده من جريدة البلاغ، لأن هذه الجريدة الكبيرة كانت بمنزلتها تصبغ شيبه، وتخفي عيبه، وتجعله (نايبه).
ومن العجيب أن رجالًا من حكومة العراق كانوا من المخدوعين به، أو فيه، أو منه، فأرادوا أخذه إلى العراق مُدرِّسًا للآداب العربية، وكادوا يجنونها على الأدب اغترارًا بتزويق الحائط، ولكنهم تنبهوا أخيرًا أن رأوا العقاد على السفود، وتركوه لما به، ولولا ذلك لما عرفوه إلا … إلا «بعد خراب البصرة».
ما هو هذا العنصر الكيميائي العجيب الذي يحول كاتب الجرائد في لحنه وعاميته وفساد ذوقه وسقم فهمه وضعف اطلاعه، وتهافت ناحيتيه في النظم والنثر، إلى مدرس للآداب العربية العالمية في حكومة العراق؟ أما إنه إن لم يكن عند هذه الحكومة حجر الفلاسفة لتجعل مثل العقاد مدرسًا للآداب العربية بقوة الرجم الكيميائي — إن لم يكن عندها حجر السحر هذا — فقد والله كادت تخرب البناء الذي تريد أن تقيمه بغلطتها في حجر الزاوية.
انظر أيها القارئ، ابن الرومي يقول: «لم أتعلم قط من ذي سباحة سوى الغوص» فيكون معنى هذا أنه «تعلم السباحة» (وتعلمها) «ليغوص لا ليسبح»؟ إن المعنى الذي يقصد إليه الشاعر هو هذا أرى ذا السباحة يسبح ويغوص، ولما كان الغوص أيسر العملين، لأنه لا يحتاج لتعلم الخبط في الماء وشقِّه والنجاة منه، فأنا قد تعلمت هذا وحده دون السباحة، فلا أُلقَى مع صخرة في الماء حتى أسبقها إلى قعر البحر.
هذا هو المعنى الشعري، فأما إن كان «تعلَّم السباحة، ولكنه لم يتقنها، فكأنما تعلمها ليغوص لا ليسبح» فقد فسد بهذا الكلام الحس الشعري الدقيق البديع، وأصبح المعنى في سخافته وركاكته يشبه شعر العقاد لا شعر ابن الرومي.
وقال، ستر الله عليه: وهل ترى ذلك المفهوم الذي يسرُّه أن يُدعى إلى الطعام حتى في الأحلام ويأسف على أن يذاد عنه وهو في المنام؟ هو ابن الرومي بعينه وهو القائل:
تأمل (قوي قوي) في تفسير المغفل، ثم في شعر ابن الرومي، وقل لي: هل يصف ابن الرومي «شراهته ونهمه وأسفه» أم هو يبالغ بهذا الأسلوب البديع في صفة فقره؟ وإنه لهذا الفقر محروم حتى مما هو غِنى طبيعي للفقراء، لأن الفقير متى تعلقت نفسه بشهوة لا يجد السبيل إليها، جاءته هذه الشهوة في أحلامه من عمل نفسه، وكان لا بد لأن تمكنه وأن ينالها، وذلك قانون طبيعي كما قرره العلم أخيرًا في أسباب الأحلام وتأويلها بالشهوات الممتنعة أو المنقمعة. ويعبرون عنها (بالمبكوتة)، وهو خطأ وتسمُّح.
فابن الرومي يصف شقاء جده وصفًا دقيقًا لا يحس به غبي مثل العقاد، وفضلًا عن أن سياق الشعر لا يؤتي المعنى الذي فهمه هذا الغبي، فإن المعنى بعدُ لن يتأتى إلا إذا ثبت أن ابن الرومي كان طفيليًّا بكل الأوصاف المأثورة عن هذه الطائفة، وهذا لم يقل به أحد إلا طفيلي الأدب العقاد. ومن العجيب أن لهذه الأبيات بقية تكاد تنطق بأن ابن الرومي لا يريد شراهة ولا طعامًا، ولكنه يقرر ابتلاءه بعثار الجد، وأن ما يناله الناس «من وصال اللطيف …» بأهون سبيل وأيسر حركة للعاطفة يحرمه هو ويُبتلى فيه مع ذلك «بالغُرم والأغرام»، والعقاد هذا لا يفهم غرض الشاعر، إلا يرى القراء أن هذه وحدها كافية في الدلالة على بلادته وسقم فهمه، كأن مادة مخه في وعاء جمجمته قد كتب عليها صيدلي القدرة لا يفهم إلا من الظاهر.
وقال غطاه الله: … أما سخره من غيره فله في أفانينه الكثيرة ومعانيه الغريبة ما يقوم بديوان كامل. وبراعته فيه طبقة لا تعلوها طبقة في نوعها، ويندر أن يدانيها فحول الساخرين في المشرق والمغرب، فله في أحدب كان يضايقه ويترصد له (كذا) أمام داره ليتطير منه:
تعالوا أيها القراء، وهاتوا معكم (رجالًا من العراق …) لنضحك من هذا العامي المتشاعر، الذي جعل ابن الرومي عاميًّا مثله يجنح إلى لغة ضعيفة في تأنيث (القفا)، ويعدل عن الأعم الشائع، ولو كان هذا الشعر على هذه الرواية لكان ضعيفًا، إذ قوله: «صفعت قفاه مرة» يوهم أن هذه (المرة) كانت في زمن من قبل، فيفسد الوصف ويضعف التركيب، ويحب حينئذ أن تكون العبارة وكأنما صفت قفاه صفعة وأحس ثانية لها … إلخ.
وقوله: «فكأنه متربص أن يُصفعا» من العامية التي لا ينقلها إلا عامي مثل العقاد، لأن التربص يا عقاد الجرائد … لا يكون إلا في الانتظار الطويل الذي لا بد فيه من مكث وتلبث، وبهذه الكلمة يفسد الوصف ويرجع هراء، فإن من ينتظر أن يصفع غدًا أو بعد ساعة لا تكون تلك حاله ولا يتجمع.
هذه هي صفة الأحدب مصورًا تصويرًا، وهكذا يكون الشِّعر، لا ذلك التخليط العامي الثقيل المتناقض الذي لا نعجب ألا يتنبه له (أديب فالصو) مثل عقاد الجرائد هذا.
أرأيت يا عقاد أنك لست هناك، وأنك تدعي الأدب العربي سفاهًا، وأنك في تمييزك غبي غبي غبي، لا تساوي شيئًا إلا عند غبي غبي مثلك.
•••
والآن نقول إننا تلقينا كتابًا يتحدانا صاحبه!! أن ننقد قصيدة للعقاد سماها «الخمرة الإلهية»، ويستدل صاحب الكتاب على فضل العقاد بما لا شأن لنا به هنا ولو شهد له حل وامرأتان.
نحن — بعون الله — لا نضرب دائمًا إلا ضربات قاضية، ولا نعرف هذا النقد المخنث الذي رآه في الجرائد مما ليس فيه إلا الثرثرة، ولا تقدير له إلا بقولهم: أربعة أعمدة وخمسة أعمدة … ومن ذلك سررنا بهذا الكتاب الذي تلقيناه، وسنأتي بقصيدة العقد هذه بيتًا بيتًا، ليرى بعيني رأسه وبكل أعين الناس أنه (فالصو) من أوله إلى آخره وأنه لا يزيد عندنا عن حبة من القمح رأت حجر الطاحون ساكنًا هادئًا متواضعًا، فجاءت تظهر سفهها وطيشها وتتهمه بالبرودة والجمود وتقول له إنها من قمح استراليا!! ثم … ثم دار الحجر.
في صفحة ٧٤ من «يقظة الصباح»!! «الخمر الإلهية. على طريقة ابن الفارض».
ما هي طريقة ابن الفارض؟ وهل يعرفها العقاد على حقيقتها؟ أم هو يقلد في هذا كما هو شأنه دائمًا؟
الخمر في لغة السادة الصوفية «شراب المحبة الإلهية الناشئة عن شهود آثار الأسماء الجميلة للحضرة العلية، فإنها توجب السُّكْر والغيبة بالكلية عن جميع الأعيان الكونية».
أفكذلك عاين العقاد وشرب وانجذب! أم نظم قصيدته الملفقة في خمرة بار من البارات التي يتسكع فيها، ويخرج منها بمخازيها؟ سترى وتعرف.
ثم إن ابن الفارض ليس له في الخمر غير قصيدة واحدة هي الميمية المشهورة، وأبيات استهل به تائيته الكبرى. وما عداهما فلم يذكر الخمر إلا في ثلاثة أو أربعة أبيات، كل بيت في قصيدة.
وهذه نفحة من الميمية يتطهر بها القارئ قبل أن يخوض في رجس العقاد، ويتنشق منها أنفاس السماء قبل أن يأخذه غبار الأرض.
قال سلطان العاشقين قدس الله سره:
ويجب أن يرجع القارئ إلى شرح الشيخ النابلسي لديوان ابن الفارض ليرى كيف يفسرون معاني الخمر وأوصافها «بما أدار الله تعالى على ألبابهم من المعرفة أو من الشوق والمحبة»، وهو أمر بينه وبين العقاد ما بين الإنسان والقرد.
وهذا هو وصف العقاد في كل سرقاته، فهو على زهر المعاني شاعر ذبابي!! وقد طُبع «حديث القمر» في سنة ١٩١٢ قبل (يقظة الصباح) بأربع سنوات. وقول العقاد: «ما أسنى حلاك وأحلاه» خطأ، لأن الحلي جمع حلية، فيجب أن يعود عليها الضمير مؤنثًا فيقول: «وأحلاها» … وانظر أين معنى الحلاوة من معنى «سنا الحلية» إلا أن يكون هذا من قول نساء العامة لكل جميل: «يا حلاوة».
انظر كيف يصنع الشاعر الحقيقي في مثل هذا قال ابن الرومي في وصف العنب:
وقال في البلح:
سرقه من ابن الرومي في وصف العنب الرازقي (الأبيض الطويل):
يريد ابن الرومي الشبه في خزن الضوء، وهو معنى جميل دقيق، فجعلها العقاد (كؤوسًا)، وثرثر بقوله: «صاغها الله». ثم الحبوب لا تكون (بين) سلوك العناقيد، بل السلوك هي التي تكون بين الحبوب، لأنها تحملها وتغذوها، فهي ليست من معامل الزجاج.
هذا تكرار للبيت الأول، ثم قوله: «أرى بالعين» كلام سخيف، فبماذا يرى، و«ضمن قشوره» كلمة عامية حقيقة بأن تكون لغة كناس من كناسي الطرق.
«وسوف تجني حمياه» الطامة الكبرى، فكيف «يرى بالعين سلافة»، ثم يقول: «سوف تجنى» و«سوف» للأجل البعيد. وهل يقال: «جنيت الخمر»؟ و«حميَّاه» حشو لا موضع له ألبتة، فكأنه قال: أرى بالعين سلافة كأس سوف تجنى سلافة هذا الكأس. وانظر أي خلط هذا!
«إليها» يعني إلى الخمر التي يراها بالعين سوف تجنى … فالرجل إذن في منام، وليس يرى بالعين، لأنه مع أن هذه الخمر «سوف تجنى»، فقد رأى الشاربين يسعون إليها.
وصفة المجلس في شعر هذا الدعي الثقيل من أبرد ما جاء به شاعر عامي ساقط. هل يهتم «بالعشب الأثيث والأمواه» إلا حمار يحلم بالبرسيم ونحوه، أو من فيه روح حمار؟ وقال صاحب مرحاضه:
إذا كان الدهر وسنان، فهو غافل حتمًا، ولا يبقى لهذه اللفظة معنى … «وسنان وأيقظ» هذا هو بديع العقاد كأسخف ما يجيء به مبتدئ. «وأيقظ العود الصفاء» هذه كلمة من الشعر الذي كان قبل سبعين سنة، حين كانت ألفاظ الشعر واستعاراته مثل أيقظ الصفاء، ودعا الهناء، ولبى الأنس … إلخ، وما دمنا في البديع فهل (أيقظ) يناسبها (لبَّى)؟ أم هذه تناسب (دعا)؟ هذه صناعة العقاد ليس فيها إلا كلام عامي منظوم، ومع ذلك لا يخجل أن يجعلها (الخمر الإلهية)، وتبلغ به الوقاحة أن يقول إنها على طريقة ابن الفارض.
أما وقد رأيت طرب مجلس العقاد، وأنه كله في «أيقظ العود الصفاء»، فانظر كيف يصنع الشاعر في الابتكار لمعنى الطرب في مثل هذا المجلس، واقرأ قول مسلم بن الوليد:
و«مسلمٌ» نهج له أبو نواس هذا المعنى في قوله:
فجاء ابن الوليد بالرجل والركب والطريق وسمائها على أبدع ما تَبتكر القريحة، وهكذا يكون الشاعر في توليده وابتكاره إن كان شاعرًا. فأما إن كان عاميًّا ملفِّقًا لصًّا كالعقاد، فهو يصنع — كما رأيت العقاد يصنع — سلخًا ومسخًا كأنه (عطاشجى وابور) يقدِّم خرقته القذرة لامرأة حسناء قد غازلها، كي تمسح بها عن وجهها الجميل عرق الخجل من وقاحته وسوء أدبه …
لا ينبغي أن يجيء الشاعر بمعنًى متداول أو مبتذل إلا إذا وضع له تعليلًا، أو زاد فيه زيادة، أو جعل له سياقًا ومَعْرضًا أو نحو ذلك، ليكون هو هو في معنى غيره، فكأنه معناه هو. وأي شيء في «أيقظ العود الصفاء فلبَّاه» غير استعارة النوم للصفاء، والإيقاظ للعود، كأن العود خادم في (لوكاندة نوم)!!! انظر يا عقاد الجرائد كيف صنع «جميل» حين أراد أن يأتي بشيء جديد من معاني الشعر في طرب العود ونحوه، وتأثير هذه الآلات في مجلس الراح، وهو يذكر نديمه عليها بعد أن طرب وشرب، قال:
جعل العود (ينطق بأحسن من وقع القطر في البلد القفر)، وجعل فيه حياة من الموت الذي في الخمرة، فكأن في مجلسه ما يحيي ويميت. هكذا فاصنع أيها … الذي لا يتلهف في مجلس الطرب إلا على «عشب أثيث وأمواه!! دون أنواع الريحان وأفانين الزهر وأصناف الطيب ومجالي الروض ومعارضه المختلفة … إلخ إلخ:
إن أراد بالمباسم جمع مبسم مصدرًا، أي الابتسام، فلا معنى للتشبيه، لأن الخمر ذات الحباب لا تكون بيضاء … فإن أراد جمع مبسم، أي مكان الابتسام، يريد به الشفتين الحمراوين، فكم مبسمًا للثغر يا ترى؟ لعلها مباسم زنجية من أسوان لها شفتان غليظتان كمشفَرَيِ البعير ويكون تقدير العقاد أن هاتين الشفتين لو قُسِّمتا شفاهًا رقيقة لكانتا عشرين أو ثلاثين، ومن ثَمَّ يكون لهذا الثغر الواحد (مباسم) على هذا التأويل!! وهذا البيت سرقه القعاد (كذا سمته المطبعة القعاد!!) من شوقي في قصيدته المشهورة (حف كأسَها الحببُ) من قوله:
ومع أن طبعي أنا لا يُسيغ مثل هذه التشبيهات ويراها كلها فسادًا في الذوق، فإني أرى في بيت شوقي دقة غفل عنها العقاد، لأنه جاهل بالعربية، ليست له قريحة بيانية البتة، فما في كتابته ولا في شعره إلا الخَبْط لَبْط … شوقي يقيِّد الفم بأنه «فم الحبيب»، والعقاد أراد مطلق ثغر، يعني ولو ثغر شَوْهاء فوهاء!!! ثم شوقي يذكر فم الحبيب والثنايا والريق، وهذا كله حلو حلو جميل جميل، ويضيف إلى ذلك كله كلمة (جلا)، وهي وحدها شعر في ذكرها مع ثنايا الحبيب، والفنَّاد (كذا سمته المطبعة!!) غُفل مغفل ليس في شعره إلا (ثغر) نكرة — بدليل التنوين — و(ثناياه) كيفما كانت، ولو كانت مصابة بالقَلَح وو … قبحه الله من شاعر سخيف، كادت والله نفسي تثب إلى حلقي … وما منعني القيء من شعر هذا العقاد إلا أني تذكرت الآن هذين البيتين في ثغر الحبيب ودُرِّه وعقيقه، ولا أدري لمن هما، ولكنهما من شعر المتأخرين الجامدين في رأي المجددين المغفلين:
آه … فكيف مَن … تحتاج يا عقاد أن تخلق مرة أخرى لتقول مثل هذا.
ونعود إلى تشبيه الحباب بثنايا (الحبيب)، الحبيب خاصة — فأصله أنهم شبهوا الحباب باللؤلؤ، وهذا جيد مستقيم على طريقة الوصف، ومنه قول النواسي: «حصباء دُر على أرضٍ من الذهب» وكثير غيره.
ثم لما كانت أسنان الحبيب تشبه باللؤلؤ جعلوها كالأصل، ونقلوا التشبيه إليها توليدًا واتساعًا في فنون البيان، ومن ذلك قول البحتري يصف الخمر:
ثم تنبهوا من ذلك إلى مراعاة النظير والمقابلة، فجمعوا في التشبيه كقول ابن وكيع:
وأبدع ابن النبيه، وجاء بالمعنى سائغًا عذبًا في قوله:
ومن هنا أخذ شوقي، فجمع في التشبيه كما رأيت، وعلى شوقي تطفل العقاد. والتفنن في وصف الحبب كثير، ولكنا أردنا بما ذكرناه تاريخ المعنى الذي (هببه) هذا العقاد … وقال صاحب «مرحاضه»:
سرق من قول ابن المعتز، مع غفلة من أقبح غفلات العقاد.
يقول ابن المعتز ورواه الثعالبي لأبي نواس:
فقيد الدمع بأنه من «عين مهجور»، «وصاحب مرحاضه» أطلق فجعلها ككل دمع وإن كان دمع مصاب بالرمد الصديدي … قبح الله هذا الأحمق، لا يزال شعره كالملح الإنجليزي، أو زيت الخروع!! ثم انظر واعجب من غباوة العقاد، فقد فهم من بيت ابن المعتز أنه يشبه الخمر في صفائها بالدمع، فسرق على هذا الفهم، وذلك تشبيه صبيان، لا تشبيه مثل ابن المعتز، وإنما أراد هذا أنها صافية حمراء كدمعة المهجور حين يبكي دمًا، لا حين يبكي دمعًا. أفهمت يا عقاد؟ ألا تُقر أنك في حاجة إلى أن تكون تلميذًا لأديب، ثم بعد ذلك عسى أن تكون أديبًا في يوم ما.
وتأمل ما يشعرك قول ابن المعتز: «كأنها دمعة من عين مهجور» وما يشير في نفسك من رقة العاطفة وتحزُّنها واهتياجها … إلخ. وهذا كله خلا منه بيت العقاد، فجاء قشرًا لا لب فيه. وزعمُه أنها «دواء الدمع» مضحك، لأن ابن المعتز جعلها «دواء الهم»، وليس كل هم يجيء بالدمع، إلا إن كان هم امرأة تبكي لكل شيء، وليس كذلك الرجل. وما دامت الخمر «دواء الدمع»، فينبغي أن يكون من أسمائها عند المجددين (ششم وقطرة)!!! ومحلول بوريك وسليماني. ألا لعن الله هذا التجديد وأهله إن كانوا من هذا الطراز. انظر كيف يكون الشعر في وصف الخمر على أنها دواء الدمع في قول «السلامي»، ذلك الشاعر الذي قال فيه عضد الدولة: «إذا رأيت السلامي في مجلسي، ظننت أن عطارد نزل من الفلك إليَّ ووقف بين يديَّ»:
هكذا، وإلا فاسكت ويحك!
يريد: فلولا أن سال رحيقها، فاستعمال (يسيل) بصيغة المضارع خطأ، لأنه لا يفهم منه بهذا التركيب إلا أنه لا يقول إنها لظى، خشية أن يسيل رحيقها من كلامه البارد … والمعنى مسروق من قول مسلم بن الوليد:
الصبا نسيم الصبا، فقال العقاد: لولا أنها ماء لقلت إنها لهب، ولم يحسن أن يقول مثل هذه العبارة البديعة: «تلاطمه الصبا» فقال: أذكى النسيم شظاياه … الإذكاء معنا الزيادة، تقول: أذكيت النار، أي زدتها وقودًا، فكيف يكون الإذكاء لشظايا النار، أي الشعل المتطايرة منها دون النار نفسها؟ هذا فهم مقلوب، والظاهر أن مغفلنا الكبير فهم من معنى «أذكى» بَعْثَر وفرق ونحوهما.
تأمل بيت مسلم، وانظر الدقة العجيبة في جعله الماء يطلب حلمها حين يمتزج بها، وهي في نفسها لهب ثائر، فيكون لهبها بالماء يمازجه، كأنه يتلاطم مع نسيم الصبا، ثم قابل هذه الصياغة بصياغة مغفلنا واحكم
شبهها بالنار المحرَّكة التي زادت وقودًا وهم حولها، فيرتد عنها المصطلي تارة ويدنو منها تارة، فخطر للعقاد أنه لو كان الناس هنا فَراشًا لكان المعنى أحسن، فمسخهم فراشًا.
ولكن انظر كيف يقول الشاعر الفحل في مثل معنى العقاد حين يصنع الصنعة البارعة التي لا تُذكِّر النفس إلا بالصور العالية الشريفة، وهو ابن بابك في قوله:
ويقول مفتاح نفسه وشاعر نفسه وعينه!! صاحب «مرحاضه»:
لماذا جعلها في اليمين خاصة مع أن أهلها يتناولونها باليمين واليسار؟ ثم هذا المعنى كثير، وإنما الشعر في تعليله وكيفية وضعه. وبيت العقاد من قول مسلم بن الوليد:
قال: «الكف» ولم يقل: «اليمين»، ثم هي ما دامت نارًا أو شعاعًا محرقًا، فيكون أثر توهجها في الكف لا في القلب. ولكن لعل العقاد سرق فيما يسرق سلكًا مَدَّه من يمين حاملها إلى قلبه، فانتقلت الحرارة عليه!! و«مسلم» يزيد في بيته أن العين تحسِر عن تقصيها كما تحسر عن الشعاع في شمسه. وانظر كيف يتظرَّف الشاعر في ذكر توهج الراح وتلهبها على يد الساقي الجميل إذ يقول:
وقول العقاد: «إذا ما خبا قلبٌ من الحزن أذكاه» من أبرد الكلام وأسخفه، لأن أذكاه معناه أضرمه وهيجه، وما الحزن إلا تسعير القلب، ونعوذ بالله، وقد قال أبو فراس:
ويقول «صاحب مرحاضه»:
قال في الشرح: ماء المهل شراب أهل جهنم!! فتأمل هذا الذوق!! ونعوذ بالله ثم نعوذ بالله.
وهذا المغفل قد نسي من أول بيت في قصيدته أنها «الخمر الإلهية»، وأنه يقول «على طريقة ابن الفارض»، فذهب يسرق في كل بيت ممن لم يقولوا على هذه الطريقة ولا حرفًا واحدًا كما رأيت. وهل الخمر الإلهية «تلوح كشراب أهل جهنم»؟ أخزاك الله (يا صاحب مرحاضه) وجعل المُهْلَ شرابك، كما جعلت في شعرك المرحاض ثيابك.
وقوله: (مذاقها) ثم قوله: (في طيب سقياه) من الكلام الذي لا يلتئم، لأن المذاق في اللسان وحده، فالصواب مذاقها في طيب طعمه، وبين (الطعم) و(السقيا) من البعد ما بين العقاد والشعر.
هذا نصف القصيدة، وكل ما مر بك في اثني عشر بيتًا فقط من شعر (صاحب مرحاضه)، فكيف يرى الناس الآن قيمة (صاحب مرحاضه)؟
هوامش
قال ابن رشيق: وطائفة أخرى نطقوا في الشعر بألفاظ صارت لهم شهرة يلبسونها، وألقابًا يُدْعَون بها فلا ينكرونها، منهم عائد الكلب، واسمه عبد الله بن مصعب، لُقب بذلك لقوله: