تشو مو وانغ
[١]
كان في زمن الملك تشو مو [يعني: الملك «مو» سليل أسرة «تشو»؛ فلقب الأسرة الملكية يسبق اسم الملك]، أن جاء أحد السحرة من أقصى غرب الممالك، فنزل ضيفًا على القصر الملكي، وكان قد اشتهر ببراعته في السحر؛ إذ كان ينزل في قاع النهر ويجلس وسط النار (دون أن يحترق)، ويخترق أسوار الحديد والحجارة ويحيل الجبال الشواهق والتلال السامقة سهولًا تجري وسطها الأنهار ويجعل من المدن الآهلة بالسكان قرًى وضياعًا خالية من العمران؛ ويصعد في الهواء دون أن يسقط، وينفذ في الجدار الصلب بغير عوائق، قد أجاد من الحيل والقدرات الخارقة ما لا حصر له؛ فلم تقتصر عبقريته على التأثير في المادي الملموس (ذي كل جسم متعين ظاهر للحواس)، بل تمكن من النفاذ إلى باطن الوجود وأعمل فيه ألوانًا من التبديل، وصار الملك يتقرب إليه كأنه يسترضي إله السماء، وقام على رعايته والاحتفاء به، كأنه أحد ملوك الزمان، حتى إنه تخلى له عن أعظم قصوره الملكية؛ ليقيم فيه ضيفًا كريمًا، وقدم له أطايب الطعام [حرفيًّا: قدم له الثيران والضأن والخنازير]، وجاء له بأجمل الراقصات ليرفِّهن عنه، إلا أن الساحر لم يعجبه شيء من هذا كله، وعد القصر منزلًا حقير المنظر بغيض البناء، وازدرى الطعام وأشاح بوجهه عن الراقصات، متباعدًا عنهن بزعم أنهن دميمات الوجه منتنات الرائحة، فنقله الملك تشومو إلى مبنًى آخر، متين الجدران بهي الألوان، عظيم التشييد، متطاول الأركان، لا يجد النازل فيه عيبًا من أي وجه، وقد أنفق عليه الكثير حتى كادت الموارد تفنى. وبلغ القصر من بديع التشييد وعظيم الارتفاع أن صار يُسمى ﺑ «جون تيان تاي» [المنصة السماوية]، وتخير من بنات «جنغ»، و«ويه» [دويلتان متاخمتان، اشتهرت إناثهما بالجمال] أجمل الجميلات، وقد نضحت أجسادهن بالعطور وتلألأت جباههن ببريق الألماس، من أعناقهن تدلى الحلي، وقد تأودت أعطافهن وهن يخطرن في ثياب من حرير، وتوردت خدودهن بحمرة حلوة وتكحلت أجفانهن بالإثمد، وتزين بأساور من ذهب، وفاح المسك حولهن بأذكى عبير؛ بينما عزفت الموسيقى أنغام: «تشنغ يون»، و«ليو ين»، و«جيو يون»، و«تشن لو» [أشهر وأعذب الألحان، قديمًا]، وبذل جلالته غاية الجهد لإمتاع الساحر النازل في ضيافته، وجعل يهدي إليه أجمل الثياب وأثمن العطايا، ويقدم له أشهى الطعام والشراب، دون أن يجد الساحر في كل ذلك ما يبهجه ويرضي نفسه، ولم يكن سكناه في القصر الجديد إلا اضطرارًا، ثم لم يمضِ وقت طويل حتى تقدم الساحر إلى الملك «مو»، مستأذنًا إياه في الذهاب إلى رحلة ترويحية، وعرض على جلالته مرافقته، فما كان من الملك إلا أن لبى الدعوة وذهب مع الساحر الذي حلق عاليًا في الفضاء والملك متشبث بأهداب ثيابه، فلما بلغا أقصى مدًى، وهما طائران وراء السحاب، توقفا ثم تقدما على مهل؛ ليدخلا قصر الساحر، فإذا جدرانه مطعمة بالياقوت، وثياب أهله من الألماس واليشب النادر. وكان موضع البناء فوق قمم السحاب، وقد انتصبت أعمدته وحيطانه راسخة في أجواز الفضاء، وليس لها قاعدة معروفة، أو كأن طبقات من السحاب بعضها فوق بعض، تدعم أساس البناء الفخم فوق الهواء. والأشياء كلها، على نمط لم يخطر في بال إنسان، فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا أنف تشمم ولا فم ذاق مذاقًا مما يألف الناس في الدنيا. وشاهد الملك مواقع النعيم في جنات السماء، فتبدت أمام عينيه «تشين دو» [قصبة الصفاء]، و«تسي وي»، و«جون تيان»، و«قوان لي» [مواقع أسطورية لما تصوره القدماء جنات النعيم] وحدق الملك في مناظر الأرض، فإذا قصره المشيد بمقصوراته وأعمدته وأفنيته، يكاد لا يساوي شيئًا مما يراه في أعالي السماء، بل إنه بدا ككومة من القش أو الخرائب المندثرة، وشعر جلالته كأن الأيام قد طالت به في معراجه السماوي، وأن مقامه امتد لسنوات كثيرة، حتى نسي أمر بلاده. وجاء الساحر وطلب إلى الملك أن يتهيأ ليذهبا معًا في رحلة يطوفان فيها بمشاهد علوية، فلما انطلقا وتطلع الملك إلى أعلى، لم يرَ أثرًا للشمس أو القمر، ثم نظر تجاه الأرض من تحته، فلم يشاهد جبالًا ولا أنهارًا، فلما انبثقت أشعة من نور، زاغ بصر الملك وتحيرت مقلتاه، وإذا الأصوات في أذنيه صفير متصل، فاستولى عليه الخوف [حرفيًّا: تملك الخوف من أحشائه وقلبه] واضطربت نفسه للغاية، وتشوشت أفكاره، وتكدرت روحه؛ فطلب إلى الساحر أن يعود به من حيث جاء، فدفعه بيديه، فهوى من أعالي الفضاء، فلما أفاق من غشيته، وجد نفسه في مقعده وفي مكانه، والأشياء من حوله، كما هي والخدم وأفراد الحاشية يأتمرون بأمره؛ فتطلع أمامه، فإذا الخمر في الكأس لم ترُقْ بعد، للشراب؛ والطعام في الأطباق لم يبرد أو يجف؛ فالتفت الملك إلى الناس من حوله، متسائلًا عما حدث له، وإلى أين ذهب، ومن أين عاد، فقالوا له: «وجدناك قد غفوت قليلًا، وأنت جالس مكانك، منذ هنيهة.» فما إن سمع ذلك حتى زاد ارتباكه واشتد جزعه، وظل عليل النفس والبدن ثلاثة أشهر، استرد بعدها عافيته، ثم إنه ذهب إلى الساحر، وسأله عما حدث له بالضبط، فأجابه قائلًا: «كل ما هناك أننا ذهبنا معًا، في رحلة روحية، تأملنا فيها بأذهاننا بعض الأشياء، وما كان ممكنًا للأجساد أن تنتقل من مكانها (واسمح لي، بالمناسبة، أن أسأل جلالتك …) هل تجد فرقًا بين قصرك والقصر الإمبراطوري (الذي رأيته في السماء)، وهل يوجد أي فارق بين حدائقك وحدائق القصور العلوية؟ [… أحسب يا مولاي، أنه ليس ثمة فرق!] وإني أراك تألف ما يتبدل من الأمور، فإذا مست يد التغيير شيئًا من الأشياء حولك، أصابك الاضطراب (إذن، فاعلم أن …) التغيير لا نهاية له، والأحوال لا تثبت على قالب واحد أبدًا؛ فكل شيء يمضي إما سريعًا أو بطيئًا، وليس للسرعة أو البطء قاعدة ثابتة، بل هناك تقديرات متفاوتة.»
أنصت الملك مو إلى هذه الكلمات وهو منبسط الأسارير، منشرح الصدر؛ وصار من بعد ذلك زاهدًا في الترف واللهو مع المحظيات ونساء القصر، بل قد صرف النظر عن عزة الملك وجبروت السطوة الملكية، وقام يتجول سائحًا في أقصى الأرجاء، وقد أمر بإعداد مركبة تجرها ثمانية أفراس [كذا]: في أدنى اليمين فرسان، هما أشهر خيوله خببًا، وقد أسماهما: «هواجي»؛ وفي أدنى اليسار آخران من أجود الخيل، هما: «ليوار»؛ وفي أقصى اليمين جوادان آخران، أسماهما «تشيجي»، وفي أقصى اليسار فرسان يسميان: «بايي» ثم جلس الملك في المقعد الأوسط، وإلى يمينه قائد المركبة. وكانت تتبعهم عربة (يجرها ثمانية خيول …) في أدنى اليمين فرسان، هما: «تشيو هوانغ»؛ وإلى أدنى اليسار جوادان، هما: «يولون»؛ أما في أقصى اليمين، فكان يجرها فرسان يسميان: «شانزي»، وإلى أقصى الشمال جوادان آخران، هما: «تاولي». وقد جلس في مقعد القيادة «سانباي»، وإلى جواره مساعده «بنشيو». وانطلق الركب فاجتاز الأميال، حتى بلغ أرض «جيوسو»، واستقبل الأهالي الملك ورجاله بأعظم تحية، وقربوا له الكئوس، مترعة ﺑ دماء الإوز [كذا] فشرب الملك حتى ارتوى، ثم إنهم غسلوا أقدام الملك ورفاقه بحليب البقر (على سبيل الإجلال والتعظيم) وواصل الملك رحلته حتى استقر به المقام في وادي جبل «كون لون»، جنوب نهر «تشيشوي»، فما إن أهلَّ صباح اليوم التالي، حتى قام جلالته وأتباعه، فتسلقوا الجبل، وعند أعلى قمة أخذ الجميع يتطلعون، من هذا الارتفاع الشاهق، إلى قصر الملك، وعمدوا إلى الأحجار المتناثرة، فأقاموا منها كومة كبيرة، تذكارًا لمجيئهم، وعلامة يستدلون بها على ما بلغوه في هذه الرحلة، ثم نزلوا ضيوفًا على «شيوانمو» [الملكة الأم الأسطورية، ربة السطوة والنفوذ، ذات الصيحة العادلة، والشعر الفاحم المسترسل، بثغرها ذي الأسنان كفم النمر وذيلها القصير كذيل الفهد]، وملئُوا أكفهم بالماء من بحيرة «ياو» [بحيرة الجان] فشربوا وارتووا، وترنمت الملكة بأعذب الألحان، وغنت للملك أغنية أم تهدهد وليدها في المهد، وراح جلالته يردد النغم في صوت هادئ، فلما رأى الشمس قد مالت للمغيب، وكان قد أعياه طول السفر والترحال، تنهد قائلًا: «لم أنهل من الأخلاق الكريمة المنهل الحق، ولم آخذ منها بنصيب وافر؛ كم تلهيت وأفضت في المجون، ولا أظن أن سيخلفني إلا السائرون على درب أخطائي.» وكان أن تطهَّر الملك مو، حتى عاد كالملائكة، وحظي بعمر مديد، وعاش حتى تجاوز المائة، ولما رحل رحيل الموت، عرف الناس أنه قد عرج في الأعالي إلى جنة السماوات.
[٢]
ذهب «لاوتشنزى» [أحد نبلاء دولة سونغ، في العصر القديم] إلى «آينون» [أحد كبار الفلاسفة] ليتلقى أسرار العلوم (الطاوية) [الغيبيات] على يديه، لكنه بقي ثلاث سنوات دون أن يكترث له، فلم يتعلم أثناء هذه المدة أي شيء مما أراد، فتقدم الطالب إلى الأستاذ راجيًا منه أن يبين له أوجه النقص أو الأخطاء التي ربما يكون قد وقع فيها فحالت بينه وبين أن يتعلم على يديه، ثم إنه أعرب عن يأسه ورغبته في العودة إلى بلاده، لكن الأستاذ تبسط ودعاه إلى الجلوس معه والحديث إليه، وحده، دون باقي التلاميذ، قائلًا له: «كان أستاذنا لاوتسين قد قرر، مرة، فيما مضى الذهاب في رحلة بعيدة، فبينا هو يستعد للسفر، التفت نحوي، وقال: «(اعلم) أن كل ذي شهيق وزفير، وكل من ارتسم فوق جوهره قناع ظاهر، فهو محض زيف ووهم خيالي، إن ما بين السماء والأرض، وما بين الين واليانغ، هو ما يقال له الحياة والموت. إن فناء بعض أجزاء الوجود وتطور أحوال الوقائع وتغيرها تبعًا لحركة الأشياء الظاهرة، هو ما يسمى التغير، ويُطلق عليه أيضًا العماء المجهول. إن غموض أسرار الوجود الطبيعي وعميق معمياته وقدراته وطاقته، كل ذلك، يتحدى محاولة استقصاء التفاصيل والوقائع وسبر الأغوار. إن تغيرات ظواهر الأشياء بادية لكل عين والقوى الكامنة في باطنها لا تستعصي عن الكشف، وكلها لا تلبث أن تزول بمجرد أن تتبدَّى ملامحها، (واعلم) أنه لن ينال فرصة دراسة السحر عندي، إلا من لاحظ أن الموت والحياة لا يختلفان في شيء عن تلك التقلبات والتغيرات السحرية التي تبدو للناس في حال الغموض والأسرار بكل خفائها ودقيق بواطنها، ونحن جميعًا، أنا وأنت جزء من ذلك الخفاء الغامض المنطمس في الخيال … نحن مجرد خيال، فما الداعي لدراسة أوهام وخيالات؟» ثم إن لاو تشنزي عاد إلى بلدته، وأخذ يتأمل، بعمق، فيما تلقاه من كلمات «آينون»، وإذا به قد نفذ إلى فهم بواطن أسرار الوجود والفناء، بل إنه استطاع أن يتحكم في دورة وتغيرات الفصول الأربعة، حتى إنه بلغ القدرة على أن يذيب الثلوج بحرارة الشمس في الشتاء، وأن ينزل الجليد في الصيف، وأن يجبر الطائر على السير زحفًا فوق الأرض، وأن يجعل الزواحف تطير إلى أعلى الأجواء، لكنه لم يحاول أن يبرز أو يكشف عن مقدرته الفريدة للناس، أو أن ينقل أسرارها إلى الدارسين، فمِن ثَم انقطعت علومه عن التواصل (وفي ذلك يقول لاوتسي:) إن المتمكنين من أسرار القوى السحرية الخارقة، لا تلبث طاقاتهم (اقرأ: طاويتهم) أن تؤتي ثمارها، بشكل ظاهر، فوق الأرض؛ وبرغم مما استوثق في باطنهم من القوى والطاقات الدفينة، فليس في ظاهرهم ما ينم عن اختلافهم في شيء عن الناس العاديين. وربما يكون ما سمعناه عن الملوك الأقدمين وقداسة الأباطرة، محض كلمات جوفاء، لا تحمل دليلًا على منتهى البراعة والعبقرية، كما قد يقال، بل ربما كان، فيما تنجزه قوة الإرادة والإقدام، بضعة من غموض السحر وخوارق المعجزات … (أنا شخصيًّا، لا أعرف السر وراء ذلك) فهل يعرف أحد السبب الحقيقي؟»
[٣]
للمستيقظ من نومه ثمانية أحوال، وللحالم في نومه ست إشارات تنبئ عن المكنون؛ فهلم نذكر الأحوال الثمانية: فأولها، (أن يجد المرء نفسه مقبلًا على …) إتمام ما كان قد بدأ الاشتغال به من الأعمال؛ وثانيها، الشروع في نشاط جديد؛ وثالثها، إحراز النجاح في خاتمة جهد عظيم؛ ورابعها، النكوص عن جادة التوفيق؛ وخامسها، ارتسام علامات الحزن على المحيا؛ وسادسها، تهلل الملامح فرحًا وسرورًا؛ وسابعها، الاستمتاع ببهجة الحياة؛ وثامنها، الهلاك موتًا. (واعلم) أن تلك الأحوال تلخص ما يتبدى على الملامح الظاهرة من انفعال اللحظة التي تستقبل فيها النفس وارد عالم اليقظة عليها.
ثم ماذا عن أنباء الأحلام الستة؟ (تعالَ إذن، أقصها عليك …) فأولها، حلم يغشى النائم في الأحوال المعتادة؛ وثانيها، حلم يراه النائم إثر شعور شديد بالخوف؛ وثالثها، حلم يتراءى للحالم بعد إجهاد ذهني عنيف وتفكير عميق؛ ورابعها، حلم يستكمله النائم بعد إفاقة عابرة؛ وخامسها، حلم إثر مشاعر مفعمة بالبهجة؛ وسادسها، حلم يحوم على الراقد وهو في إسار الرعب والقلق. فهذه الأحوال الستة تنشأ عن اتصال عالم الروح بمجال الإحساس الواقعي.
إن الجهل بما ينشأ عن اضطراب الأحاسيس والوجدان، يثير البلبلة والغموض، لا سيما إذا عرض أمر يستوجب الفهم والتعليل. (والعكس صحيح، أيضًا) إذا ما توافر الوعي بكيفية حدوث التغيرات الوجدانية، فعندئذٍ يزول كل غموض وإبهام.
(اعلم) أنه ما من علة تصيب البدن، أو عافية تفيض عليه — وما من ضعف ينال منه أو قوة تشيع في أوصاله — إلا كان لها جميعًا صلة بما يلحق الكون [حرفيًّا: السماء والأرض] من تغيرات، كما أنها تتأثر بالموجودات القائمة في الواقع؛ ولذلك كان من غلبت على طبيعته خصائص اﻟ «ين»، يحلم بأنه غائص بقدميه في أوحال الفيضان الجارف، وقد استولى عليه الفزع الشديد؛ أما من كان خاضعًا لتأثير اﻟ «يانغ»، فهو يحلم بأنه يصطلي باللهب، بينما يقتحم كومة عظيمة من النار؛ فإذا كانت طبيعة المرء تشتمل على درجتين متكافئتين من اﻟ «ين» واﻟ «يانغ»، معًا، فربما رأى في الحلم أنه يتصارع مع أنداد، فهو إما قاتل أو مقتول.
من تناول من الطعام كفايته، فهو يحلم بأنه يتكرم على الناس بالعطاء أو يتقدم لهم بهدايا ثمينة؛ أما من خلت معدته، فهو يحلم بأنه يستولي على أشياء الآخرين، وكان من أنهكه المرض يحلم بأنه يرتفع إلى السماء؛ أما من أصابه كمد أو حزن دفين؛ بسبب مرض عضال، فيحلم بالغرق وسط الماء.
من نام متوسدًا كومة ملابس، يحلم بالثعابين والحيات؛ ومن رأى الطيور وهي تحمل الريش في مناقيرها، فإنه يحلم بالطيران. ومن الناس من يرى في حلمه نارًا هائلة، إذا كان قد أقام قبيل النوم في أجواء باردة ملبدة بالغيوم؛ ويحلم بالطعام من أوشك أن تفتك به الأمراض والآلام؛ وكثيرًا ما تمتلئ أحلام مدمني الشراب بالأحزان والهموم؛ كما يحلم المغنون والراقصون بالبكاء والدموع. (وبناء على ذلك فقد …) قال ليتزو: «إن الأحلام تنتج عن تلك اللقاءات (الصادمة) بين الروح وموجودات الواقع الخارجي؛ مثلما تنشأ الأحداث عن احتكاك الناس بشئون العالم (الموضوعي)، وهكذا تأتي أحلام الليل وهي تجادل أفكار النهار؛ وعلى هذا النحو، تتكيف الأرواح والأبدان، وفق طبيعة وظروف الاتصال بينهما.
إن أصحاب النفوس الهادئة والقلوب الخالية من الهموم، لا تطرق رأسهم بلبلة الأفكار ولا تزورهم في الليل الأحلام.
إن من أُشربت رءوسهم اليقظة والانتباه، لا يحتاجون إلى الثرثرة (فلا مجال للأحلام في ساحة الانتباه التام) واليقظة الواعية؛ تلك نتيجة حتمية تنشأ عن أحوال لها ضروراتها.
قد كان المتحققون بالطاو قديمًا، يقومون من فراشهم، وقد انتبهوا إلى كل شيء، إلا ذواتهم (… قد استغرقهم الطاو، فنسوا أنفسهم) وإذا ناموا لا يحلمون (هكذا، قيل) فهل يليق أن ننفي صحة هذا القول، بذريعة أنه مجرد كذب ولغو فارغ؟»
[٤]
في أقصى الجنوب الغربي، بلد لا تُعرف حدوده، ولا تتعين مواضع تخومه، يُقال له: «مملكة مانغ» ففي هذا الموطن، لا يأتلف اﻟ «ين»، واﻟ «يانغ»؛ لذلك لا يتميز الصيف عن الشتاء [حرفيًّا: لا تتميز البرودة عن الدفء] ولا يعرف ليل من نهار؛ لأنه لا تشرق هناك الشمس ولا يطلع القمر، ولا يرتدي الناس أردية، ولا يطعمون الطعام، ويطول بهم الرقاد (ثم إنهم) ينامون مرة كل خمسة عشر يومًا؛ ويرون في الأحلام الوقائع الحقيقية، وفي اليقظة الزيف والخيال؛ ووسط البحار الأربعة (الحدود من الجهات الأربع) تقع المملكة الوسطى، ويقال لها «تشون يانغ» [ذلك هو معنى اسم «الصين» حرفيًّا … «المركز الأوسط»] وتتجاوز حدودها النهر الأصفر شمالًا وجنوبًا، كما تتجاوز جبال «تايشان» شرقًا إلى غرب، بما يبلغ عشرة آلاف «لي»، وفي هذه البلاد يتآلف اﻟ «ين» مع اﻟ «يانغ» فتتميز الأوقات حيث تنقسم السنة إلى فصلين: شتاء وصيف، وينشأ حد واضح بين ظلمة الليل وضوء النهار، فيصير لليوم صباح ومساء، وينتشر بين الناس الذكي والعاقل، والجاهل والبليد، ويتكاثر كل شيء، فيتزايد الناس، وتتعدد طرائق العيش، ويقوم في المملكة قصر للملك وديوان للحكم والوزراء، يبسطون شرائع القانون فوق الجميع، وينشرون راية الأعراف والتقاليد، لصون العلاقات وحماية أواصر القربى بين الناس، حتى يعتاد الجميع طرائق في الفهم والعمل، على درجة هائلة من التنوع وفي نماذج متعددة (تتناسب مع تنوع الأمزجة)، بيد أن نظامًا يسود، فيلتزم الكل مواقيت معلومة في النوم واليقظة، وتصير جملة الوقائع التي يشهدها الناس حال اليقظة هي حقائق الوعي؛ وما يرونه في الأحلام هذاءات ليلٍ تراءت في المخيلة.
وفي أقصى زاوية الشمال الشرقي، بلد يُسمى «فولو»، تشتد فيه حرارة الجو للغاية، وتتركز أشعة الشمس والقمر هناك، على بقعة ضئيلة، وتنبت الأرض رديء الزرع والشجر، ويأكل الناس جذور الأعشاب وأوراقها؛ حيث يجهلون إنضاج اللحم على النار، وقد غلظت طباعهم، حتى استأسد القوي فيهم على الضعيف، فلا غلبة هناك إلا بالقوة الغاشمة، دون مراعاة للعدل والحق والفضائل، وهم جميعًا أيقاظ لا يهجعون، إلا قليلًا، ويمشون؛ إذا مشوا، هرولًا ونادرًا ما يخلدون إلى الراحة.
[٥]
كان الماجد «يين» — أحد سكان دولة تشو — ذا مال وأعمال وتجارة، وقد اتخذ لذلك عمالًا وأُجراء واصلوا الليل بالنهار في القيام بما أسنده إليهم، ولم يكن يمنحهم وقتًا للراحة، حتى إن أحد العجائز منهم كاد يُقضى عليه من كثرة الإنهاك، وبرغم ذلك، فقد كان الماجد لا يفتأ يطالبه بالمزيد من الجهد، فظل الرجل يئن طوال نهاره من وطأة العمل، حتى إذا جاء الليل وقع مغشيًّا عليه ثم ثقل النعاس في عينيه فنام مُجهَدًا، وعندئذٍ فقد كانت روحه تهيم في كل وادٍ، من ذلك مثلًا أنه كان يحلم في كل ليلة بأنه قد صار ملكًا، يتولى شئون البلاد تارة، ويقيم الولائم والمآدب في القصر الملكي تارة أخرى، حتى بلغ من اللهو والترف مبلغًا لا مزيد عليه، سواء بين الناس أو الملوك، ثم إذا به يستيقظ ويعود إلى العمل المضني، في خدمة سيده النبيل الماجد، صاحب الثروة والجاه، سامعًا مطيعًا في كل ما يأمره به. وكان الناس يواسونه في محنته عطفًا عليه لما كان يعانيه من شظف العيش والمشقة، وكان يقول لهم: «قد يعيش الإنسان مائة عام، يستهلك الليل نصفها بينما يستغرق النهار نصفها الآخر، وإذا كنت أعاني مرارة الكدح طوال النهار، فإني في الليل أستمتع ببهاء الملك متعة لا مثيل لها؛ وبالتالي، فلا يحزنني شيء.»
كان الماجد «يين» [تنطق كما في: «التليين»] منصرفًا، بكل طاقته، إلى إدارة أعماله وتجارته وشئونه المالية، وهي المسائل التي استولت على اهتمامه كله، حتى أصابه هو الآخر الإنهاك المفرط، فصار يخلد إلى النوم سريعًا، كأنما غشي عليه، كلما حل المساء، وفي الأحلام، يتهيأ له أنه أجير يقوم بأشق الأعمال، يكدح ليلًا ونهارًا، من دون راحة، والعمل مضنٍ بلا نهاية. وكم من مرة تعرض للسب والإهانة، بل الضرب والإيذاء، حتى تقطعت أنفاسه وهو يئن متوجعًا فيظل هكذا حتى يفيق من حلمه في الصباح، وضاق الماجد يين بما تراءى له في الأحلام وتكدرت نفسه للغاية، فقصد إلى صديق له، يطلب إليه المشورة، فقال له صاحبه: «لك من المكانة الكريمة والموقع العالي الشريف ما يضمن لك الجلال والرفعة؛ هذا بالإضافة إلى ثروتك الطائلة التي ترفع هامتك فوق أعناق الناس جميعًا، فإذا كنت تحلم في الليل بأنك عامل أجير (فهذا أمر طبيعي، يحفظ التوازن بين …) رفاهية النهار ومعاناة الليل، وهو منطق التضاد المعهود بين كفتي الميزان (لكي تنعم بالنهار، فلا بد أن تجرب شيئًا من الشقاء في الليل، أثناء نومك … على الأقل) أما إذا كنت تريد ليقظة نهارك وأحلام ليلك أن يشهدا لونًا واحدًا من السعادة التي لا مثيل لها، فهذا أمر يصعب تحقيقه (… أين يا ترى يمكن أن يتحقق لإنسان مثل هذا المطلب)؟» وبِناءً على كلام الصديق، فقد تأمل «يين» الموقف جيدًا، وأراح عماله من وطأة العمل المتواصل؛ بأن وضع للخدمة ميقاتًا معلومًا، وهنالك فقد تبددت هواجسه المضيئة وشواغل قلبه؛ وانزاحت أثقال الشقاء من تجارب النهار القاسية عند الأجير الكهل، وتراجع وخز الأحلام الكئيبة التي أثقلت أجفان أحلام الماجد «يين» في وقت واحد.
[٦]
كان أحد مواطني دولة «جنغ» في طريقه ليقطع الأشجار في البرية، عندما صادف أحد الغزلان، ويبدو أن الغزال ذعر لمرأى قاطع الأشجار، فأخذ يتلفت حوله متحيرًا، وعندما هم الرجل بالإمساك به فر هاربًا، فتبعه الرجل وطارده وقتله، وأراد أن يخفي الخبر عن الناس، فأسرع بدفن الغزال في أحد الجداول الجافة، وغطَّى جثته بأوراق الشجر، وارتاح جدًّا لهذه الفكرة، وصَفَت نفسه للغاية، وطوى الموضوع كله في صدره، وبعد فترة كان قد نسي موقع إخفاء جيفة الغزال، فظن أن الأمر كله كان مجرد كابوس ثقيل انتابه ذات ليلة، وطوال الطريق راح يدير الأفكار في رأسه، وهو يحدث نفسه بصوت مسموع، ولم يفطن إلى الرجل الماشي خلفه، الذي كان يتنصت عليه وسمع كل ما ناجى به نفسه، ثم إن المتلصص استطاع أن يهتدي إلى مدفن الغزال، فنبش التراب واستخرجه وأخذه إلى بيته، وقال لامرأته: «كان أحد قاطعي الأخشاب بالغابة قد رأى في حلمه وهو نائم أنه اصطاد أحد الغزلان، لكنه بعد أن أجهز عليه أخفاه في موضع سري، ثم نسي الموضوع، واستطعت الوصول إلى الغزال المدفون وأحضرته معي، أفتكون هذه الواقعة قد حدثت في الحلم، كما تخيل الرجل الحالم؟» أجابته امرأته، قالت: «أتكون قد حلمت أنت بقاطع الأخشاب وهو يصطاد الغزال ويخفيه؟ أمعقول أن يكون هناك حقًّا، قاطع أخشاب أخفى غزالًا مقتولًا؟! أحسب أنك إذا أحضرت الغزال معك، فستتيقن أن الحلم انقلب حقيقة، أليس كذلك؟» فقال لها زوجها: «عمومًا، فما دام الغزال قد صار بحوزتي، فلماذا أتعب رأسي حول ما إذا كان الرجل هو صاحب الحلم أم أنا؟» عاد قاطع الأخشاب إلى بيته متحسرًا على فقد غزاله، ونام كمدًا، فتراءى له في الحلم، الموضع الذي أُخفى فيه الغزال، بل رأى أيضًا الرجل المتلصص الذي استولى عليه، فما إن طلع النهار حتى تتبع آثار الحلم واهتدى إلى الرجل سارق الجيفة المخبوءة، فتنازعا كلاهما واحتدم بينهما الخلاف، ورفعا الأمر إلى القضاء ليفصل في النزاع، فقال القاضي للرجل: «مع أنك كنت قد اصطدت الغزال، فعلًا، إلا أنك ظننت أنه مجرد حلم، ثم لما اهتديت إلى مكانه كما تراءى لك في المنام، تيقنت أنه الواقع، وبالنسبة لخصمك، فقد اهتدى حقًّا إلى مكان إخفاء الغزال، ثم جئت أنت ونازعته فيه زاعمًا أنه شيء خاص بك، لكن زوجتك تقول إنه لم يلتقِ بك ولا عثر على الأيل إلا في الحلم، وهذا كله معناه أن أحدًا منكما، لم يصطد غزالًا. أما وقد تنازعتما على جثة غزال ملقاة أمامنا، نراها رأي العين، فإني أحكم بأن تقتسماها سويًّا.» وبلغ هذا الأمر مسامع جلالة الملك حاكم دولة «جنغ»، فقال: «عجبًا، وكأني بالقاضي قد تراءت له تلك القسمة في أحلامه.» ثم إن الملك أحال الأمر إلى الوزير لينظر فيه، فقال وزيره: «لا أستطيع القطع بما إذا كان مثل هذا الحكم قد صدر في الحلم أم اليقظة، فهذا أمر لا يمكن تبيان وجه الحقيقة فيه إلا على يد اثنين فقط من بين الناس جميعًا، هما: جلالة الإمبراطور، وكونفوشيوس؛ وبما أن كليهما قد ماتا وشبعا موتًا، منذ زمن طويل، فلست أرى أحدًا من الناس يقدر على الوصول إلى نتيجة حاسمة تميز الحلم من الحقيقة، وهكذا، فلسنا نملك في الظرف الحالي إلا أن نقوم بتأييد حكم القضاء.»
[٧]
كان في مدينة «يانغ لي» الواقعة بدولة «سونغ» رجل يُدعى «هوانزي»، ومشكلة هذا الرجل أنه أصيب بضعف الذاكرة، وهو بعد في منتصف العمر؛ كان ينسى كل الأحداث والوقائع: ينسى في المساء ما فعله في الصباح؛ وعندما يأتي صباح يوم جديد، يكون قد نسي ما جنت يداه في المساء السابق. ثم كان وهو ماشٍ على الطريق ينسى بغيته من المشي، فإذا عاد إلى منزله نسي أن يقعد لإتمام ما قد هم به من عمل، حتى إنه ما عاد يعرف أي الأمور انقضى وتم أداؤه، وأي المشاغل تبقى قيد الانتظار، بل إنه نسي ما فات في الماضي وما يتعلق بالمستقبل. وتشوش ذهنه للغاية؛ فلا عاد يعرف الفائت من اللاحق، وشعر أهل بيته بفداحة المأساة، وأصابهم الكرب، فطلبوا له كهنة القرابين والمنجمين دون فائدة، ثم استقدموا أمهر السحرة لتلاوة التعاويذ علها تأتي بنتيجة، لكن حالته لم تتحسن قط، وأخيرًا، فقد لجئُوا إلى الطبيب عساه يداويه ويزيل عنه الداء الوبيل لكن المحاولة لم تثمر شيئًا.
وقيل إن أحد شيوخ الكونفوشية، من أهالي دولة «لو» [تُنطق كما في «السلوم»] أرسل إليهم زاعمًا أنه يقدر على شفاء مريض النسيان، ويعيد إليه حيوية ذاكرته. والحق أن زوجة «هوانزي» وأولاده لم يبخلوا بشيء في سبيل علاجه، حتى لقد باعوا ما يملكون من ثروة وأراضٍ؛ طلبًا للدواء والوصفات العلاجية (الشعبية)، وكان أن قال شيخ الكونفوشية: «إن مثل هذا الداء لا يحتاج إلى المنجمين وخبراء الطوالع الفلكية، كما أن العلاج بالسحر لن ينجح في إبراء العليل، بل إن أجود التركيبات الدوائية لن تأتي بنتيجة حاسمة. فدعوني أجرب، وسأحاول أن أتكلم معه وأنفذ إلى ضميره، وأبدل له أفكاره، وأحول مجرى تأملاته الذهنية؛ فبهذا وحده، يتحقق له الشفاء التام.»
ثم إن الشيخ الحكيم نزع عن الرجل ملابسه الثقيلة؛ وذلك على نحو مقصود، بهدف تعريض جسده لتيار الهواء البارد، وبالتالي يضطره إلى طلب الدفء، ومنع عنه الغذاء حتى أصابه الجوع، فصار يتلهف إلى الطعام ويلح في طلبه؛ وأجبره على الجلوس طويلًا في حجرة مظلمة، حتى إذا ضاقت نفسه بالظلام الحالك اشتاق إلى النور وسعى في طلبه. وراح الشيخ الكونفوشي يقول لأهل الرجل في ثقة ورضا: «ما أسهل أن يبرأ صاحبكم من علته، ذلك — بالنسبة لي — أمر هين جدًّا، لكني أطلب بل أرجو منكم شيئًا واحدًا، ألا وهو التكتم الشديد على طريقة العلاج، وعدم إذاعة أي شيء مما يتصل بأساليبي العلاجية على الناس، فهي أشياء ورثتها عن أجدادي ولا يمكنني الإفصاح عنها؛ ولأني سأستمر الآن في بعض تلك الطرق العلاجية، فليتكم تتركونني بمفردي مع المريض، وتفصلون بيننا وبين كل تلك العيون والآذان المحيطة بي، فسوف أقيم معه مدة أسبوع.» وصدع الأهل بالأمر، وهم لا يعرفون الوسيلة التي سيلجأ إليها في علاجه لمريضهم، ولحسن الحظ، فقد تم له الشفاء العاجل من مرضه الذي لازمه طويلًا. فلما استرد «هوانزي» صحته وقوة ذاكرته، انتابه غضب شديد، وانهال على امرأته باللوم والتأنيب، وهاج في البيت صارخًا، وبطش بأولاده، ثم تناول السكين وجرى وراء الشيخ الحكيم يريد الفتك به، ولم يهدأ إلا بعد أن أحاط به الناس وقيدوا يديه ورجليه، وسألوه: ما الخطب؟ فقال لهم: «كنت وأنا معدوم الذاكرة، أعيش في فراغ تام [كذا] لا أعرف ما الأرض ولا السماء؛ ولا كان يشغلني أن أعرف إن كان هناك أرض أو سماء، لكني الآن، وبعد أن وعيت كل شيء وعاودتني الأفكار [السوداوية] أصبح الفهم عبئًا قاسيًا، وهموم الماضي صارت ثقيلة الوطأة، فإذا بي أمام ذكرى سنوات من المكسب والخسارة، والحياة والموت، والحزن والفرح، والخير والشر؛ فتشابكت كل هذه الجوانب واختلطت فوضى الأشياء في رأسي، ولا أدري إن كنت في مستقبل الأيام سأجرب مرارة ذلك الخبال مرة أخرى، أم لا. إن أكثر ما أخشاه هو أن يرتبك ذهني أمام الخير والشر، والوجود والفناء، والأحزان والأفراح، والفوز والخسران؛ فيما يرد عليَّ من موارد الأيام القادمة، آه؛ ليتني أعود، ولو للحظة قصيرة، إلى الزمن الذي كنت فيه كثير النسيان!» ولما بلغ أمر هذه الحكاية مسامع «تسيكون» [تلميذ كونفوشيوس] استغرب جدًّا، وقص على كونفوشيوس الخبر، فقال له الحكيم الأكبر: «هذا أمر يغمض عليك استيعابه.» ثم التفت ناحية «يان هوي» [تلميذه] وأمره بتدوين تلك الواقعة.
[٨]
كان للسيد «بان»، المقيم بدولة تشين، ولد اشتهر بالنبوغ والذكاء، وظلت عبقريته مضرب الأمثال، وهو في مقتبل العمر وشرخ الشباب، حتى إذا بلغ أواسط سني حياته، خبا توقد ذهنه واختل عقله، وصار يأتي بتخليطات مضطربة؛ فكان إذا انطلق بجواره صوت المطربين، تهيأ له أنهم يبكون، وبدت الألوان البيضاء، لعينيه، كأنها سوداء، وإذا فاح العبير، ظنه رائحة منتنة، وكان يتناول الحلوى ويخالها مرة المذاق، وكثيرًا ما كان يقترف الأخطاء ويظن أنه يحسن صنعًا. وقد تشوش وعيه، فما عاد يدرك كنه الأرض أو السماء أو الشتاء والصيف أو النار والماء، أو الاتجاهات ومسارات الأشياء. وهنالك تكلم السيد «يانغ» مع والد الشاب المعتوه، قائلًا: «هناك كثيرون ممن يملكون القدرات السحرية من أهالي دولة «لو»، ولعلك واجد بينهم من يشفي ولدك، فاذهب إليهم وجرب طرائقهم.» فقام والد المريض وقصد إلى، حيث أشار إليه الرجل، باحثًا عن العلاج الحاسم للداء، فبينا هو على الطريق، مارًّا بدولة «تشن»، إذ صادف لاوتان [لاوتسي، بلقب آخر]، فتكلما معًا، وتطرق الرجل في حديثه إلى مرض ولده، فقال لاوتان للأب الحزين: «وما يدريك أن ابنك مخبول؟ (ألأنه لا يفرق بين الخطأ والصواب!) انظر إلى الناس الآن، إنهم أيضًا لا يفرقون بين الخطأ والصواب، ولا هم يبصرون أوجه النفع والاكتساب، ويتناءون عن الضر والخسارة، والمبتلون بتلك الآفة هم الجم الغفير من الناس، وأقول لك الحق، لم يعد الآن أحد يملك وعيًا أو دراية [حرفيًّا: الكل فاقد الوعي] ومع ذلك، فلن تجد بينهم من يستطيع أن يصلح شأن جماعة من الناس، ولن تستطيع جماعة من أولئك المخبولين أن تصلح شأن مدينة حمقاء، ولن تقدر مدينة حمقاء أن تعيد مملكة إلى صوابها، ولن تملك مملكة من المجانين أن تداوي العالم من شرور عقله، وإذا فقد العالم كله عقله، فمن ذا يستطيع أن يزيل عنه مس الجنون، ويهديه إلى الرشاد؟ وإذا افترضنا أن البشرية قد ورثت عن أجدادها ميراث الهذيان والجنون والتخليط، من ذلك النوع الذي أصاب ابنك في عقله، فلا بد أنك أيضًا مصاب بشيء من ذلك الداء. إن الفرح والألم، والصواب والخطأ، والعطر والدخان [كذا]، كلها لا سلطان لأحد عليها. تلك أمور لا تنصلح أو تفسد بالإرادة. ثم إن كلامي، هذا، الذي أقوله لك لا يسلم من الخبال وعوارض الهذيان، ولا أظن أن القوم من أهالي دولة لو، إلا شر المجانين على الأرض كافة، فأنى لهم أن يحلُّوا عقدة الذاهلين وأنى لهم بعلاج العقول المضطربة (بينما عقولهم أبشع اضطرابًا)، هيا قم واحمل مخلاتك وعد بأسرع طريق إلى بيتك.»
[٩]
كان أحد أهالي مملكة يان، ممن قضوا سني النشأة الأولى على أرض الوطن، قد هاجر إلى دولة تشو، حيث استقر به العيش حتى الشيخوخة، ثم أراد الرجل، وهو في هذه السن، أن يعود إلى مسقط رأسه، فقام وشرع في السفر، فبينا هو على الطريق، بعد أن دخل حدود دولة جين، بدا لمرافقيه في السفر أن يمازحوه، فأشار أحدهم إلى سور المدينة قائلًا للشيخ: «تلك هي عاصمة دولة يان.» فراح الشيخ يتطلع، من بعيد، إلى المدينة في شجن وإجلال، ثم أشار المرافق ثانية، نحو معبد القرابين قائلًا: «وذلك هو المعبد الكبير.» فتأوه الشيخ في خشوع، ثم أشار الساخر إلى بعض المنازل قائلًا: «وتلك هي دار أجدادك، في تلك الناحية.» وهنالك، انهمرت دموع الكهل وانتحب بصوت مسموع، وأخيرًا فقد أشار العابث نحو مقبرة على الطريق، قائلًا للشيخ المخدوع: «وتلك هي مقبرة أجدادك.» فعظم بكاء الرجل للغاية، وعندئذٍ سكت المرافق قليلًا، ثم ضحك عاليًا وهو يقول للمنتحب: «إنما كنت أمازحك، وليست هذه دولة يان، بل هي مملكة جين.» فخجل الشيخ؛ إذ انطلت عليه المزحة، فلما نزل أرض يان وعاين سور المدينة ومعبدها الكبير ومقابر أجداده، كانت مشاعر الحزن والتأثر قد تراجعت كثيرًا عن ذي قبل.
وقد ورد هذا الباب في إحدى الترجمات إلى الإنكليزية تحت عنوان «الأحلام»، ربما بسبب كثرة إشاراته التي تحمل دلالات تتصل، على نحو أو آخر، بفكرة تأمل العالم عبر منظور خرافي، لكن العنوان الأصلي، في النسخة القديمة المكتوبة بالصينية الكلاسيكية يرد كما أثبتناه في صدر هذا الباب.