رجعة أبي العلاء
كتب صديقنا العلامة طه حسين مقالًا في مجلة «الثقافة» الغراء نقدًا لكتابنا رجعة أبي العلاء.
وجاء في المقال ثناء جميل يطيب لنا أن نرجع به إلى أبي العلاء؛ لأنه هو سببه وهو موحيه، فموضوع الكتاب والنقد أبو العلاء، وصاحب الكتاب والناقد كتبا ويكتبان كثيرًا عن أبي العلاء، وإني مع هذا لأشكر جميل الشكر ذلك الثناء الذي جاءني من طريق أبي العلاء.
وفي مقال الدكتور طه ملاحظات انتقادية لو كان قُصاراها أن تتجه إلى كاتب هذا السطور لأمسكت عن المناقشة فيها، ولكنها تتجه إلى آراء وحقائق تطالبنا جميعًا بحق التمحيص والتوضيح، ولهذا أعود إليها بالمناقشة والتصحيح، وأبدأ منها بجانب اللفظ والمبنى؛ لأنه الجانب الذي نقيسه بمقياس القواعد المتفق عليها، فلا موضع فيها للتفاوت البعيد بين الآراء.
قال الدكتور: «وقد جرى على لسان التلميذ وعلى لسان الشيخ كلام أهمل فيه النحو بعض الإهمال، وما أظن أن أبا العلاء كان ينصب أو يجر حيث يجب الرفع، وما أظن أنه كان يقبل من تلميذه أن يضع «من» مكان «ما»، وما أشك في أن هذا من خطأ المطبعة، ولكنه خليق أن ينبه إليه، وفي الكتاب ذكر لحيرة المُنْبَتِّ الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، وما أعرف أن المُنْبَتَّ حائر، وإنما المُنْبَتُّ مُشرف في الإسراع يعرض ناقته للعطب، فلا يغني عنه إسرافه في السرعة شيئًا، فلا حيرة هناك ولا حائر.»
ورجعنا إلى الصفحة اﻟ ١٨٩ التي أشار إليها الدكتور، فلم نجد فيها منصوبًا يجب رفعه وإنما وجدنا المعري يسأل: «والمساكين المستضعفين؟» دون أن يسبق الكلمتين عامل مذكور.
والقاعدة النحوية في هذه الحالة أن يرجع إلى التقدير كقول الشاعر في البيت المشهور الذي يعرفه النحاة:
فالشاعر هنا لم يقل «أخوك أخوك»؛ لأن الكلمة واقعة في الابتداء، ولكنه قال أخاك أخاك؛ لأن التقدير «اذكر أخاك» أو «استعن أخاك» أو ما شابه هذه التقديرات.
وكذلك كلمتا «المساكين المستضعفين» تُجران لأن التقدير: «ما شأن المستضعفين» أو ما بال المستضعفين أو أنني أسأل عن المستضعفين، وليس هناك ما يوجب الرفع على الإطلاق.
أما «من» في موضع «ما» فقد رجعنا إلى الصفحة اﻟ ٢٣٣ التي أشار إليها الدكتور فإذا هو يشير إلى قولنا: «لو أن الأستاذ قد شهد أسراب الطير وهي تعبر البحر المحيط كل عام فيغرق منها من يغرق، ويسلم منها من يسلم، ثم تعود إلى الهجرة ولا تخاف الموت، ولا تعرف ما هو لحسبت أنه يعني هذه الشجاعة حين يذكر شجاعة الغريزة وشجاعة الحيوان.»
وأبو العلاء ولا ريب يقبل من تلميذه أن يضع «من» في هذا الموضع لأن «من» تستعمل للعاقل ولغير العاقل في أفصح الكلام، ومنه:
ومنه في شعر امرئ القيس:
ومنه في القرآن الكريم، والكلام عن الأصنام: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وفي القرآن الكريم أيضًا: فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ وهذا عدا الشواهد التي لا تُحصى لخطاب غير العاقل بضمير العاقل، في القرآن وفي كتب النحو والأدب وفي دواوين الشعراء.
أما المُنْبَتُّ فلماذا لا يحار وقد أتلف دابته وانقطع عن صحبه ولم يصل إلى غايته؟ ومن الذي يحار إن كان مثل هذا لا يحار؟ ما أظن أن الحيرة مشروطة في كتب اللغة أو كتب الأمثال بأسباب لا تعدوها، وما أظن أحدًا ينفرد ويعدم المَرْكب، ولا يبلغ نهاية الطريق إلا وهو حائر فيما يصنع وإن لم يسمح له الدكتور طه حسين بالحيرة! فإذا حرَّم الدكتور عليه الحيرة فهو وحده الذي يحرمها عليه، لا علم اللغة، ولا علم النفس، ولا قوانين العرف، ولا قوانين التشريع!
•••
وعرض الدكتور طه لمسائل في الكتاب من جانب المعنى، يلوح لنا أن القواعد فيها أظهر من قواعد اللغة، وأقرب إلى التفاهم عليها من النصوص المقررة.
ومن ذلك أنه قال: «… إن الأستاذ العقاد أراد أن يرتحل بأبي العلاء بعد أن بعثه بعثًا جديدًا، وأن يطوف به في أقطار الأرض فلم يصنع شيئًا، وإنما ارتحل به في طائفة من الكتب التي قرأها، وفي ألوان من العلم الذي أحاط به، وفي فنون من الآراء التي أتقنها واستقصاها، ذلك لأن الأستاذ العقاد نفسه لم يرتحل ولم يُطَوِّف في أقطار الأرض، وإنما ارتحل وهو مقيم وطوف وهو مستقر، وعرف الدنيا وهو لم يتجاوز حدود مصر، وهذه مزية من مزايا الأستاذ وفضيلة من فضائله. وبائعة السجائر مهما تكن جميلة لا تستطيع أن تعطيك إلا ما عندها كما يقول الفرنسيون، وعند الأستاذ العقاد أدب وعلم وفلسفة، فقد ملأ يديك أدبًا وعلمًا وفلسفة، ولكنه لم يرحل إلى أوربا ولا أمريكا، فلا يستطيع أن يرحل بك ولا بأبي العلاء إلى أوربا ولا إلى أمريكا، ينزل بك وبأبي العلاء في ألمانيا وفي الروسيا وفي السويد والنرويج والدانمارك، وفي بلاد الإنجليز وفي إسبانيا وفي أمريكا، ولكنه لا يريك من هذه البلاد شيئًا ولا يُظهرك ولا يظهر أبا العلاء إلا على بعض ما عنده من آراء أصحابها وبعض سيرهم، وينتهي بك إلى مصر فيظهرك منها على طبيعتها الرائعة ونهرها الجميل، ذلك لأنه يعرف مصر وقد رآها رأي العين فهو قادر على أن يعطيك منها شيئًا، وهو أمين كل الأمانة ولا يستطيع أن يعطيك من أوربا ولا من أمريكا؛ لأنه لا يعرفهما، أستغفر الله وأستغفر الأستاذ العقاد، بل لأنه لم يرهما رأي العين، ولم يلمم بهما إلا من طريق الكتب.»
ذلك رأي الدكتور طه في الكتابة عن البلاد التي لم ينتقل إليها الكاتب.
والعجيب الظريف أنه يسوق هذا الرأي في معرض الكلام عن أبي العلاء، أي عن الرجل الذي كتب عن الجنة، والجحيم، والعالم الآخر، وهو قابع في محبسيه!
فماذا يقول المعري للدكتور طه لو أنه ألزمه هذا الحكم، وأبى عليه أن يكتب عن بلد غير المعرة وبغداد وما إليهما؟
إنه لا يقبل منه هذا وهو الذي يحدثنا عما يقبله أبو العلاء وما يأباه.
بل إنه لا يقبل منه أن يقيده بالمشرق والمغرب، بل بالدنيا كلها، بل بالأرضين والسموات؛ لأنه كتب عن العالم الآخر قبل أن ينتقل إليه! وخالف بذلك دستور الكتابة عن الأماكن البعيدة، كما يشرعه لنا الدكتور طه حسين.
وإنما تعنيه مشكلات العقائد والأخلاق، التي كان يُعنى بمثلها في الحياة، وليست هذه المشكلات والعقائد مقصورة على المسافرين دون المقيمين، وإن كان عرضها للنقد في صورة من صور السياحة أقرب إلى الخيال وحسن السياق من عرضها على المعري في كتاب، وليس هناك كتاب واحد يجمعها كلها بين دفتيه.
على أننا نعود فنسأل: أين هي المشاهد التي لا يراها الإنسان إلا بالانتقال إليها في هذا الزمان؟
الصور المتحركة ترينا وتسمعنا كل يوم ما يراه ويسمعه الباريسيون، واللندنيون، وسائر الغربيين، والشرقيين، والمطابع تنقل إلينا ما يقولون وما يعتقدون، والأصوات الحاكية تحكي لنا ما يُنشدون ويعزفون، والعالم كله معروض لنا عرضًا ينقله إلينا وإن كنا لا ننتقل إليه، وليس كل من في باريس، أو في لندن، أو في رومة، أو في برلين، بقادر على محادثة المعري فيما يعنيه من مشكلات تلك البلاد. فلا موضع ﻟ «القاعدة النقدية» التي وضعها الدكتور طه حسين في هذا الصدد؛ لأنها لن تخلص بنا إلى نتيجة يقبلها أبو العلاء، أو يقبلها النقاد، أو يقبلها التاريخ.
أو هي لا يقبلها التاريخ، ولو قبلها النقاد، وقبلها أبو العلاء، إذ نحن قد نقول: إن ذهابي إلى أوربا وأمريكا وآسيا واجب قبل الكتابة عنها؛ لأن ذهابي إليها مستطاع.
وقد نقول: إن الذهاب إلى الدار الآخرة التي وصفها أبو العلاء مستطاع قبل الخروج من هذه الدنيا، وإن كانت الكتابة عنها بعد ذلك لا تستطاع.
وقد نقول أشباه ذلك في أشباه ذلك، فماذا نقول في بابل، ونينوى، وطيبة، ومنف، والمدائن، التي يلزمنا التاريخ أن نكتب عنها، وقد استحالت الرحلة إليها اليوم، إلا أن تعود كما كانت قبل التقوض والخراب؟
فعدول الدكتور طه عن رأيه هذا خير للنقد — فيما نحسب — من إبقائه بغير نتيجة مجدية، أو بالنتيجة التي معناها الحجر على رحلات الأفكار، ومسالك الحكماء، في فجاج الواقع والخيال.
•••
ويقول الدكتور: «أراد أن يعطينا صورة من أبي العلاء لو عاش في هذا العصر فأعطانا صورة من الأستاذ العقاد الذي يعيش في هذا العصر، وما أحسبنا قد خسرنا شيئًا بل أعتقد أننا قد ربحنا كثيرًا، فمِن أعسر الأشياء وأبعدها عن متناول الأدب مهما يكن ذكي القلب، نافذ البصيرة، أن يبلغ الغاية من تصور الحقيقة التاريخية، فكيف باختراع الصورة لشيء لم يكن وليس من الممكن أن يكون؟ وأقل الناس علمًا بالتاريخ الأدبي وممارسة لصناعته يعرفون أن كثيرًا من المؤرخين ربما خُيل إليهم أنهم يصورون هذا الكاتب أو ذاك، وهذا المفكر أو ذاك، ولكنهم في حقيقة الأمر لا يصورون إلا أنفسهم حين يصفون رجال التاريخ.»
وأنا أوافق الدكتور على صعوبة تصوير الحقيقة التاريخية والشخوص التاريخيين، ولكن الوجه الصواب من وجوه النقد في رأيي يخالف الوجه الذي يراه الدكتور طه في عرضه لهذا الموضوع.
إنني اجتهدت ألا أُسند إلى أبي العلاء فكرة من الفكر، أو كلمة من الكلمات، إلا شفعتها ببيت أو أبيات قالها في مسألة قديمة تقرب من مسائلنا الحديثة، وهذه هي حجتي في إسناد تلك الفكرة، أو تلك الكلمة إلى أبي العلاء.
أزعم أنا أن أبا العلاء لو عاد إلى الدنيا، وشاهد هذه المسألة، لقال فيها كيت وكيت؛ لأنه قد قال كيت وكيت في مسألة مثلها، أو قريبة منها.
فالوجه الصواب في النقد، أن يقول لنا الدكتور: «كلا. إن أبا العلاء لا يمكن أن يقول ذلك؛ لأن كلامه السابق، أو رأيه السابق، أو قياسه السابق يأباه، ولا يوافقه في نصه أو في مرماه، وأن المتكلم إذن هو العقاد، وليس هو أبا العلاء؛ لأن هذا الكلام لا يتأتى أن يصدر في هذا المقام إلا من العقاد.»
ذلك هو الوجه الصواب فيما أحسب، وأزيد عليه أن آرائي في مسائل من كتاب «رجعة أبي العلاء» تختلف أحيانًا عن الرأي المبسوط في ذلك الكتاب، وأنني لا أذكر رأيًا واحدًا فيه يمكن الجزم باستبعاد صدوره من أبي العلاء، قياسًا على المعروف من كلامه، أو من مزاجه، أو من قياس تفكيره، وذلك حسبي فيما توخيت من إسناد الآراء إليه.
•••
وأعود فأشكر لصديقنا الدكتور ما أثنى، ولا أنوب عن أبي العلاء في الشكر، لكي لا أَجُور على حق الدكتور فيه.