الفيلسوف١ …
بقي من أوصاف العقاد الشاعر المراحيضي (أو صاحب مرحاضه) وصف لم نعرض له فيما أسلفنا من الكلام عليه، وهو وصفه بالفيلسوف، مع أن هذا المراحيضي عند نفسه شديد التحقق بهذا الوصف، وقد ينزل عن إحدى عينيه لمن يقلعها بمسمار! ولا ينزل عن كونه فيلسوفًا وفليسوفًا وفسيلوفًا …
ومما أضحكنا ذات مرة أن كاتبًا في مصر من داعية الشيوعيين الحمر مر على جلد العقاد، كما تمر القملة هينة لينة إلى أن تغمس خرطومها، فكتب مقالة في جريدة البلاغ يصف بها فلسفة «المراحيضي» ويقرظها، ثم غمس خرطومه ينبه العقاد إلى مذهب وحدة الوجود. فتناوله العقاد كما يتناول أحد البرابرة قملة من قفاه!! وكان مما كتب قوله: «إن الكاتب الذي تنبسط أمامه آراء جميع الفلاسفة (تأمل) ليتصرف فيها (تأمَّلا)، لا يحتاج أن يجيئه في آخر الزمان (تأملوا) من يُذكره بوحدة الوجود … إلخ إلخ». فالعقاد يتصرف في جميع فلاسفة الدنيا، حتى كأنَّ الله لم يخلقهم إلا ليفكروا له ويقدموا لذهنه الجبار جزية أفكارهم الذليلة الضعيفة، وينادوه من وراء الغيب يا مولانا صاحب مرحاضه املأ مرحاضك الفكري!!!؟ وما على مصر بعد هذا أن يحتلها الإنجليز، فإن في مصر جبار ذهن من جبابرة آخر الزمان احتل دول الأرض كلها وحكمها من فلاسفتها!! ومن شعرائها!! ومن كتابها!!!
•••
لما أنشأ المجلس البلدي في مدينة (كذا) خزانًا للماء، فأقامه على عُمُد طوال من الحديد الصلب وملأه بماء النيل لينحدر منه، فيصعد في أنابيب إلى منازل المدينة. قال الخزان للنيل: ما شأنك ويحك! وما مقامك في هذا البلد الذي أنا، أنا فيه؟! وحسبك أن أقول: (أنا) لتعرف من أنا. ألا ترى أيها الأعمى أني أنا النهر الحقيقي، وأني هنا جبار الماء، وأن المدينة بناسها وبهائمها وشوارعها لا تشرب ولا تنضج إلا مني، فلو أمسكت عنها يومًا أو بعض يوم لهلكت ولعاد الناس من جفاف حلوقهم وتضرم أحشائهم في مثل حالة نزع الميت واحتضاره؟ قالوا: فما زاد النيل على أن التفت إليه وقال: أيها الطويل الأحمق! أما مع المنازل وأشباه المنازل من قراء الجرائد فتكلم كيف تعطي، وأما معي أنا فقل: ويلك من أين تأخذ؟
هذا هو مثل الفيلسوف المراحيضي يرجع إلى ما قررناه مرارًا من أنه مترجم ناقل ثم تنقصه أمانة الترجمة، لأنه يأبى إلا أن يدعي، وإلا أن يتصرف بغباوته، فيفسد في الجهتين، ولا تبقى فيه إلا الدعوى، ويكابر في هذه الدعوى، ويقاتل عليها، فلا تبقى فيه إلا الوقاحة. إنما يريد الناس من يقول: هذا رأيي لا رأي فلان وفلان، و(قلت أنا) لا (قال فلان وفلان)، وساعات بين مؤلفاتي لا (ساعات بين الكتب)! وإني لأفضل من يكتب صفحة واحدة في اللغة العربية بأسلوب بديع، ومعان طريفة، وخيال سام، وشخصية ظاهرة في كل سطر على من يترجم كتابًا كاملًا من لغة أجنبية، وإن كان لهذا فضله في معناه وطبقته، لأن الأول هو ثروة اللغة، وبه وبأمثاله تَعَامَل التاريخ، وهو الذي يحقق فيها فن ألفاظها وصورها، فهو بذلك امتدادها الزمني، وانتقالها التاريخي، وتخلقها مع أهلها إنسانية بعد إنسانية في زمن بعد زمن، ولا تجديد ولا تطور إلا في هذا التخلق متى جاء من أهله والجديرين به. أما الثاني فله فضل دابة الحمل، وفضل عملها الشاق النافع الذي لا بد منه، ولكن لا ينبغي للعقاد ومثل العقاد أن يقول للغة: أنا أوجدت وأنا فعلت إلا إذا جاز للحمار الذي يحمل شيئًا إلى بيتك من طعام أو متاع أن يقول لقيم الدار: خذ، هذا ما صنعته لكم!! وما عليك يا حمار لو استكملت فضيلتك، وقلت: «ما حملته لكم»؟
للمراحيضي رأي فلسفي في تعريف الجمال — وناهيك من ذوق من يقول في شعره: «مرحاضه أفخر أثوابنا» ويشبه رُضاب فم حبيبته بالقيح والصديد مما ينغسل من جلود أهل النار … كما مر بك. وما الذوق؟ وما أداة الجمال وسبيل فهمه وتصويره كما هو مقرر، فيقول العقاد في رأيه هذا: «إن الجمال هو الحرية». ويرى أن هذا ابتكار فاهَ به الفلاسفة، ويكاد يقول: إن العقل الإنساني بعد هذا الابتكار لم يبق بينه وبين الألوهية إلا وثبتان أو ثلاث بمثل هذه القوة الجبارة!
وإنما ذكرنا هذا الرأي، لأنه يهمنا جدًّا في بيان سخافة هذا الرجل وغروره وحماقته، ثم هو في رأي المراحيضي ابتكاره الخاص به وعمود فلسفته وأسير أفكاره، مع أنه لو عقل لستره على نفسه، ولكن الرجل ضعيف ملكة التوليد، فيُشَبَّه له، فيُشَبَّه عليه. ويخيل إليه فيخال ويقول: ابتكرت، وتقول الحقيقة: بل أفسدت، ويقول: هذا نبوغي، وتقول ألسنة النقد: بل هذا سوء فهمك.
أما إن للعقاد توليدًا في شعره وآرائه مما يقرؤه ويطلع عليه أو يمارسه ويشاهده، فهذا صحيح، ولو لم يبتله الله بالغرور يفسد عليه تمحيصه وامتحان آرائه لكان يرجى أن تنمو عنده الملكة ويبلغ مبلغًا، ولكن ماذا تقول في رجل لسانه من شؤمه ولؤمه لا يكون دائمًا إلا أمام تفكيره؟ قال له مرة أديب كبير، أمام محرر إحدى المجلات الشهيرة: ستُحَمُّ ثلاثة أشهر يا عقاد عندما تقرأ في كتابي الجديد كلمة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تقريظي. فرد المغرور «الشيخ محمد عبده لا يعرفك». مع أن الشيخ رحمه الله توفي قبل أن يكون العقاد معروفًا، وقبل أن يكتب مقالة، ولم يكن هذا العقاد من ذوي مجلسه، أو ذوي جماعته، أو من خاصته. وكتاب الشيخ بخطه في يد الأديب، ولكن لعن الله الحقد، ولعن الله الحماقة.
ثم ماذا نقول في رجل عقاد مراحيضي رأى سعد باشا زغلول نابغة دنياه ودهره يقرظ كتاب «إعجاز القرآن» فيقول يصف بلاغته وبيانه: «كأنه تنزيل من التنزيل»، وينشر تقريظ سعد في كل الصحف، وهو حي بعد في سنة ١٩٢٧، فيجن العقاد — أمام محرر تلك المجلة أيضًا — ويتهم صاحب الكتاب في وجهه بأنه زوَّر تقريظ سعد، مع أن كتاب سعد باشا في يد صاحب الإعجاز، ومع أن كتاب الإعجاز هذا أمر جلالة مولانا الملك بطبعه على نفقته الخاصة، ونُشر تقريظ سعد في صدر هذه الطبعة الملكية، وأصبحت: «كأنه تنزيل من التنزيل» مثلًا سائرًا.
اللهم إنك تخلق ما نفهمه وما لا نفهمه. وقد يكون العقاد بَقَّة إنسانية رزقت هذا الطول هزوًا بها ونحن لا ندري.
يرى القارئ من هذين المثلين ومما قدمناه في السفود الثالث من زعم العقاد — أمام المحرر أيضًا — أنه أذكى من سعد باشا وأبلغ من سعد باشا — إن هذا العقاد كالآلة البخارية الخربة من بعض جهاتها، تعمل ولكنها تفسد، وتدور ليقول الناس: ليتها لا تدور، وهي بخارية من آخر طراز، ولكنها حمقاء كذلك من آخر طراز.
بتلك الحماقة المغرورة أضعفت ملكة التوليد عند المراحيضي، وكل النبوغ إنما هو في هذه الملكة واستحكامها. فلن يفلح العقاد من بعدها، ولن يكون إلا كما كان، ولن يخرج إلا الآراء المضحكة من مثل قوله: «إن الجمال هو الحرية».
قال: والسر في وضوح إحساسات الشباب (وجمالها) الكمالي هو كما يقول «شوبنهور»: إننا في عهد الصغر نرى فكرة النوع وراء صورة الفرد إذ تلوح لنا لأول مرة، لأننا نتمثل في كل فرد نموذجًا جديدًا لم تسبق لنا معرفة به، ولم تظهر لنا أية دلالة أخرى عليه، فالشجرة الأولى التي نراها تمثل لنا فكرة الشجر كله، أي نموذج هذا النوع الجديد الذي لا عهد لنا به قبل ذاك، ولا تقتصر على تمثيل شجرة واحدة زائلة كما هو شأنها عند من تواردت عليهم مناظر الأشجار الكثيرة، ولهذا نرى فيها الفكرة الأفلاطونية التي هي في الحقيقة جوهر (الجمال).
هذا ضبط العقاد في تلخيصه رأي «شوبنهور»، وبعضه ينقض بعضه إلا عند مثل هذا الرجل الذي لا يكاد يميز، بل يأخذ بأول ما يبدو له، ويفهم أكثر ما يفهمه على التوهم، فإن ما نراه في عهد الصغر حين نرى الشجرة الأولى التي لا عهد لنا بجنسها ولا بنوعها قبل ذلك، مما يجعل هذه الشجرة الواحدة هي الشجر كله — إن هذه الحالة لن تكون هي ذاتها الحالة القائمة بنفس الشاب، فتكون «السر في وضوح إحساسات الشباب وجمالها الكمالي».
ثم أين يتعارضان هذان الفيلسوفان العظيمان المراحيضي!!! وشوبنهور؟
يقول العقاد: «يتعارضان حين نذكر أن الحرية لا تكون بغير إرادة، وأن شوبنهور يخرج الجمال كله من عالم «الإرادة المسببة» أي عالم «الفكرة المجردة».
وما الذي يُرَجّع رأي فيلسوفنا!! المراحيضي!! بأن الجمال هو الحرية على رأي شوبنهور بأن الجمال «فكرة»؟ يقول العقاد: (يرجحه أن الجمال يتفاوت في نفوسنا، ويتفاضل في مقاييس أفكارنا — ولو كان المعول على إدراك «الفكرة» وحدها في تقدير الجمال، لوجب أن تكون الأشياء كلها جميلة على حد سواء).
«ونوضح ذلك فنقول: لو كانت الشجرة جميلة، لأنها فكرة «فقط» لما كان هناك داع لتفضيل فكرة الإنسان على فكرة الشجرة (افهموا يا ناس) واتضح لنا أن نزعم أن الناس أجمل من الأشجار (برافو مراحيضي)، ولكننا نعلم أن فكرة الإنسان غير فكرة الشجر (تمام تمام!!!). وأن الفكرتين تتفاضلان في تقدير الجمال (صحيح، لأن الشجرة تقدر جمال الناس كما يقدر الناس جمالها!!!). ولا بد أن يكون تفاضلهما بمزية أخرى، فما هي تلك المزية؟
قال المراحيضي: هي الحرية، فالإنسان أوفر من الشجرة نصيبًا من الحرية (برافو برافو!!!)، ولذلك هو أجمل منها. (يا سلام يا سلام على هذا المنطق في رأي من هو أجمل منها؟ في رأي الجبل بالطبع، لأنه لا بد من حكم بينهما يحكم أيهما أجمل. وإلا فما الذي يمنع الشجرة أن تحكم لنفسها كما حكم الإنسان لنفسه!).
إلى هنا يظهر أن العقاد يفكر ويصحح لشوبنهور. ولكنه سقط بعد ذلك على أم رأسه، وأظهر الجملة التي منها سرق، فقال: «وقرر شوبنهور أن المادة الصماء لا جمال فيها ولا أنس لديها، وأنها تقبض الصدر وتثقل على الطبع (قلنا كالماس والزمرد والذهب مثلًا، فهي مادة صماء، ولا جمال فيها، وتقبض الصدر وتثقل على الطبع! ومائة ألف جنيه أثقل على الطبع من جنيه!!!).
قال: «فلِمَ كانت كذلك؟ ألأنها عارية عن الفكرة؟ كلا … فما من شيء محسوس إلا له فكرة مكنونة في رأي «شوبنهور». ولكنها تقبض الصدر وتثقل على الطبع، لأنها تمثل الركود والجمود، أو تمثل التجرد من الإرادة (والحرمان من الحرية).
وقد ذكر شوبنهور نفسه بعض هذه العلة وقال: «إن الحزن الذي تبعثه «المادة غير العضوية» في نفوسنا آت من أن هذه المادة تطيع قانون «الجذب» طاعة تامة من حيث تتجه الأشياء. أما النبات فإن منظره يشرح صدرنا ويسرنا سرورًا كبيرًا (كلما تُرِكَ وشأنه). وسبب ذلك أن قانون الجذب يبدو لنا كالمعطِّل في عالم النبات، لأنه يتجه إلى خلاف الجهة التي يجذبه إليها ذلك القانون. وهنا تتخذ ظاهرة الحياة لنفسها طبقة جديدة عالية بين طبقات الموجودات ننتمي نحن إليها وتتصل هي بناء ويقوم عليها عنصر وجودنا، فترتاح إليها قلوبنا … إلخ.
قال العقاد: «وإلى هنا يسبق إلى ظنك أن «شوبنهور» سيخلص من هذا القول إلى نتيجته القريبة، فيقول: إن الأشياء تحزننا بما فيها من معاني الخضوع! وتفرحنا بما فيها من معاني الحرية! أو إنها تحزننا كلما قل نصيبها من الإرادة، وتفرحنا كلما عظم نصيبها من هذه الصفة. ولكن لم يدع هذه الصفة. ولكنه يدع هذه النتيجة القريبة إلى نتيجة أخرى لا تؤدي إليها. (يريد لا يؤدي إليها كلامه السابق فأخطأ في التعبير كعادته).
معنى كل هذا أن العقاد استخرج النتيجة القريبة، وقال: «إن الجمال هو الحرية»، وأما «شوبنهور» صاحب البحث والرأي، فمغفل جاهل، لأنه وضع البحث كله، ولكنه استخرج نتيجة أخرى، كأن الذي وضع النحو وقسم الكلام إلى اسم وفعل وحرف فعل ذلك وهو لا يعرف ما هو الاسم ولا ما هو الحرف.
هذا هو عالم «الإرادة المسببة» في رأي «شوبنهور». فأي جمال في صاحبة تلك الريح الخبيثة، وهل يصطلح الناس في عالم «الفكرة» على جمال تلك الريح كما رآها ذلك الذي ابتعد عن عالم الفكرة وارتطم في إرادته؟!
على مثل تلك الطريقة من الغباوة وسوء الفهم وقبح الاجتراء والغرور والحماقة تجد كل ما يولده العقاد أو أكثره، ثم يزين له لؤم نفسه وعمى بصيرته أنه هو وحده الذي يهدي إلى أسرار الأشياء، ويلهم حقائق المعاني فيزدري الناس، ويندرئ عليهم بالطعن والتسفيه، ويقول فيهم ما لو عقل أو أنصف لما قاله إلا في نفسه.
لو تأملت ما كشفناه من سرقاته الشعرية لرأيت أن تلك هي قاعدته في التوليد، فلن يأتي بمعنى واحد أحسن من أصله، أو على المقاربة منه، وهذا حسبك في الدلالة على قيمة الرجل وبيان منزلته. وهو لو كُفِيَ الوقاحة وحدها لأمكن أن يُفلح، لأن كل رذائله فروع من هذا الأصل ترجع إليه واحدة واحدة، ولكنه كذا خلق ولن يغير أمس وقد مضى، ولن ترجع له وراثة أخرى وحارات وأزقة.
ولا بأس من هذا الخبر استفتى المراحيضي مرة رجل من العراق في أمر (القديم والجديد) ومناظرة كانت بين فلان وفلان، فخلط العقاد على طريقته، ولكن الذي راعنا مما كتب أنه قال: «إن كُتاب العرب لم يجيدوا في المعاني المطولة «بل كانوا إذا طرقوا هذه الموضوعات أسفوا وضعفوا واجتنبوا الأساليب الأدبية المنمقة وأخذوا في أسلوب سهل دارج، لا يختلف عن أسلوب الصحف اليومية عندنا (يعني لا يختلف عن أسلوب العقاد؟؟) في شيء كثير. قال: «ومن شك في ذلك فليرني صفحة واحدة من مصنف عربي في مبحث من المباحث الاستقرائية مكتوبة بلغة تضارع لغة الأدباء في الرسائل والمقامات!!! أو يصح لأن يقال إنها لغة أدبية ذات طريقة محض عربية (كذا)! قال: ولست أكلف المخالفين لرأيي أن يجيشوني بصحيفة عالية البلاغة من كتاب فلسفي أو منطقي … فهذا قل أن يتيسر في لغة من اللغات، ولكني أكلفهم أن يجيئوني بصفحة واحدة (عجائب!) بليغة من موضع غير الموضوعات الخطابية المرتجلة التي تكلم الجاهليون في مثلها على البداهة. إنهم لا يستطيعون». انتهى بحروفه.
انظروا أيها الناس أهذا كلام رجل يكتب بعقل أم بوقاحة؟ وهل اطلع هذا المراحيضي على كل ما كتبه العرب؟ وإن كان اطلع على كل كتبهم فهل قرأها كلها حتى أيقن أنها خالية (من صفحة واحدة) تكون بليغة في موضوع فلسفي أو منطقي أو علمي؟ وهل انتهى إلينا كل ما ألفه كتاب العرب وكل ما ترجموه ليقرأه المراحيضي ويجزم بأنه ليس فيه (صفحة واحدة) من ذلك؟!
وكيف لعمرك يكتب مثل الجاحظ إذا ترجم أو كتب في موضوع علمي؟ أينزل عن طريقته وينسى اللغة كلها ليجيء بكلام بارد غث ككلام العقاد والصحف اليومية؟!
هذا والله جوابه بحروفه. رسالة لم يقرأها ولم يعرفها، ومع ذلك يقول إنها غير مرتبة. سبحان الله، ولا إله إلا الله، ويخلق ما لا تعلمون!!
على أن هذا كما يؤخذ دليلًا على وقاحة هذا الكاتب وعَنَتِه ومكابرته، وأن لسانه دائمًا يستمد من طباعه قبل أن يستمد من عقله، فيسبق بما في قلبه، أو في نفسه، قبل أن يجيء بما في نظره أو في عقله — يؤخذ أيضًا من الأدلة على جهل العقاد بالبلاغة وأساليبها، وكيف تكون وكيف تنقاد. إن رجلًا من بلغاء الناس كعبد الحميد أو ابن المقفع، أو سهل بن هارون، أو الجاحظ، أو من في طبقتهم، لو هو تناول أعسر المواضيع العلمية لصبغها بأسلوبه، وأنزل الكلام فيها على طريقته، وأخرج النغم الإنشائي حتى من الحجر ومن التراب، لأن الأسلوب إنما هو صورة مزاجه اللغوي، فإن لم يجد له المعاني التي يظنها العقاد خاصة بالمواضيع الأدبية أو الخطابية وجد له اللفظ، ووجد له النسق. ومتى وفق كاتب في ألفاظه ونسق ألفاظه، فقد استقامت له الطريقة الأدبية، وجاء أسلوبه في الطبقة العالية من الكتابة. وأكثر كلام العرب يخرج على هذا الوجه، فتراه بليغًا في أدائه، رصينًا في ألفاظه، متينًا في عبارته، ولا طائل من المعنى وراء ذلك.
أنا أفتح الآن الورقة الأولى من كتاب الجاحظ، فإذا هو يقول في حكمة زرقة السماء فكِّر في لون هذه السماء وما فيها من صواب التدبير، فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للأبصار، وتقوية لها، حتى أن من صفات الأطباء لمن أصابه شيء أضرَّ ببصره إدمان النظر إلى الخضرة، ما قرب منها إلى السواد. وقد وصف الحذاق منهم لمن كَلَّ بصره الاطلاع في إجانَّة خضراء مملوءة ماء. فانظر كيف جعل هذا الأديم أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المتقلبة عليه، فلا يَنْكَى فيها بطول مباشرتها له، فصار هذا الذي أدركه الناس بعد التفكر والتجارب يوجد مفروغًا منه في الخلقة …
فكِّر في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي النهار والليل، فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كله، فكيف كان الناس يسعون في حوائجهم ومعايشهم ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم، وكيف كانوا يتهنون بلذة العيش مع فقدهم لذة النور وروحه؟! فالأرب في طلوعها ظاهر مستغنٍ بظهوره عن الإطناب فيه. ولكن تأمل المنفعة في غروبها، فلولا غروبها لم يكن للناس هدوٌّ ولا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدوِّ لراحة أبدانهم وجموم حواسهم وانبعاث القوة الهاضمة لهضمهم الطعام وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، كالذي تصف كتب الطب من ذلك. ثم كان الحرص سيحملهم على مداومة العمل ومطاولته إلى ما تعظم نكايته في أبدانهم، فإن كثيرًا من الناس لولا جثوم هذا الليل بظلمته عليهم لما هدءوا ولا قَرُّوا حرصًا على الكسب والجمع، ثم كانت الأرض ستُحمى بدوام شروق الشمس واتصاله، حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ونبات، فصارت بتدبير الله تطلع وقتًا وتغرب وقتًا، بمنزلة سراج رفع لأهل البيت مليًّا ليقضوا حوائجهم، ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليهدءوا ويقروا، فصارت الظلمة والنور على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه.
ثم فكِّر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة، وما في ذلك من المصلحة، ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات، فتتولد فيه مواد الثمار ويستكثِف الهواء، فينشأ منه السحاب والمطر، وتشتد أبدان الحيوان، وتقوى الأفعال الطبيعية، وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء، فيطلع النبات، وينور الشجر، ويهيج الحيوان للسِّفاد، وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار، وتتحلل فضول الأبدان، ويجف وجه الأرض فيتهيأ للبناء والاعتمال، وفي الخريف يصفو الهواء فترتفع الأمراض وتصح الأبدان، ويمتد الليل فيمكن فيه بعض الأعمال الطويلة، إلى مصالح أخرى لو تقصَّى ذكرها طال الكلام فيها …
والكتاب كله على هذا النسق، وبمثل هذه العبارة، وهذا الأسلوب. وقد يعلو فيه حتى يفوت أسلوب الرسائل، وإنما يمكنه من ذلك مزاجه اللغوي، وحس هذه اللغة في نفسه، وإحاطته بمفرداتها في كل باب، وكل معنى، فما يعجزه قبيل من الكلام، ولا فن من القول في منطق أو فلسفة أو اجتماع، وما داخلها نوعًا من المداخلة، أو أشبهها وجهًا من الشبه. وإنما الجاهل الغبي الركيك الذي يحسب اللغة لغتين في القلم البليغ هو العقاد المراحيضي، لأنه لا يحسن شيئًا من كل ذلك، ولم يطلع، ولم يقرأ لمن أحسنوه، ثم يأبى على ذلك أن يقر في حيزه وحيز أمثاله، فيتطاول بعنق الزرافة!!! ويذهب يزعم، ويخلق من أكاذيبه ومزاعمه، ولا يخجل أن يقول: (هات صفحة واحدة).
فأنشدتكم الله أيها القراء إذا لم يكن هذا هو الجهل المركب فما هو الجهل المركب؟
•••
ونعود الآن إلى توليد العقاد وسوء ملكته في ذلك، وكيف يصنع أقبح الصنع، مما يدل على ضعف وبلادة وعامية في الطبع، وإذا فسد توليده ونزل في معانيه فما بقي في الرجل إلا اللص، وهذا ما نقول به ونقره، ولا نظن أحدًا ممن يقرؤون «السفود» يكابر فيه، فلقد غسلنا وجه هذه العجوز … وانتزعنا (طقم الأسنان) من فمها، وقلنا لوجهها: انطق الآن يا …
قال صاحب مرحاضه أو المراحيضي في صفحة ١٤٦ من ديوانه أو مزبلته!! يتغزل:
هذا من أحسن شعر المراحيضي، ولكن لا تنخدع وفتش وانظر كيف جيء بأسخف توليد في البيت الذي هو أحسنها، أي في البيت الأخير.
يقول: «صفه في كل كساء» حتى في كساء شحاذ قذر؟ حتى في كفن ميت؟ حتى في ثوب مصاب بالجذام؟ أيا حبيب المراحيضي، لا تقابله إلَّا وفي يدك كرباج سوداني …
«صفه في كل الجهات» حتى في القبر. أيا حبيب المراحيضي، الكرباج الكرباج … والبيت الثاني من قول القائل:
وقلب ابن المهدي هذا المعنى فجاء به طريفًا، إذ جعل الحبيبة تُغني عن الروضة كلها فقال:
وأثقل شعر على النفس جعل المراحضي حبيبه (في القفر) رياضًا من (هوى لا من نبات)، أهذا مما يجعل للحبيب قيمة في القفر ولو قيمة بصقة ماء؟ … ولو قيمة عود نبات يابس؟ أفليست بصقة ماء عند القفز أفضل ألف مرة من روضة هوى في خيال معتوه … الكرباج يا حبيب المراحيضي …
وتشبيه الحبيب بالروضة كثير، ولكن لم يقل أحدٌ روضة هوى في قفر غير هذا البارد الفاسد الخيال.
ويقول: (تم والله فيا ليت به بعض الهنات). الكرباج الكرباج … هل في الدنيا حبيب يقبل من محبه أن يقول له: يا ليت بك بعض العيوب؟ وفسر الهنات بالعيوب الطفيفية، فما هي العيوب الطفيفة التي يتمناها هذا الأحمق في حبيبه وخلقته وجماله؟ ولكن لعن الله التوليد اللئيم واللصوصية الوقحة!! فانظر كيف صنع الشاعر حين قال:
فهذا هو الشعر لا ما رأيت من صنيع المراحيضي، لأن الشاعر يخاف على كمال حبيبه من إصابة العين، ولكنه لا يتمنى أن يبتليه الله بعيب، فإن هذا التمني لا يكون من قلب محب، لا يجيء إلا من كبد غليظ، بل يقول: «ما كان أحوجه»، «وكان» هنا في منتهى الرقة والظرف كما ترى، وهي تكاد تذوب حنانًا وعاطفة.
ويقول المراحيضي ثم حتى أتعب العين بفرط الحسنات.
قل لحبيبك: أتعبت عيني، ثقلت على عيني، عيني (بتوجعني من فرط حسنك)!! الكرباج الكرباج يا حبيب المراحيضي! إن لم تكن أنت أيضًا مغفلًا رقيعًا غليظ الحسِّ.
إن كل ما أتعب العين، ترى العين راحتها في إغفاله، وما يكون مثل هذا في وصف الجمال المعشوق، ولم يقله إلا العقاد وحده في بلادة وغباوة وجفاء بربري همجي. وليأتنا من استطاع ببيت واحد لشاعر سليم الذوق يذكر فيه «تعب عينيه» من فرط حسن محبوبه، ونحن نكسر هذا القلم ونسلم بكل ما يدعي العقاد. انظر كيف صنع ابن الرومي في قوله:
هكذا هكذا … ثم يعبر في شعر آخر عن معنى تمام الحسن تعبيرًا في غاية الإبداع يثبت المعنى الذي أراده المراحيضي في نفسه، وينفي مع ذلك تعب العين، كأن في العين من أجل الحبيبة طبيعة غير طبيعتها التي خلقت عليها فيقول: انظر كيف صنع ابن الرومي في قوله:
هذا والله هو المرقص المطرب، ولو قاله أكبر شاعر في أكبر أمة لزاد في أدبها، وانظر مع كل ما رأيته كيف عبر الشاعر العربي الذي لم يدرس ولم يتعلم ولم يجمع كل ديوان شعر وكل كتاب أدب في الإنجليزية ولم يكن جبار ذهن!! كيف عبر عن حيرته في تمام حسن حبيبته وفرط جمالها في رأي نفسه، وكيف أبان عن المعنى الفلسلفي الدقيق الذي انتهت إليه الفلسفة الحديثة في فهم الجمال، وأنه في الناظر لا في المنظور، وذلك حيث يقول بشر بن عقبة العدوي:
بديع بديع، حلو حلو، شعر كالحبيبة وإن كان مولدًا من قول امرئ القيس:
ولكن ليس هذا كله من غرضنا، بل غرضنا أن نبين كيف تهيأ للعقاد المعنى (أتعب العين)، وكيف ولَّده، لأن ذلك دليل قاطع على أن شعره من ديوان الشعر كالمرحاض من القصر!!! وأنه ليس هناك، ولا يقال له إلا ما قال الأول:
وكذلك يقال له: لست من الشعراء، ولو أحدث في أفخر أثوابك «عزّوز» لتقول فيه «مرحاضه أفخر أثوابنا …».
لابن الرومي في هذا المعنى بيتان، لا بد ولا بد أن يكون المراحيضي سرق من أحدهما الأول قوله في وصف المهرجان:
ومعناه أن هذا المهرجان من كثرة أضوائه وزينته لا تستطيع الأعين أن تحدق فيه طويلًا. فنقل ذلك إلى المعنى الشعري، وجعل له سلطانًا ينهى به العين فتغضُّ. فإن كان العقاد سرق من هذا فقد فهم أن العين تتعب، وأنه إذا جعل مكان المهرجان حبيبه، وجعل حسنه هو الذي يتعب العين خفيت السرقة، وصار المعنى عقاديًّا شقاديًّا، فحبيب العقاد هنا خمسون «لمبة» من مصابيح علاء الدين Alladine التي تضاء بضغط الغاز ومائة مصباح كهربائي قوة مائة شمعة، وبعبارة مختصرة، يا حبيب المراحيضي أنت دكان فراش … آه لو كان معك الكرباج السوداني من قبل.
والبيت الثاني لابن الرومي قوله:
وهو تكرار لقوله (وفيك أحسن ما تسمو النفوس له … «البيت»). ونحن نرجح أن العقاد سرق من هنا، لأن هذا الصنيع هو الأشبه بغباوته وفساد توليده، فقد تصور هكذا إذا كان لا شيء إلا وفيه أحسنه، وإذا كانت العين تنتقل منه إليه وإليه منه فهذا لا ينتهي، ولا يمكن أن ينتهي إلا إذا تعبت العين، والانتقال الذي لا يزال من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا انتقال متعب، فيخرج من القضيتين أن تمام الحسن يتعب العين، فيكون نظم هذا الكلام هكذا.
ثم حتى أتعب العين …
وهكذا يكون شعر اللصوص الأغبياء، وبمثل هذا الهراء ينخدع فيهم المغفلون، ويسمون مثل هذا المراحيضي جبار ذهن … ويُغرونه بنفسه، فيظن ويظنون أن الأدباء يعبأون به، ويمد له الظن فيحسبهم يخشونه، ثم ينمي له وهمُه ولؤمه، فإذا هو يثور بهم وينتقصهم ويلقاهم بعامية أصله وسفاهة دمه، وإنه لأهون عليهم من سحق نملة لو عركوه، وأقذر من شنق ذبابة لو تركوه …
هوامش
ولأجل هذا فنحن لا نثق أن ترجمة العقاد عن «شوبنهور» هي نص معاني «شوبنهور» على أغراضها وسياقها، فلا نتعرض لهذه الآراء ولا نقول في تفسيرها، وإنما نذهب إلى ما نظنه الأصل في غرض الفيلسوف مجملًا غير مفصل، وخاصًّا بالجمال وحده دون ما تفرع من هذا الأصل.
والرأي الفلسفي الصحيح أن الحواس الإنسانية زائغة لا تستطيع أن تحكم على الأشياء في ذواتها وحقائقها، ولا أن تتبين ما هي في كنه أنفسها، فليس فينا إلا نسبة هذه الأشياء إلينا كمادة تلائم مادة أو تقاربها أو تداخلها أو تضادها.
أما فكرة الشيء في ذات نفسه كما هو في كنهه، وأننا نحزن ونكتئب لمنظر المادة الجامدة، إذ لا تقاوم الجذب، ونُسر لمنظر النبات إذ يقاومه ولا ينقاد إلا على الخلاف. هذا كله تخليط في تخليط. وعاقبة أكلة ثقيلة من القرنبيط …