الشعر في مصر (٣)١
لِمَ لا نرى بين الشعراء المصريين تلك النظرة الواسعة إلى الكون، وذلك الإحساس الشامل بما فيه من مظاهر الجمال وأسرار الحياة؟ ولم لا نرى بينهم تلك النماذج الحية من صور الشعور والتفكير ووسائل التمثيل والتعبير التي نراها في آداب الأمم الشاعرة من الغربيين! لم لا نرى فيهم أمثال وردزورث الزاهد المتقشف المغرم بالطبيعة، وكولردج الصوفي المتفلسف الصبور، وبيرون الساخط الشهوان، وشلي المغرد الطموح، وهيني الساخر الصارم والحزين الضاحك، وشلر المتنطس العزوف، وجيتي الرصين المترفع، ودانتي الجاحم المتفزز، وليوباردي الوادع المهموم! ولم لا نرى فيهم هذا المفتون بالبحر، وذلك الموكل بمنطق الطير، وذلك المشعول بالسماء، وأولئك الذين يجيدون وصف السرائر، أو يجيدون وصف المناظر الإنسانية، أو المناظر الطبيعية، أو مشاهد القرون الوسطى، أو الذين لكل منهم علامة وعنوان ولكل منهم شاعرية مميزة تعرفها، وتعرف سواها فتعجب لسعة الحياة وارتفاع آفاقها، وعمق أغوارها وتعجب لما في «النفس» من شعب لا نهاية لها، وغرائب لا يحدها الوصف ولا يعتريها النقاد؟
ولم هذا التشابه المسئوم بين الشعراء المصريين الذين يخيل إليك أنهم كلهم خلقة واحدة صبت في قوالب يميزها الطول والعرض، ولا يميزها عرض من أعراض النفوس أو سر من أسرار الحياة؟ ولم هذا الضيق الذي يجمعهم كلهم في حظيرة واحدة تحويها النفس العامية بحذافيرها، وتفتأ زمانها على سمة لا يعتريها اختلاف التكوين، ولا تمايز الأوضاع والأشكال؟ يصفون الربيع جميعًا فلا هذا مميز بإدراك الظلال والألوان، ولا ذاك مميز بطرب الألحان والأصداء، ولا غير هذا وذاك مميز باستكناه الخفايا واصطياد الأطياف والأرواح، ولا غير هؤلاء مميز بأشواق الهوى، ونزعات الشعور، وخفقات الإحساس، وأشباه هذه المزايا التي يشملها الربيع، ويعطي كل شاعر منها بمقدار، وإنما هم جميعًا سواسية في تشبيه الورود بالخدود، والبلابل بالقيان، والأزهار بالأعطار، وما إلى ذلك من الصيغ المحفوظة، والصفات المعهودة، والربيعيات التي لا لون فيها ولا صدى ولا حس ولا، ربيع! فلو كان في عالم السرائر مشبهون يتعقبون الشعراء سماتهم النفسية كهؤلاء المشبهين الذين يتعقبون الجناة بسمات الوجوه والأجسام لحار والله المساكين في كتابة التشبيه، وتقدير الأوصاف، وتحرير المزايا بين أولئك الشعراء، فكل شعرائنا طويل قصير، بدين هزيل، أبيض أسود، أحول أعمش! وكلهم توائم يعرفون بالملابس والأسماء، ولا يعرفون بالأوصاف والسمات، وكل ما يشهدونه من روعة الحياة لا يتعدى ذلك الذي يشهده كل ذي عينين حيوانيتين، كلبيتين أو بقريتين أو فيليتين إلى آخر ما في الحديقة من ذوات العينين! فلو نظمت الكلاب والقطط يومًا باللغة العربية لعلمت منها أنها هي أيضًا تفهم كما يفهم شعراؤنا أن الورد أحمر، وأن الياسمين أبيض، وأن الزرع أخضر، وأن في الدنيا أشياء أخرى حمراء وبيضاء وخضراء تشبه هذه الأشياء، وربما زادت على شعرائنا بفهم لا يفهمونه وهو تحية الحب التي يحيا بها كل ذي إحساس مقدم الربيع حاشا شعراءنا النابغين.
لم هذا؟ لم لا يكون التمايز بين شعرائنا كما يكون بين شعراء الأمم الشاعرة! لم لا نرى في كلامهم سعة للكون ولا عمقًا للحياة؟ لم هذا الضيق الحيواني الذي يزري بشرف الإنسانية وينزل بمقام الإحساس والإدراك؟ العلة دائمًا في السليقة المصرية لا مطمع في شفائها أبد الزمان! ذلك رأي قد يسهل على بعض الناس أن يسرعوا إلى اعتقاده، ولكنا نحن لا نحب أن نراه ولنا مندوحة عنه، ويزيدنا ترددًا فيه أننا لم نجد في مجمل التاريخ المصري الذي استعرضناه قبل دليلًا قاطعًا عليه، فما من قصور شعري بدأ في ناحية من نواحي ذلك التاريخ إلا كانت له علة قريبة إلى الصديق يأخذ بها من يحرص على التبرئة، ويأبى التعجل بالتهمة، وليس ما يمنعنا الآن أن نرجو «شعرًا مصريًّا» ذائعًا بين قراء الشعر تتجلى فيه سعة الكون وأسرار الحياة وألوان المواهب والملكات، وأن نرد الجهل بالشعر إلى أسباب كثيرة عارضة يرجع بعضها إلى مقاييس القدم التي كانت تجعل البداوة الجاهلية مثلًا لكل كلام بليغ وكل شعر مأثور، ويرجع بعضها إلى الدراسة الفرنسية التي أولعت بالزخارف والطلاوات والكياسة المتظرفة والمعاني المصطنعة، ويرجع شيء منها إلى سوء فهم لطبيعة الشعر يقصره على الصغائر، ويكتفى منه بالظواهر ولا يراه أهلًا للنظرة العالية التي ننظر بها إليه، ويرجع الشيء الكثير منها إلى عزلة الجماهير واحتجاب المرأة، وعصور الظلم والجهالة التي ثقلت وطأتها على هذه البلاد.
بيد أننا نحب أن نصحح هنا زعمًا قد يزعمه بعض الذين يقرءوننا ولا يعقلون ما نريد، فنحن لا ننقد شعراء الجيل الماضي؛ لأنهم قدماء أو يشبهون القدماء وإلا كان أولى بنقدنا المتنبي وابن الرومي وبيرون وشكسبير، ولسنا نحسب الذين يعجبون بشوقي — إمام شعراء جيله — معجبين به لأنهم يفهمون الشعراء السابقين، ولا يفهمون الشعراء المحدثين، إذ لو كانوا هم كذلك لكان لديهم «استعداد» لفهم الشعر يعين على مناقشتهم والاتصال بهم على ملتقى قريب، ولكن الذي ننكره في جماعة «الشوقيين» ومن نحا نحوهم أنهم على ضلال بيِّن عن فهم القديم والحديث والفطنة إلى الشعر الشريف في أي عصر وأية لغة، فهم لا يعجبون بشوقي لأنهم يعجبون بالمتنبي والبحتري وابن الرومي وأبي نواس، ولكن لأنهم لا يعرفون ما هو كنه الشعر الذي يستحق الإعجاب، ولا يستقيمون في الفهم والإحساس، وما نظن أحدًا عرف الناس بفضل المتنبي، وابن الرومي وغيرهما كما عرفهم أنصار الحديث بذلك الفضل المجهول فلو كان «الشوقيون» يفهمون تلك المحاسن، ويستقيمون في نقد الأقدمين لما كانوا شوقيين ولا انحسر بين أنصار الجديد وبينهم صلة التعارف والإقناع، ولكنهم يقرءون شعراء الجيل الماضي كما يقرءون شعراء العصور الجاهلية والأموية والعباسية، بغير بصيرة ولا استقامة في الإعجاب أو في الإنكار.
إليك مثلًا قول بعض الذين أغرقوا في مدح شوقي، وقابلوا بين قصيدته السينية في الأندلس وسينية البحتري في إيوان كسرى، ففضلوا الأولى على الثانية، ورجحوا شوقيًّا على البحتري بهذه الآية، وذكروا ذلك فيما ذكروه من إطراء صاحبهم لمناسبة الاحتفال بتكريمه. ترى لو كان هؤلاء الشوقيون يعجبون بالبحتري إعجاب صدق وعلم أكانوا يقولون ذلك القول أو يغمطون حقه ويجهلون مزيته ذلك الجهل الذميم! فالبحتري واصف القصور والعمائر لا آية له في الشعر إن لم تكن له الآية الناطقة في هذه الصفات، ولا يحق لأحد أن يدعي عرفانه إذا هو لم يعرفه في هذا المجال الذي قل أن يلحقه فيه سواه، ودع عنك ذاك وانظر إلى الموقف الذي أنطق البحتري بقصيدته النادرة في وصف إيوان كسرى، تعرف نصيبه من الشاعرية ونصيب شوقي بالقياس إليه في هذا المضمار، فما الذي حدا بالبحتري إلى نظم القصيدة؟ أهي عصبية الدين؛ لا! فإن الإيوان من صنع المجوس، والبحتري مسلم ينكر المجوسية، ولا يحن إلى عهد لها قديم أو جديد، أهي إذن عصبية الجنس؛ لا! فإن البحتري عربي والإيوان من صنع الفرس، والمنافسة بين الأمتين أقدم من الدول العربية والإسلام، والبحتري يذكر ذلك حين يقول:
وحيث يقول:
ويجب ألا ننسى هنا أن العناية بالآثار، وذكريات التاريخ، لم تكن شائعة في عصر البحتري شيوعها في عصرنا هذا، بعد أن ظهرت الآثار القديمة، واشتغل المنقبون عنها في كل مظنة، فليس البحتري هنا مأخوذًا بزي العصر وأحاديث الأوان، كما يغلب على الذين يتشاغلون بالآثار في هذا الزمان، ولكنه مبتكر ينشئ زيًّا جديدًا لم يسبقه في معناه سابقوه، وليس تمليق الأمراء من الفرس هو حافزه إلى النظم، فإن الأسى في القصيدة أظهر من أن يعزى إلى التصنع والرياء، والتمليق بالمدح في زمانه أجدى من التمليق بوصف الآثار واستشهاد التاريخ، وهو لم يستطرد إلى مدح مطول، ولم يتجاوز التلميح في الإشارة إلى أولئك الأمراء، فلا شيء إلا «الإحساس الفني» حدا بالشاعر إلى نظم قصيدته والإطالة فيها، ولا وحي إلا وحي الشاعرية في صميمها أنطق العربي المسلم بالعبرة على أطلال الفرس المجوس، وهذا هو «الموقف» الذي ينساه الناقدون المقلدون، كلما نقدوا الشعر وتذوقوا الكلام؛ لأنهم لا يذوقون حديث نفس يعينهم أن يعرفوا منها في أي المواقف كانت وفي أي البواعث جاشت بالشعور، وإنما يتلقفون ألفاظًا لا صلة بينها وبين الضمائر، ولا ميزان لها غير النحو والصرف والبديع والبيان، مع أن «الموقف» في القصيدة هو باعثها الأول وغايتها الأخيرة، ولا نجاح للشاعر إذا هو لم ينجح في نقلنا معه إلى ذلك الموقف الذي كان فيه، وإشراكنا في نظرته التي نظر بها حين توفر للإبانة والإنشاد. إذا علمت هذا فقابل بين شاعرية البحتري في موقفه على الإيوان، وشاعرية التقليد في موقف شوقي على آثار الأندلس أو آثار مصر، وقابل بين أسى البحتري في قوله:
قابل بين هذا الأسى الصادق وبين «شعوذة» شوقي في أساه، حين يقول للسفينة القادمة إلى مصر:
أو حين يقول في وصف الجزيرة:
أي إن الحلة التي لبستها الجزيرة في الأصيل، قد شقها النيل فهربت الجزيرة تتوارى بالجسر عن العيون، ولسنا ندري هل يخيط النيل في الصباح ما يمزق من أثواب الأصيل، أو هو ما يزال يمزق كل ثوب وما تزال الجزيرة أبدًا في ذلك الهرب والترقيع؟
أو حيث يقول: إن سواقي الجيزة إنما تضج اليوم؛ لأنها تبكي على رمسيس! فهي:
أو حين يقول في وصف الأهرام، وأبي الهول:
فكل هذه شعوذة ليس فيها من صدق الإحساس ظاهر ولا باطن، ولا كثير ولا قليل، وماذا في قوله: إن الذين بنوا أبا الهول لم يكونوا فطسًا؟! بلى أين كان الفطس من أبي الهول حين بناه أولئك الجنة الذين برأهم شوقي من داء الفطس أصلح الله أنفه؟ وأين الموازين والقناطير من عبرة الأهرام وجلالة التاريخ! ولماذا تكون القناطير روعة في الضحى، وملاعب جنة في الظلام! لقد ظن صاحبنا أنه يجاري البحتري بذكر الجنة حين قال هذا في وصف الإيوان:
فكبا في مكانه، وما درى أن قول البحتري هذا لا يجاريه مجار في صفة الآثار والإيجاز المعجز القهار، فهو آية الصدق وآية البراعة في آن، وهو يقول لنا في بيت واحد: إن الإيوان كان معجزًا في الصنعة حتى يخال من صنع الجن للإنس لضعف هؤلاء عن تشييد ذلك الصرح المريد، وأنه كان مهجورًا مخيفًا حتى يخال من صنع الإنس للجن لما يحيط به من الوحشة ويبدو عليه من الكآبة والرهبة، ولن يقال في وصف الإيوان الباذخ المهجور أوجز ولا أبلغ ولا أبرع من هذا المقال.
ولو شئنا لأطلنا المقابلة بين هاتين القصيدتين، فإن ذلك أحرى أن يقنع من لم يقتنع بمكان الشاعرين من الشاعرية، وأن الذين يعجبون بمثل شوقي لا يصدقون الإعجاب للأقدمين، وأنهم يهرفون بما لا يعرفون، ويخلطون بين المواقف والمعاني والأغراض، من حيث يقصدون أو لا يقصدون، ولكننا غير حريصين على إقناع من ليس يقنعه هذا البيان الوجيز.