عهد الشيطان
كان إلى جانبي مدرس أديب ساعة وصلتْ إلى المكتبة ثلاثة كتب جديدة في يوم واحد للكاتب الفنان توفيق الحكيم.
فقال المدرس مازحًا: إن الأستاذ توفيق يغرق السوق على الطريقة اليابانية.
قلت: بل على نقيض الطريقة اليابانية؛ لأن أبناء الشمس المشرقة يبيعون بضاعة تشبه الجيدة، ويتشفعون لها برخص الأثمان، أما صاحب هذه البضاعة فهو يبيع الصنف الجيد ولا يتوخى الرخص في أثمانه، فهو مذهب جديد في سوق الأدب غير مذهب القوم في سائر أسواق التجارة.
تلك الكتب الثلاثة هي: عهد الشيطان، وتاريخ حياة معدة، وتحت شمس الفكر، و«تاريخ حياة معدة» موضوع متصل في كتاب لطيف، أما الكتابان الآخران فهما مجموعتان لقصص ومقالات تتصل حينًا اتصال الحلقات، وحينًا اتصال السمط الدقيق.
ولا تخطئ في ناحية من نواحي هذه الكتب الثلاثة تلك اللباقة الفنية التي يجيدها الأستاذ توفيق الحكيم: لَباقة ليست بالسطحية العرضية؛ لأنها في جوهر الموضوع، وليست بالضائعة كأولئك الخطاطين الذين يضيعون لباقتهم ودقتهم في نقش رسالة على حبة أرز أو بيضة يمام؛ لأن النقش هنا مزية فطرية وليس بمهارة صناعية.
أتممت قراءة عهد الشيطان من هذه الكتب الثلاثة: قرأت العهد الذي اتفق عليه المؤلف والشيطان مناقضًا به العهد الذي اتفق عليه فوست وشيطانه القديم، فالعالم فوست ترك علمه وأعطى الشيطان نفسه ليأخذ منه الشباب، والمؤلف هنا يعطي الشيطان شبابه ليأخذ منه العلم، ويجري بينهما هذا الحوار:
– ماذا تعطيني أنت في مقابل هذا؟
– كل ما تطلب.
– الشباب.
– هو لك.
ثم يمضي الحوار إلى أن يقول المؤلف: ألا تكتب عقدًا؟
– لا ضرورة معك للعقود والعهود. إني واثق بشرفك.
– ولكني أنا، معذرة، إني لا أثق بشرفك.
– جربني هذه المرة.
وينتهي المؤلف من القصة على ما يوهمك أنه أضاع الشباب ولم يأخذ المعرفة، وأنه مغبون في صفقة لم يشهد عليها مسجل العقود، وذلك الحوار الأخير الذي مر بك هو الباب اللبق الذي يتسلل منه المؤلف سلفًا لكي لا تأخذ عليه ادعاءه المعرفة في صراحة «غير فنية» فالشيطان في بداية الأمر قد أجمع النية على الروغان، يأخذ الشباب ولا يكتب مَوْثِقًا بإعطاء شيء.
نقول: لو كتب الشيطان تتمة لهذه القصة لكانت بقيتها — أنه على خبرته بالتحف الثمينة — قد رجع إلى وكره، وعجم الثمن المقبوض بمسباره الدقيق فإذا هو مدخول، من ذا الذي يعطي الشباب ثمنًا للمعرفة إلا وهو قد فقد الشباب؟ أو زيف الشباب؟
•••
ومن أجمل قصص الكتاب قصة الأميرة الغضبى، وهي الأميرة بريسكا «بطلة» المؤلف في رواية أهل الكهف، وكان قد أولعها بالشاب مشلينيا ثم أماته، فلما خطر للمؤلف أن يجول في رحلة بين أبطال رواياته لقي الفتاة وروى لنا هذه الرواية:
ذهبت إلى الأميرة بريسكا فوجدتها تتألق في حسنها المعهود، ولكنه حسن عليه غيمة حزن، فما هي إلا أن رأتني وعرفتني حتى هبَّت إلي صائحة: إني أبغضك! من أعماق قلبي.
– أستغفر الله! لماذا يا سيدتي؟ ما جنايتي؟
– وأحتقرك كما أحتقر غالياس.
– لاحظي يا سيدتي قبل كل شيء أن ليست لي لحية غالياس.
– قل أنت قبل كل شيء: ماذا عليك لو أنك أبقيت لي مشلينيا؟ لو أن قلمك تمهل لحظة صغيرة ولم يقصف تلك الحياة قبل أن يحضر غالياس وعاء اللبن! ماذا كسبت أنت من موت مشلينيا قبل الأوان؟ لحظة واحدة صغيرة كافية لإنقاذ الفتى، لكنك ضننت بها أيها القاسي الظلوم.
– لست قاسيًا يا سيدتي، ولا ظلومًا، ولو كنت أملك أمر بقاء مشلينيا دقيقة واحدة لأبقيته عن طيب خاطر.
– لو كنت تملك! ومن غيرك يملك!
– لا تحمِّليني سيدتي هذه التبعة!
جميل أن يتنصل خالق من تبعة خلقه كل هذا التنصل.
آه! ما أظلم الإنسان! وما أحوج الخالقين إلى الرحمة والرثاء في هذا الوجود.
– نحن الظالمون وهم المظلومون! شيء بديع!
– إنكم تحملونهم التبعات وترمونهم بالظلم وهم براء من كل صفة من هذه الصفات فلا ظلم ولا عدل، ولا قسوة ولا حنان، ولا غضب ولا رضا، تلك عواطف لا يعرفونها ولا يشعرون بها، ولو أصغوا لصوت آدمي لانحل الكون في طرفة عين، كما تنحل قصة أهل الكهف لو أني أصغيت إلى شخص واحد من أشخاصها! فأنت تريدين أن أؤخر موت مشلينيا دقيقة ولا تعلمين أن هذه الدقيقة الواحدة كانت كفيلة أن تغير وجه القصة وتقلب مصير الأشخاص، وتلقي عناصر الفوضى في العمل كله. كلا يا سيدتي، إني لم أرد موت مشلينيا، ولم أرد بقاءه، ولم أحب ولم أكره، ولم أظلم ولم أعدل؛ إن الخالق لا يمكن أن يخضع لغير قانون واحد: التناسق.
وهذا كلام جميل أصيل لا يحل به المؤلف مشكلة بريسكا وحدها، ولا مشكلة الفن وحده بل لعله يحل به مشكلات كثيرة، ويكشف به أسرارًا كثيرة، من مشكلات القدر وأسرار الوجود.
واقتراحي على الأستاذ توفيق — في الطبعة التالية — أن يجعل بريسكا تقول له: هات لي هذا التناسق الذي جنى علي هذه الجناية.
– ماذا تصنعين به يا سيدتي؟
– أنتقم منه.
– أنك تندمين.
– كلا. ليس هذا من شأنك. هاته هنا إن كنت صادقًا في إلقاء التبعة عليه، ولم تكن أنت صاحب الجناية علي وعلى مشلينيا.
– ها هو.
ثم يحضر التناسق ماثلًا بين يديها، فلا تلمسه بلمسة واحدة إلا أصابها من ذلك مصاب في جمالها وسحرها وقدرتها على فتنة حبيبها.
ويأتي الأستاذ توفيق بعد ذلك بصاحبها مشلينيا، فإذا هو يعافها ويعرض عنها ولا يستمع لندائها.
وإني لأعطي الأستاذ عهدًا — مكتوبًا — أنه لن يختم القصة يومئذ كما ختمها قائلًا: «سبحان الله! أقسم أن لا فائدة من مناقشة امرأة تحب.» بل يختمها وهو يقول: «إن المرأة لتفهم الحكمة جيدًا. إن كان عدم الفهم يصيبها في جمال أو غرام.»
•••
وبين أظرف الشياطين في الكتاب، ذلك الشيطان الأمريكي أو الإنجليزي غريب الأطوار «إذ سجل خطبة له في أسطوانة فونوغراف، وأوصى المشيعين أن يطلقوها على قبره تنطق بصوته، وأنفاسه، وضحكاته، وكلماته.»
قال الأستاذ الحكيم: «وماذا يمنعني من أن أصنع مثله، وأن أقوم في الناس خطيبًا بعد موتي أقول فيهم!»
ثم سرد الأستاذ خطبة فيها من الاستهزاء بالمشيعين ما يكافئ إشفاق الأصدقاء، وشمات الأعداء، لا أدري لِمَ تعجبني أمثال هذه المواقف، فإني لأذكرها حيثما قرأتها أو رأيتها، ومن ذاك أبيات الشاعر الألماني الخبيث، التي ترجمها صديقنا الأستاذ المازني في هذين البيتين:
ومن ذاك شعار السياسي الإيطالي «إمندولا» الذي أصابه جماعة من الفاشيين فمات في الغربة، وأوصى بأن تكتب له على قبره هذه الكلمة: «هنا يعيش إمندولا، منتظرًا.»
ولعل في هذه الكلمات من كبرياء التحدي — حتى في أعماق التراب — ما يبعث الإعجاب ويخيل إليك أن ذلك الميت الذي جئت لترثي له أو تشمت به، ناهض أمامك يناجزك ويتحداك.
•••
وذات يوم من أيام الربيع هبَّ فيه على وجه الأستاذ نسيم لطيف، ووقعت عيناه على أغصان تتمايل، وأزهار مفتحة تتضاحك، فصاح: «أيها الشيطان، يا شيطان الفن، يا سجاني وجلادي، أطلقني من أغلالك قليلًا إني أريد الحب، إني أريد المرأة.»
فابتسم شيطانه، ولم يزد على أن قال ساخرًا: المرأة مخلوق تافه.
– كلا.
– بلى إنها ليست جديرة بك أيها الفنان الخلاق. إنها مخلوق تافه، صنعت من ضلع تافه من أضلاع آدم، وخرجت من الجنة وأخرجته بسبب تافه.
وانتهى الحوار بأن ختم الشيطان كلامه قائلًا: «الآدميين! ومن قال إنك منهم أيها الفنان! عندما كتب عليك أن تضع على منكبيك رداء العبقرية والخلق خُلع عنك في الحال بعض خصائص الآدميين.»
يا أستاذ!
أنذرك أن شيطاني حاضر هذا اليوم!
إن هذا الشيطان ليسألك: ولم لم تخرج عن شيطانك في تلك الساعة امرأة شيطانية بحكم الطبيعة والبداهة لا بحكم الفن والصناعة؟ ألا يشوقك أن يتجاذباك فترى كيف تميل تارة هنا وتميل تارة هناك؟ ألا يشوقك أن تسمع وسواس الدهاء والذكاء يفسده وسواسي كلمة بلهاء من تلك المرأة الحسناء؟
بلى يشوقك ولا ريب، أو ينبغي أن يشوقك بحكم «التناسق» أيضًا لا بحكمك وحكم شيطانك، فجرب ولا تكتم نتيجة التجربة عن القراء، إلا أن يكون فيها ما «يخدش الناموس» ويصبغ وجه الحياء!
•••
شياطين، شياطين، شياطين!
شياطين السحر، وشياطين الشعر، وشياطين الفنون، وشياطين الأساطير!
ما كل هذا العالم الزاخر بالشياطين لولا أن الإنسان ضعيف الثقة بقدرته سيء الظن بنفسه بين عناصر هذا الوجود وأسراره؟
إن وقع على كلمة جميلة ساء به ظن إخوانه الآدميين وقالوا: هيهات ما هي لك ولا من وحي عقلك، ولكنها مسروقة من شيطان.
وإن سخَّر قوة من قوى الطبيعة ساء به ظن إخوانه الآدميين وقالوا: ما هذا البهتان؟ أأنت تصنع ذلك لولا معونة شيطان؟!
وإن أصيب فشيطان أصابه، وإن برئ وشفي فشيطان أبرأه وشفاه، وهذا الإنسان الذي لا يؤمن بقدره ولا بقدرته في عمل من هذه الأعمال قد آمن قديمًا وحديثًا أنه هو المقصود والمنشود من خلق هذه الأكوان، وإطلاق هذه الآباد والأزمان.
فهو بالواقع والحس ضعيف، وهو بالأمل والإيمان قوي، وهو يستكثر على نفسه العجائب فيخلق أشباح الأساطير لتفسيرها، وإن أعجب منها لخلق تلك الأساطير.
وأين اليوم هذه الجمهرة الحافلة من الشياطين؟
قضى عليها العلم وبددها النور، وخطر لي وأنا أُجيل هذا الخاطر في ذهني أن أشيعها جميعًا برواية كبيرة أسميها مجزرة الشياطين، وأفصلها فيما بعد أن نظمتها شعرًا أو سردتها شرًّا في هذا المقال فحسبي أن أشير إلى خلاصات منها تبدأ برسول علم النفس، وهو ينحي على شياطين الأهواء والشهوات والخوف والحسد والكيد والوسواس، فيُمعن فيها تجريحًا وتقتيلًا حتى لا تبقى منها غير أشلاء ورءوس، ويتلوه رسول الطب فيبيد جميع الشياطين التي حسبها الناس قديمًا علة للأمراض والأدواء، ثم عرفوا اليوم ما علتها من جراثيم الطعام، والشراب، والماء، والهواء، ويتلوه رسول الحكمة فيجهز على فريق ويبقي على فريق، وهكذا حتى تبلغ المجزرة أجلها، وتنتهي الفصول إلى ختامها، وليس في العالم شيطان من هذه الشياطين.
وفي خلال ذلك مواقف يتنادى فيها الشياطين مستغيثين مستجيرين، فلا يغيث أحد منهم أحدًا؛ لأنهم في شاغل جميعًا بما يعانون ويكافحون، أو لأن الإغاثة ليست من طبع الشياطين.
ثم يخطر لشيطان منهم داهية أريب أن يستعيذ بصرعاه وصرعى زملائه الأقدمين والمحدثين، وليس صرعى تلك الشياطين إلا الجهلاء والمنكوبين الذين يحبون بقاءها ولا يتصورون وجود العالم بغير وجودها، فيهبُّ هؤلاء الجهلاء لصوت النفير، ويجيبون نداء المستغيث والمستجير، لولا أن تشرق شمس الحقيقة في تلك اللحظة، فتنهزم الجموع، ولكنها ترجع أو لا تزال تهم بالرجوع.
ثم يهمس الخيال في أذن الحقيقة همسة ترضاها، فيعم السلام، ويشيع الوئام، اتفقا على شيء فيه الرضا لمن يحب فناء تلك الشياطين، ومن يحب لها البقاء، وهو متحف يغمره الخيال بالصور والتماثيل لمن بادوا وتفرقوا من صرعى العلم والنور، فمن طاف بها للعبرة والذكرى فهو مقبول، ومن زارها لغير ذلك فعليه وزر ما جناه.
وعلى فصل من هذه الفصول يهبط الستار، وتتلاقى على المسرح أناشيد العرائس الأبكار من ربات الفنون والأفكار.