المطبعة والثقافة الشعبية
قد توجد الثقافة ولا مطبعة وقد توجد المطبعة ولا ثقافة.
هذا بعض الحقيقة، أما الحقيقة كلها فهي أن المطبعة قد تمنع الثقافة، فتكون في منعها أشد قسوة وأصعب مراسًا وأطول أمدًا من الغشمة الأغبياء الذين يظهرون في عصور الجهالة والركود وهم كارهون للعلم نافرون من الأدب، فيصدون الناس عنهما ويقيمون من جدران السجون سدودًا بين الشعوب وضروب الثقافة.
فالغاشم المستبد يقول للناس لا تتعلموا فلا يتعلمون إلى حين، وربما أغراهم المنع بطلب العلم ومعالجة الخلاف أَنَفَةً من الطاعة العمياء.
أما المطبعة فلها طريقة أخرى في منع الثقافة الصحيحة وحرمان الشعوب من تداولها والإقبال عليها، وطريقتها هي أن تنشر الرديء الغث فيقل الإقبال على الجيد القيم، وهي تنشره باختيار الناس فلا يشعرون بغضاضة، ولا يتحفزون لمقاومة، ولعل الذي يمنع الجيد والرديء ويغريك بالخلاف أرحم من الذي يمنعك الجيد ويعطيك الرديء ولا يحرك من نفسك الرغبة في التبديل.
•••
تقرأ في كتب الأمم القديمة وأنت تُخيل إلى نفسك أنك تقرأ أخبار أمم مسكينة محرومة سبق بها سوء الحظ فلم تدرك عصرنا هذا الموفق السعيد: عصر المطبعة والكتب والصحف والمقروءات التي تصدر من المطبعة للناس بالألوف وألوف الألوف، وماذا عسى أن يبلغ إليه علم أناس حرموا هذه الآلة السحرية، أو حرموا حتى الكتابة، فلا يعرفها منهم إلا فئة محدودة وعدد قليل! قُصاراهم أن يتعلم أفرادهم بعض العلم هنا وهناك، ثم يبقى جُلُّهم في غيابة من الظلام يجهلون العلم، والعلم أشد بهم جهلًا. ويخرجون من المهد إلى اللحد، وما سمعوا بغير الطعام والشراب!
تُخيل إلى نفسك ذلك وأنت تفتح كتب الأمم القديمة، ولكنك لا تلبث أن تقرأ فيها حتى ترى أن هناك شعوبًا مثقفة مشتركة في الأدب والمعرفة لا أفرادًا معدودين هنا وهناك ينحصر فيهم العلم ولا يتجاوزهم إلى الآخرين، شعوبًا تروي الشعر، وتضرب الأمثال، وتحفظ النوادر وأخبار الأيام ويعمُّ فيها التثقف، فتلمح مخايله وعلاماته في النساء والرجال والجنود المقاتلة والفقراء الساعين في أرزاقهم، مع أريحية فيهم قلَّ أن يقابلها عندنا إلا سماجة البلادة وقناعة الغرور.
وربما كانوا لا يقرءون ولا يكتبون، ولكنهم مثقفون قريبو الأذهان والسلائق من فهم ما ينبغي فهمه والشعور بما يحسن الشعور به، وإذا كانت الثقافة غير الطباعة، فهي كذلك غير الكتابة وغير القراءة: هي تأهب النفس للمعرفة، والإحساس بالسماع والملاحظة والاعتبار، والأخذ بأسباب التهذيب واستكمال المروءة، وما الكتابة والقراءة إلا بعض هذه الأسباب، نعم! وما الطباعة إلا أداة النشر والإذاعة، ولكنها لا تضمن لك جودة المنشور المذاع.
… بينا المهلب ذات يوم بفارس وهو يقاتل الأزارقة إذ سمع في عسكره جلبة وصياحًا، فقال: ما هذا؟ قالوا: جماعة من العرب تحاكموا إليك في شيء، فأذن لهم. فقالوا: إنا اختلفنا في جرير والفرزدق، فكل فريق منا يزعم أن أحدهما أشعر من الآخر، وقد رضينا بحكم الأمير.
فقال: كأنكم أردتم أن تعرضوني لهذين الكلبين فيمزقان جلدتي! لا أحكم بينهما، ولكني أدلكم على من يهون عليه سؤال جرير وسؤال الفرزدق، عليكم بالأزارقة؛ فإنهم قوم عرب يبصرون الشعر ويقولون فيه الحق.
فلما كان الغد خرج عبيدة بين خلال اليشكري ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر المهلب كان لقطري صديقًا، فقال: يا عبيدة! سألتك الله إلا أخبرتني عن شيء أسألك عنه.
قال: سل.
قال: أوَتخبرني؟ قال: نعم إن كنت أعلمه.
قال: أجرير أشعر أم الفرزدق؟
قال: قبحك الله! أتركت القرآن والفقه وسألتني عن الشعر؟
قال: إنا تشاجرنا في ذلك ورضينا بك، فقال: من الذي يقول:
فقال: جرير! قال: هذا أشعر الرجلين.
إن الذين يعجبون حين يقرءون في كتب التاريخ الحديث أن الجنود الألمان كانوا يتناقشون في جمهورية أفلاطون وهم ذاهبون إلى حرب السبعين لا يجدون مناقشتهم تلك إلا دون هذه القصة في العجب، وأدنى منها إلى ما لا يجوز حدوثه، فإن جنودًا تخرج بعضهم في الجامعات وعاشوا في عصر المطبعة وفي السنة السبعين من القرن الثامن عشر: قرن الثقافة والنهضة كما نقول، هم عسيون أن يتكلموا فيما بينهم في جمهورية أفلاطون. ليس ذلك بعجيب أو هو إذا أسأنا الظن بذلك الزمان غير مفرط في العجب، أما العجيب حقًّا فهو أن يتحاكم الجند إلى أميرهم في الموازنة بين الشعراء وأن يبلغ بهم الشغف بعلم ذلك أن يسألوا أعداءهم عنه في ميدان المبارزة! وأعجب منه أن يسترْوِح رجل من الأزارقة الخوارج لسؤال عدوهم في الموازنة بين شاعرين وهم قوم من الجفاة الغالين في التدين، المعرضين عن كل ما عدا القرآن والتفقه في أحكامه.
قال نيكلسون وهو يروي هذه القصة: «إن فيها لدليلًا عجيبًا على أن هوى الشعر كان هوى الشعب كله، ولم يكن ذوقًا خاصًّا بطائفة الأدباء والمتأدبين، وأنهم كانوا يشتغلون به وهم بين متاعب الحرب وأخطار القتال، وأنت تجد نظائر من هذه القصص في تاريخ الأثينيين أخصب شعوب الغرب، ولعلهم أخصب الشعوب فيه وفي غيره، ولكن مثِّل لنفسك الجنود البريطانية تتجاذب الحديث في تنيسون وبروننج على نيران المعسكرات!»
والجواب على تساؤل نيكلسون — الأستاذ الإنجليزي — موجود في سيرة شوبنهور الفيلسوف الألماني المشهور.
كان شوبنهور يقيم في فرنكفورت ويتغدى كل يوم في المطعم الإنجليزي المعروف بتلك المدينة، فلاحظ عليه الخدم والذين يترددون على ذلك المطعم أنه كان يخرج من جيبه في بداية الأكل قطعة ذهبية يضعها على المائدة ثم يعيدها إلى جيبه عند الفراغ من الطعام، يصنع ذلك في كل يوم وفي كل أكلة ولا يدري أحد ما سرُّ ذاك! حتى ضجر الخادم يومًا وجازف بسؤال الفيلسوف الغضوب الذي لا يرى الخدم ولا غير الخدم في وجهه المتجهم ما يشجع على المزاح، فقال له: أيسمح السيد بأن أسأله عن معنى وضع هذه القطعة الذهبية على المائدة وردها إلى الجيب كل يوم؟
فلم يبخل عليه شوبنهور بالجواب وقال له: إنني نذرت بيني وبين نفسي لأضعن هذه القطعة في صندوق الصدقة في اليوم الذي أسمع فيه هؤلاء الضباط الإنجليز يتحدثون بشيء غير الخيل والنساء والكلاب! ولا يزال النذر معطلًا لا يستحق الوفاء.
ولا شك أن خارقة من الخوارق التي يضيق لها الصدر نزعت هذه الفكاهة الصامتة من ذلك الفيلسوف المتشائم الذي عاش طول حياته متفردًا، والذي كان لا ينام إلا مسلحًا لسوء ظنه بالناس! وأي شيء هو أحجى بضيق الصدر من طبقة من الطبقات تعد في طليعة الناس يمضي عليها اليوم بعد اليوم والشهر بعد الشهر، وهي في حديثها لا يفتح عليها بشيء غير الخيل والنساء والكلاب!
هؤلاء جنود، وأولئك جنود، وهؤلاء أبناء القرن التاسع عشر، ثم هم أبناء أمة ظهر فيها كبار الشعراء في تاريخها كله، وفي ذلك القرن على التخصيص، ثم هم أبناء العصر الذي راجت فيه الطباعة، وامتلأ بالفلاسفة، والدعاة، والشعراء، والكتاب، والأدباء، ولكنهم مع ذا لا يعرفون من الثقافة الشعبية ما يشغلون به ساعة من ساعات في يوم من أيام بحديث غير ذلك الحديث.
أما أولئك الجنود الغزاة — في عصر لك أن تقول فيه إنه عصر الأمية — فكانوا يعرفون جريرًا والفرزدق، ويستأذنون على الأمير ليسألوه فيهما سؤال من لا يشك في علمه بهذه الفتاوى، ثم لا تهدأ نفوسهم حتى يجعلوا هذه المسألة حديثهم في موقف الجِلاد الذي لعله لا يرجع منه السائل أو المسئول إلا وهو مجروح أو مقتول.
•••
علينا أن نكفكف قليلًا — أو كثيرًا — من غرورنا بالمطبعة، فإننا إذا أشعرنا قلوبنا النقص من هذه الجهة وشيكون أن نسعى في طلب الكمال.