الشعرور!!!
في ٢٨ من أغسطس من هذه السنة (١٩٢٩) صدرت جريدة «الحال» الأسبوعية في القاهرة وفيها مقال عنوانه «لو …! تأثيرها في تاريخ العالم» — وفي ٢ من سبتمبر — بعد أربعة أيام — صدرت مجلة «الجديد» مفتتحة بمقال هذا عنوانه لو — للكاتب القدير الأستاذ عباس محمود العقاد!!!! وكلتا المقالتين مترجمة عن الأستاذ «هيرتشو» مدرس التاريخ بكلية الملك في جامعة لندن نقلًا عن مجلة «الأوتلاين» الإنجليزية.
غير أن اللص الجبار!!! زعم لنفسه الشركة في علم أستاذ التاريخ، فساق الكتابة في أسلوب يوهم القارئ أنه هو صاحب البحث ومخترع العنوان، وأنه لم يأخذ من المؤرخ إلا ما يأخذه من «يفك قرشين»، يعطى بهما قطعة من الفضة، هي وهما سواء، فما أخذ إلا بقدر ما أعطى، وكان ذا مال في قرشيه!!! ولم يكن لصًّا وهكذا يزيد العقاد على لصوص الأدب والكتابة، بما فيه من هذه الوقاحة العلمية الثقيلة التي هي سلاحه في كل ميادينه. وليس هذا بعجيب، فإن في الوجود مثل العقاد حشرات وحيوانات سلحتها الطبيعة في ميدان التنازع بأسلحة من هذا الباب بعضها وقاحة من أمعائها … كالظَّرِبان (على وزن القَطِران)، وهو دويبة فوق جرو الكلب، منتنة الريح، كثيرة اﻟﻔ … فهو سلاحها!! والحُبارَى، وهي تحارب الصقر إذا قرب منها بوقاحة (من الباطن) …
وكل ما يكتبه العقاد فهذه سبيله فيه، كأن اللغة الإنجليزية عنده ليست لغة ولكنها … ولكنها مفاتيح كتب وآلات سرقة. ولسنا ندري ما الذي يضر هذا المغرور لو صدق الناس عن نفسه، وقال فيما يترجمه إنه يترجمه، وفيما ينقله إنه ينقله؟ أما إنه إن كان يريد الفائدة للقراء، فالفائدة أن ينقل لهم نقلًا صريحًا بأمانة لا غش فيها ولا تخليط ولا دعوى، وإن كان يريد الفائدة لنفسه، ففائدة نفسه أن لا يعرف أحد أنه لص كُتُب، فوجب من ثم أن ينقل نقلًا صريحًا بأمانة ودقة، لأن آلافًا من الناس يعرفون ما يسرقه ويدعيه. ولكن هناك عاملين يفسدان على العقاد أحدهما غروره، فيأبى إلا أن يجعل لنفسه شأنًا فيسرق ويدعي. والثاني غفلة قرائه، وهم في الأعم الأغلب من السواد الجاهل أو النصف جاهل.
إن كلا العاملين مُتمم للآخر كما ترى، فإذا أضفت إليهما لؤم الغريزة — كما عرفت من قبل — خرج لك العقاد. وإنَّ أخفَّ رذائله أن يكون لص كُتُب، وهو لو استطاع أن يسرق مخ فيلسوف أو كاتب أو شاعر من جمجمته لسرقه، ليكون جبار الذهن بشهادة أعمال المخ، لا بشهادة تلك الطبقة من الضعفاء.
وهنا استطراد لا بد منه، فإن أديبًا فاضلًا ممن يعرفون اللغتين الفرنسية والإنجليزية قال لنا: آمنَّا أن العقاد لا أهمية له شاعرًا ولا أديبًا، وأن (موبليات) الغرفتين عنده موبليات أصحابها … قال: ولكن العقاد كاتب سياسي، لا يستغني «الوفد» عنه، وهذه هي أهميته، وهذه هي شهرته.
قلنا: فأما إذا انتهينا إلى هذا، فإننا كنا في غفلة معرضين، إذ كنا نطلع على جريدة «البلاغ اليومية» التي يكتب العقاد فيها، ويعلم الله أن أول ما نتخطاه منها مقالة العقاد، فما كنا نقرأ له إلا نادرًا ونادرًا جدًّا وجدًّا جدًّا، إذ نعتقد أنه مأجور للسباب والمغالطة والنضح مما فيه — وقد أشرنا إلى هذا المعنى من قبل — ولسنا نجهل أن ذلك هو أصل شهرة العقاد، إذ يكتب كل يوم في حوادث البلد، وينضح عن الوفد الذي بلغ من تمكنه في الأمة أن قيل فيه بحق «لو رشَّح الوفد حجرًا لانتخبناه». فلو كان العقاد حجرًا لكان من كل ذلك كاتبًا شاعرًا أديبًا فيلسوفًا جبار ذهن!! ولا تسأل ويحك بماذا هو كاتب شاعر أديب فيلسوف جبار ذهن. ولكن سل بقوة ماذا؟
وفي بلادنا هذه قد يبلغ رجل عند قوم درجة قريبة من النبوة، لا بوحي يوحى ولا بعلم لَدُني ولكن … ولكن بعمامة خضراء أو حمراء مثلها كثير في حوانيت الأقمشة، لولا أنها على رأس دجال أستاذ في أساليب الشعوذة، وعمامة العقاد هي مقالاته السياسية ولا ريب، أما الوفد فمكانه مكانه.
كنا نتجاوز مقالات العقاد السياسية ولا نقرؤها، فإنه في رأينا يحتاج إلى أن يعود ذرة من الذر في عالم الأصلاب، ويُنقل إلى سلسلة جدود عظماء كرام، ثم يُخلق، ثم ينشأ، ثم يَنبغ، ثم لعله بذلك، لعله يكون كاتبًا سياسيًّا وطنيًّا قريبًا من درجة المرحوم «أمين بك الرافعي» الذي كنا نقرأ كل حرف يكتبه في مقالاته. ولكن بعد أن نبهنا ذلك الأديب، أخذنا نتتبع مقالات العقاد التي يكتبها الآن في جريدة «مصر»، فإذا هي تافهة لا طعم لها في كثير منها، وقد يتكلم المتكلم بأبلغ منها وأحكم، ولكن الحق حق، فإن العقاد يجيد إجادة حسنة في فرع واحد من الكتابة، وهو ما يجري فيه اللؤم والحقد، وما يكون بسبيل من الدناءة وسقوط الكرامة، حتى ليخيل إلينا أن هذا الرجل ينطوي من نفسه على مكتبة كبيرة في هذه المعاني، أجزاؤها طباعه وتجاربه ووساوسه وحوادثه وآماله، فهو حين يكتب في ذلك لا يكتب ولا يؤلف، وإنما يقوم من نفسه مقام المستملي لا غير، وكأن إلى أذنه فَمَ شيطان يخطب!!! …
هذه كلها صفات العقاد بالذات، وهي أخص ما عرف العارفون من خصائصه، وكنا واللهِ نَوَدُّ لو نقلنا هذه المقالة بحروفها، ولكنك تتبين من تعرفه من وجهه، وتلك النبذة التي نقلناها هي كالجلدة على الوجه الأخلاقي لذلك المغرور «المبتلى بعاهة الرضا عن النفس والانحصار فيها، وموت كل إحساس بالإيثار … إلخ».
نعود الآن إلى استيفاء النقد في قصيدة (الخمرة الإلهية)، إجابة لطلب ذلك الكاتب، وتوفية لما مر بك في السفود الرابع.
قال عباس محمود العقاد الملقب بصاحب مرحاضه:
وفسر «جام السحر» في الشرح بقوله: هي الكأس التي يزعم السحرة أن من نظر إليها انكشف عنه الحجاب.
فأما البيت الأول فسخيف بالغ في السخف، لأنه يريد أن النديم متى نظر الكؤوس خالطه السُّكر، فتشابه عليه ما امتلأ وما فرغ. وهذا بعينه قول ابن الفارض:
وكلمة (فوارغ صفّ) من لغة الشيالين والجمالين لا من لغة الأدباء. ولا ندري كيف تُذكر في وصف الخمر، إلا إذا كانت من ذوق عامي كذوق العقاد. وانظر كيف صنع الشاعر الحقيقي حين أراد أن يأتي بهذه المادة اللقطية في شعره، فقال واصفًا الخمر وصفاءها حتى كأنها الكأس:
وهذا المعنى مولَّد من قول أبي تمام:
وقد تلاعب الشعراء به وأكثروا فيه على صور مختلفة، ولكن أحسن ما قيل في الاشتباه على النديم من تأثير الخمر قول القائل:
ونظن أن ابن الفارض أخذ من ابن الزيات في قوله:
فنقله ابن الفارض من الشم إلى النظر، وسرق العقاد سرقة عمياء لا نظر فيها!!!
ثم إن الثريا مجموعة نجوم لامعة يخطف بريقها، فلا يمكن أن تشبه بالكؤوس الفارغة. ومع أن العقاد سرق هذا التشبيه نفسه من ابن المعتز، فإنه في هذه أيضًا أعمى، فابن المعتز يصف لك الثريا كأنها هي هي بلونها ونجومها واشتعالها في قوله:
فهذا لعمرك هو التشبيه لا (فوارغ صف)، ولعنة الله على هذه السوقية المبتذلة. أهي كؤوس يا رجل أم زكايب (فوارغ) …؟
وأما البيت الثاني من بيتي العقاد فمعناه سخيف، لأن الخمر لا تظهر شيئًا من سر العوالم، فضلًا «عن أخفى أسرار العوالم»، إنما تُظهر سر صاحبها، وفي ذلك يتلطف مسلم بن الوليد بقوله:
ومثله كثير في الشعر. فإن أريد وحي الخمر وتأثيرها في الذهن والقريحة، فأفضل ما في هذا المعنى قول شاعر الفرس: شربنا الكأس، فجرت الحقيقة التي كانت فيها على ألسنتنا. ويقول صاحب مرحاضه:
يعني كلهم سكارى. وإذا كانوا سكارى فما هي الدنيا عندهم إلا الخمر. فكيف إذن يبيعون بها الدنيا؟ أظن هذا المتشاعر إنما يريد معنى العامة في قولهم: باع دينه بالخمرة. وهذا كلام مستقيم ينطبق على السكير، لأن الخمر ليست من الدين. بل العامة أهدى من العقاد إلى حقيقة المعنى، لأنهم يجعلون شعار الحشاشين والسكيرين هذه الكلمة «خراب يا دنيا عمار يا مخ»، فكيف إذن بيعت الدنيا بالخمر ولا دنيا إلا فيها عند أهلها؟ لعله يريد أسباب المعايش، كالتجارة والصناعة ونحوهما، فتركوها واقتصروا على الخمر. فإذا كان هذا معناه وقصده، فهم حثالة الناس ورُذالتهم الذين لا قيمة لهم ولا منزلة، كبعض سفلة العامة في بعض الحانات التي يراها من يمر في شارع كلوت بك!!!
إن مجلس الشراب لا شعر فيه بعد الخمر إلا من الجمال والأخلاق العالية التي لا تكون فيمن باعوا دنياهم بالخمر، كما يقول النواسي:
فهؤلاء الآخرون هم صَحْبُ العقاد في خمرته، «شربوا وغنوا» يعني ضجوا وصاحوا كنهيق الحمار لاقى الحمار …
ثم يقول صاحب مرحاضه:
كان يصح هذا القياس لو أن الدارين (الفردوس ودار الشقاوة) تقاس إحداهما على الأخرى، فأما وهما نقيضان فلا وجه لقياسهما، ولا للقياس بما فيهما.
وهذا البيت من الأدلة على جهل العقاد بالمنطق سليقة وعلمًا وبيانًا، والذين يعرفونه معرفة المخالطة والمحادثة يعرفون منه الجهل بكل علوم العربية. وإنما هو رجل يحترف الصحافة، فهو مضطر أن يقرأ وأن يكتب، قدر ما هو مضطر أن يأكل وأن يشرب، فأصبح الكلام له كالعادة. فمن لم يعرف هذا منه ظنه عالمًا أو أديبًا أو جبار ذهن!!! والحقيقة أنه ثرثارٌ سبَّاب، لص أدبٍ وكتابة، لسانه أطول من عقله، وعقله يجيء من إنجلترا كلما جاءت مجلة أو كتاب …
إن بيت (صاحب مرحاضه) قياس ذو طرفين ليس للثاني منهما معنى الأول في نفسه، فخمر الفردوس ليست من خمر دار الشقاوة، إذ هي لا تغُول العقل، ولا تدفع إلى الإثم، ولا تسقط المروءة، ولا تذهب بالوقار … إلخ إلخ.
فلا يدل طرفَا القياس دلالة واحدة، فمن ثم لا يصح من جهة الثاني ما يصح من جهة الأول، فلا تكون النتيجة التي ينتقل إليها الفكر إلا فاسدة، ويصبح تركيب هذا المنطق كقولك: إذا كانت الحياة في الفردوس خالدة فهي في دار الشقاوة خالدة!! وأين حياة من حياة، وأين دار من دار، وأين العقاد من المنطق، وانظر قول ابن الفارض في أصل هذا المعنى:
فهو قد جعل النشوة التي هي سرور الخمر آتية معه من دار النعيم، فهي خالدة فيه، وهي بذلك خالدة به ما بقيت منه ذرة على الأرض بعد موته وبَلَى أعظمه، لأن ذرات الجسم لا تتلاشى، وإنما تتحول، فإذا كان ذلك مبلغ النشوة حتى في الذرة منه بعد الموت والبلى، فكيف بها في جسمه حيًّا يحس ويشعر؟
هذا وأبيك غور الشعر، لا هراء صاحب مرحاضه، وتلك هي الخمر الإلهية لا خمرة حلس الحانة الذي يشهد على نفسه وصحبه بأنه «ما في عدادهم إلا فتى باع بالخمر دنياه»، فهم كما قال أخوهم من قبل عبد الله بن جدعان:
هذه هي صفات الذين «باعوا بالخمر دنياهم» لا يفيقون من السفاه، ولا يتوسدون في نومهم إلا على (كوم تراب) وبلغة هذا الزمان «تلتوار!!!»
ويقول صاحب مرحاضه:
نعوذ بالله، وبالله نعوذ لمن نرجع هذه الواو في قول هذا الرقيع: (مَزَجُوا)؟ وهل خلقت آدمَ في رأي العقاد جمعيةُ آلهة فيعود عليهم ضمير الجمع؟ أم صنع آدم في معمل كيماوي ملائكي؟ وهل تريد دليلًا على ضعف العقاد في العربية أقوى من هذا البيت، وهو كان يستطيع أن يبني الفعل لمجهول فيقول: «ولو مزجت» … إلخ، وهل نسي الرقيع أنه يقول: في (الخمر الإلهية)؟ أفمن الإلهية أن يعترض على الإله ويعتبر الخلق والإيجاد صناعة كالصناعات يقال فيها: «لو»، لأن فيها أبدًا مكانًا للتحسين ومكانًا للإتقان ومكانًا للزيادة، ولأنها صورة النقص الإنساني في جانب الكمال الذي يغمره ولا يزال من فوقه في كل ما حاول الإنسان أن يَكمُل فيه؟
ولكن الغراب أراد أن يقلد الطاووس، وأراد العقاد أن يقلد ابن الفارض، ولابن الفارض قدس الله سره أبيات كثيرة في «لو» هذه، مر بعضها، ومنها:
تأمل هذا النور الشعري، وانظر كيف يضيء الكلام، كأن فيه بقايا من روح قائله، ثم اخرج من هذا الأفق إلى قول العقاد: «ولو مزجوا بالخمر طينة آدم!!»، فإنك من هذه الكلمة وحدها ستقع في أشد ظلام من نفس جاحدة لئيمة، وفي أصعب التواء من صدر حقود ضيق.
وما بيت العقاد إلا توليد سخيف من البيت الأول لابن الفارض، فغَيَّر «ثرى قبر ميت» (بطينة آدم)، «ولو نضحوا» (بلو مزجوا)، «ولعادت إليه الروح» (بعاش)، «وانتعش الجسم» بقوله السخيف: «لم يدر القطوب محياه»، كأن الوجه يدري ولا يدري! وكأن القطوب عِلم. ومن أقبح ما وقع فيه هذا المغرور أن يقيس على قول ابن الفارض: «ولو نضحوا»، فيقول: «ولو مزجوا»، ثم لا يتنبه إلى أنه بهذا قد خرج إلى الإحالة، ووقع في الكفر، وجاء بما لا يفهم أحد، كأن همه كل همه منصرف إلى السرقة بلا فكر ولا فهم، وهو مستيقن أنه بهذه الشعوذة يصبح جبار ذهن عند المغفلين من أمثاله.
وقال صاحب مرحاضه:
تأمل يا هذا سخف هذا التركيب، وقل في أي شيء يرسب القلب الحزين حتى تطفو هي به إلى حيث … إلى حيث يا عقاد قبحك الله وقبح شعرك البارد الركيك. هل في البيت أكثر من أن الخمر تُذهب حزن الحزين؟ والباقي كله حشو ولغو، وهو يخبر بذلك كما يخبر به كل عامي، لا يزيد العقاد عليهم إلا الوزن، ألا تضرب هذا البيت بالنعل حين تقرأ قول الإفريقي المتيم:
هكذا فليقل من يقول وإلا فليسكت، ولكن بأي شيء يصير الأحمق أحمق؟
والتجديد عند العقاد وأمثاله هو سَترُ عجزهم عن مثل هذا الصناعة البيانية التي تحتاج إلى طبع وقوة وذوق وخيال، فهو كقانون تأجيل الدفع (الموراتوريوم) فيه من عذر التشريع لبعض الناس قدر ما في هذا البعض من عذر الإفلاس!!
ويقول صاحب مرحاضه:
تأمل يا رعاك الله قوله: «بساط يُطوى بما عليه» فإنها بالعقاد وشعره وما قال وما سيقول، وهي حقيقة أن تكون كلمة مَلِك إذا قابلتها بقول صاحب مرحاضه: (بحر يتعرى فيه الجميع)، فإن هذه كلمة تشبه أن تكون كلمة خفير من خفراء مجلس بلدي إسكندرية الذين يُقيمهم على الشاطئ.
ويقول: (تلاقوا) أفليس كلُّ من نزلوا في مكان واحد تلاقوا، وهل تلاقى الخادم وسيده في مكان يجعلهما في درجة واحدة؟ أرأيت أقبح من هذا عجُزًا في العربية، وهو لو قال: «تساووا» لاستقام المعنى.
وقوله: «ولا شاه» مضحكة، ولعلها أبرد قافية في الشعر العربي على الإطلاق، وأسخف ما في القديم والجديد جميعًا، لأننا لسنا في زمن الشاه ولا شاهنشاه.
أما والله لقد سئمنا، فلنوجز في الأبيات الباقية. قال صاحب مرحاضه:
أيرتقي الشارب بالخمر إلى عرش الله كما ارتقت الأنبياء بالبراق؟ وهل ارتفع البراق إلى العرش نفسه؟ وهل سواء مراتب النبوة ومراتب (الناس)؟ كل هذه أسئلة لا توجه لمثل هذا اللص الرقيع، فإن اللص لو لم يكن عند نفسه فوق السؤال والجواب لما سرق ولا أثم، ولكن من أين خطر للعقاد تشبيه الخمر بالبراق في العروج إلى السماء؟
من قول ابن الرومي، إذ يقول:
وقال المراحيضي:
روح يعني غاز، وتولاه يعني تمدد فيه. فههنا انقلبت الخمر الإلهية في شعر هذا المراحيضي غازًا كان ينبغي أن يطير بالدنان ويمثل على مسرح الجو هذه الحماقة القائمة برأس العقاد وخياله. وهذا أيضًا توليد نصف ميت من قول الأندلسي، وهو معنى غريب بديع:
جعل الزجاجات الفارغة ثقيلة كجسم الميت، حتى إذا ملئت بالخمر خفت كجسم الحي … ومتى عرفت أن الحي إذا مات ثقل جسمه أدركت جمال هذا المعنى وإبداعه إلى الغاية، ورأيت فيه حقيقة الشعر الحي، لا كذلك الشعر الذي يريد أن يجعل (الخابية) منطادًا، ويُلقِي في الخمر طعم الغاز والبنزين!!
وقد ولد ابن نباته من معنى الأندلسي في قوله:
فجاء شاعر آخر وأخذ من ابن نباتة وأبدع ما شاء في قوله:
وهذا الشاعر هو وابن نباتة كلاهما من متوسطي الشعراء — وكلاهما مع ذلك أشعر من المراحيضي كما ترى.
وقال صاحب مرحاضه:
لا بأس أن يكون للكوكب عطفان ويدان ورجلان أيضًا!!! ولكن إذا اهتز في الكف عطفاه اندلق ما فيه، فكان يحسن بالعقاد أن يجعله يدور حول نفسه فوق الكف كما تدور (نحلة) الصبيان التي يجرونها بالخيط الملتف عليها فتدور على سِنها ثم يضعونها على أكفهم وهي دائرة!! والمعنى الدقيق في هذا البيت أن العقاد عجب للدن كيف لا يطير بما فيه، ولما كانت الكأس لا تسع إلا قليلًا مما في الدن كان طبيعيًّا أن لا يكون في هذا القليل من القوة إلا ما يكفي لهز الكأس دون حملها وطيرانها!!! هذا كثير على ذكاء العقاد، ولكن فاته أن نسبة ما في الدن إلى وزن الدن لا تكون إلا كنسبة ما في الكأس إلى وزن الكأس. وإذن كان يجب أن تطير هي أيضًا إذا صح معنى البيت الأول.
وانظر أين معنى المراحيضي وصناعته من قول ابن نباته يصف الخمر والكأس:
ألا يغور هذا العقاد الآن وهو يرى كل شعر أوردناه كأنما يبصق في وجه شعره؟ وختام قصيدة المراحيضي قوله:
وكتب (الطلى) بالياء وهي بالألف لا غير، إذ هي بالياء معناها الرقاب.
والسرقة في هذا البيت ظاهرة من قولهم: «كل يغني على ليلاه»، ولكن يبقى أن التي انقلبت فرسًا أو براقًا من قبل، انقلبت هنا امرأة اسمها (ليلى). ألا يغور العقاد الآن والقراء جميعًا يبصقون على شعره؟
هوامش
ولا أثقل على نفسي من الناس (يعني في حالة خاصة من أحوال الحب)، فإن ظلالهم تهبط على قلبي المتألم بأشباح ممسوخة، وأراهم على وتيرة واحدة في ثقل الروح وسواد الظل، ولا ذنب لهم غير أن وليًّا من أصفياء الله خرج يتوضأ يومًا، وقد أقبل الناس على وضوئهم، فكشف الله عنه حجاب الحيوانية فنظر فإذا لكل رجل وجه، ولكل وجه سحنة حيوان، ولكل حيوان معنى، وإذا شهوات أنفسهم قد مسختهم مسخًا، وفاءت ظلالها على وجوههم بجلود الحمير والبغال والقردة والخنازير وما دب ودرج. فاللهم غوائك لأهل النفوس.