لي مينغ
[١]
فإذا كنت تملكين من القوة ما يمكنك من تغيير الأحوال، فلماذا ينبغي عليك أن تطيلي عمر البعض وتقصري سن البعض الآخر من الناس، وأن تجعلي الحكماء القديسين في عسر، والخبثاء الجاحدين في غاية اليسر، وأن تحكمي على النبلاء بمنزلة أدنى من الأنبياء، وأن تلقي بالأخيار في حمأة الفقر، وبالأشرار في ساحة الثراء الوافر؟» فقالت له القدرة: «لو سارت الأمور على نحو ما تلمح إليه، لما كانت لي أية أفضال على الناس؛ بل قل لي أنت، ألم تصبح الأحوال على مثل هذا (التناقض) بسببك وبحكم سيطرتك وتوجيهاتك وقضائك؟» فأجابها القدر قائلًا: «انتبهي إلى أن اسمى هو «القدر» … فأين أنا من «السيطرة» و«التوجيه» (ألا فاعلمي أنه …) لا سلطان لي على الموجودات، وكل ما هناك أني أدع كل ماشٍ يمشي، وكل متقاعس أهيئ له مقعدًا، فلا ينهض عندي إلا كل ناهض، بفاعلية اندفاعه [كذا] ولست أدع القاعد لمشيئة نكوصه وخذلانه، فسواء طال عمر أو قصر، ضاق المعسر أو تيسرت به السبل، تمجد المرء أو تردى في حضيض المنزلة، أصاب الغنى أو الفاقة؛ فذلك كله يرجع إلى المرء نفسه، ولست أفقه ما وراء اختيار الناس لهذا السبيل أو ذاك، فمنذ متى كان القدر يفقه العلل والأسباب؟»
[٢]
تكلَّم «بيكون تسي» مع «شيمن تسي» [هذان اسمان مختلفان، كقولك — في العربية — لامرئ ما «زيد»، وللآخر «عمرو» فيما يشار به، مطلقًا، إلى اثنين من الناس، دون تخصيص] فقال له: «نعيش كلانا، أنا وأنت، في ظروف واحدة ومجتمع واحد، ومع ذلك، فأنت تجد من يمنحك النفوذ والسطوة والجاه العريض؛ ورغم أن كلينا أبناء عائلة واحدة؛ لكنك وحدك تحظى بالاحترام والتبجيل، وقد تكون لنا الملامح نفسها، لكنك وحدك تفوز بالعطف والحب الغامر؛ وها نحن، أنا وأنت، نتكلم لغة واحدة وكلامًا هو الكلام نفسه، بيد أن كلامك هو الذي يلقى الاهتمام والآذان الصاغية. ولعلنا نمارس أنشطة واحدة، لكن ما تقوم به، هو فقط الذي يصبح محل ثقة؛ ثم إننا نقوم بوظيفة رسمية واحدة، لكن لا ينال الترقي سواك. وقد نفلح الأرض معًا، لكنك وحدك تغل الثراء والنعمة الوفيرة، أو نعمل بالتجارة يدًا بيد، ولا تكون الصفقة الرابحة إلا من نصيبك، ثم إني لا أجد من الثياب إلا خشن الملبس، وليس في أطباقي إلا حنطة سمراء ولا أجد عريشًا لمنزلي سوى القش والحشائش الجافة، وإذا خرجت أتجول في الأسواق، لا أجد سوى أقدامي المرهقة تحملني أينما ذهبت، لكنك تلبس الديباج والفاخر من الثياب وتأكل الناعم من الحبوب [حرفيًّا، والإشارة هنا إلى الأرز والدقيق النقي] وتقيم في بناية عالية الجدران وتخرج للنزهة في عربات تجرها الخيول المطهمة [حرفيًّا: تجرها الخيول الأربعة، إشارة إلى سعة الحال ووافر الثراء] وإذا أتيت إلى بابك، استقبلتني بفتور، أو زرتك في عملك، بلغ بك الغرور مبلغه. ولم يحدث مرة أن أومأت إليَّ بالتحية، أو دعوتني إلى التنزه معك في رياض المدينة، وقد طال بك العهد على ذلك المسلك، ودامت بيننا الأيام على هذا المنوال، فهل يرد ذلك كله إلى ما تعتقده في نفسك من أنك أفضل مني علمًا وأخلاقًا؟» وأجابه «شيمن تسي» قائلًا: «لا علم لي بحقيقة المسألة كلها، لكنك طالما كنت تجد من أمرك عسرًا، بينما كنت أنا أجد في إنجاز الأعمال كل اليسر والسعادة، فربما كان ذلك دليلًا على درجة من الفرق في المهارة والمزاج (أخلاقيًّا)! هذا، رغم إصرارك بأننا كلينا متقاربان في كل الصفات والمزايا، وهو القول الذي يدل على سذاجتك وصفاقة وجهك!» ولم يجد «بيكون تسي» ما يقوله، فعاد أدراجه متجهمًا عابس الوجه، فصادف في طريقه السيد «دونقو» الذي ابتدره سائلًا إياه، قائلًا: «أين كنت الساعة، حتى تمشي وحدك مقطب الجبين، مرتبك المشاعر هكذا؟» فأطلعه شيمن تسي على ما دار بينه وبين بيكون تسي من جدل، فقال له السيد دونقو: «ربما استطعت، بطريقة ما، أن أذهب عنك الانكسار والغم، فتعالَ معي نرجع فورًا إلى بيكون تسي، نستقصي لديه بعض المسائل.» (ثم إنه التقى ﺑ «شيمن تسي»، و…) سأله قائلًا: «أيمكن أن تكون قد أفرطت في تجريح السيد بيكون تسي؟ فاذكر لي، فمن فضلك، ما دار بينكما.» فأجابه شيمن تسي بقوله: «كان السيد بيكون تسي يجادلني بقوله إنه لا فرق بين كلينا سواء في الناحية الاجتماعية أو العائلية، في العمر أو الملامح، في الكلام أو التصرفات، ومع ذلك فقد ظهر التباين بيننا في المكانة الاجتماعية ودرجة الفقر والغنى، فقلت له … لا علم لي بحقيقة ما تحدثني عنه، لكنك دائمًا كنت تجد من أمرك عسرًا، بينما كنت أنا أنجح في إنجاز أعمالي، بكل يسر وسعادة، فربما كان هذا هو السبب في تلك الفوارق بيننا في المهارة والعلم والأخلاق. وبرغم ادعائك أننا متقاربان، فلست أراك إلا صفيق الوجه، ساذج القول.» وهنالك قال له دونقو: «أرى أن تركيزك انحصر في الفرق بين الرفيع والوضيع من القضايا، في حين أن الإشارة، في معنى الكلام، كانت تتجه أصلًا لإبراز الفرق في الجوانب العلمية والأخلاقية. والقول عندي، في مسألة الفرق بين المكانة الرفيعة والوضيعة يختلف عما تراه وتقول به، ولئن كان بيكون تسي يتمتع بدرجة عالية من المهارة والأخلاق، إلا أن يد القدر قاصرة دونه، في الوقت الذي تفوز أنت فيه بكل عطايا الأقدار، ويقل نصيبك من العلم والأخلاق، ولئن كان صحيحًا أن إنجازك للأعمال يتم في يسر وسعادة، فلم يتم ذلك لك، عن ذكاء وموهبة؛ مثلما إن الفقر الذي أصاب بيكون لم يأتِ نتيجة لحماقته وغبائه، بل هو كله صنيع الأقدار، لا أكثر! تلك أشياء تقصر دونها المقدرة الإنسانية.
فأنت تزهو بما كتبه لك القدر، وبيكون تسي يحزن لما قدرته له الأقدار، فكلاكما عاجز عن فهم منطق الطبيعة.»
وهنالك قال له شيمن تسي: «ليتك يا سيدي تقف بنا عند هذا الحد من الكلام، ومن جانبي فلست مستعدًّا أن أعيد ما قلته آنفًا.» فلما عاد بيكون تسي إلى بيته كان ملبسه خشنًا، لكنه شعر أنه يمنحه الدفء كأنه رداء من أثمن الفراء، وكان طعامه من الحنطة السوداء، لكنه وجد له مذاق أنقى الحبوب، وكان مسكنه بكوخ من قش، بيد أن المنزل بدا وكأنه بناية شاهقة الارتفاع والفخامة، وعندما جلس في مقعد من الحشائش الذابلة، وجد فيه الراحة، كمن جلس في عربة ذات أربعة جياد رامحة، وصار يسعد بحياته، على هذا المنوال، دون أن يستقصي أسباب الشرف أو الدناءة، عند هذا أو ذاك من الناس، فلما علم السيد دونقو بما آلت إليه أحوال بيكون تسي من تغيير، قال: «إن بيكون تسي يعيش حياته المضطربة المشوشة كأنه في حلم طويل، لكنه من السهل أن يفيق؛ ذلك أن مجرد جدال عابر يمكن أن يوقظه من أعماق الغفلة.»
[٣]
كان «كوانيو» و«باوشويا» صديقين حميمين، جمعت بينهما الألفة والمودة والإقامة في دولة تشي، وكم كانت ﻟ «كوانيو» من أيادي فضل على كثيرين، فهو؛ مثلًا، لم يكن يبخل بخدماته على واحد مثل «قون تسي جيو» وكم تفانى في العمل على تسهيل مصالح «قون تسي شياو باي». وكان الكثير من أبناء العشائر في دولة تشي يلقون محاباة وعطف جلالة الملك، لا فرق في ذلك بين الأبناء المنحدرين من أصلاب العشيرة وبين جيرانهم (أو أقاربهم من طرف بعيد) لكن هذا الود المتصل بين طرفي العشائر، أثار خشية الأهلين من حدوث ما لا يحمد عقباه؛ كأن تتطور الأمور على نحو سيئ، فيحدث عصيان داخلي أو تمرد مسلح، فتدب الفوضى في البلاد، وكان أن قام «كوانجون» و«جاوهو» [أحد وزراء تشي] بتهريب قون تسي جيو إلى دولة لو، ومن جانبه فقد أقدم باو شويا بتهريب قون تسي شياو باي إلى دولة «جيو»؛ وقد تحققت خشية الأهالي من وقوع الاضطرابات، ذلك أنه ما كاد يمضي وقت طويل، حتى قاد «قون سون أوجي» عصيانًا أهليًّا مسلحًا، فأطاح بالعرش الحاكم، وتنازع كرسي المملكة اثنان، هما: قون تسي جيو، وقون تسي شياوباي، وهو ما أثار بينهما التنافس على سرعة العودة إلى البلاد، وقامت الحرب بين كوانيو وقون تسي شياو باي على الطريق بين دولتي تشيو وجيو، وكادت إحدى الضربات أن تصيب شياوباي في مقتل (انطلق السهم وعلق بصديريته، دون أن ينفذ في جسده) وجاء في الأخبار أن شياو باي قد ترقى العرش وصار ملكًا على البلاد، وراح يمارس ضغوطًا كثيرة على دولة «لو» لكي تقوم باغتيال قون تسي جيو، وهنالك اضطر جاوهو إلى الانتحار، أما كوانيو فقد تم القبض عليه وألقي في غياهب السجن، وراح «باو شو» يتكلم مع «خوانكون» (حاكم دولة تشي) قائلًا له: «إني على ثقة تامة من أن كوانيو يملك من الاقتدار والبراعة ما يمكنه من ضبط أحوال بلادكم.» فرد عليه خوانكون قائلًا: «بل هو ألد أعدائي، كم أود أن أطيح برأسه.» فقال له باوشو: «بلغني أن الحكماء من قديم، قد قالوا … لا ينبغي للماجد الكريم أن يكون له خصوم أو أعداء، فما بالك إذا كان الرجل الذي أحدثك عنه قادرًا على بذل أعظم خدماته لجلالتكم، بل ليس هناك من هو أقدر منه على ذلك، إذا كنتم تفكرون حقًّا في أن ترتفع رايتكم فوق الممالك وأن تبلغوا ذرى القوة والهيمنة فوق دول الأرض جميعًا، فلا معدى لكم عن اتخاذ كوانيو عونًا ورفيقًا. إن ثمة ما يدعوني إلى التأكيد لجلالتكم على ضرورة عفوكم عنه!» فما كان من الملك خوانكون [مجرد لقب آخر من ألقاب حاكم دولة تشي] إلا أن استدعى إليه كوانجون، وقامت دولة لو بإعادة كوانيو إلى دولة تشي، وكان باوشو حاضرًا على وجه الخصوص؛ لاستقباله عند تخوم البلاد حيث تمت إجراءات العفو التام عنه، وقد حفظ له الملك مكانته وعامله على النحو اللائق به، بل إنه تكرم عليه بتعيينه نبيلًا للعائلتين الشريفتين: «قاو»، «كوه»، ولم يأنف باوشو من أن يعمل تحت إمرته، مرءوسًا له، وبذل له الاحترام والتقدير باعتباره واحدًا من المسئولين الحكوميين الكبار، وكان يناديه، على سبيل التبجيل، بلقب «جونفو»، وأثمرت هذه السياسات نتائج كان من شأنها أن صارت لدولة تشي السطوة الغالبة فوق الممالك، وأصبح حاكمها خوانكون سيدًا للأباطرة، وهنالك تنهد كوانجون قائلًا: «كنت وأنا صبي فقير قد اشتغلت بالتجارة مع باوشو، فكان يحتفظ لنفسه بنصيب الأسد عند توزيع المكاسب، وهو يظنني مترفعًا عن الطموح، باعتباري ربيب نشأة فقيرة قانعة بالقليل، وكم تواطأت مع باوشو في خطط ومكائد، باءت كلها بالفشل، ومع ذلك فهو لا يعدني سفيهًا عديم الفهم ذلك أن الفرصة السانحة قد تثمر أعظم النتائج أحيانًا، وقد تبوء بالفشل في أحيان أخرى. ثم إني توليت مناصب رسمية ثلاث مرات، طردني الملك منها جميعًا، ولم أسقط من عين باوشو؛ وكان السبب في كل ما حدث هو أن الفرصة المناسبة لم تكن قد واتتني بعد. وحدث أني شاركت في ثلاث معارك، هربت من ساحاتها مهزومًا، دون أن يعدني باوشو جبانًا رعديدًا، وقد تفهم ضعفي أمام الظروف الصحية المتدهورة لوالدتي الطاعنة في السن. والآن، فقد ضاعت مكانة قون تسي جيو بعد أن أفل نجم سطوته، وقد قرر جاوهو أن يبتعد عن الدنيا كلها، فكان السجن من نصيبي، وكم جربت في زنازينه من الذل والمهانة، ولم يكن باوشو يراني صفيق الوجه، ذليل الجبين، وإنما كان يقول دائمًا بأني لا يجب أن ألتفت إلى المسائل الشخصية التافهة قدر اهتمامي بعظائم الأمور ونصرة القضايا الأساسية الكبرى وسط الممالك، وأن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يخلف عندي شعورًا بالإهانة هو التقاعس عن الجدية الواجبة نحو تلك القضايا، ولئن كنت ابن أبي وأمي بالميلاد، فأنا ولد باوشو بالتأييد والفهم؛ إذ أتيت إلى الدنيا في كنف رعايته ونصرته!»
ذلك بعض مما تدور به كلمات الثناء على ألسنة المتكلمين الذين يذكرون بكل الخير تلك الصداقة الحميمة التي يعرف قدرها رجال مثل كوانيو، وباوشو؛ أضف إلى ذلك، طبعًا، ما تفضل به جلالة الملك خوانكو من إسناد المناصب للحكماء ذوي الجود والنبالة والخصال الكريمة.
ومع ذلك، فليس هناك في واقع الأمر أي شيء (فيما يذكر) يتصل بالصداقة الحميمة، وليس هناك ثقة تدفع لإسناد المناصب العليا لذوي الفضائل، ثم إنه لم يعد هناك، أصلًا، شيء اسمه الصداقة أو شيء اسمه إسناد الثقة لذوي الفضل. (واعلم أنه …) لم يكن جاوهو ليقدم على الانتحار والخلاص من حياته ولكنه اضطر إلى هذا التصرف؛ ولا كان باوشو قادرًا على الذهاب إلى الملك والتوصية بتعيين ذوي الفضل، إلا لأنه لم يجد وسيلة أخرى لتحقيق غرضه؛ واعلم أيضًا أن (الملك) خوانكون ما كان ليتخذ عدوًّا له عضوًا في سلك النبلاء، إلا بدافع الاضطرار وبحكم الضرورة.
عندما مرض كوانيو ذهب إليه شياوباي ليعوده، وقال له: «قد اشتد المرض على جونفو (… عليك، يا سيدي الكريم) فلا مفر من أن أقتحم ما كنت أتحاشى ذكره آنفًا … فماذا لو ساءت بكم الأحوال درجة أبعد مما أجدك الآن عليه، كيف نتصرف؟ وإلى من توصي بإدارة الشئون العامة يا سيدي؟» فسأله كوانيو قائلًا: «قل لي أنت، لمن تكون الوصية، في رأيك؟» فأجابه شياو باي قائلًا: «أرى أن باوشو هو الأنسب.» فرد عليه كوانيو بقوله: «كلا، بل هو آخر من يصلح، وإذا كنت أعرف له شرفه ونزاهته وأخلاقه الكريمة، إلا أنه وبسبب فضائله الجمة، لن يرحم من هو تحته، ولن يغفر لمخطئ زلته، فمثل هذا الشخص لو تولَّى شأنًا رسميًّا، فسيورط الكبار معه [حرفيًّا: سيورط الملك فيما لا داعي له] وسيقف للصغار بالمرصاد [حرفيًّا: سيناوئ الناس في كل كبيرة وصغيرة] ولن يمضي وقت طويل حتى يسيء إلى القصر نفسه!» فقال له شياوباي: «فمن، إذن، تراه مناسبًا؟» فأجابه بقوله: إذا لم تتحسن حالتي، فمن رأيي أن يخلفني «شيبنغ»، فهو الرجل الذي يستطيع أن يكسب ود كبار الموظفين وأن يتغاضى عن شئونهم ولن ينفر منه مرءوسوه أو يهرب عماله من وجهه، وسيلوم نفسه كثيرًا إذا تدنت أخلاقه عن المعيار الأسمى، بينما سيكون رحيمًا ومتجاوزًا عن مرءوسيه الذين تباعدوا عن معيار الأخلاق درجات. إن من يتجاوز عن الناس، في خلق وسماحة، هو القديس الحق، ومن يتصدق بماله هو الفاضل الأمجد. لكن من يتعالى فوق الناس، فلن يكون موضع ثقتهم وتأييدهم، أما من يقنع بالتواضع بينهم [حرفيًّا: تحتهم] وقد أغضى عن عراقة منبته ونبالة نشأته، فهو المؤيد الفائز بالعون والنصرة من كل حدب وصوب، فذاك رجل لن يلح في طلب استقصاء (الكبير والصغير) من الأمور، ولن يشغله شيء من شئونه الذاتية، إذا اشتدت وطأة المرض، فسيكون شيبنغ هو الرجل القادر على تسيير دفة الشئون الحكومية في البلاد. إن هذه الكلمات الصادرة عن كوانيو لم تكن قادحة في باوشو، ومع ذلك، فلم يكن مفر من أن تبدو كذلك، وهي أيضًا لم تكن، في الأساس، إكبارًا وتحية كريمة لشخص شيبنغ، لكنها ظهرت على هذا النحو (على الرغم من قائلها، ومِن ثَم …) فقد تبدأ الأمور بتحية إكبار وإجلال، ثم تدور بها الدائرة في طرفها الآخر إلى التحقير والقدح، أو تكون فاتحتها بالذم والاستهانة ثم تنتهي في خاتمة المطاف إلى التعظيم والاحتفاء، أما متى يكون الذم مناسبًا أو يكون التبجيل لائقًا، فذلك ما لا أستطيع؛ بملء إرادتي، أن أقرره بصورة حاسمة [… القدر هو الذي يحدد ذلك!]
[٤]
كان «دنشي» هو الذي قدَّم تصوراته لنظرية «الاحتمالين الراجحين» [… بمعنى أنه إذا احتوت قضية ما على احتمالين متقابلين، فإنهما يتناظران ويرجح قيامهما معًا في آن واحد] وكان هو الذي أنشأ «بلاغيات فن الجدل»، وفي الفترة التي تولى أثناءها «زيشيان» الإشراف على الشئون الإدارية العليا، بدولة جنغ، قام «دنشي» بتأليف كتاب عنوانه «جو شينغ» (لائحة العقوبات) [أو، حرفيًّا: عقوبات البامبو] ولما كانت دولة جنغ قد أقرت العمل بما ورد في هذه اللائحة، فقد تقدَّم المؤلف (دنشي) عدة مرات بالانتقاد الشديد ﻟ «زيشيان»، معترضًا، على طريقته في تصريف الشئون الإدارية لدولة جنغ، ووصل الانتقاد والشجب حدًّا أعجز زيشيان عن تبرير موقفه؛ مما تسبب في إحراجه وكشف تهافت ادعاءاته، فما كان منه إلا أن أصدر أمرًا باعتقال دنشي، بل قرر أن يحكم عليه بالإعدام، ولم تمضِ فترة طويلة حتى كان قد دفع به إلى ساحة الإعدام فعلًا. [وهنا، فلا بد من أن تتأمل الموقف جيدًا؛ ذلك أن …] زيشيان لم يكن في موقف يسمح له، أصلًا، بتطبيق الأفكار الواردة في كتاب «لوائح العقوبات»، لكنه اضطر إلى ذلك؛ ومن ناحية أخرى، فلم يكن دنشي بالذي يستطيع أن يفحم زيشيان ويعجزه عن الرد المقنع، لكن بدا وكأن زيشيان لم يكن يملك إلا الصمت العاجز، هذا، ولم يكن زيشيان عازمًا ولا قادرًا على حسم القرار بشأن إعدام دنشي، لكنه وجد نفسه مدفوعًا إلى إصدار القرار الذي قضى بإزهاق روحه، ففعل … وكان الكائن.
[٥]
من مصادفات الحظ السعيد أن يُوهب الإنسان البقاء الذي حتمته الأقدار. ومن أحكام القدر الرحيم أن تنزل نازلة الموت إذا ما كان الموت قضاءً مقضيًّا، أما أن تكون الحياة ضرورة محتمة، ثم إذا بها تنعدم الحياة، فذلك عقاب الأقدار. وأن يكون الموت مصيرًا لا سبيل إلى دفعه، ثم توصد أمام الموت بوابة المصير، فذلك هو العذاب الذي تتسلط به يد القدر. أما أن تكون الحياة حقًّا والموت حقيقة، فيكون ثمة موت وحياة؛ فذلك أمر معهود؛ وأن يكون الموت حقًّا واجبًا، والحياة حقًّا لازمًا، فيموت من حقت له الحياة، ويحيا من كان يحق له الموت، فذلك أيضًا أمر قائم ومشهود؛ وأيًّا ما كان، من حياة أو موت، فليس القضاء بأيدينا وليس ثمة آتٍ به من وراء عالم الشهود آتٍ، فالأمر كله بيد أقدار السماء، وليس لحكمة الإنسان دور يُرجى أو تأثير يعول عليه؛ لذلك كله، فقد كان يقال بأن لكل ما غاضت به أعماق الغور من مجاهل الغيب، يد من أحكام السماء تستقطر من خالص الفهم أصفى مكامن الإيضاح لكل مبهم، ولكل ما تشعب في مسارات التيه بغير حدود مدار من سبل أقدار السماء تطوف بمواهب القدرة على كل سيار.
قد قُلتُ إن الجلال طاف بمدار السماوات والأرض، دورات متعاقبة ليس لها تبديل، فلا الحكماء ولا القديسون ولا كل ذي فهم يقدر أن يخرق قضائها المسطور، وليس الجان ولا الأشباح ببرهانها مستهزئين؛ ذلك أن أحكام أقدار السماء روح من الطبيعة، ناجزة الوعد، والوعد في فمها الصمت؛ وقد قرت في قرار السكون، آمنة وادعة مطمئنة، لا تنصدع وليس ينسرب من صدعها خلل، ولا يشوبها اضطراب، وكأنها بالباب تستقبل الوافد وتودع الذاهب؛ فهي في الآجال موعد، وللمواقيت قضاء.
[٦]
كان في الحوادث أن السيد «جيليان» أُصيب بمرض ألزمه الفراش، ثم اشتدت عليه وطأة المرض في اليوم السابع، فظل أبناؤه يبكونه وهم جالسين حوله على الفراش، وقد فعلوا كل ما بوسعهم طلبًا لعلاجه، فاستقدموا له خيرة الأطباء، وكان للمريض صديق يدعى «يانغ شو»، فأرسل يستدعيه، فلما حضر، قال له: «أولادي هؤلاء ما زالوا صغارًا لم تنضجهم التجارب (انظر كيف يبكون حولي كالأطفال، وقد شحبت وجوههم …) ولست أريد منك سوى أن تترنم لي ببعض الأغاني عساهم يستوعبون من تجارب الحياة معاني تزكو بها إرادتهم [الأغاني، في الصين القديمة، أقرب لحًا بالحكمة والفلسفة والطبع النقي والذوق الأصيل].» فغنَّى له صاحبه (بكلمات تفيد المعاني الآتية: …)
ولم يفهم أبناء المريض مغزى الكلمات، فسارعوا إلى استقدام ثلاثة من أمهر الأطباء؛ أولهم يدعى «تشياو»؛ وثانيهم «يو»؛ وثالثهم «لو». ولم يتوانوا عن المجيء إليه والكشف عليه، وتحدث الطبيب تشياو إلى جيليان قائلًا: «المشكلة عندك أن التوازن بين الحرارة والبرودة ليس على ما يرام، كما أن التكامل الحيوي بين الجانب النفسي والجسدي يعاني من اختلال شديد؛ والسبب في التدهور الذي أصابك هو فقدان الشهية وتزايد ضغط الحاجات الحيوية للجسم، فمِن ثَم أصبحت (الطاقة العصبية) متوترة للغاية، بينما أصيبت الحالة الذهنية بتراخٍ غير عادي، فأنت رهين مرض لم يتسلط عليك من قبل الشياطين، ولا حتى أنزلته بك يد السماء، ورغم أنه أقل خطورة مما نتصور، لكنه يستعصي على العلاج، إن لم يتعذر علاجه تمامًا.» فقال له جيليان: «إنما أنت أحد أولئك الأطباء العاديين (من ذوي المهارة المتواضعة) فإليك عني، قم وانصرف لشأنك!» وجاء الطبيب الثاني «يو» ليقول للمريض: «أنت مولود بعيب خلقي، ومما زاد الأمر سوءًا أن فطامك تأخر كثيرًا عن الحد المعقول، فمرضك مزمن، وقد تراكم عليك مع الأيام والسنين، ولا أظنك تشفى منه.» فرد عليه جيليان قائلًا: «هذا كلام معقول جدًّا ويحتمل الصدق، ولا بأس بك كطبيب ذي مهارة وفهم وبصيرة، دونك فاجلس حتى نصنع لك الطعام!» أما الطبيب الثالث «لو» فقد تحدث إلى جيليان قائلًا: «لم يصبك المرض من قبل السماء، ولا البشر ولا حتى الشياطين، وإنما كل من كتبت له الحياة [حرفيًّا: اكتسب بالحياة بدنًا وهيئة] فقد وجبت فوقه قدرة قاهرة لا سلطان له عليها، ووجبت له المقدرة على التقدير والفهم (مقابل كل أمر معجز، يقوم استنباط واعٍ، ومع كل حتم مرونة وفهم) ففيمَ اللجوء إلى التطبيب، وما فائدة الأعشاب والتداوي؟» وهنالك صاح جيليان بالرجل: «هو ذا أنت أعظم الأطباء جميعًا، فأنت خليق حقًّا بأثمن الهدايا [حرفيًّا: بأثقال من ذهب]» ثم لم ينقضِ زمان طويل حتى أبلَّ جيليان من المرض، وتعافى تمامًا.
[٧]
ليس بالحرص تطول الأعمار، ولا من فرط الاعتناء تصح الأجساد؛ كما أن سني الإنسان لا تنقضي سراعًا مع التهاون، ولا تذبل الأجساد مع التغاضي والإهمال؛ ولذلك فقد يشتد الحرص التام على العمر، ثم ينقضي الأجل سريعًا، أو يتغاضى المرء عن التشبث بالبقاء، فإذا به يعيش العمر الداهر؛ أو قد يعتني الفرد بصحته تمام الاعتناء، ومع ذلك تصيبه الأسقام، ثم تصح أبدان من تقاعسوا عن الالتزام بشروط الصحة والعافية، وقد يبدو هذان الوجهان، من الأمر، متعارضين بالكلية، ولكنهما ليسا كذلك؛ فللحياة نمط تتطور به، وللموت جريان أحوال معهودة، كما أن للجسم في سلامته طرائق مألوفة، وفي سقمه طابعًا معلومًا.
قد يكترث البعض بطول البقاء، فيطول بهم العمر، أو يغفلون حظ الحياة، فيرحلون سريعًا، كما قد يخشى الناس عواقب المرض فيسلمون؛ أو يهملون أجسادهم فيقعون فريسة للداء، ولقد يقال بأن الوجهين متقابلان، بيد أنهما أبعد ما يكونان عن التناظر، فلطول البقاء أو عاجل الموت سبل ومسالك، ولتمام العافية أو معاطب الداء أحوال وطرائق، وقد ورد (فيما يروى من أخبار الزمان) ما قاله «يوشيونغ» [أحد أسلاف أسرة تشو الحاكمة، في العصر القديم، وقيل كان معلمًا للملك أون آل تشو] إلى الملك أون «آل تشو» قائلًا له: «إن الرغبة الذاتية في أن يطول أمد الأشياء، بالرغم مما تحتمله طبائعها، لن تحملها على الرضوخ إلى ما لا طاقة لها به، كما أن أي محاولة ذاتية، من جانبها، لكي تفرض على الأشياء التقلص والانكماش، إلى الحد الذي نبتغيه، لن يسوقها إلى مطاوعتنا فيما تتطلبه منها، قسرًا وإرغامًا (فلئن كان الأمر على هذا النحو …) فما دور الحكمة والعقل إذن؟» فأجاب لاوتان (لاوتسي) موجهًا كلامه إلى كوان يين قائلًا: «وهل كان هذا العقل يفهم السبب في كراهية السماء لكثير من الأشياء؟» فالمغزى من قول لاوتان، هنا، يشير إلى وجوب الاقتصار على الرضوخ لإرادة السماء والاعتقاد فيما تراه تلك الإرادة، صحيحًا كان أو فاسدًا.
[٨]
جاء إلى يانغ شو (أخوه الأصغر، ويدعى …) «يانغ بو» وسأله قائلًا: «هب أن معنا الآن شخصين متقاربين في العمر والكفاءة والمهارة والمزايا العامة [حرفيًّا: الملامح] فما الذي يجعل حظهما في التمتع بطول العمر والمكانة الاجتماعية والشهرة والحب أو الكراهية متفاوتًا، أليس ذلك أمرًا يدعو إلى الحيرة؟» فأجابه يانغ شو قائلًا: «بمناسبة قولك هذا، فإني ما زلت أحفظ كلمة باقية من كلام القدماء، أحدثك بها الآن … فأنت لو داخلك من أي شيء تساؤل وحيرة، ولم تدرِ السبب في وقوع أمر ما، على وجه من الوجوه، أيًّا كان، فاعلم أن جواب مسألتك يكمن في كلمة واحدة: الأقدار. فانظر إلى كل تلك المعميات من حولنا، إلى كل تلك الأحوال المليئة بالتعقيد والتشابك، وإلى كل ما تستسيغه الأفعال أو ما لا تستسيغه، وإلى كل تصرف متاح لك أو غير متاح؛ (ألست ترى …) بأن الأيام تمضي وفي إثرها أيام، يوم يروح وآخر يأتي بعده! هي ذي كلها الأيام، فمن ذا يفقه حقيقة وقائع (كل تلك الأوقات)؟ وأجيبك قائلًا … إنه القدر، إن من يؤمنون بالقدر، سواءٌ لديهم طال العمر أو قصر؛ ومن يؤمنون بجريان الأحوال على منوال لا تخطئه، لا يهتمون بما هو صواب أو دون الصواب ومن يعتقدون في شهود القلب لصادق الحس الباطني، سواءٌ لديهم ضاقت الأحوال أم تيسرت الظروف، والمؤمنون بما قُسم لكل نفس في لوح أقدار، لن يعبئُوا إن ساد الأمان أو تطايرت نذر الخطر، فأولئك هم السائرون كيفما بدت لهم السبل، يتبعون طرقًا ويتنكبون عن بعضها.
فكيف لمن تحقق بالإخلاص أن يعبأ بأي طريق يمشي وعن أي طريق يحيد؛ بأي حال يفرح وفي أي ظرف يطرق أسًى وحزنًا؛ في أي باب من الأفعال يطلق يديه، وعن أي الدروب يغل ساعديه! قد جاء في كتاب «هواندي» ما نصه: «(من أرفع درجات الحكمة أن …) يجلس المرء جلسة ميت، وأن يمشي إذا مشى؛ مشية دمية خشبية.» (والمعنى أنه …) ذاهل في حال القعود، ذهوله في غير قعوده، لا يدري إذا تحرك، إن كان الحق في مشيته أو في قعوده؛ لا يبدل هيئته؛ لأن الناظرين إليه يتوقعون منه ذلك، ولا يتشبث بما يعهده في مظهره، لمجرد أن الآخرين غير مكترثين له، فهو متفرد الحال في غدوه ورواحه. نسيج وحده في حضور وغيب، فلا يعوقه شيء ولا تغلق دونه السبل.»
[٩]
«ميتشي» [الأحمق]، و«شانشي» [الأرعن]، و«تشان شوان» [المتزمت]، و«بيفو» [المتسرع]، أربعة من الناس، تآلفوا واجتمعوا على الصحبة، وقد اتفقت مشاربهم، وامتزجت طبائعهم، لكن وبرغم ما ربط بينهم من وشائج الود، فقد كان يمر العام، من أوله إلى آخره، دون أن يعرف أحدهم ما حدث لصاحبه، ولا ما صار إليه حاله؛ بزعم أن مثل هذا المسلك دليل على الحكمة وبراعة التقدير. أما «تشياو نين» [المجامل]، و«يوجي» [المخلص الكريم]، و«آنجو» [ثقيل الفهم]، و«بيانبي» [المتملق]؛ فكانوا أربعة ممن توثقت بينهم عرى الصداقة، وقد آخى الود بين قلوبهم. وبرغم روابط الألفة بينهم، فقد كان يمر العام دون أن يتجاذبا أطراف الحديث عن سلوك وتصرفات بعضهم بعضًا مع الآخرين، وقد تهيأ لهم (أن مثل هذا السلوك يدل على …) براعة وذكاء وفطنة لا مثيل لها؛ ثم كان هناك «جياوجيا» [غريب الأطوار]، و«تشينغ لو» [الانبساطي]، و«جيانجي» [النزق، المفأفئ، المدغم ألفاظه فلا يستبين منطقه]، و«لنغ سوي» [المتشاحن، الشتام، كثير المشاجرات]؛ وقد وجدوا من التفاهم وتوافق الأمزجة ما عزز قيام الصداقة بينهم، ومع ذلك، فقد كان يمضي العام كله دون أن يتبادلوا الأخبار فيما بينهم، متصورين أن تصرفهم على هذا النحو أجدى وأنفع. كذلك قامت علاقة ود وثيقة بين كل من «مين تيان» [الدهمائي البسيط]، و«تشيوي» [المتخاذل]، و«يونغان» [الجريء]، و«تشيهي» [الهياب]؛ وتآلفت طباعهم، وعلى الرغم من أواصر المودة بينهم، فقد كان يمر العام، دون أن يلقي أحدهم باللوم والتأنيب على الآخر، معتقدين أنه ليس هناك ما يستوجب المؤاخذة في مسلكهم هذا؛ وكان ثمة أربعة آخرون توشجت بينهم علاقات التآلف والإخاء، هم: «طواو» [لطيف المعشر]، و«زيجوان» [المعتزل الصحبة]، و«تشينغ شيوان» [المتجبر]، و«جيلي» [العصامي]؛ وعلى ما كان يجمعهم من الود الحميم، فقد كان يحول عليهم الحول دون أن يكترث أحدهم للسؤال عن أحوال صاحبه، وحجتهم في ذلك أن مثل هذا المسلك يُعد مناسبًا لمسار علاقتهم الاجتماعية؛ (فأنت ترى أن …) لكل وجه من وجوه تلك الكائنات الاجتماعية ملامحه المختلفة، إلا أن الجميع متحقق بمبادئ الطريق (الطاو)، بالأسلوب الذي قررته الأقدار؛ حتى جعلت لكل امرئ منبتًا يؤصل مزاجه وطبيعته.
[١٠]
سواء أكان النجاح تقريبيًّا أو شبه متحقق، فالنجاح التام لم يتحقق أساسًا؛ وسواء كان الفشل نسبيًّا أو تقريبيًّا أو كأن قد؛ فالفشل التام لم يحدث أصلًا؛ وغالبًا ما تقود هذه الأحوال التي يكون فيها النجاح أو الفشل غير قاطعين، إلى الحيرة؛ وذلك لصعوبة تعيين الحد الفاصل بين ما هو تقريبي [حرفيًّا: شبيه بالشيء] وما هو حقيقي. ورغم ما يشوب هذا الحد الفاصل من غموض، فهناك من يصمدون في وجه الحيرة، فأولئك هم الذين لا تفزعهم صروف الزمان ولا أهوال الوقائع، ولا تنشرح قلوبهم فرحًا بما قسم لهم من حظ سعيد؛ لأنهم قادرون في كل وقت على التصرف بمطلق العزم والإرادة، اعتمادًا على حظوظهم من السعي والجهد، سواء بالإقدام على العمل لتحقيق مرادهم، أو بالإحجام عنه، في أي وقت يشاءون، دون إملاء من حكمة أو إذعان لأحكام عقلية.
إن المؤمنين بالقَدَر ينظرون إلى ما أصاب أحوالهم [من ظروف خارجية] أو بواطنهم [أزمات نفسية أو بدنية داخلية] من زاوية متكافئة، تساوي بين نوازل الأقدار في الحالين، وهناك من يثبتون فيما أصابهم، ظاهرًا كان أو باطنًا، وأفضل منهم، من يحجبون عيونهم ويسدون آذانهم وقد أقاموا على رأس جبل، من ورائهم هوة سحيقة ومن قدامهم منحدر ساقط، وهم واثقون؛ فلا تتزلزل أقدامهم ولا ينكفئون، ومن هنا قيل إن الموت والحياة بيد القدر، والفقر والغنى مواهب بيد المصادفات.
إن من تأوَّه حسرة على سني حياة قصيرة، فقد جهل أحكام القدر، ومن اشتكى ضيق ذات اليد، فقد تغافل عن طبائع المصادفات، ومن ثبت في وجه الموت، وصمد في وجه الفاقة والعوز، فذاك هو الذي أدرك طوايا القدر، وعرف كيف يتشامخ أمام المصادفات.
(اعلم) أنك لو طلبت إلى أحد المشهود لهم بالذكاء والنبوغ أن يقوم بتقدير وإحصاء المكاسب والخسائر (في موضوع يحتمل مثل هذا التقدير) أو أن ينبئك بما فيه الربح أو الخسارة، وأن يقدم لك تقريرًا وافيًا عن أحوال الناس (كيف يفكرون ويشعرون)، فستجده مصيبًا في نصف تقديراته ومخطئًا في نصفها الآخر؛ ثم اطلب إلى أحد البسطاء (من غير النابغين أو النجباء) أن (يباشر التصرف، دون …) حساب للمكسب والخسارة، وألا يشغل نفسه بما هو نافع أو ضار، وألا يرهق ذهنه بتتبع أحوال الناس ومشاعرهم وطرائق تفكيرهم، (فسوف تأتي نتيجة تصرفاته …) صائبة في بعضها وخاطئة في بعضها الآخر. فما الفرق، إذن، بين تقدير الأمور من عدمه، وبين التنبوء والتحسب للمستقبل أو السير في منعرجاته دون تبصر بالعواقب، وبين التأمل في الأحوال أو التغاضي عنه (أخذًا للأمور على علاتها)؟
عندما يكون الامتناع عن تقدير أي شيء هو التقدير التام لكل الأشياء، فذلك هو اكتمال الحد وتمامه، ولن تكون ثمة خسارة، فإذا لم يكن هناك اكتمالٌ أو فقدٌ، فتلك إشارة واضحة إلى أن جريان الطبيعة قد أتم دائرة الاكتمال، بيد أن طبائع الأمور أوجبت أن يكون ثمة فقد، حيث تدور سيرورة الطبيعة دورة الخسران.
[١١]
كان الملك «جينكون» في رحلة إلى جبل «نيو»، وفي أثناء الطريق، وعلى مقربة من بوابات العاصمة راح يطوف النظر في شتى الأنحاء من حوله مأخوذًا بروعة المناظر الخلابة، ويبدو أن شيئًا ما، أثار في نفسه شجونًا، فترقرت الدموع في عينيه وراح يقول: «ما أجمل هذا البلد! (يقصد مملكة تشي) وما أبهى منظر الأرض والشجر، وما أوفر الخضرة في ربوعه. كم يحزنني أن تمر الأيام والسنوات مثل مياه نهر جارية متدفقة نحو نهاية الشوط، أليس من المؤسف أن يموت المرء، ويتحول عن بلد جميل كهذا؟ … آه لو لم يكن في الدنيا، منذ الأزل شيء اسمه الموت، لما تركت هذه البقعة من الأرض إلى أي مكان آخر!» وكان اثنان من كبار رجال الإدارة المرافقين للملك وهما: «شيكونغ» و«ليانغ تشوجي» قد سمعا كلام سيدهما وهو يتحدث بالمعنى الوارد ذكره، فلم يتمالكا أن أجهشا بالبكاء قائلين: «صدقت يا مولاي، بل إننا نحن الذين نعيش على عطف جلالتك وعطاياك الكريمة، وليس لنا مثل ما لسيدنا من حظوظ المأكل والمشرب والتنقلات، نكره سيرة الموت ونحب الحياة والبقاء، فكيف بجلالتك؟» وكان «يانزي» [ربما كان أحد كبار الموظفين التابعين للقصر] يقبع في مكان قريب، فلما ترامى إلى سمعه وقائع ما حدث، راح يضحك ساخرًا، فلاحظ الملك ذلك، فمسح دموع التأثر والتفت إليه قائلًا له: «قد وقعت في قلبي الشجون أثناء رحلتي إلى هذه المنطقة، من يومي هذا، حتى تأثر الرجلان شيكونغ وليانغ تشوجي، لفرط إحساسهما وتقديرهما لمشاعري، فطفرت الدموع من مآقيهما، فما بالك تضحك (بكل تبلد) هكذا؟» فأجابه يانزي، قائلًا: «لو كان كرام الملوك، قديمًا، قد بقوا يحرسون دولة تشي، حتى الآن، لبقي أيضًا وزراؤهم، من أمثال «القون تاي» و«القون [النبيل، يعني …] هُوان» [تنطق بضم الهاء]، ولو كان قد بقي في عمر الملوك الشجعان بقية ليقوموا على عرش هذا البلد، إذن لظل رجال مثل «القون جوانغ» و«القون لينغ» إلى جانبهم مخلصين ومدافعين (عن الوطن) فماذا لو كان كل أولئك الملوك قد بقوا في الحكم إلى اليوم؟ أما كانوا يشاهدون بأعينهم مليكنا المبجل وهو مترجل وسط المزارع، يلبس أسمالًا بالية [حرفيًّا: معطفًا من القش] ويغطي رأسه بقبعة من خيزران، يكاد يمد يده إلى الفأس مثل أي فلاح بائس، محتشد قلبه بالشجن، وعينه ملأى بالدموع … أمعقول أن تجد، يا مولاي، متسعًا من وقت لتأتي إلى هنا وتتأمل أقدار الموت والحياة؟ إن السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو … أتظن جلالتك، أن لو بقي الملوك القدامى أحياء، أكنت تتقلد الملك فوق الأمراء والدويلات والأقاليم؟ (والإجابة، بالطبع، هي إن …) الحكم قد انتهى إليك لأن العرف قد جرى أن يأتي ملوك جدد في إثر ملوك قدامى، وقد صار إليك المُلك، لكنك، وحدك، مشغول (دون الجميع) بالموت والفناء؛ حتى سالت الدموع من الأحداق، وليس هذا سوى مظهر واضح جدًّا لاهتمامك بنفسك [حرفيًّا: دون الاجتهاد في تطبيق مبادئ الإنسانية بين الجميع] أما أنا، فكنت لما رأيت الملك المشغول بنفسه وبجواره رجاله المتباكين؛ عزاءً لخاطره، وتأملت المشهد كله، من طرفيه، فقد غلبني الضحك وأفلت، رغمًا عني، جامح السخرية.» واعترى الملك شعور بالخزي، فرفع كأسه إلى فمه، فجرعه (في حضور رجاله، وعلى ملأ، رمزًا إلى النقد الذاتي!) وأمر تابعيه الاثنين، شيكوانغ وليانغ تشوجو، بأن يتجرعا كأسين من الخمر (… على سبيل الزجر والعقاب.)
[١٢]
كان يقيم في دولة «وي» رجل يدعى «دونغ مينو» [أي: المقيم ببلدة «دونغ مين»، كقولك: ابن البلد دونغي، أو: الدونغميني … إذا جازت النسبة!] وقد فجع المذكور بولده الذي وافته المنية، فلم يأسَ لوفاة ابنه ولا انفطر قلبه حزنًا عليه، فجاءه خادمه وقال له: «كنت أعرف مقدار حبك لولدك، ولم يكن أحد في الدنيا كلها يشفق على ولده مثلك، ومع ذلك فلم أجد أثرًا للحزن باديًا عليك، بعد أن رحل عنك، فما السبب يا ترى؟ وكيف تفسر لي هذا الأمر العجاب؟» فأجابه الرجل قائلًا: «كنت من قبل أعيش بغير أبناء، ولم أكن آسفًا أن تحرمني الأقدار الولد، فلما توفي ابني، عدت سيرتي الأولى التي كنت عليها من دون ذرية (… فرجعت إلى حالتي التي لم أكن آسف عليها) فلم يَدعُني للأسى داعٍ.»
[١٣]
عين المزارع ترقب الفصول، واهتمام التاجر معلق بالأرباح، وليس للصنائعي غرض سوى إتقان المهارة، والمشتغل لدى السلطة (الموظف الحكومي) ساعٍ إلى النفوذ؛ تلك هي المحصلة الطبيعية [حرفيًّا: الحتمية] في مسيرة الأحوال الاجتماعية، ومع ذلك (فالأمر لا يسير، في كل الأحوال، على الوتيرة التي يبغيها الناس …) فللمزارع نصيب من النعيم والبؤس [حرفيًّا: القحط]، كما يجد التاجر كفتين متأرجحتين بين المكسب والخسارة، والعامل يفيد ضربًا من النجاح وآخر من الفشل، ثم قد ترد موارد الفرص السعيدة على رجال الإدارة، أو قد ينضب معين الحظ في بعض الأوقات؛ فتلك كلها مصائر تقررها إرادة القدر.
وبالطبع، فإن ما يعتور المتن من اضطراب في عرض القضايا، محكوم بحدود عصره، ورؤية كاتبه؛ غير أننا يمكن أن نتلمس، فيما بين السطور، آراء متفرقة تعرض لوجهة نظر الكاتب الرافضة لمساوئ الأحوال الاجتماعية المحيطة بالفترة الزمنية التي عاشها، وربما تشي عباراته بشوق دفين لإعلاء قيم المنطق والعدل والعقل، أملًا في تحقيق الاستقرار الاجتماعي.
ويشتمل النص، في هذا الباب، على تسع حكايات خرافية، تنقسم إلى نوعين رئيسيين؛ أولهما، تعرض لحتمية القدر ومضاء دوره الحاسم، مما ينزع عن الإرادة مطلق الاختيار، بحيث لا يبقى هناك سوى ما هو متاح من شروط العمل بمقتضى ما تذهب إليه الأقدار؛ وثانيهما، يتبنى النظر إلى الأمور، من زاوية الاتباع القسري لنوازع القدر الذي يملك وحده تقرير مصائر البشر.