ذبابة!! ولكن من طراز «زبلن»١ …
•••
هذا — وحقك أيها القارئ — هو مثل العقاد لو أفصحت الحقيقة عن نوع غروره وحماقته ومقدارهما في الأدب والفلسفة والكتابة والشعر، فلقد كاد يقول للمغفلين وللمخدوعين فيه ابحثوا في عن الإله، بل ما أراه إلا ادعاها في هذيانه الذي قال فيه:
وقد مرت الإشارة إلى هذا البيت وسخافة القصيدة التي هو منها، أما نحن فبحثنا فيه فلم نر إلا لصًّا، وعرفناه فلم نعرف إلا لئيمًا، وفتشه النقد فلم يجد إلا صاحب مرحاضه.
يا سلام … لماذا أنت سوداء أيتها الخنفساء؟ قالت: لأني الشخصية اللامعة في الكون! يا سلام. لماذا أنت مغرور أيها العقاد المراحيضي؟ قال: لأني أذكى من سعد باشا وأبلغ من سعد باشا. هذا — يا سيدي وسيد كل أديب على وجه الأرض — كلام خنفسائي، فقل شيئًا آخر. قل لنا مثلًا: إن الحقيقة المضحكة الساخرة القائمة في نفسك والتي هي مبعث شعورك، والتي خلعتها أنت على نفسك بأوهامها وزخارفها وتلاوينها، هي بعينها تلك الحقيقة القديمة التي لبسها من قبلك العجل أبيس، غير أنه ظلم بها وحبس فيها، وجاءته من الناس، وتراها أنت حرية فكر وجاءتك من نفسك، وإلا فأفهمني يا هذا بغير الكلام الخنفسائي! ما الفرق بين عجل يقال إنه بين الناس إله أو صورة إله، وبين رجل مثلك يقول عن نفسه بنفسه لنفسه إنه بين الناس رحمن؟
نعم، إنك مثَّلتَ فصولًا، لا فصلًا واحدًا — في رواية الغرور والدعوى (ولعبتها) — كما يقول طه حسين — ولبست للناس ثياب الرواية، ولكني رأيتك بعد منساقًا في الحياة وراء المعاني المكذوبة التي مثلها تدَّعيها ولا تفارقها، فبربك هل رأيت أثقل على النفس ممن كان مرة على المسرح، أمام من دفعوا خمسة قروش وعشرة قروش، فكان هرون الرشيد!! وكان له زبيدة وجعفر ومسرور!! وكانت الرواية، ثم يمر يومًا على قسم الموسكي، فيومئ للعسكري الواقف على الباب ويقول له يا مسرور! اذهب ويحك الآن فاكبس دار فلان (أرجو من فضلك أن يكون غيري) وائتني برأسه! وقل لزبيدة وقل لجعفر!؟ أنت والله يا عقاد في دعواك وغرورك الأدبي أثقل وأبرد من هذا ثلاث مرات، والذي يقول لك غير هذا فهو إنما يهزأ بك إن كان ذا رأي وكان لرأيه وزن.
•••
رأى القراء في السفود السادس خبط العقاد في نقل كلام شوبنهور، واستخراجه النتيجة منه على رغم أنف هذا الفيلسوف الكبير، وادعاءه أن ذلك رأي ابتكره وفات به العقول وأصحابها. ولكن بقي أن أعرف جواب هذا السؤال هل في الشرق كله رجل يفهم ويرى نفسه في حاجة إلى رأي عباس محمود العقاد!!! في الرد على فلاسفة أوروبا وجبابرة الذهن فيها؟ وهل يكون الرد للشرقيين وينشر في الشرق، أم للغربيين وينشر في أوروبا؟ وكم مقالة في مثل ذلك كتبها العقاد في صحف انجلترا وألمانيا وفرنسا يرد على فلاسفتها وكتابها؟ وماذا كان تأثيرها؟ وماذا قالت تلك الأمم عن جبار الذهن المصري؟ وهل عيرتنا نحن به؟ أم عيرت به كُتابها وفلاسفتها؟
هذا كله سؤال واحد يفضي بعضه إلى بعض، لأنه إن وقع شيء من ذلك، وقع الكل، فأجيبونا أيها القراء.
إنه إن لم يثبت ذلك كله، انتفى ذلك كله، وأصبحنا من العقاد وغروره ودعواه في هواء وفضاء، فلم يبق إلا أن العقاد وأشباهه هم المحتاجون إلى الرد في هذا الشرق المسكين على شوبنهور ونيتشه وغيرهما تدجيلًا وتعمية، وليجدوا ما يتعلقون عليه حين يجدون ما هم مضطرون إليه، فإن البلية، والبلية كلها، آتية من عقول مضطرة للعمل العقلي إذ كان وسيلة العيش لأصحابها الذين يحترفون الكتابة في صحف تسمى صحفًا على المجاز، أي باعتبار الطبع والورق!! وكانت عقولهم ضعيفة رخوة، إذ نشأت على طبيعة كطبيعة التسلق النباتي، فلم تبلغ درجة الإحكام والفصل. ثم لا يعملون بها — وهي عندهم وسائل عيش دنيئة كعربة الحوذي مثلًا — إلا عمل العبقريين بوسائلهم العقلية العالية. فمن ثم لا يكون همهم إلا الإغارة على آثار العقول الناضجة الصحيحة بلا نقد ولا تمحيص، ولا بد حينئذ من التشويه والمسخ ليعملوا عملًا من عند أنفسهم، فيقع الضرر من ناحيتين ناحية ضعفهم، وناحية اضطرارهم.
وبذلك ينحدرون إلى اضطرار شر من الأول، فيرتطمون فيه، وهو القطع والجزم هنا عندنا فيما هو فرض أو تجربة هناك عند أهله، ثم البناء على هذا الأساس الواهي بناء يثبت أن صاحبه جبار ذهن!!! فقد لا يكون الفكر المنقول أو المسروق شيئًا يذكر وقد يكون شيئًا قليلًا ولكن (بعملية جبار ذهن …)، يصبح عندنا — وأقل ما يوصف به — أنه دليل على أن الكاتب جبار ذهن عبقري.
هي (عملية) الخلق الجديد بالتشويه والمسخ والتعمية، وداخلة الأقوال والأفكار بعضها في بعض … إلخ إلخ. والعقاد أكبر «اختصاصي» في هذه العملية، لأنه لا حياء فيه ولا ذمة! فهو بذلك كاتب عربي عظيم، ولكنه في الوقت نفسه أَرَضَة كُتُبٍ إنجليزية، لو عثر به شاعر أو كاتب إنجليزي لذهب واشترى لكتبه (نفتالين) يطرد به هذا العث المسمى العقاد … الذي يدأب في (أكل كتبه) وثماره العقلية.
انتقدنا في السفود السادس أبياتًا من قصيدة العقاد (يا نديم الصبوات) صفحة ١٤٤، وقد راسلنا أحد الأدباء يخبرنا أن الأربعة الأبيات الأولى من هذه القصيدة مسروقة من كتاب ألف ليلة!! ونحن لم نقرأ هذا الكتاب إلا في الصبا، ولا نذكر إلا أن كل ما فيه من الشعر مبتذل عامي، فإن صح أن العقاد سرق منه فيا ألف فضيحة يا عقاد وأدرك شهر زاد الصباح …
في هذه الصفحة ١٤٤ أبيات حسنة يشير بها المراحيضي إلى معنى جميل، وهو أن الحبيب الذي أوتي الجمال في وجهه لا يأتي له، أو لا ينبغي له، أن ينتحل الوقار ويتظاهر بالغضب والتعبيس والقطوب، فيقول:
والقصيدة كلها مبنية على هذه المعاني، كأنها ثرثرة طويلة حول كلمة أو كلمتين، ومع أن هذه المعاني كثيرة في الشعر الأوروبي، فإنك تجدها بخاصة في كتابات «أناتول فرانس» حتى ليمكن أن تُعَدُّ مذهبًا من مذاهبه. فعنده أن المرأة الجميلة (تناقض طبيعتها) إذا لم تكن للجميع تحفة من تحف الفن، وما أدراك ما «الفن» عند هذا النابغة الحيواني. مع هذا فإن أصل المعنى في شعر ابن الرومي، وقد تفنن العقاد هذه المرة في السرقة وكان لصًّا كلص «المحافظ» وأصاب محفظة فيها خير!!
يقول ابن الرومي في ممدوحه يستعطفه ويستميل وجه رضاه:
هذا هو كلام العقاد بعينه، نقله إلى الغزل وتصرف فيه، ومع ذلك جاء مضطربًا نازلًا عن الأصل المسروق منه.
يقول العقاد لحبيبه «واخدع جليسك بالقطوب فإنني أنا … إلخ» فمن جليس الحبيب غير محبه؟ كأنها مومس لها كل ساعة جليس. هلا قال: «واخدع سواي بذا القطوب»!!!
ويقول في البيت الثاني (الوقار المفتري) بصيغة اسم الفاعل، والمفتري الوقار هو الحبيب، لا الوقار يفتري نفسه، فيجب أن تكون الكلمة بصيغة اسم المفعول مفتوحة الراء. وبذلك تسقط القافية. والبيت الثالث (أنتم مباسمها … إلخ) مع أنه من قول ابن الرومي، ولكنه كذلك من قول الآخر:
وفي البيت جعل الطبيعة تضحك في الحبيب، فهو إذن ثغرها … ولكنه في البيت الذي يليه جعل الحبيب ضحكًا في ثغر الطبيعة. فنقض على نفسه، وكل هذا قد سلم منه بيتَا ابن الرومي كما رأيت. وقال المراحيضي في صفحة ٢١٣:
يا لطيف يا لطيف. يدعو الرجل على نفسه بالمسخ والتشويه، وأن يجعله الله (من فوق لتحت) رُقعًا من العين، فإذا أصيب مرة بالرمد جاءوه بعربة سباخ محملة من (الششم)، أو بعربة رش مملوءة من محلول البوريك، وبحمار محمل قطنًا، فإنه لا يكفي ألف عين أقل من ذلك. ولم هذا كله؟ ليسرق العقاد بيتًا من الشعر فيجعله بيتين ويسقط هذه السقطة، ويضحك الأدباء من غباوته. ومعنى البيت الأول أن لهذا المخنث الذي يحبه العقاد ألف عاشق، فإذا كان لا بد له من ألف عاشق ولا يقنع إلا بألف، فالعقاد يتمنى أن يكون له ألف قلب ليقوم وحده مقام أولئك الألف. وانظر أي سخف هذا، ثم يريد أن يكون له أيضًا ألف عين لينظره من ألف جهة، فإذا صح أن الحبيب المخنث يجد له ألف قلب تحبه، فهل يصح في العقل أن الجهات ألف.؟ أم يظن العقاد أن تخرج عينه وتجري وراء الحبيب، فإذا كان الحبيب في حلوان ثم رجع إلى القاهرة، ثم كان في عماد الدين ثم في كل الشوارع، خرجت عيون صاحب «مرحاضه» تجري وأرسلت إليه النظر بطريقة لاسلكية، فيكون حيث هو مُلقًى، ومع ذلك يرى حبيبه في كل مكان؟
واللهِ لو قال العقاد كل بديع مبتكر، ثم قال هذا السخف لسقط، فكيف وهو لص سارق يسرق من أبي علي الحاتمي قوله المشهور:
قابلوا أيها القراء واحكموا، إنكم لن تحكموا على صاحب «مرحاضه» إلا بالجلد ثمانين جلدة على الأقل.
ويقول المراحيضي في صفحة ٢٥٥:
مرة يتمنى أن يكون له ألف عين، ومرة يتمنى أن يكون أعمى فيستريح!!! ولا نعلق على هذه الأبيات بشيء، فإننا لا نظن أن في أهل الذوق من الشعراء وأهل الحب من المتأدبين من يقول لحبيبه «لا أنا أعمى ولا وجهك قبيح فكيف لا أحبك؟ فالعقاد هو الذي جاء بهذا المعنى. أما الشعراء فيقولون كما قال صاحبهم:
ومما هو من باب هذا العمى الشعري قول صاحب «مرحاضه» في صفحة ١٥٦:
يعني أو تعمى كما يأفل النجم ونعوذ بالله. ويريد من معنى ترعاك تراك، وهو غلط نبهنا على مثله فيما تقدم. والبيت بعد هذا كله مكسور، ينقصه حرف في أول الشطر الثاني. وفي هذه الصفحة:
وهو من قول ابن الرومي، مسخه العقاد أقبح مسخ:
والعقاد يكثر في شعره من معنى واحد، يرفعه في كل مكان برقعة جديدة، وهو أن الحسن يدعو إلى الحب بل إلى الخطيئة، وأن ما يدعو العاشق من المعشوق هو الذي ينهي المعشوق عن العاشق. وكل هذا من قول المعري:
وقول ابن الفارض:
وقول ابن الرومي:
وقد مرت الإشارة إلى بعض هذا المعنى في السفود الأول، فلندع كل ما جاء فيه من شعر العقاد. وفي الصفحة عينها ١٥٦ يقول المراحيضي:
حرَّك الحاء من الصحراء، وهي من أقبح الضرورات، بل لا معنى لها. وكان يستطيع أن يقول ولح فوق صحراء هذا الزمان. ويقول بعده:
والمعنى أن جمال هذا الحبيب كنهر في الصحراء يهيج ظمأ من يراه، فإن دنت منه شفاه الظامئين عجب من دنوها، والأعجب أن يجهل. يجهل ماذا! إنها كلمة من الحشو كان محلها (أن تمنع) لا (أن تجهل).
ثم الصحراء إذا كان فيها (نهر) لم تبق صحراء، فإن كان يريد السراب الخادع هذا يهيج الصدى، ولكن لا يمكن أن تقربه الشفاه، لأنه تخييل، فالمعنى فاسد من الناحيتين كما ترى. والصواب قول ابن الرومي:
وفي آخر هذه القصيدة يقول المراحيضي:
إن كانت (جنة) بفتح الجيم، فلا ندري كيف يكون وجه الأرض جنة من القبح لو خلا من الجمال، إذ لا يمكن أن توجد جنة من القبح إلا في وهم مثل هذا الرقيع الفاسد التخيل. وإن كانت بضم الجيم بمعنى الوقاية، فهذا أشد فسادًا من الأول. وإن كانت بالكسر بمعنى الجن، فالمعنى مضحك، ويكون هكذا لقد كان وجه الأرض جَنًّا لو خلا من الجمال. وعلى كل حال فما خلا من الجمال فهو بالطبع من القبح. فماذا يريد المراحيضي أن يقول؟
وفي صفحة ١٩٥:
وقال في صفحة ١٠٦:
يصف النهر في الشتاء، لأن رعدة النسيم تجعد وجه، ولكن لا يكاد أحد يفهم كيف يكون على وجه النهر أثر من جوى المرأة المهجورة، فالصواب على وجهها، أي وجه مرآة المهجورة. ويبقى أن مرآة المهجورة لا يكون على وجهها من جوى هذه المهجورة شيء، لأنها مرآة من البللور لا من اللحم والدم حتى يمكن أن تظهر فيها صفوة ونحول.
(أمَّال إيه المعنى يا ترى؟) المعنى يعرفه هذا اللص، ولم يستطع نقله كعادته دائمًا، وهو للخالدي الكبير يصف البدر وقد غشاه غيم رقيق فيقول:
هذا هو الوصف التام البديع، لأن الحسناء التي كملت محاسنها ولم تتزوج متى رأت جمالها في المرآة تنهدت، فيغشى المرآة غيم رقيق يلوح وجهها من تحته كالبدر في نقاب الغيم. أما بيت العقاد فهيهات أن يفهمه أحد ولو بالتوهم إلا إذا وقف على هذا الأصل فيفهمه حينئذ ليرميه في وجهه ويقول له: (غور يا شيخ).
في ديوان هذا المراحيضي أبيات منسجمة حسنة السبك كأنها من سائر شعره بقايا مبنية في خرائب متهدمة … وأكثر شعره ركيك يلتوي فيه المعنى أو يضطرب فيه السبك. أو يقصر اللفظ عن الأداء، فإما ظهر الكلام غامضًا لا يفهم، أو ناقصًا لا يبين، أو معقدًا لا يخلص، وإما لغوًا وهذيانًا أو قريبًا منهما، وعلى هذه الوجوه أكثر شعره.
والسبب في ذلك تعويله على السرقة والترجمة، واجتهاده في إخفائهما، ولا يكون إخفاء السرقة إلا بتحويل المعنى أو النقص منه، وقلما يفلح العقاد في هذه الناحية، لأنه لا يستطيع أن يزيد في المعنى المسروق، أو يجيء به أحسن من أصله كما عرفت في كل ما أوردناه من سرقاته، فكلها نازل منحط. أما إخفاء الترجمة فيكون بالتصرف فيها، وبهذا يفقد المعنى جماله الشعري أو الفلسفي أو البياني، ويجيء كالمعنى المسروق مضطربًا ناقصًا مخبَّأ الوجه كي لا يُعرف، فضلًا عن أن ترجمة الشعر الأوروبي شعرًا عربيًّا قلما تخلص إلا للأفذاذ من أهل البيان العربي والقادرين على إخضاع هذه اللغة والمتمكنين من أسرار ألفاظها، والموهوبين في أدمغتهم عقولًا بيانية، وليس في العقاد من هذا كله شيء يُذكر، وهو يعرفه ويقر به ولا يكابر فيه، لأنه لا يدعي أنه (جبار الذهن) إلا من الناحية العقلية المحضة، ويحسب هذه العقلية شيئًا غير البيان، وهنا موضع من مواضع جهله، فإن شكسبير أو غوته أو شِلَر أو بيرون أو شيللي أو هيجو أو طاغور أو سواهم من جبابرة الأدب في العالم لم ينبغ بهم العقل المحض، بل العقل البياني وحده، أي العقل المخلوق للتفسير والتوليد وتلقي الوحي وأدائه، واعتصار المعنى من كل مادة، وإدارة الأسلوب على كل ما يتصل به من المعاني والآراء، لينقلها من خلقتها وصيغها العالمية إلى خلق إنسان بعينه هو هذا العبقري، فكل الذين ينكرون على البيان العالي الأسلوب واللغة من العقاد وأمثاله إنما يفضحون جهلهم وتقصيرهم، ويثبتون أنهم في غمار الناس، وأنهم لا يصلحون للعبقرية الأدبية، ولا تصلح لهم أو لا تصلح بهم … ومما علمت من ضعف العقاد في هذه الناحية تعلم السبب في ركاكته وتعقيده، وأنه لا يفلح لا مترجم شعر، ولا سارق شعر، مع أن تعويله إنما هو على الترجمة والسرقة وعلى إفسادهما لإخفائهما، فكل ما أصبتَه في شعر هذا المراحيضي من معنى مُقْعَد أو نظم ملتو أو بيان ناقص أو سبك غير مخلص، فاعلم أن هناك موضع ترجمة أو موضع سرقة لا بد من أحدهما. ولا تتخلف هذه القاعدة في شعر العقاد مطلقًا، وهي مفتاح سر من أسراره، وقد وضعناه في يدك.
ونعود ففتح الديوان. يقول صاحب مرحاضه في صفحة ١٥٨:
يريد العام الجديد، ومع هذه الركاكة فقوله: (سفاهًا) لحن، ويجب أن تكون مرفوعة، لأنها خبر مبتدؤه قوله: «عدنا الخطو»، ولكن الخبر اشتبه عليه بالمفعول لأجله، فتصبه. وفي هذه الصفحة يقول:
هنا يريد العقاد أن يكون كبهيمة الساقية أو دابة الطاحون يسير (مغمى) مغطى العينين، وهم يفعلون ذلك بالبهيمة حتى لا ترى أنها تضرب في دائرة لا تتعداها، فتقف، بل تظن أنها سائرة سيرًا طويلًا مطردًا، مع أنها طول نهارها في بضعة أمتار، والمعنى عصيب يلائم ذوق المراحيضي، ولكن إذا غُمِّي هذا المراحيضي وعَمِيَ عن المستقبل والمصير، فهل تراه يعمى عن الماضي؟! أم هو يريد أن يسلبه الله الذاكرة أيضًا.
ويقول في صفحة ١٥٣:
يريد شبان مصر! وقد فسر المغافر في الشرح بالدروع، وما هي بها، بل المغفر ما يجعل أسفل البيضة على الرأس من زرد أو ديباج أو خِزٍّ أو غيرها ليقي الرأس من حديد البيضة … من هذه المادة الغفارة بالكسر — خرقة تلبسها المرأة فتغطي رأسها، وهي (الطرحة) عند العامة. والعقاد يستعمل المغفر دائمًا في معنى الدرع، وهو جهل عجيب.
وفي البيت الذي أوردناه يسب الرجل نفسه من حيث لا يدري، لأنه إذا كان شبان مصر يمنعهم دونه دروع أقذار وأقذاء، فهذه الدروع لا تكون إلا عليه، وهو لأنهم يقفون (دونه) ولا يقتحمونه لمكان هذه الدروع التي تحميه منهم وتمنعهم دونه، مع أنه يريد العكس، وأنهم هم الممنوعون منه، وهو الممتنع دونهم. والمعنى أن مقاذرهم تحميهم، فلا يمد المراحيضي يده إليهم، لئلا يصيبه منه القذر، وهو معنى بارد، ولم يحسن سرقته كعادته، فإنه من قول القائل:
فيا شبان مصر هكذا يصفكم العقاد ويشبهكم بالذباب الذي يشمئز الإنسان أن يناله بيده وإن هاجمه.
وقد نبهنا تفسير هذا اللغوي العظيم للمغافر بالدروع إلى تتبع بعض شروحه اللغوية في ديوانه، فإذا الرجل لغوي جرائد. كما هو كاتب جرائد، وشاعر جرائد، وفيلسوف جرائد، وسباب جرائد، وفي كل ذلك لا يساوي إلا ما يبلغ ثمن جريدة بضع مليمات!! فسَّر في صفحة ٢٤ السواري فقال إنها العمدان، وهذا الجمع في لغة العامة لا غير. وفي صفحة ٢٧ يقول: «يا للسماء البرزة المحجوبة»، وفسر البرزة بقوله: «البارزة الحسنة»، والكلمة في جملة معانيها ترجع إلى المرأة التي تبرز للرجال تجالسهم وتحادثهم، ولا تحتجب عنهم لقوة رأيها وعفافها وجلالها في قومها أو لبروز محاسنها، فترى أن لا تسترها، كما كانت عائشة بنت طلحة، ولا معنى أن تكون السماء (برزة)، لأنها لا تكون إلا برزة، وفي هذه الأرجوزة يقول في وصف السماء: «كأنها الهاوية المقلوبة»، ولا معنى ﻟ (هاوية) مع (مقلوبة)، إذ هي حينئذ لا تهوى بقرارها، وإنما ترتفع به فلا تسمى هاوية، فضلًا عن أنه لا يدخل في التصور أن تكون الهاوية مقلوبة. والمعنى مسروق من وصف تركي مشهور يشبهون فيه قبة السماء بالكأس المقلوبة، وهو تشبيه بديع، ووصف منطبق، فظن المراحيضي أن السماء لكونها أكبر من الكأس!! لا يحسن في تشبيهها إلا الهاوية. ولكن أين الضياء والنور وهما من وجوه الشبه في الكأس، إذ تشبه السماء الزجاج — ولا صفاء ولا نور في الهاوية، إذ هي انخساف في الأرض كانخساف عقل المراحيضي الذي لا يميز في التشبيه بين الكأس والهاوية.
وفي صفحة ٣٩ يقول في الشرح: خلق لكل عضو قرين في الجسم إلا القلب، إنه منفرد لا يكمل إلا بقلب آخر. وهذا كذب ولكنه صدق في العقاد وحده، لأنه رجل ذو وجهين، وذو لسانين كما يعلم من يعلم.
وفي صفحة ٤٢ يقول: الدساتين جمع دستان وهو الوتر (وتر العود ونحوه)، وإنما الدساتين هي هذه الخشبات التي تلوى عليها الأوتار ويسميها أهل الصناعة (الملاوي).
وفي صفحة ٤٣ يقول في شرح هذا البيت:
وفي صحيفة ٣٧ فسر والروض بالإثمار فينان، قال: فينان مثمر، ولا معنى للثمر هنا، ولا هو مما تعطيه المادة، لأن الفينان الطويل كالشعر والغصون وما أشبهها.
وفي صفحة ٥٤ يقول: الخوف فيها والسُّطا سيان، ضبط السطا بضم السين، وفسرها بأنها جمع سطوة، ولعلها جمع جهلة أو جمع غفلة! لا جمع سطوة. وهذه السطا يكررها العقاد ولا أصل لها في اللغة.
وفي صفحة ٦٤ يفسر الموق (موق العين) فيقول: الموق الحدق. فغلط في هذه الكلمة غلطتين، لأن الحدق جمع حدقة، ولا يكون الموق عيونًا كثيرة، ثم إن الموق وهو طرف العين مما يلي الأنف، وهو الذي يجري فيه الدمع، فما هو بالحدقة فضلًا عن الحدق.
وفي صفحة ٧٢ يقول في وصف الزهرة (النجم):
فسر العذق بأنه فرع. والعذق لا يقال لما فيه زهر، فعذق النخلة كباستها (سباطتها)، وكان يجب أن يقول: كأنها غصن ياسمين. ولكن من بلادة ذوق هذا الرجل تراه يستعمل ألفاظًا كثيرة يتباصر بها كأنه من المولعين بالغريب وما به ذلك، ولكن به أن يعلم تلاميذ المدارس ومحررو الجرائد أنه لغوي عظيم وإن جاء بالألفاظ الجافية والمهجورة أو المماتة، وله من هذه كثير بارد سخيف.
وشرح البيت الثالث فقال: كأن الزهرة وهي تلمع للناس من أعلى السماء وتغويهم للصعود إليها! حسناء تتصبى إليها المارة من أعلى حصن! ودون الوصول إليها حراس وأسوار! قلنا: ومع ذلك فيمكن دك الحصن وأسواره وقتل حراسه والوصول إليها، فهل يمكن كذلك الصعود إلى الزهرة؟
الحقيقة — والله — أن العقاد في منتهى السخف، وأن فيه روحًا ثقيلة ركيكة لا تدري أضُرِبَتْ على جسمها أم ضُرِبَ جسمها عليها؟
وفي صفحة ٩٢ يقول: الوادي الجديس، ويفسره بأنه المجدب، ولم يرد في اللغة إلا الجادس بهذا المعنى. ولكن العقاد يتصرف كأن اللغة أخبار تجيئه للنشر، فهنا يقول في جادس: جديس. وفي صفحة ٧١ يقول في صدئ: (صادئ)، «هيهات تصقل صادئًا»، فما عليه بعد هذا أن يقول حاسن في حسن، وجامل في جميل، وهكذا …
وفي صفحة ١٣٩ يقول: «يبنيك الملوك وصالًا»، وفسر وصالًا بقوله: متواصلين، فيكون جمع ماذا؟ جمع واصل أم جمع وصل اشتراك!! ومن الذي يقول: قوم وصال، أي متواصلون غير العقاد المراحيضي؟
وفي صفحة ١٤٥ يقول:
فسر الأضاة بأنها المرآة، وإنما هي الغدير يعكس ماؤه ما يرى فيه، وظاهر أنه لا يريده في بيته، بل يريد المرآة، وأين المرآة من الغدير؟!!
وفي صفحة ١٦١ يقول: «واشتقنا الحياة دواليًا» وفسرها بالتداول! ولا معنى لها إلا في ديوانه!!
وفي صفحة ١٦٥ قال: «حسن النجوم في الأفق تترى» وفسر (تترى) فقال: تتوالى، يعني أنها عنده من تَرى يترَى فهو تار أو ترن تِرن!! ما هذه المخازي اللغوية يا صاحب مرحاضه؟! إن تترى اسم ممنوع من الصرف لا فعل مضارع يا رجل.
فمن صرفها جعل الألف زائدة لا للتأنيث ومن لم يصرفها جعل ألفه للتأنيث. وقال الفراء: يقال تترى (بالتنوين) في الرفع، وتترى (بالتنوين) في الجر، وتترى (بدون تنوين) في النصب، والألف فيه بدل من التنوين.
فيا صاحب مرحاضه، ما لك وللشرح واللغة وأنت لا تفرق بين الاسم والفعل في كلمة مشهورة واردة في القرآن الكريم؟! أما والله لقد خرج شرحك على ديوانك كشرح أبي شادوف!!
وقد سئمنا هذه الأغاليط، فنقف منها عند هذا الحد.
ومن عامية هذا العقاد أنه يستعمل في نظمه «عمدان» جمع عمود، ورجل عميان أي أعمى، وشغلان من شغل، وسأمان من السأم، وغرقان [من غرق]، وكظان من الكظة، وخيطان جمع خيط، وكل ذلك عامي لا يعرف في اللغة. وله مثل هذا كثير.
ولنفتح صفحة أيضًا. قال المراحيضي في صفحة ١٢٤ يطلب صورة حبيبه:
بَرِّد يا حبيب المراحيضي، برد، فما أنت والله إلا أبرد منه!! ما أنت إلا لوح ثلج (يا بعيد)، ألا تراه يقول: آه لو يقرب (البعيد) … ليت شعري كيف خذلت العقاد في هذا عاميته الأصيلة مع أن النكتة في (البعيد) ظاهرة كل الظهور؟
ثم يقول إنه يقاسي بُعد اليأس على أن الحبيب قريب، وبُعد الديار، فكيف يكون قريبًا مع بُعد الديار؟ إن هذا ينقض ذاك، والمعنى مسروق محول من قول ابن الرومي في الرثاء:
والمراحيضي يذكر بُعدين سخيفين، لأن اليأس ليس بعدًا، بل إذا كان كما قالوا إحدى الراحتين فهو — ولا جرم — أحد القريبين أو أحد الوصلين، وانظر أين هذا من قول الشاعر المبدع الذي يعرف الحب ويعرفه الحب:
آه لو كان هذا الشاعر قال: «أفما لإحدى غيبتيك إياب» إذن لَجُنَّ العشاق بكلامه.
والبيت الثالث للمراحيضي في نهاية الركاكة، وأصل هذا المعنى في قول الأرجاني:
وفي صفحة ١٧٥ يقول:
وهو لحن، إذ يجب أن يقال: طيفًا وسوادًا عابرًا، ولا سبيل غير ذلك، لأنهما بيان لحالي الملازمة في النوم والسهد. ثم إذا لازمه حبيبه طيفًا في نومه فما معنى «سواد عابر» في السهد والأرق؟ «يكونش العقاد يتغزل خفير الحارة؟! لأنه وحده السواد العار طوال الليل في يقظة المراحيضي!!»
وفي صفحة ٦١ يقول:
وهو لحن، إذ يجب أن يقال: (حياء أم تغاضٍ؟) بالرفع لا غير، لتتم الجملة التي هي مقول القول.
وهذه القصيدة كلها معان ممسوخة، ولذلك خرجت من أبرد شعره. انظر قوله:
لا يُبرد نارَه ثغرُ حبيبه!! أين هذا من قول ابن الرومي، ومنه سرق:
هذا وأبيك الشعر، والبيت الأول وحده بخمسة وعشرين عقادًا، وقد مسخه هذا المغرور في قصيدته أيضًا.
ونقف عند أبيات ابن الرومي هذه، ليفرغ القارئ من نورها على روحه، فترحض عنها أقذار شعر المراحيضي أخزاه الله، فإن كلام هذا الثقيل لو ظفرت به الكيمياء الحديثة لأخرجت منه غازات ملوثة، وغازات مقيئة، وغازات للصداع، وغازات خانقة!
ولعل العقاد يعلم بعد الآن أنه في شعره ومقالاته كالمستنقع في قرية، هو كان عند نفسه «أقيانوس» القرية وصبيانها، ولكنه ليس كذلك لا في العلم ولا في الحق ولا عند غير الصبيان! ولا ينفعه شيئًا أن يستدل على أنه أقيانوس بتلك البواخر العظيمة السابحة فيه التي يسميها بلسانه بواخر، ويسميها الناس ضفادع …