العنوان١
عنواني هذا ليس بالجديد؛ لأنني كتبتُ به منذ اثنتي عشرة سنة سلسلة فصول، وأدرتها على موضوع الكتب والقراءة، وما كان يطرق ذهني ويختلج في نفسي من الخواطر والآراء وأنا بين صفحات الكتب ومذاهب التفكير، وكنت يومئذ في أُسْوان والحرب العظمى في بداءتها، وجوُّ السياسة في القاهرة مضطرب أشدَّ الاضطراب، وجوُّ الأدب ليس بأصلح منه حالًا ولا بأهدى للسالكين فيه، فأويت إلى أُسْوان أقرأ وأرتاض وأُثْبِتُ في الورق ما تبعثه فيَّ قراءة الورق والرياضة بين المشاهد والآثار، واجتمع من تلك الفصول كتاب مسهب مختلف بين كلام في الشعر، وكلام في التاريخ، وكلام في الدين، والاجتماع، والأخلاق، وما إلى ذلك من المباحث المتواشجة والمسائل المتجاذبة، ثم قُضي على ذلك الكتاب أن يُطوى «طي السجلِّ للكتب» وأن يذهب بعضه في المطبعة، وبعضه في النار، نعم! فقد ضاعت مسودات فصوله الأولى في مطبعة كنت اتفقت معها على إتمام طبعه ونشره، فما برحت القاهرة وقفلت إلى أُسْوان حتى كانت قد أصدرت منه كراساته الخمس التي كنت طبعتها أنا على حسابي، وتركتها في ذمة الطابع ليكملها، ويضم إليها بقية الرسائل والفصول، وأحرقت أنا بقية تلك المسودات في ساعة غضب ليس هنا مقام تفصيل أسبابه، أضاعت ثمرة كل هاتيك الساعات الطوال.
فلما صحت النية على إنشاء البلاغ الأسبوعي، واتسع فيه المجال للكتابة الأدبية والموضوعات التي ليست من قبيل ما ينشر في الصحف اليومية، أحببت أن أختار للكتابة فيه بابًا من أبواب الأدب الكثيرة أعادوه مرة في كل أسبوع، وترددت في اختيار ذلك الباب أيكون مبحثًا واحدًا متسلسل الأجزاء متعاقب الحلقات أم يكون رسائل متفرقة من حيثما وردت على القلم، لا وحدة بينها ولا محور لها غير وحدة الأدب ومحور التفكير والتخييل، أو يكون قصصًا أو ذكريات أو تحليلًا «للأشخاص» أو وصفًا للحوادث والأطوار، أو ماذا يكون من تلك المناحي التي تتكاثر على الذهن ساعة الاختيار، والابتداء بين مذاهب شتى لا وجه للتفضيل بينها والتمييز، ثم كان يوم وصلت فيه ثلاثة كتب قيمة من مؤلفيها ومترجميها يسألونني النظر فيها والكتابة عنها، فذكَّرني ذلك ما تلقاه الكتب في أدراج الصحف من الإهمال، أو الإعلان المقتضب في شيء من المجاملة المبهمة والصيغ المحكية المتكررة، فقلت في نفسي ومتى سأقرأ هذه الكتب وما تَقَدَّمها وما يأتي بعدها؟ ثم متى أكتب في نقدها بما تستحقه، أم تُرى أسكت عنها وأنفض عن كتفي هذا الواجب الذي عرضني له أصحابها على غير مشاورة، وعلى غير تقدير — فيما أظن — للفوارق الكثيرة بين الصحف الأوربية والصحف العربية التي لم تبلغ بعد من التخصص في الموضوعات والأقلام ما بلغته صحافة الغرب في الزمن الأخير؟ وهنا لاح لي خاطر واستقرَّ رأيي عليه في الموضوع الذي أختاره للصحيفة الأسبوعية، ثم لاح لي ذلك العنوان القديم فألفيته أليق عنوان به وأدلَّه على غرضي منه: هذه كتب كثيرة ترسلها المطابع في كل يوم بعضها مما يستحق التنويه، وبعضها مما يستحق الإغفال، وكلها مما يجول فيه الفكر ساعة ثم تعرض له في تلك الساعة أفكار وملحوظات تستحق أن تدون على الهوامش أو في المتون، فلنقْضِ إذن بين تلك الكتب الكثيرة ساعات للتصفح أو الدرس والتأمل، ثم نقول لمؤلفيها ولقرائنا ما تمليه علينا تلك الساعات من تقدير محمود أو مذموم، وليكن عنواننا في الصحيفة الأسبوعية هو ذلك العنوان القديم، راجين أن يكون له في عهده هذا حظ أجمل من حظه في عهده المدثور.
•••
ولكن ما هذه الساعات بين الكتب، وماذا عسى أن يكون محصولها الذي نخرج به منها على الإجمال؟ أهي ساعات منقطعة للطروس والمحابر، ننقلب فيها من الدنيا الحية النابضة إلى دنيا أخرى من الحروف والأوراق؟ أهي ساعات بين الكتب؛ لأنها ليست ساعات بين الأحياء كما قد يتوهم الذين يقسمون الزمن إلى قسمين: ساعة للقلب وساعة للرب وبينهما برزخ لا تختلط عليه البروج، ولا يعبره هؤلاء إلى هؤلاء؟ أود أن أقول في إيجاز وتوكيد: كلا! ليس للأوراق في «علم صناعتي» مادة غير مادة اللحم والدم، وليست المكتبة عندي — أيًّا كانت ودائعها — بمعزل عن هذه الحياة التي يشهدها عابر الطريق، ويحسها كل من يحس في نفسه بخالجة تضرب وقلب يجيش وذاكرة ترن فيها أصداء الوجود، وإنما الكتاب الخليق باسم الكتاب في رأيي هو ما كان بضعة من صاحبه في أيقظ أوقاته، وأتم صوره، وأجمل أساليبه، وهو الحياة منظورة من خلال مرآة إنسانية تصبغها بأصباغها، وتظللها بظلالها، وتبدو لك جميلة أو شائهة، عظيمة أو ضئيلة، محبوبة أو مكروهة، فتأخذ لنفسك زبدتها الخالصة، وتعود بها وأنت حي واحد في أعمار عدة أو عدة أحياء في عمر واحد. ذلك هو الكتاب كما أستحبه وأطلبه، وعلى هذا لا تكون ساعاتنا مع القارئ بين الكتب إلا ساعات نقضيها في غمار هذه الدنيا بين الأحياء العائشين، أو بين الأموات الذين هم أحيا من الأحياء.
ولست أدري كيف نشأ في أوهام الناس أن دنيا الكتب غير دنيا الحياة، وأن العالِم أو الكاتب طراز من الخلق غير طراز هؤلاء الآدميين الذين يعيشون ويحسون ويأخذون من عالمهم بنصيب كثير أو قليل، ولكني أحسبها بقية من بقايا الامتزاج بين الدين والعلم أيَّامَ كان رجال الأديان هم رجال العلوم، وكان سمتُ الدين هو سمت الزهد والتبتل والعكوف على الصوامع والمحاريب، فكان العالم المتفقه عندهم لا يُفتح عليه بالعلم، ولا يُمَدُّ له من أسبابه إلا بمقدار إعراضه عن العيش المباح منه والحرام، واعتزاله الناس الأخيار منهم والأشرار، وكانت عندهم علوم للشيطان كما كانت عندهم علوم لله، فمن طلب هذه أو تلك فعليه بالتجرد عن الدنيا ورياضة النفس على الشظف والحرمان إلى أن يرزق نعمة الوصول، ويحظى بالاجتباء من إله النور أو من إله الظلام، فقد كان العلم يومئذ إما نسكًا أو سحرًا، ولا ينسك الناسك ويسحر الساحر وهو يروح ويغدو بين هذه الأحياء، ويشتغل من شئونهم بما هم به مشغلون وإلا فما أغرب ناسكًا يحدثك بجمال هذه الدنيا التي يزهد فيها أو يحس معك بمثل ما تحسه من مسراتها وآلامها! وما أعجب ساحرًا يتغلب على الطبيعة وهو مسخر للطبيعة تدعوه فيجيب وتستهويه فيلبي بواعث الأهواء! إن هذا لا يكون ولا يدخل في حيز المعقول، فإذا سمعت بكاتب في غير عالم الموميات المتحركة، أو بمكتبة في غير الطريق بين الصومعة والمقبرة فقل ذلك بهتان لا يجوز، ومحال في القياس لا يسلم به العارفون!
كذلك كانوا يفهمون العلم والدين والقدرة على النفس والطبيعة، فهم على حقٍّ إذَا فهموا أن الساعات التي تُقضى بين الكتب إنْ هي إلا ساعات مقطوعة من الحياة معزولة عن الإحساس، وهم على صواب إذا اعتقدوا أن الورق مادة تُصنع من حيث يصنعونه لا من دماء الرءوس والقلوب! لقد كان للعلم في زمانهم مورد واحد في عالم الغيب، أو عالم الموت يستوحونه منه ويثوبون به إليه، فلا يعلم العالم ولا يهبط الوحي على طالبه إلا بثمن من الحياة يؤديه للموت، وقسط من الدنيا ينقله إلى الضريح، ونحن اليوم لا نوحد بين رجال الدين ورجال العلم، ولا نرى إلا أن حياتنا الخالدة هي كل شيء وهي مصدر كل معرفة ومهبط كل وحي وإلهام، وهي المرجع الذي يؤدي له العالِم ثمن علمه، والكاتب ثمن وحيه، فلا يُعطَى من العلم والوحي إلا بمقدار ما يعطِي هو للحياة، غير أن العقيدة القديمة ما تزال لها بقية عالقة بالأوهام، والرأي في الكتب والأوراق ما يزال على نمط من ذلك الرأي المتهافت المهجور، فليس بالفضول إذن أن نعرض هنا لذلك الوهم لنقول: إن ساعاتنا بين الكتب على خلاف ذلك؛ هي ساعات بين كل شيء، وإنها قد تجمع في نسقها كل ما ترددنا في اختياره من الموضوعات، فتكون في آن واحد هي الرسائل المتفرقة وهي القصص، وهي الذكريات، وهي كذلك التحليل للأشخاص والوصف للحوادث والأطوار.
فإن كان هذا ما سبق إلى روع القارئ من طريقتي التي ألممت بها، فإني أبادر إلى تصحيح هذا الظن وأقول: إن النقد الذي لا مقياس له غير ذوق صاحبه، ولا غاية له إلا أن يخرج بك من الكتاب بأثر يدعيه ولا يقبل المحاسبة فيه، إنما هو ثرثرة لا خير فيها، وهذا لا يساوي الإصغاء إليه؛ لأن الإفضاء به والسكوت عنه سواء. وكثيرًا ما ذكرتني طريقة هذه الطائفة الناقدة بحكاية «جحا» المشهورة حين قيل له: كم عدد نجوم السماء؟ فقال لهم: عدد شعر رأسي، فقالوا له: هذا غير صحيح وعليك بالبرهان، قال: لا، بل صحيح وعليكم أنتم بالبرهان، عدوا النجوم وعدوا شعر رأسي وبينوا لي الفرق بين العددين إن كنتم صادقين، فأنا لا أريد أن يكون «شعر رأس الناقد» هو القياس الذي يُعجِز به السائلين والمستفهمين، فإما أن يصدقوا ما يدَّعيه من آثار الكتاب في ذوقه، وإما أن يأتوه بالبرهان على نقيض ما يدعيه! كلا. لن يكون عدد نجوم السماء في حسابي إلا — كذا — بالأرقام والأصفار التي تنتظم في كل حساب، أما الإحالة إلى «شعر رأس الناقد» فلا تسفر عن بيان صحيح في النظر إلا حين يكون الرأس أصلع لا شعر فيه وتكون السماء محجوبة ليس بها نجوم! ولكنها فيما عدا ذلك أُحْجِيَّةٌ لا تبين لك عن عدد ما في الرأس ولا عن عدد ما في السماء.