الثقافة في العصور الحديثة
… ربما كان الاهتمام بالخيل والكلاب والنساء خيرًا من الاهتمام بتناشد الأشعار؛ لأنه يدل على الصحة والحيوية، ولكن شوبنهور الذي عاب كثرة الكلام في هذه الأشياء على الضباط الإنجليز الذين كان يراهم في المطعم لا يستطيع لتشاؤمه وكراهته للحياة أن يشعر بالسرور الذي يشعرون به وهم يتكلمون في الخيل والكلاب والنساء، ونحن في عصر الرياضة البدنية، فهل ننظر إلى كل ذلك بالعين التي ينظر بها فيلسوف متشائم عاش قبل سبعين أو ثمانين سنة؟ ثم هل مذهب التقدم والارتقاء يتفق مع القول بتفضيل الثقافات الأولى على ثقافة المتأخرين.
هذه نبذة من خطاب فيه بعض التطويل عن المقال الذي كتبته منذ أسبوعين ونقلت فيه القصة التي تُروى عن «شوبنهور» والنذر الذي نذره على نفسه ليضعنَّ دينارًا في صندوق الإحسان أول يوم يسمع فيه الضباط الإنجليز يتحدثون بغير الخيل والنساء والكلاب.
وظاهر أن صاحب الخطاب يحب الكلام في الخيل والنساء والكلاب! ولا يحب الكلام في الأشعار وما شابه الأشعار؛ لأن الكلام في الخيل والنساء والكلاب يدل على الصحة والحيوية، أما الكلام في تناشد الأشعار فيدل على ماذا؟ على هذا القياس ربما كان الكلام في الشعر يدل على المرض والموت!
إن رأي الأديب صورة للآراء العامة التي تؤدي إليها الموازنة بين عصرين أحدهما نراه في النور كله وهو العصر الذي نعيش فيه، والآخر لا نراه إلا في الظل البعيد أو لا نراه إلا في غياهب الظلام، وفي العصر الذي نتخيله من عصور القدم، ونظن أن كلمة «نتخيله» ليست بالكلمة الصحيحة التي تقال في هذا الصدد؛ لأننا لو كنا نتخيل العصور القديمة ونستعين بالخيال الصادق على تصويرها لرأيناها حق رؤيتها ولم نبخسها شيئًا من فضلها إن كان لها فضل يذكر في معرض المقابلة، وإنما نحن نستصغر العصور النائية عنا في مسافات التاريخ كما نستصغر الرجل الذي نراه على مسافة فراسخ حين نوازن بينه وبين من يمشي على مدى خطوتين منا، وربما كان الرجل الذي على مسافة فرسخ أكبر من هذا الذي نراه على مدى خطوتين، فلا ذنب له إلا أننا نحن المقصرون في التخيل والرؤية وليس هو المقصر في أن نتخيله وأن نراه.
هل مذهب التقدم والارتقاء يتفق مع القول بتفضيل الثقافات الأولى على ثقافة المتأخرين؟
نعم يتفق، بل يتفق كل الاتفاق، فإذا فرضنا أن مذهب التقدم صحيح مسلَّم من جميع جهته فمن الذي قال إن طريق التقدم طريقة مستقيمة لا تكون المرحلة الأخيرة منها إلا آخر المراحل وأرقاها على السواء؟ من الذي قال إن سكة التقدم كالسكة الحديدية المفردة لا يكون الكيلو رقم ٩٠ فيها إلا وراء الكيلو ٩١ و٩٢ و٩٣ وهكذا بلا اختلاف إلى نهاية الطريق؟ نعم من الذي يقول من أنصار مذهب التقدم أو خصومه إن كل رجل في القرن العشرين لا بد أن يكون خيرًا من أرسطو وابن سينا في الفضل والعبقرية؛ لأنه يعيش بعدهما بألف سنة أو ألفين؟ فإذا لم يوجد من يقول بهذا القول؛ فلماذا يوجد من يقول إن كل أمة في القرن العشرين لا بد أن تكون خيرًا من كل أمة في القرن العاشر مثلًا في روح الثقافة وفي معالم الحضارة، وفي صفات الأخلاق والألباب؟ إن مذهب التقدم لا يمنع أن يكون الذين يتناشدون الأشعار في حرب الأزارقة خيرًا من الذين يتحدثون بالخيل والنساء والكلاب في المطعم الإنجليزي بفرنكفورت، ولو كان بين هؤلاء وأولئك ما بينهما من مراحل التاريخ.
نعم لا يمنعه مذهب التقدم، ولا سيما حين نتخيل الخيال الصحيح ونذكر أن الجنود العرب التي كانت تقاتل الأزارقة قد كانت تعرف أيضًا مزايا الخيل والنساء والكلاب، وقد كان لها أيضًا نصيب من الصحة والحيوية كالنصيب الذي غنمناه نحن في عصر الرياضة البدنية! ومن ذا يعرف الخيل كما يعرفها البدوي الذي يحفظ من أنسابها وأعراقها ما قلَّما نحفظه نحن من أنساب عظماء الرجال؟ وفي أي لغة من اللغات نقرأ من نعوت الكلاب وحركات الطراد مثل ما نقرؤه في أشعار أولئك البدو الذين لا يعرفون الرياضة البدنية على الأسلوب الحديث؟ أما النساء فقل في التحدث بجمالهن ما شئت، ولكنك لا تستطيع أن تقول إن ذوق الضابط الإنجليزي في اختيار الجمال النسائي هو الذوق الذي لا مزيد عليه بين المعاصرين، أو بين البدو الغابرين!
وبعد فهل كان شوبنهور — الفيلسوف المتشائم — يجهل قدر الكلاب والنساء؛ لأنه يكره الحياة ولا يشعر بالسرور؟ لا! لقد ظلمته أيها الأديب وبخست حق الكلاب والنساء عنده! فهو صاحب الكلب الذي سماه «أتما» باسم روح الوجود عند البراهمة! وهو صاحب ذلك الكلب الذي سماه أطفال المدينة «شوبنهور الصغير»؛ لأنه كان لا يشاهد إلا مع شوبنهور الكبير كالولد مع أبيه! وناهيك بخبرة الفيلسوف بالنساء! إنها لخبرة تنم عليها فلسفته وسيرة حياته ولا يضارعه فيها ضابط عاش حياته كلها في ميادين اللهو والمجون، ولكن الشعور بالكلب والمرأة شيء وعدم الشعور بغيرهما شيء آخر، وما دامت الدنيا لم تخلق كلها كلابًا وخيلًا ونساء؛ فالخطأ إذن خطأ الجند الذين لا يرون في الدنيا غير الكلاب والخيل والنساء، وليس بخطأ الفيلسوف الذي يرى هذه جميعها، ويرى معها كل ما كان يراه من الحق والباطل في هذه الحياة.
وقد يسأل بعض السائلين في هذا العصر الذي أصبح فيه السؤال هو كل الفلسفة وكل الجواب: ولماذا نقرأ؟ ولماذا نتثقف؟ ولماذا نطلع على الأشعار أو على غير الأشعار؟
لماذا؟
أي والله لماذا!
إن أحدًا في الدنيا لا يترك أكل الطعام وشرب الماء، وينتظر ريثما يقول له القائلون لماذا يأكل؟ ولماذا يشرب؟ فهو يأكل ويشرب لأنه يحس في جسمه الجوع والعطش، لا لأن أحدًا فسر له علة الأكل وعلة الشراب، ولو أن الذي يسأل لماذا يقرأ، لماذا يتثقف، كانت له نفس تجوع كما يجوع جسمه لاستغنى عن سؤاله، وأقبل على موائد الثقافة غير منتظر جواب ذلك السؤال، فمن كان يسأل الناس على هذا النحو فخير له وللناس ألا يجاب؛ لأنه لا يستفيد مما يسمع ولا يستحق مئونة الجواب.
•••
المصيبة في العصور الحديث أنها أخذت بفتنة التسهيل والتقريب في كل شيء بعد هذه المسهلات والمقربات التي أشاعتها فيها الكهرباء، والبخار، ووسائل الانتقال. فنحن كأنما نحتاج اليوم إلى كهرباء عقلية تصل بنا إلى فهم الحقائق في غمضة عين، ولا تكلفنا في هذا العصر ما كانوا يتكلفونه من الجهد والتفكير قبل عهد الكهرباء والبخار، وأين هذه الكهرباء العقلية التي تزيد في سرعة أفهامنا بمقدار الزيادة في سرعة الكهرباء على سرعة الدواب والأقدام؟ أتراها وجدت في هذا العصر، أو يرجى أن توجد في عصر بعده؟ كلا! إنها لم توجد ولن يكون لها أبدًا وجود، ولو ضوعفت سرعة الكهرباء الصناعية أضعاف ما بلغت إلى الآن.
•••
وليس أكثر من أن تسمع في هذا العصر من المتبطلين المتحذلقين من يقول لك: ما الغرض من القراءة؟ أليس هو اللذة العقلية؟ فكل ما ليس بلذيذ فليس هو بمقروء!
سبحان الله! فعلى هذا يجب أن تكون روايات شكسبير مفهومة لاذَّة لمن لا يُحسن الإنجليزية، ولا يعرف التواريخ، ولا أسرار الخلائق، والمعاني التي تدور عليها تلك الروايات! فإذا أعياه أن يظفر منها باللذة التي توهمها، فليس الذنب ذنب الجهل بالإنجليزية، ولا هو ذنب الجهل بالتواريخ والخلائق والمعاني، ولا هو ذنب القارئ على وجه من الوجوه، كلا ولكنه ذنب شكسبير المسكين؛ لأنه لم يستطع أن يلذ القارئ الذي يبلغ به الغباء أن يفرض في نفسه غاية الكمال.
إن الغرض من القراءة هو اللذة!
ليكن!
وإن الغرض من الغذاء هو اللذة! ليكن أيضًا.
ولكن ما بال من لا أسنان له ولا قوة على الهضم يعيب الطعام الذي لا عيب فيه، ولا يزال أصحاب الأسنان والمَعِدات يلتذونه أحست التذاذ؟ فهاتوا الإسنان وهاتوا المعدات قبل العيب على الطعام، وإلا فليس في العالم كله طعام واحد لذيذ.
تلك مصيبة! والمصيبة الأخرى هو «البداجوجيا» قاتلها الله بما أدخلت في العقول من وهم ليس أضر منه بالعقول، أدخلت في العقول أن التفهيم صنعة المدرس التي يجب أن يتكفل بها وحده، وما على التلميذ إلا أن يصغي قليلًا، فإذا الفهم حاصل له بطبيعة الحال كأنه نتيجة محتومة لدخول الصوت في الآذان.
نعم إن البداجوجيا تحذر المدرس من الإفراط في التشويق والترغيب لئلا يتعود التلميذ أن يدع الجهد في فهم ما لا يشوقه ولا يرغب فيه، ولكن الواقع أن البداجوجيا على الرغم من هذا التحذير هي التي خلقت هذا الوهم، وألهجت المعلمين والمتعلمين ببدعة التشويق والترغيب حتى فشا الغرور في بعض الناشئة، ووقر في أخلادهم أن كل ما لا يفهمونه بغير مشقة فهو غير مفهوم، ومن هنا لا نستبعد أن يحور زمام الفكر غدًا إلى أيدي الأزهريين والذين نشئوا على الطرائق الأزهرية؛ لأنهم درجوا على أن العلم صعوبة ومشقة وليس بالمائدة الشهية المهيأة للتناول السهل اليسير؛ فنَدَرَ أن ترى أزهريًّا يستعصي عليه فهم معنى من المعاني إلا عالجه وثابر على فض مغلقه وحل عقدته، وندر أن ترى طالبًا من الذين أفسدتهم البداجوجيا يستعصي عليه فهم شيء إلا ترك البحث فيه واتهم المدرس أو اتهم الكتاب.
إن شر ما ابتليت به الثقافة أن يقال إنها لذة ليس إلا، وأن ينسى مع هذا أن اللذة لا تكون إلا باستعداد، وأن الاستعداد لا يتم بغير الصبر والمراس، وصدق أبو تمام حيث قال: