ليسستراتا١
ليسستراتا هو اسم امرأة أثينية أثارت بنات جنسها على الرجال، فأقسمن ألا يقاربنهم أو يعقدوا الصلح الذي يردنه، ولكنهم لم يلبثن أن تركنها وارتمين في أحضان الرجال!
وليسستراتا هو اسم رسالة تبحث في موضوع المرأة الناقمة في هذا العصر وفي المستقبل، وهي إحدى رسائل تبلغ الخمسين يصدرها في إنجلترا بعنوان «اليوم وغدًا» رهط من رجال الفكر والأدب والفن، يختارون لكل رسالة نبوءة عن المستقبل في بعض الشئون، ويتخذون لها اسمًا قديمًا من أسماء أبطال التواريخ والأساطير، فهي من الأمس في التسمية، ومن اليوم في التأليف، ومن الغد في موضوع النبوءة الذي تدور عليه.
صاحب هذه الرسالة التي نحن بصددها هو «ليودفتشي» أحد الحواريين النيتشيين الذين يدعون إلى مذهب المفكر الألماني في بلاد الإنجليز، وهو من المغربيين في النزعة وأسلوب التفكير، ولا غرابة في ذلك فهذا أوان الإغراب وعصر الإعلان الذي يكثر فيه إلحاح المؤثرات على حواس الناس، فلا يظفر منها بالالتفات إلا من بذ غيره في التنبيه والإزعاج، فإن شئت أن تسمي مدرسة العصر الحديث في العالم كله باسم يدل عليها، وعلى مكان الحقيقة من فلسفتها فسمها «مدرسة الإعلان» وانتظر عندها من البريق والزعيق ما تنتظره عند فن الإعلانات الأمريكية والحروف النارية التي يتلألأ بها الفضاء ثم يواريها الظلام بعد عمر طويل أو قصير، وكن سعيدًا راضيًا بالغنيمة إذا ظفرت تحت ذلك الإعلان «بمحل تجارة» تباع فيه بضاعة نافعة وصنف جديد.
من بريق هذه الرسالة وزعيقها نظرتها إلى المستقبل على ضوء الإعلانات الأمريكية والحروف النارية، فماذا يكون مستقبل المرأة الناقمة، وماذا يكون مستقبل الرجل المنقوم عليه؟ سترى عما قريب!
مستقبل المرأة الناقمة إذا صارت الأمور إلى أقصاها، أن تستغني عن الرجل وتستضعفه وتقضي بالموت على كل ذكر ينتج نسلًا بغير الطريقة العلمية التي يستخدمها بعض العلماء في إلقاح الإناث بمادة الذكور. ذلك أن الآداب الفاشية بين الناس في هذا الزمان آداب تنكر الجسد وتزري بمطالبه ونزعاته، وتغلب ما تسميه بالأشواق الروحية على ما تسميه بالميول الحيوانية، فلهذا فترت رغبة المرأة في الحياة، وتمردت على الرجل، وأشاع الناقمات من النساء أن العلاقة بين الجنسين علاقة دنس وهوان خير منها التبتل والانفراد، وأصبحت المرأة الآن تؤثر الشهرة والخطر على العاطفة والخالجة النفسية، فهي سائرة إلى التألب والتآزر والمطالبة بالحقوق السياسية، والمزاحمة على أعمال الرجال في المصانع والأسواق، وسيعكف الرجال على الرياض العسكرية والمهارة في الألعاب، فينشأ منهم جيل سهل المقادة للنساء مذ كان هذا الطراز — طراز العسكريين واللاعبين — هم أطوع الرجال للمرأة، كما قال أرسطو في الزمن القديم، وستكون قوة التمرد ومرارة السخط ونخوة الحنق الأدبي أبدًا في جانب المرأة، فهي بهذه القوة تقهر الرجال وتزحزح الجنس الغالب رويدًا رويدًا من مكان السيد إلى مكان الماهن الأجير، وسوف تزداد الأبدان ضعفًا وتزداد الأمومة مشقة، وتزداد المسرات الجسدية نكرًا وقبحًا فيزداد التبتل شيوعًا، ويجيء اليوم الذي يصبح فيه الرجل ولا شأن له في الحياة إلا الجندية وإنتاج البنين، فتأنف المرأة أن تعاشره لغير غرض إلا أن تلد له وتربي أولاده، وتتولى المعامل إلقاح النساء بالوسائل الصناعية، كما تتولى الآن إلقاح الأطفال بأمصال الجدري والحميات، ويأتي يوم يرتفع فيه سن الرضا في المرأة إلى الثلاثين أو الخامسة والثلاثين، أو ما فوق ذلك، فيقضى بقتل الرجل الذي يغري المرأة دون تلك السن أو بخصيه! وينظر إلى النساء الباقيات على سنة الطبيعة في الحمل والمعاشرة نظرة ازدراء واستهزاء، وما هي إلا فترة ثم يُستغنى عن الرجل الجندي، ويكمل إتقان الصناعات الآلية؛ لتصبح إدارتها في سهولة الترقيم على الآلة الكاتبة، أو غلي الشاي، فتحل البنات محل الشبان في الجيوش والمعامل، وينتهي الأمر بأن يحور الرجل، وقد فقد رجحان الروح والجسد، وفقد رجحان الزوجية والحب، وفقد رجحان المهارة الآلية والشجاعة الجندية، فيستكثر عدد الرجال ويستحيي منهم بالقدر اللازم لحفظ اللقاح الصناعي، ويُنْحى على البقية قتلًا كما تنحى إناث النحل على ذكوره، بحيث تقتصر النسبة بين الجنسين على خمسة من الرجال لكل ألف من النساء، وربما أغنى عن هذه المذبحة علم ما في الأرحام فتُحفظ ذرية الإناث، ويُكتفى بتربية نصف في المائة من ذرية الذكور في كل عام، وهكذا إلى خاتمة هذه الرؤيا السوداء التي تضل بها البصيرة في ظلام فوق ظلام!
•••
هذه هي العاقبة إذا صارت الأمور إلى غايتها: ويقول المؤلف إنها رؤيا قد تظهر عليها مسحة الغرابة ولكنه يستحمق الإعراض عنها والاستخفاف بها لهذا السبب، ويحسب أنه يجد ولا يهزل، ويتأمل ولا يتخيل، حين جمح بالوهم إلى تلك العاقبة التي لم يحلم بمثلها حالم من أصحاب النبوءات الخارقة عن إرهاصات القيامة وعجائب آخر الزمان!
إن صاحبنا «ليودفتشي» لم يخلص التلمذة لنيتشه في هذه النبؤة الجامحة، ولو أنه كان لأستاذه الكبير ذلك التلميذ النجيب الذي يريد أن يكونه، لعلم أن شطط الرؤيا إلى تلك النهاية مستحيل في الحقيقة وغير مقبول في الخيال، وأن المرأة قد تعرف قوة السخط الأدبي وقد تغلب بها أحيانًا، ولكنها لا تنشئها ولا تثابر عليها جيلًا بعد جيل بمعزل عن إيحاء الرجل وإمداده القريب، فالمرأة ما خلقت فيما مضى ولن تخلق بعد اليوم «قانونًا خلقيًّا» أو نخوة أدبية تدين بها وتصبر عليها غير ذلك القانون الذي تتلقاه من الرجل، وتلك النخوة التي تسري إليها من عقيدته؟ ولو ظهرت في الأرض نبية بمعزل عن دعوة الرجال لما آمنت بها امرأة واحدة، ولا وجدت لها في طبيعة الأنثى صدى يلبيها إذا دعت إلى التصديق والإيمان، وإنما المرأة تؤمن بالرجل حين تؤمن بالنبي وبالإله، وتسخط سخط الرجل حين يسخط عن تدين واعتقاد، وليس بالمستحيل أن يتمرد النساء على الرجال، ويعلن النقمة والعصيان، ويطلبن الحقوق وشريعة المساواة، ولكن سخط العقيدة الذي يزعمه ليودفتشي ناصرًا للمرأة على الرجل جيلًا بعد جيل وطبقة بعد طبقة مستحيل لا يتخيله من عرف تاريخ المرأة فيما مضى، وعرف طبيعتها في كل زمان، وربما قيل: إن المرأة حين تسخط ذلك السخط إنما تسخط بقوة اهتمامها بالرجل وقوة حقدها عليه، فهي على كل حال تستوحي منه العقيدة، وهو على كل حال موضوع هذا الاعتقاد. قد يقال هذا وقد نستجيزه في بعض الأحوال الفردية التي تكون فيها الثورة على رجل، أو على رجال، وليست على «الرجل»، أو على «الرجال»: ولكنا لا نستجيزه في ثورة طويلة كالتي يتخيلها ليودفتشي تثابر عليها المرأة مئات السنين إلى ذلك الأمد البعيد.
•••
ولكن لماذا لا نحسب تلك النبوءة على جانب الإعلان الذي قلنا إنه عنوان الفلسفة في هذا الزمان؟ احسبها أيها القارئ على جانب الإعلان، وانظر إلى البضاعة لعل فيها ما يستحق مؤنة البحث والاقتناء.
أما البضاعة في لبابها فهي أن غلو الآداب والأديان في احتقار الجسد قد عودنا أن نغتفر العيوب الجسدية، ونبيح الزواج بين الضعاف الذين لا يتذوقون فرح الحياة ومتعة الأشواق والأهواء، وأن هذه العادة قد أثارت طبيعة المرأة على الحياة، ورفعت هيبة الرجال من نفوس النساء فتطلعن إلى المساواة والاستقلال، وأضعن ميل الغريزة ورضا الأنثى بحظها في الحياة وجاءت أزمات المعيشة الحديثة فألجأت ألوف النساء إلى العزلة، وطلب القوت فشاع بينهن الغضب على الدنيا، وأشربت نفوسهن روح الثورة والانتقاض، فللمرأة في هذا العصر ثورة خلاصتها أنها ثورة أجساد مغبونة، ومعدات جائعة، وحب معكوس يتزيا بمظهر الحقد والبغضاء.
هذه هي خلاصة الحركة النسائية في مذهب ليودفتشي، وهي على ما نظن خلاصة معقولة تصلح للانتقاد.
إلا أننا نسأل: هل الآداب هي التي خلقت احتقار الجسد، وما زالت بنا حتى اغتفرنا عيوبًا في الأبدان والأعضاء لم يكن يغتفرها الأولون؟ أو أن احتقار الجسد وسآمة اللذات، وأسبابًا أخرى غير هذه الأسباب هي التي خلقت الآداب وأنشأت لنا معايير للتقويم والتقدير هي معايير الأبدان والأعضاء؟ والذي نرجحه نحن أن احتقار الجسد قد نشأ بعد أن أصبح الجسد حقيرًا حقًّا عن ضعف أو عن ابتذال في عرف الكثير من الضعفاء والأقوياء، وأن العصر الحديث لا يدين لسلطان الأديان وآداب الوراثة والتقليد في كل ما يشعر به من آداب احتقار الحياة وسآمة الأفراح، وإنما هو ينطوي على عوامل كثيرة قادرة على أن تعيد هذه الآداب سيرتها الأولى لو بطلت اليوم كل الآداب الموروثة عن الأقدمين، فالعقائد لا تتهم بإضعاف الأبدان واحتقار الحياة، ولكنه هو ضعف الأبدان، وهي حقارة الحياة هما البادئان بإنشاء العقائد التي يحاسبها ليودفتشي على عيوب هذا العصر الحديث، وهيهات أن تكون لذات الجسد حقيرة في عقيدة مقبولة تسيغها الطباع لو لم تكن لذات الجسد حقيرة في الواقع المحسوس قبل أن تخطر تلك العقيدة على بال إنسان، ونظن أن ترف المدينة وإهمال الفاقة هما سر العقيدة التي نشأت في القدم، وتنشأ اليوم وبعد اليوم مبغضة في الحياة مزرية باللذات مغرية بالتشاؤم والأنفة من رق التكاليف. بل نظن هذه العقيدة بركة في بعض نواحيها وذخيرة أعدتها الطبيعة لمكافحة الابتذال، والتهالك على صغائر الحياة كلما أفرط الناس في الشهوات، وأمعنوا في ابتغاء اللذات، فهي علاج يناسب الداء وليست بداء يحتاج إلى علاج، وهي أصلح من الإيمان بالجسد وحده لإبقاء العصور التي تشكو الضعف، وتتبرم بحقارة الحياة؛ لأن الإيمان بالجسد وحده يزيد الضعيف غيًّا، ويدفع بالجوى إلى طريق الضعف والغواية أما إنكار الجسد — وهو تلك العقيدة التي تدخرها الطبيعة لمثل هذه العصور — فهو علاج عاصم يعين على ضبط النفس وكبح النزوات، وهما ملاك قوة القوي، وأحوج ما يحتاج إليه الضعيف.
•••
وثم سؤال آخر وهو: هل يستطاع في حالة الحضارة أن نجعل المعايير الجسدية هي الحكم الفصل في قيم الرجال والنساء؟ ونقول نحن: لا، إن الحضارة أعرف بالقصد من الهمجية، وأدرى بوسائل الادخار والاستنباط، فالهمجية تستفيد بصفة واحدة في الإنسان، أما الحضارة فتستفيد بكل ما في الناس من الصفات والملكات، فمطالبها موزعة وصفات أبنائها موزعة كذلك على حسب تلك المطالب، وهي في حاجة إلى القوة والحيلة والذكاء والذوق والابتكار والجمال والأناقة والدمامة والخشونة، وكل ما تقوم به العلاقات المتشعبة بين الناس، وهي لا تقوم على عنصر واحد ولا يتاح أن يجتمع عناصرها كلها في فرد واحد، فمن هنا تختلف المقاييس ويتفاضل الناس بصفات كثيرة غير صفات الأبدان والأعضاء، فيرجح الذكي على من هو أقوى منه إذا كان هذا محرومًا من الذكاء، ويفلح الكبير النفس حيث يفشل من هو أصح في الجسم وأجمل في ظاهر الرواء، وتحفظ هذه الصفات الكثيرة بهذا التفريق في الميول وهذا التباين في الاختيار.
فالإيمان بالصفات الحيوانية وحدها ليس بالميسور في الحضارة ولا هو بالمشكور، والاختلاف في الملكات لا يكون إلا بتضحية محتومة يزيد فيها نصيب وينقص نصيب، وجهد ما نستطيعه في هذا الأمر أن نمنع المرض، ونحظر التناسل بين من لا يرجعون للأبوة والأمومة، أما اختلاف المقاييس فقضاء مبرم على الحضارة لا محيص عنه ولا داعية لاجتنابه.
لهذا نعتقد أن شكوى المرأة في الحضارة قديمة، وليست بالطارئ الجديد الذي أحدثته عقائد الأديان أو احتقار الأجساد، وإن أسباب الحركة النسائية عريقة في التاريخ، وجدت على درجات متفاوتة في الشدة والرفق، أو في الظهور والضمور، فإذا تغير منها المظهر والصيغة في عصرنا هذا فذلك مرجعه إلى سببين مقصورين على هذا العصر الحديث: أولهما أنه عنصر «الاجتماعات»؛ لأنه عصر المدن والصناعات، وثانيهما أنه عصر ديمقراطية تبث عقيدة المساواة بين جميع الأفراد، وتتلو عصر الفروسية التي ارتفع بالمرأة في أوربا إلى ذروة القداسة والتبجيل، فحركة النساء اليوم تبدو في هذا المظهر الجديد بما تأخذه من حقوق الديمقراطية وتراث الفروسية ودعاوى المساواة، وآلات التعاون والتنظيم، وطموحها إلى المساواة في الحقوق والواجبات لغط لا يدوم إلا ريث أن تسفر التجربة عن غايته المصطنعة، وغوره القريب.