سعد من جميع نواحيه
في الفصل التالي وصْف وافٍ للطريقة التي كان الفقيد العظيم يتبعها في العمل، ولِما أظهره من قوة الشكيمة في تعلم اللغة الفرنسية، ثم طائفة من الحكايات والنوادر التي اتفقت له في عهده الأخير، وكلها تدل على ما حباه الله به من ذكاء خارق وقوة حافظة نادرة وعلم واسع غزير ووطنية خالصة صادقة، ويعقب ذلك بعض المُلَح المختارة من نكات دولته ومُلَحه، فحديثٌ لمعالي فتح الله بركات باشا عما كان يخالج فؤاد سعد من شعور الشفقة والشجاعة في وقت واحد.
***
(١) سعد أمام مكتبه
كان من عادة الفقيد العظيم المغفور له سعد زغلول باشا أن يَكتب تارة بيده، وأن يملي تارة أخرى ما يريد كتابته على سكرتيره، وكان يدوِّن أفكاره وخواطره في معظم الأحيان بالقلم الرصاص ما لم يكن جالسًا إلى مكتبه، فيكتب عندئذٍ بالحبر، وكان إذا فرغ مِن خطِّ ما أراد تحبيره على قرطاسه، يدعو إليه سكرتيره الخاص ويملي عليه ما كتب، وكانت كتاباته تبحث عادة في الموضوعات الانتخابية والقانونية، أو تتناول مقالاتٍ حَمَلَ عليه بها خصومُه السياسيون، فيفندها ويبعث بردِّه إلى إحدى الصحف الوفدية لتنشره في صدر أعمدتها بإمضاء مستعار أو بدون إمضاء، وكان إذا أعوزه الوقت في بعض الأحيان وحالت كثرة مهامه دون تَمكُّنه من الكتابة بنفسه، يدلي إلى سكرتيره بفكرة يبثه عناصرها ودعائمها، ويطلب إليه أن يصوغ بها مقالًا يرسله إلى صحيفة من الصحف المناصرة للوفد؛ كي تنشره على قرائها؛ إظهارًا للحقيقة وتنويرًا للأذهان.
وكان، رحمه الله، لا يكتب مذكراته القيِّمة إلا بخط يده، وكان من عادته أن يدونها دائمًا بالحبر كي لا يزول أثر الكتابة بالقلم الرصاص على مر الأيام، وقد كاد دفترٌ يحتوي على جزء من هذه المذكرات التاريخية النفيسة يُفقَد عقب وفاته بأيام؛ إذ رمى به أحدهم مع طائفة من الأوراق المهملة في الكناسة التي كانت ستُحمل من حجرة المكتبة، غير أن أحد نجلَي الأستاذ أمين يوسف السكرتير العام المساعد لمجلس الشيوخ كان مارًّا في تلك اللحظة أمام حجرة المكتبة، فوقعت عيناه على ذلك الدفتر، فالتقطه وتصفحه، وسرعان ما تبين أهميته، فحمله إلى أم المصريين التي اهتمت للأمر اهتمامًا عظيمًا، ومن تلك اللحظة استقر القرار على جمع مذكرات سعد باشا كلها وحِفظها في أحد المصارف التي كان، رحمه الله، يتعامل معها خوفًا عليها من الضياع، ويقول الذين أسمعَهم الفقيدُ العظيم أبوابًا من تلك المذكرات، التي سيكون لها شأن عند حلول يوم نشرها، أنها لا تتناول تاريخ الحركة الوطنية من أولها فقط، ولكنها تحتوي على تاريخ دقيق لجميع الحوادث الهامة التي حدثت في حياة سعد باشا منذ أن كان في سلك القضاء.
ومن المأثور عن سعد باشا أنه كان برغم تَبحُّره في اللغة العربية ووقوفه على كنهها وأسرارها يهتم كثيرًا بأن تجيء عباراته صحيحة الأسلوب فصيحة الكلمات؛ ولذلك كان لا يجلس للكتابة إلا ومعجم «أقرب الموارد» موضوع على مكتبه بالقرب منه، وكان إذا أراد إعداد مقال هام أو نداء خطير يكثر من تبديل عباراته وتحديد ألفاظه، حتى إنه كان لا يجد غضاضة في تغيير معظم جمله ثلاث مرات أو أربعًا. وكان إذا أملى على سكرتيره مقالًا أو خطابًا يأخذه منه بعد فراغه من إملائه عليه ويراجع عباراته وألفاظه بتروٍّ عظيم وهو يحمل القلم بيده ليرمِّج ما يرى وجوب ترميجه، أو ليحور ما يَحكُم بوجوب تحويره، أو ليضيف إليه ما يدعو المعنى إلى الإفاضة في البسط والإيضاح. ومما كان يبعث سعد باشا على الإكثار من مراجعة كتاباته وتحويلها وتبديلها، أنه كان يعلِّق على وزن الجمل واختيار مقاطع العبارات أهميةً كبيرة. وكان إذا خامره شك في انسجام جملة من جُمَله، قرأها بصوت مرتفع ليتذوق نغمها في سَمْعه. وكان، رحمه الله، يميل إلى اطلاع أعضاء الوفد ومن يكون حاضرًا في مجلسه من أصدقائه المقربين على ما يكتبه قبل إعطائه للنشر ليُبْدوا فيه ما يعنُّ لهم إبداؤه من الملاحظات التي كان يتقبلها بصدر رحب ولو صدرت عن سكرتيره، ما دام يقتنع بصوابها وصحتها، وكان برغم سعة اطلاعه (كما أشرنا إلى ذلك آنفًا) لا ينفك عن الرجوع إلى كتب اللغة القديمة، فيطالع أبوابها بإمعان واهتمام كأنه طالب علم في العشرين من عمره، وكان يجد لذة خاصة في مطالعة الكتب القديمة التي أعادت مطبعة دار الكتب المصرية طبعها بإتقان في السنوات الأخيرة؛ وهي: كتاب نهاية الأرب، وكتاب التاج، وكتاب الأغاني.
وكان الرئيس الجليل يميل عادة إلى الكتابة بعد انتهائه من مطالعة الصحف المحلية، وكان يبدأ بمطالعة الصحف المعارضة منها، فيراجعها من أولها إلى آخرها منعمًا في كل خبر من أخبارها، وخصوصًا الأخبار التي لها علاقة بالسياسة المصرية، ثم يتناول سائر الجرائد، فيقرأ أولًا الأخبار الخاصة بالوفد المصري، ثم يطلع على الأخبار الأخرى، وإذا كان لديه متسع من الوقت قرأ الصفحات الأدبية والعلمية والمقالات السياسية عن أحوال البلدان الأجنبية. وكان، رحمه الله، يمضي أوقات فراغه بالمطالعة في الكتب الفرنسية التي تبحث في القانون والسياسة والتشريع، وهذا علاوة على ما كان يطالعه من الكتب الألمانية والإنجليزية على يد المدموازيل فريدا؛ وصيفته الألمانية.
(٢) سعد واللغة الفرنسية
كان سعد «بك» زغلول مستشارًا في محكمة الاستئناف لمَّا وقعت هذه الحكاية، وكان رئيس المحكمة يومئذٍ قاضيًا يدعى بوند بك، وكان سعد بك لا يفقه حتى ذلك الحين من اللغة الفرنسية شيئًا ما، لا كثيرًا ولا يسيرًا، فحدث مرة أن هيئة المحكمة خَلَت للمداولة في قضية هامة كانت تنظر، وكان بوند بك في تلك المرة رئيسًا لهيئة المحكمة وكان سعد بك من أعضائها.
وفي سياق المناقشة والمداولة أدلى سعد بك برأي قانوني تشريعي على جانب عظيم من الأهمية والخطورة، فالتفت إليه بوند بك وقال له: «إن هذا الرأي خليق بأن يبدر عن قاسم أمين أو عن غيره من حملة الليسانس.»
فقاطعه سعد بك قائلًا: «يعني ما ينفعش إلا حامل الليسانس؟»
فقال بوند بك: «طبعًا.»
فسكت سعد.
ولم يخطر لأحد أن سعدًا صمم في سكوته على تعلم الفرنسية ونيل شهادة الليسانس من عاصمة فرنسا نفسها.
ولكن قرار سعد كان قد استقر في تلك الآونة على درس اللغة الفرنسية والاستعداد لإحراز الليسانس من الحكومة الفرنسية؛ لأنه رأى أن مقامه لا يسمح له بالتردد على مدرسة الحقوق المصرية.
وفعلًا أكب سعد من تلك الساعة على تحصيل اللغة الفرنسية وعلم الحقوق في وقت واحد، وكان إذا حل فصل الصيف سافر إلى فرنسا بالإجازة وقدم الامتحان السنوي أمام لجان الحكومة الفرنسية، وهكذا ظل يواصل الدرس والتحصيل والسفر إلى باريس حتى فاز في آخر الأمر بإحراز شهادة الليسانس من الحكومة الفرنسية وأخرس «بوند بك».
ويروي الذين كانوا يسافرون يومئذٍ مع سعد «بك» إلى أوروبا أنه كان يقضي أيام السفر بمراجعة مواد الامتحان، وأنه كثيرًا ما كانوا يُفيقون من النوم بعد نصف الليل فيُلْفُونه مكبًّا على كتبه وملفاته منهمكًا بالاستعداد لامتحانه.
(٣) متى ولد سعد
تعددت الآراء عقب وفاة الفقيد العظيم زغلول باشا في تعيين السنة التي رأى، رحمه الله، النورَ فيها؛ فقال بعضهم إنه ولد من سبعين سنة، وقال البعض الآخر إن سعدًا مات عن سبع وستين سنة، وعارض غيرهم في هذين التقديرين قائلِين إنه لما وافت المنيةُ سعدًا كان رضوان الله عليه قد تجاوز السبعين.
وقد كنا نزور «بيت الأمة» يومًا، فعثرنا فيه على شهادة الليسانس التي نالها الفقيد العظيم من باريس، وقد كتبت باسم «سعد زغلول بك» المولود في «ديانا» بمصر في أول يونيو «سنة ١٨٦٠».
فيكون سعد باشا إذن قد توفي عن سبع وستين سنة ميلادية؛ إذ مما لا ريب فيه أنه هو الذي مدَّ وزارة المعارف الفرنسوية باسم البلدة التي ولد فيها، فقلبوه إلى «ديانا» ظنًّا منهم أن اسم البلدة التي نشأ فيها الفقيد العظيم منسوب إلى «ديانا» آلهة الجمال.
ويؤخذ من هذه الشهادة أن نتيجة الامتحان الذي تقدم له سعد باشا ونجح فيه أعلنت في ٩ يوليو ١٨٩٧، وكان رحمه الله في السابعة والثلاثين من عمره يومئذٍ.
وفي ١٥ نوفمبر سنة ١٨٩٧ سُلِّمت الشهادة لسعد باشا وهي ممضاة من المسيو رمبو وزير المعارف الفرنسوية في ذلك الحين.
(٤) سعد وتقديره للأشخاص
في أثناء تربُّع المغفور له سعد زغلول باشا في كرسي رئاسة مجلس الوزراء، خَلَت وظيفة النائب العمومي ببلوغ محمد إبراهيم باشا السن القانونية، وكان المغفور له محمد سعيد باشا يقوم يومئذٍ بمهام وزارة الحقانية، فزار الفقيد العظيم وعرض عليه أسماء حضرات المستشارين، ولما فرغ من مراجعتها وبحثها التفت سعيد باشا إلى سعد باشا وقال له: «عندي في وزارة الحقانية موظف قدير اسمه طاهر بك نور، هو الآن مدير الإدارة القضائية، فأرجو أن تدعوه إلى مقابلتك وتحادثه مليًّا، ثم تَبِتَّ في اختيار الشخص الذي تقلَّده منصب النائب العمومي.» فعمل سعد باشا برأيه ودعا طاهر بك نور إلى مقابلته، ولم يكن قد اجتمع به قبلًا، فلما مَثَلَ بين يديه قال له: «لقد خلا منصب النائب العمومي، ونحن نريد تعيين موظف كفء في هذه الوظيفة، وأنت بحكم وظيفتك تعرف أسماء المستشارين الذين يصلحون لهذا المنصب مع مؤهلات كلٍّ منهم لتقلده والنهوض بأعبائه.» فأخذ طاهر بك يسرد أسماء المستشارين الذين يعتقد أن فيهم من الكفاية ما يستطيعون به تحمل تبعاته ويردف اسم كل واحد من حضراتهم بتعداد مواهبه ومؤهلاته، ولما فرغ من بسط محتويات جعبته في الموضوع الذي نحن بصدده استطرد سعد باشا في حديثه معه إلى الكلام عن بعض أعمال وزارته، وسأله أن يبدي له رأيه في بعضٍ منها بكل صراحة، فأجابه إلى طلبه دون أقل مواربة، ولما انتهى من حديثه صرفه سعد باشا شاكرًا، فما كاد يغادر مكتبه حتى تناول رحمه الله التلفون وقال لدولة محمد سعيد باشا: «أرجو أن تعد مشروع مرسوم بتعيين طاهر بك نور نائبًا عموميًّا.» وهكذا تم تعيين طاهر باشا نور في منصب النائب العمومي.
(٥) سعد وحجته القانونية
لمَّا أُحيل سلامة بك ميخائيل، عضو الوفد المصري، إلى مجلس تأديب لمحاكمته على الاشتغال في الشئون السياسية، مع أنه من موظفي الحكومة المصرية، طلب سعد باشا (وكان يومئذٍ ما يزال يلقب بمعالي) من الأستاذ مرقص حنا بك (والآن باشا) نقيب المحامين، أن يَستشهد في دفاعه عنه بالنظرية القانونية الفلانية.
وفي مساء اليوم التالي كان سعد باشا جالسًا في مكتبه بسلاملك بيت الأمة مع جماعة من صحبه وأعوانه حين دخل عليه مرقص باشا يقول: «إني لم أوفَّق يا معالي الباشا إلى العثور على النظرية الفلانية التي خاطبتموني أمس في شأنها.»
(٦) سعد وقوة ذاكرته
في الأيام الأخيرة من شهر يناير سنة ١٩٢٦ زار بيتَ الأمة الأستاذُ حسين والي، من كبار المحامين في الإسكندرية، ومعه فريق من زملائه فيها، وكان سعد باشا ساعة قدومهم في خارج بيت الأمة في رياضته العادية، وعند عودته استقبله هؤلاء المحامون في الدَّرَج المؤدي إلى مكتبه، وتَقدَّم الأستاذ حسين والي فصافح دولته وقدم إليه إخوانه المحامين، فصافحهم دولة الرئيس ثم دقق النظر في الأستاذ والي وسأله عن اسمه ثانيًا فأجابه، ففكر الرئيس لحظة ثم أشار إليه بيده وهو يقول: «أتذكر أنك ترافعت أمامي … في أي سنة؟ في سنة ١٩٠٤ … أعجبتني مرافعتك كثيرًا … ولا أتذكر هل هنَّأْتُك أو لا …»
ثم شرع دولة الرئيس الجليل بسرد القضية وظروفها ووجهة إعجابه بالأستاذ حسين والي المحامي كأنه يقص شيئًا من حوادث الأمس …!
كل ذلك ودولته واقف على رأس السلم حيث استقبلوه …
(٧) سعد وحدَّة فطنته
كان النائب المحترم بشري بك حنا جالسًا يومًا في حضرة الفقيد العظيم حين دخل عليه معالي (واليوم دولة) محمد محمود باشا، فشُغِل رحمه الله بالحديث معه فتبادر إلى ذهن بشري بك أن دولته أعرض عنه استخفافًا به أمام محمد محمود باشا، فانصرف من بيت الأمة في ذلك اليوم وقد عول على ألا تطأ قدماه عَتَبَتَه مرة أخرى. وفعلًا مر الأسبوع تلو الأسبوع بدون أن يعود إلى زيارة الرئيس كجاري عادته، فلم يَخْفَ الأمر على معالي فتح الله بركات باشا، فسأله عن الباعث له على إحجامه عن زيارة دولته، فقص عليه ما كان من معاملة الرئيس له، وأنه قرر عدم زيارة بيت الأمة في المستقبل مع احتفاظه بمبدئه السعدي، فتوجه معاليه في الحال إلى بيت الأمة وأبلغ الفقيد العظيم أن بشري بك عاتِبٌ عليه للسبب الذي بسطناه آنفًا، فأطرق رحمه الله لحظة ثم قال: «ادعه إلى الغداء عندي وادعُ معه محمد محمود باشا.» فخاطب فتح الله باشا بشري بك بالتلفون وقال له: «إن الباشا يدعوك إلى الغداء عنده.» فقال بشري بك: «إني مرتبط اليوم بموعد آخر.» فقال له فتح الله باشا: «إن غداء الباشا موعده غدًا لا اليوم.» فقبل بشري بك الدعوة، وفي ظهر اليوم التالي قصد إلى بيت الأمة فألفى دولة محمد محمود باشا في حضرة الرئيس، فلما رآه رحمه الله داخلًا عليه نهض له هاشًّا باشًّا، وأقبل عليه طول مدة الغداء يتبادل وإياه النوادر والحكايات المستملحة، وقبل أن ينهضوا عن المائدة الْتَفَتَ (طيب الله ثراه) إلى محمد محمود باشا، وأعرب له بعبارات رقيقة عما لبشري بك من المنزلة الرفيعة في قلبه.
(٨) سعد ولَباقته
في خلال سنة ١٩٢١ كتب بعض خصوم الوفد في بعض صحفنا اليومية يقولون إن المظاهرات التي تقام لسعد زغلول باشا ليست سوى مَظاهر مفتعلة، وأن جميع أصوات الهتاف التي تكاد تبلغ الجوزاء لا تحركها إلا «الريالات».
وفي يوم من الأيام قصد أحد صحفيِّينا المعروفين إلى بيت الأمة ومعه نجله ليقدمه لدولة الرئيس، فلما دخلا عليه قال لدولته: «لقد جئت لأقدم لكم نجلي الذي كان يهتف أمس باسمكم في حفلة شاي أقامها لجمهور من زملائه.»
فالتفت سعد باشا إلى الشاب وقال له: «وكم دفع لك سعد باشا كي تهتف باسمه؟» فقال الشاب على الفور: «ولا مليم يا افندم.»
فقال رحمه الله عندئذٍ للصحفي المشار إليه آنفًا: «إذا كان ابنك يسلك هذا المسلك ويقول هذا الكلام، فكيف ترضى أن تنشر في جريدتك كتابات يقول فيها خصومي عني أنني أدفع للهاتفين أجور الهتاف باسمي؟» ومن ذلك اليوم لم يعد الصحفي المذكور يرضى بنشر كلمة واحدة على صفحات الجريدة في هذا الموضوع.
(٩) سعد وشدة صراحته
ما كاد الوفد المصري يذيع في الانتخابات الأخيرة قائمة المرشحين الذين يؤيدهم ويعضدهم وما كاد … بك … يرى أن تلك القائمة جاءت خلوًا من اسمه حتى زار بيت الأمة وتشرف بمقابلة سعد باشا، فكان أول ما قاله لدولته عند دخوله عليه في غرفته الخاصة: «لماذا لم ترشحوني في هذه الانتخابات؟» فنظر إليه سعد باشا شذرًا وقال له: «لأنني لم أفكر فيك ولم أشأ أن أفكر فيك.» فانصرف … بك من حضرة الرئيس وتقدم إلى الانتخابات من تلقاء نفسه على مبادئ الوفد المصري، فأصدر الوفد بلاغًا قال فيه إنه لم تَعُدْ له أقل صلة به، وإن الوفد لا يؤيد ترشيحه على الإطلاق.
(١٠) سعد وقوة وطنيته
بينما كان النحاس باشا والأستاذ مكرم وسينوت بك حنا جالسين ذات ليلة على شرفة الدار التي كان سعد باشا يقطنها في سيشل يتحدثون عن التعب الذي ألمَّ بدولته من يومين، أقبل عليهم (رحمه الله) وهو يلوح بيديه بدون أن يقوى على الكلام، فنهضوا إليه مسرعين قائلين: «ما لك يا باشا؟ … ما لك؟» فأشار إلى لسانه كمن يريد أن يُفهمهم أنه معقود، ثم أشار إليهم بأن يجلسوه على كرسي طويل (شيزلونج) فأجلسوه عليه، فأخذ يتنفس بشدة وبعدما استراح قليلًا ساعدوه على العودة إلى غرفته وجلسوا ملتفِّين حول فراشه، فلم يلبث أن نام نومًا هادئًا، فظلوا مقيمين في حجرته ليكونوا رهن إشارته وعلى استعداد لتلبية أوامره. وفي نحو الساعة الخامسة صباحًا، فتح (رحمه الله) عينيه فأبصرهم جالسين على مقربة منه، فقال لهم: «ما تخافوش … ما تخافوش.» وسكت قليلًا ولمَّا استرد قواه استأنف كلامه قائلًا: «إن الحياة لا تستحق أن يحزن عليها المرء كثيرًا … ثم ما الفرق بين الموت هنا والموت هناك … لقد كنت أتمنى أن تدركني الوفاة في المنفى فتُذَكِّي نارَ الحماسة والوطنية في نفوس المصريين؛ إذ أكون بموتي هنا قد ضربت لهم مثلًا في كيفية بذل المُهَج والأرواح في سبيل الوطنية والنهضة القومية.»
(١١) سعد ونكاته
مزار الأكراد
لمَّا كان الفقيد العظيم مقيمًا في بساتين بركات قبيل انتقاله إلى جوار ربه زاره يومًا عبد العزيز رضوان بك، عضو مجلس الشيوخ، ومعه نجله الوحيد وهو في نحو العاشرة من عمره، فلما أقبل الفتى على دولته لثم يده، فقبله رحمه الله في جبينه وسأله عن اسمه، فأجاب: «محمد عبد العزيز رضوان الكردي»، فابتسم سعد وقال: «ومن أين أتى اسم الكردي هذا؟» فقال عبد العزيز رضوان بك: «بقيتُ يا دولة الباشا مدة طويلة بدون ولد، وفي سنة من السنوات قصدت إلى دمشق الشام، وفي ذات يوم زرتُ مزارًا للأمراء الأكراد، وفيما أنا أجول فيه خطر لي أن أسأل المولى الكريم أن يمنَّ عليَّ بولد وعاهدته تعالى إذا أجابني إلى سؤالي أن أسمي ابني الكردي نسبة إلى السادة الأكراد، ثم لم ألبث أن رجعت إلى مصر، وبعد مدة غير طويلة رزقت ولدي هذا، فأسميته الكردي، ومن ذلك الحين لم أرزق غيره.»
فضحك سعد باشا وقال: «ولماذا لم تكرر الزيارة لمزار الأكراد؟»
لحية الدكتور
كان المغفور له سعد باشا في مقدمة المدعوين الذين دعاهم سعادة أمير الشعراء أحمد شوقي بك إلى حفلة الشاي التي أقامها في داره بالجيزة إكرامًا لشاعر الهند وفيلسوفها الكبير الدكتور تاغور.
ولاحظ الحاضرون في تلك الحفلة أن لحية الدكتور محجوب ثابت كانت يومئذٍ أقصر من المعتاد، والظاهر أنها كانت مقصوصة «طازة» بمناسبة تلك الحفلة.
ولما دخل الدكتور محجوب على دولة سعد باشا ليصافحه لأول مرة بعد تلك «الغيبة» الطويلة، التفتَ أحدهم إلى الدكتور محجوب وقال له: «لقد قصرت لحيتك يا دكتور؟»
فقال سعد باشا ضاحكًا: «لقد استعاض بها المذكور.»
وكان رحمه الله يعني «بالمذكور» الدكتور تاغور ولحية تاغور فيها «البركة» كما يرى من صورته.
أمنيته
زار بيتَ الأمة في أثناء الانتخابات النيابية الأولى وفدٌ من الأقاليم ليعلن ثقته بدولة الرئيس الجليل، وخطب أحد أعضاء الوفد بين يدَيْ دولته، فكان بين عباراته العبارة الآتية: «لو نفيت الآن يا معالي الرئيس إلى أقصى المعمورة لسعت إليك قلوبنا لتعلن ثقتها بك.»
فضحك رحمه الله وقال: «بس وعلى إيه؟»
ميزان الصحة
يذكر القراء أن دولة الرئيس الجليل كان معتكفًا حينما استقالت الوزارة العدلية الماضية، فلما أُلِّفَت الوزارة الثروتية وتَقرَّر أن تتقدم إلى مجلس النواب أصرَّ (طيب الله ثراه) على أن يرأس جلسة المجلس في ذلك اليوم بنفسه.
وعلى أثر ارفضاض جلسة المجلس عاد الرئيس إلى بيت الأمة، والتقى عند بابه الخارجي بمندوب إحدى جرائدنا اليومية، فقال له هذا بعد التحية: «ربنا يديك العافية يا دولة الباشا … يظهر أن اللورد لويد كان مصيبًا عندما قال إن الأزمات تنعش سعد باشا وترد إليه صحته ونشاطه.»
فابتسم سعد باشا وقال: «ربنا يمد في حياته.»
التماس حافظ
ربما كانت النادرة التالية خيرَ ما قيل للدلالة على قوة حجة سعد باشا وبلاغة عبارته، فإن شاعر النيل حافظ بك إبراهيم كان مرة بين ضيوف الرئيس الجليل في مسجد وصيف، وقد عُرف عنه أنه مولع جدًّا بالكمثرى ولا يميل كثيرًا إلى التفاح.
وفي ذات يوم كانت مائدة سعد غاصة بالزائرين، والظاهر أن جلهم كان مولعًا بالكمثرى مثل حافظ بك، فلما انتهوا من الطعام وجيء إليهم بالفاكهة أقبلوا كلهم على أطباق الكمثرى يلتهمونها الْتهامًا نابذين أطباق التفاح، فأسقط في يد حافظ بك، وأخيرًا لمَّا بلغ منه اليأس أشده التفت إلى الفقيد العظيم وقال: «ما تخطب لهم يا باشا في مزايا التفاح.»
تمثال نهضة مصر
حدث لمَّا زار الفقيد العظيم تمثال نهضة مصر أنه بينما كان دولته يتفرج على القاعدة، دنا منه أحد المصورين ورجاه أن يسمح له ولزملائه بتصويره واقفًا لوحده أمام التمثال حتى يقال: «زعيم نهضة مصر واقفًا بجانب تمثال نهضة مصر»، فأجابه دولته إلى رجائه وسار إلى حيث التمثال ووقف أمامه كَمَنْ يتفرج عليه، فقال له المصور: «نحن نرجو دولتكم أن تعطوا لنا وجهكم حتى يظهر مع التمثال.» فقال سعد باشا: «ولكني لا أظن أنه يليق أن أعطي ظهري لنهضة مصر.» وبعدما استشار سعد باشا الواقفين بجانبه رضي أن يذعن لهذا الحكم الفني.
وكان المغفور له حسين رشدي باشا يصحب سعد باشا في هذه الزيارة، وبينما هما يسيران جنبًا إلى جنب، وصلا أمام باب ضيِّق لا يَسَعُ مرور أكثر من شخص واحد، فقال الرئيس الجليل لرشدي باشا: «تفضل يا باشا.» فتنحى رشدي باشا وقال: «لا ما يصحش، تفضل أنت يا باشا.» فدفعه سعد باشا أمامه وقال له وهو يبتسم: «أنت أكبر مني سنًّا، فادخل أولًا.» فلم ير رشدي باشا عندئذٍ مندوحة عن المرور قبل الرئيس.
(١٢) سعد بين الشجاعة والشفقة
حدثنا معالي فتح الله بركات باشا فقال:
«في ٢٣ ديسمبر سنة ١٩٢١ اعتقلت السلطة العسكرية صاحب الدولة سعد زغلول باشا، رئيس الوفد المصري، في داره ببيت الأمة، وأرسلته إلى السويس بسيارة اجتازت المسافة بين المدينتين في نحو ثماني ساعات، لم يشعر دولته في أثنائها بتعبٍ ما رغم شيخوخته وانحراف صحته، كأن العناية الربانية نفخت فيه روحًا جديدة ساعدته على تحمُّل ما تَكبَّده في تلك الرحلة الطويلة من تعب ومشقة، مما كان لا يقوى على تحمُّله ساعة واحدة في الأحوال العادية، وخصوصًا أن الفصل كان فصل شتاء ومطر.
ولم يمض علينا في عدن زمن طويل حتى أصيب رفيقنا الأستاذ مكرم عبيد بمرض شديد اقتضى نقله إلى المستشفى، فأصر المرحوم عاطف بركات باشا ومصطفى النحاس باشا على أن يكونا بصحبته وتطوعا للذهاب معه للسهر عليه وخدمته، وأخيرًا اتفقنا معهما على أن يتناوبا العمل في العناية به؛ فيقضي عاطف باشا معه أربعًا وعشرين ساعة، ثم يعود إلينا، ويحل مصطفى باشا محله أربعًا وعشرين ساعة أخرى.
وكنت مصابًا في تلك الأثناء برمد في إحدى عيني، فكان سعد باشا يعودني ليستفسر عن صحتي، فلا تكاد عينه تقع على عيني حتى يرثي لحالي وحال الأستاذ مكرم، فيجهش بالبكاء وتنهمر الدموع من عينيه الصافيتين على خديه وتتصاعد الزفرة من قلبه تلو الزفرة، فأتأثر لتأثره أكثر من تأثري لحالي وحال زميلي … وكنت أعجب لمسلك سعد باشا وأقول في نفسي هل يجوز له أن يبكي، يا ترى، لمرض رفيق؟ وهو الذي ينبغي عليه أن يكون قدوة لشعب بأسره في التضحية والبذل والمثابرة والشجاعة والإقدام …
في تلك الساعة تذكرت أنه كثيرًا ما عرفت أناسًا اتصفوا بالشجاعة مع أنهم لم يعملوا عملًا تجلت فيه الشجاعة، وأنه كثيرًا ما التقيت بأناس اشتُهروا بالفصاحة والبلاغة مع أن كتاباتهم لم تكن من بنات أفكارهم ولا من ثمرات أقلامهم، وأنه كثيرًا ما صادفت أناسًا عُرفوا بالتقوى والفضل مع أنهم ليسوا من التقوى والفضل بشيء؛ تذكرت ذلك كله ثم تساءلت قائلًا هل سعد باشا من أولئك الناس، يا ترى؟ وهل ما عهدناه فيه وما كنا نظنه فيه يرجع إلى الْتفاف الأمة حوله وانضوائها تحت لوائه لا إلى أخلاقه وصفاته الشخصية؟ …
جزعتُ لهذه الفكرة واضطربتْ أعصابي، ولم يعد يهدأ لي بال، غير أن ما انتابني من جزع وفزع لم يدم طويلًا؛ فإنه بينما كنا جالسين ذات يوم نتناول طعام الإفطار، دخل علينا وكيل حاكم عدن، وهو إنجليزي، وحيانا وجلس معنا، فدعوناه إلى الأكل فاعتذر شاكرًا، ثم التفت إلى سعد باشا وقال له إنه تلقى أمرًا بوجوب ترحيله إلى جزائر سيشل، وأنه يجب على دولته أن يكون في البارجة الحربية التي أعدت خصيصًا لنقله إلى تلك الجزائر في خلال ساعة ونصف ساعة؛ فصعقنا لهذا النبأ، وكيف لا نصعق له ونحن نرى أناسًا يَفصلون عنا أبانا وزعيمنا وأبا الأمة وزعيمها، فطلبنا إلى وكيل الحاكم أن يسمح لنا بالسفر مع سعد باشا، فأجابنا أن الأمر الذي بيده صريح وهو لا يذكر غير سعد باشا، فبكينا بكاء الأطفال وأخذنا نندب سوء مآلنا لافتراقنا عن الوالد الزعيم، ثم قلنا لوكيل الحاكم: «إذا كنتم لا تريدون أن تسمحوا لنا بصحبة سعد باشا، فلا أقل من أن تسمحوا لأحدنا بصحبته؛ رأفة بصحته وشفقة على شيخوخته»، فقال: «إني سأبلغ أمنيتكم هذه إلى المراجع العليا، ولكن لا بد الآن لسعد باشا من أن يتوجه وحده إلى البارجة التي اختيرت لنقله إلى سيشل.» وكان كل من الزملاء يتسابق عندئذٍ إلى أن يكون في ركاب سعد باشا، مع أن السائد على أفكارنا كان أنه ذاهب إلى الأبد، وأن من يبقى في عدن قد يعود إلى الوطن، غير أن التسابق والتزاحم إلى مرافقة سعد كانا عظيمين رغمًا من هذا الاعتقاد، وكان كلٌّ منا يشعر بأن السعيد هو من يفوز بهذه الأمنية الثمينة. ولما ألفينا وكيل الحاكم مصممًا على رأيه شرعنا في كتابة كتاب شديد اللهجة وجهناه إلى السلطة البريطانية محتجين فيه بقوة على المعاملة التي عومل بها رئيسنا وزعيمنا، وطلبنا في ختامه أن يُلحقونا به ويُرسلونا في أثره أو أن يبقوه معنا.
ولما فرغنا من كتابة الاحتجاج، اتصل خبره بسعد باشا، فاستحلفنا بكل عزيز علينا ألا نرسله قائلًا: «إنني أعلم أني لن أرجع إلى مصر وأن قبري لن يكون في مصر، وقد كاشفتكم برأيي في هذا الصدد من زمان طويل، فإنه لا يعقل أن أعود إلى مصر إلا في حال من حالتين لا ثالث لهما؛ فإما أن ترجع انجلترا عن خطتها وتعترف لمصر باستقلالها، وعندئذٍ يعود زعيم الاستقلال إلى بلاده ويقضي البقية الباقية من حياته بين قومه، أو يَعدل زعيم الاستقلال عن خطته ويُقلع عن سياسته، فيرجع إلى بلاده خاضعًا للسلطة المحتلة؛ وحيث إني لا أنوي أن أسلك هذا المسلك، وحيث أنه لا يبدو لنا أن إنكلترا تنوي الاعتراف باستقلالنا، فإني سأقضي بقية حياتي خارج بلادي، فلماذا تصرون على إرسال هذا الاحتجاج الذي لا يغنينا فتيلًا، وخصوصًا أنه قد يزيد في بغضهم لكم فيعوقون رجوعكم إلى قومكم لخدمة بلادكم؟! فدعوني أذهب إلى سيشل وارجعوا أنتم إلى مصر، وأبلغوا أبناءها الأعزاء أن زغلولًا يحييهم ويوصيهم بالاتحاد وتوحيد الجهود إلى ما فيه خير الوطن … قولوا لهم … أبلغوهم …»
وهكذا استمر سعد باشا يسدي إلينا النصح والإرشاد ببلاغته المعهودة وحكمته المعروفة وثبات تام، إلى أن أزف موعد الرحيل، فرافقناه إلى الميناء ونحن نبكي ونولول كالأطفال، أما هو فكان رابط الجأش، ساكن الجنان، ثابت الخطى، جهوري الصوت، لم يذرف دمعة واحدة حتى آخر لحظة …
وعندئذٍ عجبت كيف أن هذا الرجل الذي كان يبكي لأقل ألم يصاب به أحد صحبه يقوى في مثل هذا الموقف على التغلب على عواطفه وشعوره ويكفكف دموعنا ويهدئ من روعنا.
وعندئذ عرفت أن الرحمة والشفقة في قلب الزعيم شيء، وأن روح البذل والتضحية في سبيل الوطن شيء آخر، وأنه رجل لا يهاب المكاره مهما عظمت، ولا يحفل بالأخطار مهما كبرت، ما دام يعتقد أنه سائر في طريق الحق، يعمل لأجل الحق، وفي سبيل الحق.
ولما وطئت قدما سعد باشا الزورق الذي أقلَّه إلى البارجة الحربية، التفتَ إلينا وأنشد ما أنشده الشاعر العربي:
وبعد تسعة أيام سمحت لنا السلطة باللحاق بسعد باشا، فرقصنا للنبأ من شدة سرورنا وفرحنا، ولم نَنَمْ تلك الليلة البتة من عظم ابتهاجنا واغتباطنا، وكان كلٌّ منا يعتقد أن تلك الليلة أسعد ليالي حياته؛ لأنه سيجتمع عما قريب بالزعيم، وكنا نشعر أن العودة إلى مصر من دونه مصيبة عظيمة، كنا ندعو الله أن يقينا منها، وألا يعيدنا إلى مصر إلا بركاب سعد باشا؛ إذ كنا نحس أن في اللحاق به والعيش بالقرب منه السعادة، وأن في الرجوع إلى الوطن من غيره والعيش بعيدًا عنه الشقاء، فأنقذنا الله من الشقاء بفضله ومنِّه تعالى.»
•••
وقد كنا جالسين مرة مع أحد الوزراء السابقين، فدار الحديث على حنوِّ قلب سعد باشا ورقَّة عواطفه، على الرغم مما كان يتجلى للناس من قوة شكيمته وشدة بأسه، فقصَّ عليه معاليه أن الفقيد العظيم روى له مرة أنه لما تولى تأليف الوزارة الشعبية الأولى في سنة ١٩٢٤، ذهب يومًا لزيارة اللورد اللنبي المندوب السامي البريطاني في مصر إذ ذاك، فاستقبله فخامته في مكتبه بداره مرحِّبًا بزيارته مبالِغًا في الاحتفاء به، قال سعد: «وكان باب المكتب ونافذته مفتوحين عند دخولي إليه، فتولَّد عن فتحهما تيار هوائي شديد لم يكن لي قِبَلٌ بتحمله، فلم يَخْفَ ذلك على اللورد، وما لبث أن نهض فجأة وسار نحو النافذة أولًا ثم نحو الباب وأغلقهما بنفسه، ولم يكتفِ بما صنعه، بل عاد إلي مسرعًا ورجا مني أن أنهض قليلًا، ففعلت وأنا لا أدري مرامه، فلم يكن منه إلا أن حمل بيديه الكرسي الذي كنت جالسًا عليه ونقله إلى مكان منعزل في جانب من جوانب القاعة لا ينفذ إليه الهواء، فكان لمسلكه أعظم وقع في نفسي، حتى إنني كدت لا أصدق ما تراه عيناي؛ إذ هل كان يخطر لأحد أن ذلك الذي نفاني إلى سيشل، غيرَ مبالٍ بمرضي، يهتم الآن بصحتي كل هذا الاهتمام، ويتولى بنفسه نقل كرسي من مكان إلى آخر لئلا أصاب بلفحة برد قد تؤثر في حالتي؟ … إنه سلك مسلكه الأول عملًا بواجبه كمندوب سامٍ، وسلك المسلك الثاني كرجل مدفوعًا بدافع شعوره الإنساني، وأكبرت روح الرجل وشهامته ولعنت المصالح والظروف والأهواء السياسية التي تقضي على الرجال أحيانًا بأن يظهروا بعكس ما تنطوي عليه حقيقة نفوسهم البشرية.» وهنا لاحظ الحاضرون أن دمعتين كبيرتين تتساقطان من عينَي سعد الصافيتين.
وكنا موجودين في أحد أيام شهر أبريل سنة ١٩٢٧ في مكتب الفقيد العظيم ببيت الأمة، وكان بين الحاضرين المغفور له رشدي باشا ومعالي أحمد خشبة باشا، وكان رشدي يزور بيت الأمة في ذلك اليوم لأول مرة بعد شفائه من مرض ألزمه الفراش بضعة أسابيع، فأخبرنا أنه لما قابل سعد باشا في حجرته بالطابق العلوي قبل اجتماعه بنا بنصف ساعة، قال رحمه الله: «لقد أخبروني يا رشدي باشا أنك نهضت من فراشك وأنت مريض وخاطبت بيت الأمة بالتلفون سائلًا عن صحتي، فأنا أشكرك على حسن عنايتك ورقيق شعورك.» فرد عليه رشدي باشا بقوله: «ثِقْ يا سعد باشا أنه لو كنتَ أنت في الإسكندرية وكنتُ أنا في القاهرة، وبلغني أنك مريض، ولم يكن بين المدينتين مواصلات حديدية ولا غيرها؛ لكنت أذهب إلى الإسكندرية مشيًا لأستفسر عن صحتك وأطمئن على حالك؛ لأن الصداقة التي بيننا صداقة أبدية مهما اعتراها في بعض الأحيان من فتور.»
قال لنا رشدي باشا: «وهنا نظرت إلى سعد باشا فرأيت عينيه تترقرقان بالدموع، فدنوت منه لأمازحه وقلت له باسمًا: «ولكن لا تنسَ أنك تلميذي».» وكان دولته يشير بذلك إلى الدروس القانونية التي أخذها سعد باشا عنه لما بدأ يتعلم الحقوق باللغة الفرنسية، فافتر الفقيد العظيم باسمًا وسرَّى عنه.
•••
ولما انتقل المغفور له عبد الخالق ثروت باشا إلى جوار ربه في الصيف الماضي، اهتممنا بمعرفة ما دار بينه وبين سعد باشا لما زاره لأول مرة في بيت الأمة في بدء عهد الائتلاف بعد الخلاف الكبير الذي قام بينهما، فلم يكن لنا مرجع نستقي منه هذه المعلومات خيرًا من معالي فتح الله بركات باشا، الذي كان في مقدمة مَن سعى للائتلاف وعمل له، فسألناه عما كان من أمر سعد باشا لما دخل عليه ثروت باشا في تلك المقابلة الأولى فأجابنا: «لم ينبس ببنت شفة؛ لأن عَبَراته كانت أسبق من لسانه، فخنقت عباراتِه، فنهض وعانق ثروت باشا طويلًا.»
وقد حدث مرتين أن تغلبت الدموع على المغفور له سعد باشا أمام جموع حافلة من الناس؛ أما المرة الأولى فكانت يوم الاحتفال بتأبين شقيقه المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا؛ فإنه لمَّا نهض ليشكر المُعَزِّين والشعراء والخطباء على مؤاساتهم، حبست الدموع كلمات الشكر التي كان يريد ارتجالها في ذلك المقام، فاكتفى بأن قال: «سادتي، عسى أن يكون في دموعي هذه أعظم شكر لحضراتكم»، وصمت فكان بليغًا في صمته كما كان بليغًا في استرساله؛ أما المرة الثانية فكانت في أثناء الحركة الوطنية حين مرت جنازة إحدى ضحايا الحرية أمام بيت الأمة، فخَفَّ (رحمه الله) إلى السير في طليعة المشيعين وقد بللت دموعه وجهه الوضاح.