الْفَيَضَانُ الْعَظِيمُ
كَانَ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ أَرْمَلَةٌ لَدَيْهَا طِفْلٌ، وَكَانَ الطِّفْلُ صَبِيًّا طَيِّبَ الْقَلْبِ وَمَحْبُوبًا مِنَ الْجَمِيعِ. وَفِي أَحَدِ الْأَيَّامِ قَالَ الصَّبِيُّ لِأُمِّهِ: «كُلُّ الْأَطْفَالِ الْآخَرِينَ لَدَيْهِمْ جَدَّةٌ وَأَنَا لَا، وَهَذَا الْأَمْرُ يَحْزُنُنِي كَثِيرًا.»
قَالَتْ أُمُّهُ: «سَنَبْحَثُ لَكَ عَنْ جَدَّةٍ.» وَفِي أَحَدِ الْأَيَّامِ، جَاءَتْ مُتَسَوِّلَةٌ عَجُوزٌ إِلَى الْبَيْتِ، وَكَانَتْ مُسِنَّةً وَوَاهِنَةً جِدًّا، وَعِنْدَمَا رَآهَا الصَّبِيُّ قَالَ لَهَا: «سَتَكُونِينَ أَنْتِ جَدَّتِي!» وَذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ وَقَالَ: «هُنَاكَ امْرَأَةٌ مُتَسَوِّلَةٌ فِي الْخَارِجِ وَأَنَا أُرِيدُهَا أَنْ تَكُونَ جَدَّتِي!» كَانَتْ أُمُّهُ مُوَافِقَةً، وَنَادَتِ السَّيِّدَةَ إِلَى دَاخِلِ الْمَنْزِلِ بِالرَّغْمِ مِنْ كَوْنِهَا مُتَّسِخَةً جِدًّا. قَالَ الصَّبِيُّ لِأُمِّهِ: «تَعَالَيْ لِنَقُومَ بِغَسْلِ جَدَّتِي!» وَقَامَا بِتَنْظِيفِهَا. وَلَكِنَّ السَّيِّدَةَ كَانَ فِي شَعْرِهَا الْكَثِيرُ مِنَ النَّبَاتَاتِ الشَّائِكَةِ، وَقَامَا هُمَا بِنَزْعِهَا وَوَضَعَاهَا فِي بَرْطَمَانٍ. وَقَدِ امْتَلَأَ كُلُّهُ بِهَا، ثُمَّ قَالَتِ الْجَدَّةُ: «لَا تَتَخَلَّصَا مِنْهَا، وَلَكِنِ ادْفِنَاهَا فِي الْحَدِيقَةِ وَلَا يَجِبُ أَنْ تُخْرِجَاهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْفَيَضَانُ الْعَظِيمُ.»
سَأَلَ الصَّبِيُّ: «مَتَى سَيَأْتِي الْفَيَضَانُ الْعَظِيمُ؟»
قَالَتِ الْجَدَّةُ: «عِنْدَمَا تَتَحَوَّلُ عُيُونُ الْأَسَدَيْنِ الْحَجَرِيَّيْنِ أَمَامَ السِّجْنِ إِلَى اللَّوْنِ الْأَحْمَرِ، عِنْدَهَا سَيَأْتِي الْفَيَضَانُ الْعَظِيمُ.»
وَهَكَذَا ذَهَبَ الصَّبِيُّ لِيَنْظُرَ إِلَى الْأَسَدَيْنِ، وَلَكِنَّ أَعْيُنَهُمَا لَمْ تَكُنْ حَمْرَاءَ بَعْدُ. وَقَالَتْ لَهُ الْجَدَّةُ أَيْضًا: «اصْنَعْ سَفِينَةً صَغِيرَةً مِنَ الْخَشَبِ وَاحْتَفِظْ بِهَا فِي صُنْدُوقٍ صَغِيرٍ.» وَقَامَ الصَّبِيُّ بِذَلِكَ. كَانَ الصَّبِيُّ يَرْكُضُ إِلَى السِّجْنِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَنْظُرُ إِلَى الْأَسَدَيْنِ، وَكَانَ الْأَمْرُ يُثِيرُ دَهْشَةَ النَّاسِ فِي الشَّارِعِ.
فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ، بَيْنَمَا كَانَ يَمُرُّ أَمَامَ دُكَّانِ بَائِعِ الدَّجَاجِ، سَأَلَهُ الْبَائِعُ لِمَاذَا يَرْكُضُ إِلَى الْأَسَدَيْنِ دَائِمًا. قَالَ الصَّبِيُّ: «عِنْدَمَا تَتَحَوَّلُ أَعْيُنُ الْأُسُودِ إِلَى اللَّوْنِ الْأَحْمَرِ سَيَأْتِي الْفَيَضَانُ الْعَظِيمُ.» وَلَكِنَّ بَائِعَ الدَّجَاجِ ضَحِكَ. وَفِي الصَّبَاحِ التَّالِي، بَاكِرًا جِدًّا، أَخَذَ الْبَائِعُ بَعْضًا مِنْ دِمَاءَ الدَّجَاجِ وَوَضَعَهَا عَلَى أَعْيُنِ الْأَسَدَيْنِ. عِنْدَمَا رَأَى الصَّبِيُّ أَنَّ أَعْيُنَ الْأَسَدَيْنِ صَارَتْ حَمْرَاءَ، رَكَضَ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَنْزِلِ وَأَخْبَرَ أُمَّهُ وَجَدَّتَهُ، ثُمَّ قَالَتْ جَدَّتُهُ: «قُمْ بِإِخْرَاجِ الْبَرْطَمَانِ بِسُرْعَةٍ وَأَخْرِجِ السَّفِينَةَ مِنْ صُنْدُوقِهَا.» وَعِنْدَمَا أَخْرَجُوا الْبَرْطَمَانَ كَانَ مُمْتَلِئًا بِأَنْقَى اللَّآلِئِ، وَأَخَذَتِ السَّفِينَةُ تَكْبُرُ وَتَكْبُرُ لِتُصْبِحَ فِي حَجْمِهَا الطَّبِيعِيِّ، ثُمَّ قَالَتِ الْجَدَّةُ: «خُذِ الْبَرْطَمَانَ مَعَكَ وَاصْعَدْ إِلَى السَّفِينَةِ، وَعِنْدَمَا يَأْتِي الْفَيَضَانُ الْعَظِيمُ عَلَيْكَ إِنْقَاذَ كُلِّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُصَادِفُهَا بِالسَّفِينَةِ؛ وَلَكِنَّ الْبَشَرَ، بِرُءُوسِهِمُ السَّوْدَاءِ، لَا تُنْقِذْهُمْ.» وَهَكَذَا صَعِدُوا إِلَى السَّفِينَةِ وَفَجْأَةً اخْتَفَتِ الْجَدَّةُ.
وَالْآنَ بَدَأَتِ السَّمَاءُ تُمْطِرُ، وَأَخَذَ الْمَطَرُ يَتَسَاقَطُ بِغَزَارَةٍ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ مِنَ السَّمَاءِ. وَأَخِيرًا لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ أَيُّ قَطَرَاتٍ تَسْقُطُ، وَلَكِنْ هُنَاكَ صَفْحَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْمَاءِ، وَقَدْ غَمَرَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
ثُمَّ انْجَرَفَ كَلْبٌ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ وَقَامُوا بِإِنْقَاذِهِ. بَعْدَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ، جَاءَ فَأْرَانِ وَأَوْلَادُهُمَا وَأَحْدَثُوا صَرِيرًا فِي خَوْفٍ، وَتَمَّ إِنْقَاذُهُمْ أَيْضًا. كَانَتِ الْمِيَاهُ تَعْلُو حَتَّى أَسْطُحِ الْمَنَازِلِ، وَعَلَى أَحَدِ الْأَسْطُحِ كَانَتْ تَقِفُ قِطَّةٌ تَقَوَّسَ ظَهْرُهَا وَتَمُوءُ بِشَكْلٍ مُثِيرٍ لِلشَّفَقَةِ. أَخَذَ الصَّبِيُّ وَأَمُّهُ الْقِطَّةَ إِلَى السَّفِينَةِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْفَيَضَانَ أَخَذَ يَعْلُو حَتَّى وَصَلَ إِلَى قِمَمِ الْأَشْجَارِ. وَعَلَى إِحْدَى الْأَشْجَارِ، كَانَ هُنَاكَ غُرَابٌ يُرَفْرِفُ بِجَنَاحَيْهِ وَيَنْعِقُ بِصَوْتٍ عَالٍ، وَتَمَّ إِنْقَاذُهُ هُوَ أَيْضًا. وَأَخِيرًا، جَاءَ سِرْبٌ مِنَ النَّحْلِ يَطِيرُ فِي اتِّجَاهِهِمْ. كَانَتِ الْكَائِنَاتُ الصَّغِيرَةُ مُبْتَلَّةً لِلْغَايَةِ وَبِالْكَادِ تَسْتَطِيعُ الطَّيَرَانَ. وَبِالطَّبْعِ، أَخَذَهَا الصَّبِيُّ وَأُمُّهُ إِلَى السَّفِينَةِ. فَجْأَةً ظَهَرَ رَجُلٌ ذُو شَعْرٍ أَسْوَدَ يَسْبَحُ بَيْنَ الْأَمْوَاجِ. قَالَ الصَّبِيُّ: «أُمِّي، لِنُنْقِذْهُ هُوَ أَيْضًا!» وَلَكِنَّ الْأُمَّ لَمْ تُرِدْ ذَلِكَ: «أَلَمْ تُخْبِرْنَا الْجَدَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَلَّا نُنْقِذَ أَيًّا مِنَ الْبَشَرِ ذَوِي الرُّءُوسِ السَّوْدَاءِ؟» وَلَكِنَّ الصَّبِيَّ أَجَابَ: «سَنُنْقِذُهُ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ ذَلِكَ. أَشْعُرُ بِالْأَسَفِ تُجَاهَهُ وَلَا أَسْتَطِيعُ تَحَمُّلَ رُؤْيَتِهِ وَهُوَ يَنْجَرِفُ مَعَ الْمَاءِ.» وَهَكَذَا أَنْقَذُوا الرَّجُلَ أَيْضًا.
بَدَأَتِ الْمِيَاهُ تَنْحَسِرُ بِالتَّدْرِيجِ. نَزَلَ الْجَمِيعُ مِنَ السَّفِينَةِ وَفَارَقُوا الرَّجُلَ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَأَخَذَتِ السَّفِينَةُ تَصْغُرُ مُجَدَّدًا وَقَامُوا بِوَضْعِهَا فِي صُنْدُوقِهَا.
وَلَكِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَطْمَعُ فِي اللَّآلِئِ بِشِدَّةٍ. ذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى الْقَاضِي وَتَقَدَّمَ بِالشَّكْوَى ضِدَّ الصَّبِيِّ وَأَمِّهِ وَتَمَّ إِيدَاعُهُمَا السِّجْنَ، ثُمَّ جَاءَتِ الْفِئْرَانُ وَحَفَرَتْ فَجْوَةً فِي حَائِطِ السِّجْنِ، وَجَاءَ الْكَلْبُ عَبْرَ الْفَجْوَةِ وَأَحْضَرَ لَهُمَا اللَّحْمَ، وَأَحْضَرَتْ لَهُمَا الْقِطَّةُ خُبْزًا؛ وَبِذَلِكَ لَمْ يَشْعُرَا بِالْجُوعِ فِي السِّجْنِ. وَأَمَّا الْغُرَابُ فَطَارَ بَعِيدًا وَعَادَ بِخِطَابٍ لِلْقَاضِي. كَانَ الْخِطَابُ قَدْ كَتَبَهُ إِلَهٌ، وَكَانَ يَقُولُ: «تَجَوَّلْتُ فِي عَالَمِ الرِّجَالِ مُتَنَكِّرًا كَامْرَأَةٍ مُتَسَوِّلَةٍ، وَقَدْ آوَانِي هَذَا الصَّبِيُّ وَأُمُّهُ. عَامَلَنِي الصَّبِيُّ كَجَدَّتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَمْ يَشْمَئِزَّ مِنْ تَنْظِيفِي عِنْدَمَا كُنْتُ مُتَّسِخَةً؛ وَلِذَلِكَ قُمْتُ بِإِنْقَاذِهِمَا مِنَ الْفَيَضَانِ الْعَظِيمِ الَّذِي دُمِّرَتْ بِهِ هَذِهِ الْمَدِينَةُ الْآثِمَةُ الَّتِي كَانَا يَعِيشَانِ فِيهَا. قُمْ أَيُّهَا الْقَاضِي بِإِطْلَاقِ سَرَاحِهِمَا وَإِلَّا سَتَحُلُّ عَلَيْكَ الْمَصَائِبُ!»
قَامَ الْقَاضِي بِاسْتِدْعَائِهِمَا وَسَأَلَهُمَا كَيْفَ شَقَّا طَرِيقَهُمَا عَبْرَ الْفَيَضَانِ، وَأَخْبَرَهُ الصَّبِيُّ وَأَمُّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ طَابَقَ مَا قَالَاهُ مَا جَاءَ فِي خِطَابِ الْإِلَهِ؛ وَلِذَلِكَ قَامَ الْقَاضِي بِمُعَاقَبَةِ الرَّجُلِ الَّذِي اتَّهَمَهُمَا، وَأَطْلَقَ سَرَاحَهُمَا.
عِنْدَمَا كَبِرَ الصَّبِيُّ جَاءَ إِلَى مَدِينَةٍ مَلِيئَةٍ بِالنَّاسِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْأَمِيرَةَ تَنْوِي اخْتِيَارَ زَوْجٍ، وَلَكِنْ لِكَيْ تَجِدَ الرَّجُلَ الْمُنَاسِبَ قَامَتْ بِارْتِدَاءِ حِجَابٍ وَجَلَسَتْ فِي مِحَفَّةٍ، وَأَمَرَتْ بِأَنْ تُؤْخَذَ الْمِحَفَّةُ وَمَعَهَا أُخْرَيَاتٌ إِلَى السُّوقِ. وَبِدَاخِلِ كُلِّ مِحَفَّةٍ كَانَتْ تَجْلِسُ امْرَأَةٌ مُحَجَّبَةٌ، وَكَانَتِ الْأَمِيرَةُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ. وَالرَّجُلُ الَّذِي سَيَخْتَارُ الْمِحَفَّةَ الصَّحِيحَةَ سَيَتَزَوَّجُ الْأَمِيرَةَ. وَهَكَذَا ذَهَبَ الشَّابُّ هُنَاكَ، وَعِنْدَمَا وَصَلَ إِلَى السُّوقِ، رَأَى سِرْبَ النَّحْلِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ الْفَيَضَانِ الْعَظِيمِ يَحُومُ حَوْلَ مِحَفَّةٍ بِعَيْنِهَا، فَقَامَ الشَّابُّ بِالتَّوَجُّهِ نَحْوَهَا، وَبِالْفِعْلِ كَانَتِ الْأَمِيرَةُ تَجْلِسُ بِدَاخِلِهَا. وَبَعْدَ ذَلِكَ أُقِيمَ حَفْلُ زِفَافِهِمَا وَعَاشَا فِي سَعَادَةٍ إِلَى الْأَبَدِ.