مصطفى كمال
١
أحق شخصية بأن يُكتب عنها هذا الأسبوع هي شخصية الرجل العظيم، والشرقي العظيم الذي فارق الدنيا منذ أيام، ونعني بها شخصية مصطفى كمال منشئ «تركيا الحديثة»، ونافخ روح الحياة في بنية تلك الدولة التي اشتهرت زمانًا باسم الرجل المريض.
ولا يُنتظر من كاتب في صفحة أدبية أن يترجم لمصطفى كمال بسرد حوادثه السياسية، وتفصيلات أخباره العامة أو الخصوصية، فهذه على مباينتها لأغراضنا من الكتابة في هذه الصفحة قد ذاعت وتواترت، وعرضت المناسبات المختلفة للكتابة عنها، والعودة إليها عند ثورة مصطفى كمال وعند انتصاره في ميدان الحرب على خصومه، وعند إعلانه الجمهورية وإلغائه الخلافة، وأشباه ذلك من المناسبات الكثيرة حتى لم يبقَ قارئ صحيفة لم يسمع عن الرجل ما يسمع عن عظيم من أشهر عظماء المصريين، فلا حاجة بنا إلى ترديد هذه الحوادث والتفصيلات، ولا هي مما يتصل بموضوعات كناشة الأسبوع بسبيل.
إنما يعنينا تقدير مكانته، وتحليل مزاياه، والتعقيب على أهم صفاته وأعماله بالملاحظات النفسية التي تَعِنُّ لنا وتزيدنا عرفانًا به وبأمثاله، كما يُعنى المصور بلمحة في العين، أو بعصب في الوجه، أو بلفتة في الرأس أشد من عنايته بوزن الجسم أو بطوله وعرضه.
مكانته
وفي اعتقادنا أن مصطفى كمال أعظم الحاكمين بأمرهم شخصية في عصرنا الحديث، ونفسر ذلك فنقول: إن فضل قدرته الشخصية في إنجاز أعماله الجليلة أعظم من كل فضل يعزى إلى قدرة رجال مثل موسوليني وهتلر ولينين.
فموسوليني انتفع بمساعدة الملك، ومساعدة الكنيسة، ومساعدة الجيش، ومساعدة أصحاب الأموال، ساعده الملك؛ لأنه نقم من الاشتراكيين إهانتهم إياه، وتشهيرهم بالنظم الملكية، وساعدته الكنيسة؛ لأنها خشيت من إلحاد الاشتراكيين، ومجاهرتهم بهدم الأديان وإبطال العبادات، وساعده الجيش؛ لأن قواده أشفقوا من جرائر التحقيق في مسائل التموين، وضباطه غضبوا للمثالب والشتائم التي كان يلقاهم بها أعداء الحرب والعصبية الوطنية في قوارع الطرقات، وساعده أصحاب الأموال حذرًا على متاجرهم من جماعات التعاون التي شاعت بين العمال، بل ساعدته الدول الأجنبية التي شكرت له جهاده في حض الإيطاليين على مناصرة الحلفاء، أما هتلر فلولا أصحاب معامل الحديد، وكبار الملاك للضِّياع والقلاع، ورؤساء القادة في الجيش، ولولا أناس سبقوه ومهدوا الطريق من قبله لإلغاء الشروط المجحفة بالألمان في معاهدات الصلح، لما وصل إلى شيء مما وصل إليه بفضل هذا التمهيد، وبفضل تلك المعونة.
وأما لينين فهو مدين لمذهب شائع له مؤتمرات ولجان وأنصار يُعدون بالملايين، ولهم في البلاد الروسية خاصة مكامن قوية نشأت منذ سنين، وأعيت على الجواسيس والمطاردين.
لكن مصطفى كمال لم ينتفع بمعونة من أشباه هذه المعونات، فقد كان السلطان ينكره ويأمر بالقبض عليه، وكان رجال الدين يُفتون بكفره، ويستبيحون دمه ويستثيرون الدهماء لنضاله، وكان رجال تركيا الفتاة يُعادونه ولا يستريحون لنجاحه، وكان نواب المجلس يتركونه في الأناضول ويذهبون إلى الآستانة اغترارًا بوعود الحلفاء، ولم يكن له معين من الدول الأجنبية، بل كان له منها أعداء ألدَّاء ومحاربون أشداء، يحاربون بالمال والسلاح والسياسة ونشر الدعوة وكل وسيلة يملكها الأقوياء.
وأفلح مع هذا كله مصطفى كمال.
لا نقول إنه أفلح وحده، فإنه كان يعتمد على أعوان وعلى أتباع مخلصين، وكانت له أسباب لتأليب الأصدقاء والمؤيدين، واهتبال الفرص ليس في وسع زعيم أن يغفلها، أو ينجح بغيرها، ولكنا نقول: إن ما عمله الرجل لتذليل المصاعب وجمع القوى لم يعمله رجل آخر من الذين يوضعون معه موضع المقارنة والمفاضلة، وإنه لذلك أعظم الحاكمين بأمرهم «شخصية» في العهد الحديث.
طبيعة الترك
وليس يقدح في هذا الفضل الجسيم أن طبيعة الأمة التركية وافقت مطلبه، وهيأت له أسباب التقدم في أغراضه، فعاونته إيجابًا بالكفاح معه، والانضواء تحت لوائه، وعاونته سلبًا بالطاعة والتسليم، وقلة المقاومة لمساعيه، حتى ما كان منها مخالفًا للعرف المكين، أو خليقًا في رأي الناس أن يثير الثورات ويجمح بالنفوس.
ليس يقدح في قدرته أن مهاجمته للعرف الديني مثلًا لم تكن تُفلح في أمة غير الترك مطبوعين على طاعة القادة الظافرين، فإن القائد الظافر مطالَب — قبل أن يظفر بهذه الطاعة — أن يغلب العرف القديم، وأن يصبح هو عرفًا يطاع في مكان ذلك العرف المغلوب، وليست هذه الغلبة بالشيء الهين، فهي وحدها نجاح ﻟ «قوة الشخصية» ليس بعده نجاح.
جاء في مبحث لخالدة أديب في تعليل هذا النجاح «أن العقل العربي ينظر إلى الكون نظرته إلى ما وراء الطبيعة، ويرى أن السلطة التشريعية صادرة من الله، وأن السلطة التنفيذية موكولة إلى الخليفة، وأن العلماء هم الوسطاء بين الله وخليفته في الأرض يراقبون سلطته التنفيذية ويتحققون من اتباعه للقوانين الإلهية. فإذا خالفها نقصوا بيعته، واختاروا خليفة غيره يرضي المسلمين! أما الترك فالأمر معهم مختلف منذ كانوا في بداوتهم قبل الإسلام معوَّدين طاعة القوانين التي يشرعها الإنسان، وهم بفطرتهم أميل من سائر الشعوب الإسلامية إلى الفصل بين الدين وشواغل المعيشة اليومية.»
وقد يكون هذا التعليل صحيحًا كل الصحة أو بعض الصحة، ولكنه لا يفيد — إذا صح — أن كل زعيم في الترك قادر على أن يَرُوضهم في حياته على ما راضهم به مصطفى كمال في أمد وجيز، فبعد كل تعليل وتفسير تبقى هنالك القدرة الشخصية التي تفوق قدرة الآخرين.
أصله التركي
ولاحظ أكثر من كاتب أنه لا ينفرد بهذه الخصلة بين الحاكمين بأمرهم وعظماء الغلاة من الوطنيين. ﻓ «دي فاليرا» لم يولد في أيرلنده ويرجع في نسبه إلى الإسبان، وهتلر نمسوي وليس بالألماني، و«بيلسودسكي» لتواني وليس من البولونيين، وستالين شركسي وليس من الروس، وشوشنج ولد في ريغا الإيطالية، وكان زعيم الاستقلال الوطني بين النمسويين.
ونعتقد نحن أن ملامح الرجل التركية أظهر من أن تخفى على أحد، ولا نستبعد امتزاج نسبه بسلالة مقدونية أو إسرائيلية، لأن مسلمي الترك في سالونيك كانوا يتزوجون المقدونيات والإسرائيليات، ولا سيما من دان منهم بالإسلام، ولكنه يظل بعد ذلك تركيًّا في ملامحه الظاهرة، ومزاجه الغالب، وبيئته النفسية، وينتمي إلى قومه كما ينتمي كل مصري أو عربي أو إنجليزي أو فرنسي تدخل في نسبه سلالة أجنبية من قريب أو بعيد.
ولكن هل عجيب حقًّا أن يغلو صاحب النسب المزيج في العصبية أو في العقيدة إن كان الأمر أمر اعتقاد لا أمر انتساب؟
يبدو لنا أن الغلو هو الخصلة الراجحة إن لم نقُل هو القاعدة الأصيلة في هذه الحالة، ومن شواهد ذلك أن الداعيَيْن الكبيرين إلى تقديس العصبية الجرمانية لم يكونا من الألمان، بل كان أحدهما سلالة إنجليزية وهو هوستون تشمبرلين، والآخر سلالة فرنسية وهو الكونت دي جوبينو، وأن دعاة الآرية في العصر الحاضر لا تصدق فيهم الصفات المنسوبة إلى الآريين، وهي البياض، والطول، والنحافة، واستطالة الجمجمة؛ فهتلر أسمر، وجوبلز قصير، وجورنج سمين، وروزنبرج مستدير الرأس، وكل من هؤلاء لا تنطبق عليه الصفات الأخرى على نمط ملحوظ.
ونحن نعلم في البلاد الشرقية الإسلامية أن شيعة آل النبي كانوا من الفرس لا من العرب، وأن المنتصرين لأبناء علي والعباس كانوا من الموالي لا من أبناء القبائل البدوية، ولعل السر فيما يلاحظ من هذه الخصلة أن مسألة الجنس تكون أبدًا حاضرة في أذهان الطارئين على العصبية أو على العقيدة، وأن الامتزاج يضيف إلى الجنس القديم دمًا جديدًا من دماء الحياة والحركة، فيظهر فيه النشاط والتعصب، ويبرز بهذه الصفة بين شركائه في النسب والاعتقاد، ويقرب هذا من حال أبناء السواحل والحدود، الذين يعيشون بين الوطن الأصيل والأوطان الغريبة، فهم على الأغلب الأعم شداد العصبية والحمية الوطنية، ولا تنقص عصبيتهم وحميتهم؛ لأنهم يعيشون على مقربة من الأجانب، بل تزيدان.
قال لي صديقي الفاضل الدكتور حسين همت: إنه كان كثيرًا ما يلقى الصدر الأعظم طلعت باشا في إبان الحرب العظمى، فإذا هو آسف يقول له المرة بعد المرة: عجبي لكم أنت وفريد وفلان وفلان وأنتم أبناؤنا كيف تنادون بمصر للمصريين، وقد علمتهم أن أناسًا من صميم المصريين يقبلون السيادة العثمانية ويدعون إلى الجامعة الإسلامية!
ولا عجب في هذا الذي تعجب منه الصدر الأعظم عند الرجوع إلى الحقيقة؛ لأن المصري من السلالة التركية يشعر بشعورين حين يطلب الاستقلال الكامل لوطنه: شعور الوطنية المصرية وشعور المساواة للترك في دعوى الحكم والسيادة، وما كان هذا ولا ذاك بالذي يرضيهم بمكان التابعين من المتبوعين.
ملامحه
وعلى ذكر ميسم مصطفى كمال وطبيعته وتكوينه، لا يفوت القارئ أن يلاحظ الشبه القريب بين ملامحه وملامح أمه في جميع الصور التي نشرت لهما في الصحف المصرية، والكتب الشائعة.
وقد تواترت هذه الملاحظة في تراجم شتى، ولوحظ مثلها على ملامح موسوليني وهتلر ودي فاليرا، وأحسها غالبة بين الرجال الأقوياء، على خلاف القياس الظاهر الذي يوحي إلى الخاطر أن الأبناء الأقوياء أحرى بشبه الآباء منهم بشبه الأمهات.
ولا أدري أين قرأت تعليل السيطرة «الدكتاتورية» بأن الزعماء المستبدين يدرجون مدللين مستجابي الرغبات في حجور أمهاتهم، وإن هؤلاء الأمهات يفرحن بما يلمحنه من الشبه بينهن وبين الأبناء الذكور، فيعوِّدنهم الأمر والطاعة في الصغر، ثم يكبر الصغار بعد ذلك وهم لا يطيقون الحياة إلا أن يجدوا أمامهم أتباعًا خاضعين، ولعل الدكتور ولهلم ستيكل العالم النفساني النمسوي هو صاحب هذا التعليل فيما ذهب إليه من العلاقة بين التمرد على الآباء في سن الطفولة، والتمرد على الحاكمين في سن الرجولة، وهو أوسع الباحثين كلامًا في هذا الباب.
ومما لا شك فيه أن الولد المدلل يحب الطاعة من أقرانه، ولكنه لا يحصل عليها إلا أن تكون فيه قوة مطبوعة، وأن تكون له مزية على أقرانه غير مجرد التدليل وتعوُّد الأمر والطاعة، فمن لم يكن من الأبناء المدللين ذا قوة أو مزية، فالأغلب فيه أن ينشأ هزيلًا فاشلًا تابعًا للحياة العامة غير متبوع.
والتعليل الصحيح في رأينا للشبه بين الرجال الأقوياء وأمهاتهم أنهم يجمعون بين مناقب الجنسين، فهم أكمل من غيرهم في الصفات الإنسانية التي لا تنحصر في الرجال دون النساء أو في النساء دون الرجال، فهناك مناقب الرجل وهناك مناقب المرأة، وهناك مناقب الإنسانية التي يشترك فيها الرجل والمرأة، ومن كان أوفى إنسانية وأجمع للمناقب الآدمية عامة فهو قَمِن بالسيادة على الرجال والنساء؛ لأنه أكثر من رجل وأكثر من امرأة، وإنما هو إنسان لا ينحصر في مناقب جنس من الجنسين.
والرجل يَسُود بالعقل والإرادة، والمرأة تسود بالدأب والغريزة، أو يصح أن يقال: إن الرجل يسود بالفكر والعزم، والمرأة تسود بالدهاء الحيواني والمثابرة الفطرية؟ فإذا خاض الإنسان معترك الحياة بجميع هذه الصفات، فهو مضاعف السلاح في معترك الحياة، الذي لا يخوضه الخائضون إلا بسلاح فريد.
وقد لوحظ الشبه بين النابغين وأمهاتهم في غير رجال الحكم والقتال: لوحظ في الأدباء، والمصورين، والموسيقيين، والشعراء، وسائر ذوي الملكات النابهين، ولا اختلاف هنا في التعليل إلا الاختلاف في الملكات التي يحتاج إليها الرجل النابغ، فالمرأة تتصف بالفطنة ولطف الشعور، كما تتصف بالدأب والدهاء، فإذا كان النابغ رجل قتال أخذ منها ما يعينه في ميدانه، وإذا كان رجل فنون ودراسات، أخذ منها غير ما يأخذه ذاك، ولكنه في كلتا الحالتين أكثر من رجل بين عامة الرجال؛ لأن مناقبه لا تنحصر في جنس واحد من الجنسين.
قرأت منذ زمن بعيد قصة صغيرة للكاتب الفرنسي الموهوب جي دي موبسان عن رجل اشتهر بغزو قلوب النساء وكثرة الخليلات.
قال على لسان راوي القصة ما فحواه: إنني أعلم أن الرجل يغزو قلب المرأة بالجمال والشباب والقوة والمال والوجاهة وسحر الحديث، وسمعت بهذا الرجل المظفر في حرب الغرام فاشتقت أن أراه وسعيت إلى التعرف به حتى عرفته وجلست إليه مرات، فأما الجمال فليس بجميل وإن لم يكن بالشائه المرذول، وأما الشباب فقد جاوزه إلى الكهولة، وأما المال والوجاهة فهو مستور الحال، خامل الذكر، لا يسمع به إلا جيرة الحي ومن يلقونه في الطريق، وأما الحديث فليس هو بساحر ولا بمسترسل طريف، فازداد عجبي من شأنه، وما زلت في هذا العجب حتى دعاني يومًا إلى منزله وأدخلني إلى مكتبه، فرأيت على جدار من جدرانه صورة امرأة مفردة لا تشاركها هذه الحفاوة صورة امرأة أخرى، فأسرعت إلى مداعبته سائلًا: ألعلها صورة العزيزة صاحبة الحظوة بين عشيقات الشباب؟ فقال: كلا ما هي بعشيقة، هي أمي!
قال راوي القصة، فتأملتها فإذا الشبه بينها وبين ابنها قريب جِدُّ قريب يكاد يتجاوز المشابهة إلى المحاكاة؛ فقلت في نفسي: الآن عرفت السر، فلن يغلب الرجل النساء في ميدانهن إلا بمدد من المرأة موروث.
والحقيقة هي ما قاله جي دي موبسان في مغزاه المقصود من تلك القصة: إن المرأة تُساس بشعور دخيل موروث، يقل فيه نصيب القصد والتفسير، ويعظم فيه نصيب البداهة والإيحاء، وكذلك الجمهور.
وإذا صدق هذا في سياسة المرأة فهو كما أسلفنا يصدق في سياسة الجمهور، ويصدق في دراسة النفوس، ويصدق في خلق شخوص الرجال والنساء من أبطال الروايات، فلا يفوز الرجل في ميدان الزعامة إلا لأنه إنسان كامل، وليس برجل كامل وحسب، ولا يقدر شاعر كشكسبير على خلق هاتيك العشرات من شخوص النساء، إلا لأنه كذلك إنسان كامل وليس برجل كامل وحسب، فهو يفهم المرأة ولا يفهم الرجل وحده، وهو يحسن المجاوبة بين الخليقتين حين تتساجلان وتتباريان، وما من رجل ممتاز قط كانت أمه مهملة صفرًا من المزايا، أو كانت وراثته منها قسطًا مهملًا لا مُعَوَّل عليه.
ذلك هو أصوب تعليل نراه للشبه القريب بين الزعماء وأمهاتهم عامة، وبين مصطفى كمال وأمه خاصة، وهو ما يعلم الناس من رجل ساد ملايين الرجال.
٢
خصلتان لا غنى عنهما للنجاح في أعمال السياسة العظيمة، ولا سيما عند افتتاح العهود وتقرير السلطان الجديد: وهما الدأب على غرض محصور، والقدرة على مواجهة الوقائع ومداورة الأحوال.
وقد يتناقضان إذا كان الدأب على غرض محصور ناشئًا من ضيق ذهن، أو غيبوبة تعزل صاحبها عن تحول الأحوال، وتبدل الأبدال، أما إذا صدر هذا الدأب عن عزيمة ماضية تعرف عشرين طريقًا، ولكنها مع هذا تستطيع المثابرة على اختيار غاية واحدة من وراء تلك الطرق جميعًا، فالخصلتان إذن لا تتناقضان بل تتعاونان، وتكون العزيمة إذن رديفًا خير رديف لمواجهة الواقع، ومداورة الأيام، واختيار الأوفق الأنجح من كل مجهود.
ومصطفى كمال كان على أوفى نصيب من العزيمة، والأخذ بالواقع النافع، وكما كان دُءوب الرجل عن عزيمة ماضية، لا عن ذهن ضيق أو نفس شاردة عما حولها، كذلك كانت مداورته للواقع عن دهاء وتبصر لا عن دجل ومراوغة رخيصة من مراوغات النفاق.
أراد أن يحيي تركيا والدنيا كلها تريد لها الموت، فلم يصرفه صارف ولم تقعده عقبة، ولم يزل حتى ردها إلى الحياة، وأقامها على الأساس الذي جعلت في الحقيقة لتقوم عليه فلا تصلح للقيام على أساس غيره، وذلك أن تكون تركية للترك لا دولة ذات أملاك شاسعة، ولا خلافة ذات سيادة روحية، فما في ذلك خير لها ولا لرعاياها المغصوبين.
ولم يتقيد بطريقة واحدة لإقامة الحكومة التركية الجديدة، فغير هذا العقل هو العقل الذي يستغرق جهاته كلها في مذهب واحد، لا يحيد عنه إلى سواه، وغير هذا العقل هو الذي يدين بالاشتراكية وكفى أو بالديمقراطية ولا زيادة، أو بالدكتاتورية ولا شأن له باشتراكية ولا ديمقراطية، ولكنه هو يدين بالاشتراكية الحكومية فيستولي على المصانع العامة والمرافق القومية، ولا يضن بملك فرد ولا جمهرة من الأفراد على حماية الأمة بحذافيرها. ثم أكثر الله خيرك أيتها الاشتراكية ففارقينا عند هذا الملتقى بسلام!
وهو يدين بالديمقراطية فيوجب الانتخاب والصلة الدائمة بالشعب في الخطب والمقالات، ثم أكثر الله خيرك أيتها الديمقراطية فلا أحزاب ولا خصومات في المجلس الوطني الكبير، بل حزب واحد هو حزب الشعب الذي لا يسمح لغيره بوجود! وهو يدين بالديكتاتورية فيقبض وحده على أَعِنَّة الحكومة الكبرى، ثم أكثر الله خيرك أيتها الدكتاتورية فنحن نتلقى السلطان من الأمة، وننوب عنها في الإفضاء به إلى الوكلاء، أو الوزراء.
ويومًا يستورد من ألمانيا، ويومًا يستورد من روسيا أو الولايات المتحدة، وإنه ليعقد القرض في إنجلترا كما يعقده في إيطاليا حسبما تهديه مصلحة الأمة التركية دون غيرها من المصالح، فهو رابح أبدًا؛ لأنه يأخذ الكثير ولا يعطي إلا القليل، ويحسب حسابه من البداية على أن يكون إعطاؤه هذا القليل إلى حين.
وتجديده للحياة القومية على أسلوب تجديده للحياة السياسية بلا اختلاف في البواعث والموجبات، فهو لا يلغي ما يلغي من عادة، ولا يفرض ما يفرض من نظام حياة؛ لأنه يتبع هذا الفيلسوف أو ينغمس في ذلك الكتاب، بل يلغي ما يلغي ويفرض ما يفرض على حكم القوة الحيوية المفرطة التي توحي إليه دين الإيمان بالحياة، والمتعة بالدنيا، والشبع من المائدة التي يسوغها عنده أنه يستطيع هضمها واستمراءها، ولا حاجة بعد ذلك إلى مسوغات.
القوة الحيوية
فمصطفى كمال لا يلغي الحجاب مثلًا؛ لأنه قرأ كتابًا في المساواة بين الرجل والمرأة، ولا نخاله كان يبقي الحجاب لو قرأ ألف كتاب في تسويغه وتفضيله، وإنما يلغيه لأن حياة السفور والرياضة والرقص والمرح أقرب إلى وثبات القوة الحيوية من قيود العادات والموروثات.
أو لك أن تقول: إن مصطفى كمال كان ينكر الأشياء بطبعه ودمه، قبل أن ينكرها بتفكيره وتمحيصه، وهذا هو سر اتباعه للسياسة الدنيوية، والشرائع المدنية، وإيثاره للآداب الأوربية العصرية على الآداب الشرقية العثمانية، وقلة صبره على الأمور التي يعافها، ويستطيع أن يمنعها، فلِمَ القيود الموروثة إذن وهو لا يعجز عن كسرها ولا يفقه لها علة؟
ومن المحقق أن ملكات مصطفى كمال على تعددها وجلالها ما كانت لتجديه شيئًا في جهاده الطويل لولا ما رزق من ذلك البنيان الركين، وذلك التركيب المكين، وتلك الحيوية الطاغية التي أتاحت له أن يناهز الستين في مشقات ومرهقات ما كان أناس آخرون ليتخطوا بها حدود الثلاثين، فقد قيل: إنه كان لا ينام في الأسبوع إلا ليلة واحدة، ثم يسهر بقية الأسبوع إلى مطلع الفجر ليشرع في أعمال الصباح بعد تهويم وجيز، وقيل: إن أطباء كثيرين أنذروه بالموت قبل انقضاء العام إن لم يقلع عن هذه المعيشة، فمات الأطباء وعاش هو بعدهم عدة أعوام، وقيل إنه أهمل أمراضًا شتى تهد الجسوم، فقضى على جراثيمها في دمه الغلاب، ولم يلجأ في مغالبتها إلى دواء، فمهما يكن للرجل من عيب أو خطأ أو جماح فَعِلَّتُه هذه القوة العصية على كل عنان، وما الحيلة وهي أيضًا علة ما له من مزايا ومآثر وحسنات؟
وينبغي أن نفرق بين القوة البدنية التي تتصل بالقوة النفسية في الزعماء وبين القوة البدنية التي لا تتجاوز حدود البدن، ولا ترجح صاحبها في موازين النفوس ومعايير السيادة فلو كان الأمر أمر قوة بدنية في العضل والألواح لكان في البلاد التركية ألوف يصرعون الغازي في ميدان المصارعة، ومعترك المضاربة والمقارعة، ولكن هذه القوة شيء والقوة التي تتصل بسطوة النفس وسيطرتها شيء آخر، تلك لو ترجمت إلى لغة المجاز والتشبيه لكانت حجرًا يستقر ولا يتزحزح، فهي راسخة في انتظار الانقياد، وهذه لو ترجمت إلى لغة المجاز والتشبيه لكانت تيارًا جارفًا من الكهرباء والمغناطيس يصرع ويصعق ولا يقف له الواقف في سبيل.
تلك مقرها الغالب في العضل والألواح، وهذه مقرها الغالب في الدماغ والأعصاب.
تلك خزانة من المادة المنقادة، وهذه خزانة من الإرادة القائدة؟ تلك قوة الجَمل الصبور، وهذه قوة الأسد الهصور.
والفرق عظيم بين القوتين، فمن أصحاب القوة الأولى لألوف كانوا يغلبون مصطفى كمال لو غالبوه، أما من أصحاب القوة الثانية فلا يوجد إلا رجل واحد في تركيا من هذا الطراز، إذ لو وُجد الرجل الآخر لظهر، ولم يمنعه الظهور كل ما في دولة الترك من حديد ونار.
الصرامة
ويندر أن يملك الرجل نصيبًا عظيمًا من هذه القوة الخارقة، دون أن يتصف معها بكثير من الصرامة التي تبلغ مبلغ القسوة في مصارع الخصام.
وهكذا كان مصطفى كمال.
كان صارمًا قاسيًا بطاشًا لا يحفل بأرواح الأعداء ولا الأصدقاء إذا ثار وأصر على اللدد والنقمة، وزاده صرامة أنهم غمطوا حقه في أوائل عهده، وتجاهلوا كفاءته واقتداره، فانطوى على الغضب، وقلة الإيمان بالإنصاف.
ولعل هذه الصرامة كانت لازمة في تقرير مكان الدولة الجديدة، وتثبيت أركان النظام الجديد، بل لعل كثيرًا من الناقدين والمؤرخين سيحمدون هذه الصرامة، ويحسبونها من مظاهر البأس فيه.
وعندنا على كل حال أن بعض الذين قُتلوا كان يمكن ألا يقتلوا وتبقى الدولة الجديدة على منعتها واستقرارها، وأن بعض الذين أسيء إليهم كان يمكن ألا يساء إليهم، ثم لا يتغير مجرى الأمور، ولكن الناس إذا اختلفوا في عدد الضحايا لمصلحة الأمة التركية هل هم أكثر من الواجب أو أقل من الواجب فلن يختلفوا في المبدأ والأساس، وهو أن الزعماء من بناة الدول يستبيحون ما استباحه مصطفى كمال في مثل المآزق التي كان فيها، وأن الرجل الذي لا تستطيع أن تستغني عن عمله كله يجب عليك أن تقبل عمله كله، إذا لم يكن عن هذا القول محيص.
ومصطفى كمال كان رجلًا لا تستغني تركيا عن كل عمله، فقبلته جملة واحدة، وأصابت في هذا القبول.
إلا أننا نتوجه بالنقد إلى خلة فيه لم تكن لها ضرورة قط لتوطيد النظام، وتدعيم الدولة، وهي اغتباطه وفرحه بمصير من قضت عليهم محاكم الاستقلال بالموت المعجل.
فإذا كان لازمًا لمصلحة الأمة التركية أن يموت جاويد، وعارف، وبقية الأحد عشر صريعًا الذين شنقوا في أنقرة، فلم يكن من اللازم قط أن يحيي مصطفى كمال تلك الليلة في محفل راقص يدعو إليه السفراء، والكبراء، والرجال، والنساء، ويلبث فيه حتى يسمع بنبأ التنفيذ في مطلع الفجر، وإن من أولئك المشنوقين لمن كان يساهره بين جدران تلك الحجرة التي جلس يتلقى فيها نبأ التنفيذ. كلا! لم يكن ذلك لازمًا على أي وجه من الوجوه؛ وكل ما سيرويه التاريخ من قسوة الرجل سيكون له مسوغون ومغتفرون، إلا مثل هذا المحفل فلا تسويغ له ولا اغتفار، وإنما تسوغه في نظر علم النفس — لا في نظر علم الأخلاق — مرارة لصقت بطباع الرجل من الكظم الطويل، والتِّرَات القديمة بينه وبين أعدائه المتعمدين لإنكاره المستخفِّين بفضله واقتداره، كما تسوغه فيما رواه بعض الكتاب تلك الآفة التي أصيب بها في شبابه ومن شأنها إذا أهملت أن تضاعف القسوة والمرارة وتدخل السرور على صاحبها بالتنكيل والإيذاء.
رأي قديم
قلنا: إن مصطفى كمال قد أقام الدولة التركية «على الأساس الذي جعلت في الحقيقة لتقوم عليه، وذاك أن تكون تركية للترك لا دولة ذات أملاك شاسعة، ولا خلافة ذات سيادة تركية.»
وقد أتهم نفسي بشيء من الغرض إذا أنا أغرقت في الإعجاب بمصطفى كمال؛ لأنه أقام دولته على هذا الأساس، فقد كان ذلك رأيي الذي كتبته منذ ربع قرن وزيادة في «مجلة البيان» سنة ١٩١٢ حين سئلت أن أبدي رأيًا في إصلاح الدولة العثمانية وتوجيه مصيرها، فكتبت فصلًا مسهبًا في هذا الصدد قد يحسن أن أنقل نبذة منه هنا، وأن أختم به هذا المقال.
قلت يومئذ: «… وقل أن تصادف من لا يقول لك: لقد نزلت الطامة الكبرى، وآن لهذا الهلال أن يمحى، ثم يقول: إنما نحن نشهد اليوم في شرق أوربا ما شهده الناس من قبل في غربها، لو كانت الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوربا لحقَّ لهم أن ييأسوا من ثمرها بعد الآن، ولكنها شرقية المَنْبَت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق، وما هذه الولايات الأوربية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها عنها، وقد كان يمكن أن يدور التاريخ دورة غير التي دارها فلا تتحول أنظار محمد الفاتح بتة إلى القسطنطينية، وكان يكون لهم مع ذلك دولة ولواء ويتسع لهم من آسيا ملك بعيد الآناء منيع الأرجاء، فإن كان قد دار التاريخ دورته وقضي الأمر فلتكن هذه القرون الستة فترة التيه عند بني عثمان، وليثوبوا إلى موطنهم الذي فيه درجوا ومنه خرجوا، وإن ما جاز بالأمس لا يستحيل اليوم، فليست هذه السنة آخر دومات الفلك، وإذا استحال ذلك كما قد يرى القانطون فإنما هو محال في أوربا وآسيا على السواء.»
وفضيلة مصطفى كمال الكبرى أنه أدرك يوم أنشأ دولة الأناضول، أن الأملاك أعباء وتكاليف، وليست مغانم ووجاهة، فعول على الاستقلال بدولة الترك، وأعفى أمته من الطمع في استقلال الآخرين، إلا ما كان ضروريًّا من الأجزاء القليلة لحماية حدود البلاد.